الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدُّنْيَا مَلَاذَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِدْرَاجِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْدُودَةٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا لَفْظِيًّا وَإِنْ عَدَّهُ السُّبْكِيُّ فِي عِدَادِ الْخِلَافِ الْمَعْنَوِيِّ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَغْتَرَّ الْكَافِرُ بِأَنَّ تَخْوِيلَهُ النِّعَمَ فِي الدُّنْيَا يُؤْذِنُ بِرِضَى اللَّهِ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْعَذَاب هُنَا.
و (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِ مَصِيرِهِ إِلَى
الْعَذَابِ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَمْتِيعِهِ بِالْمَتَاعِ الْقَلِيلِ.
وَالِاضْطِرَارُ فِي الْأَصْلِ الِالْتِجَاءُ وَهُوَ بِوَزْنِ افْتَعَلَ مُطَاوِعُ أَضَرَّهُ إِذَا صَيَّرَهُ ذَا ضَرُورَةٍ أَيْ حَاجَةٍ، فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ اضْطُرَّ قَاصِرًا لِأَنَّ أَصْلَ الْمُطَاوَعَةِ عَدَمُ التَّعَدِّي وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَاءَ عَلَى تَعْدِيَتِهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسٍ يُقَالُ اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا أَيْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [24] :
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ.
وَقَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ وَالْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ أَوْ لِلْحَالِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ وَتَقْدِيره هِيَ.
[127]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 127]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
هَذِهِ مَنْقَبَةٌ ثَالِثَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَتَذْكِيرٌ بِشَرَفِ الْكَعْبَةِ، وَوَسِيلَةٌ ثَالِثَةٌ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً [الْبَقَرَة:
128] إِلَخْ، وَتَمْهِيدٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ إِنْكَارَهُمُ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ الَّذِي يَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَة: 142] وَلِأَجْلِ اسْتِقْلَالِهَا بِهَاتِهِ الْمَقَاصِدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْآيَاتُ قَبْلَهَا عُطِفَتْ عَلَى سَوَابِقِهَا مَعَ الِاقْتِرَانِ بِإِذْ تَنْبِيهًا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ.
وَخُولِفَ الْأُسْلُوبُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ فِي حِكَايَةِ الْمَاضِي أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي بِأَنْ يَقُولَ وَإِذْ رَفَعَ إِلَى كَوْنِهِ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ
وَحِكَايَتُهَا كَأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ دَالٌّ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ فَاسْتِعْمَالُهُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، شَبَّهَ الْمَاضِي بِالْحَالِ لِشُهْرَتِهِ وَلِتَكَرُّرِ الْحَدِيثِ عَنْهُ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ لِحُبِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِجْلَالِهِمْ إِيَّاهُ لَا يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ مَنَاقِبَهُ وَأَعْظَمَهَا بِنَاءُ الْكَعْبَةِ فَشَبَّهَ الْمَاضِي لِذَلِكَ بِالْحَالِ وَلِأَنَّ مَا مَضَى مِنَ الْآيَاتِ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَة: 124] إِلَى هُنَا مِمَّا يُوجِبُ امْتِلَاءَ أَذْهَانِ السامعين بإبراهيم وشؤونه حَتَّى كَأَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَهُمْ وَكَأَنَّ أَحْوَالَهُ حَاضِرَةٌ مُشَاهَدَةٌ، وَكَلِمَةُ (إِذْ) قَرِينَةٌ عَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ لِأَنَّ غَالِبَ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النُّحَاةِ أَنَّ إِذْ تَخْلُصُ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي.
وَالْقَوَاعِدُ جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَسَاسُ الْبِنَاءِ الْمُوَالِي لِلْأَرْضِ الَّذِي بِهِ ثَبَاتُ الْبِنَاءِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا هَذَا اللَّفْظُ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتِ الْقَاعِدَ فِي اللُّصُوقِ بِالْأَرْضِ فَأَصْلُ تَسْمِيَةِ الْقَاعِدَةِ مَجَازٌ عَنِ
اللُّصُوقِ بِالْأَرْضِ ثُمَّ عَنْ إِرَادَةِ الثَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ وَهَاءُ التَّأْنِيثِ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ هَاءِ عَلَامَةٍ.
وَرَفْعُ الْقَوَاعِدِ إِبْرَازُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَالِاعْتِلَاءُ بِهَا لِتَصِيرَ جِدَارًا لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَتَّصِلُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَيَصِيرُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَالْجِدَارُ إِذَا اتَّصَلَ بِالْأَسَاسِ صَارَ الْأَسَاسُ مُرْتَفِعًا، وَيَجُوزُ جَعْلُ الْقَوَاعِدِ بِمَعْنَى جُدْرَانِ الْبَيْتِ كَمَا سَمَّوْهَا بِالْأَرْكَانِ وَرَفَعُهَا إِطَالَتُهَا، وَقَدْ جَعَلَ ارْتِفَاعَ جُدْرَانِ الْبَيْتِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُفَادَ مِنَ اخْتِيَارِ مَادَّةِ الرَّفْعِ دُونَ مَادَّةِ الْإِطَالَةِ وَنَحْوَهَا مَعْنَى التَّشْرِيفِ، وَفِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِلْقَوَاعِدِ كِنَايَةٌ عَنْ ثُبُوتِهِ لِلْبَيْتِ، وَفِي إِسْنَادِ الرَّفْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَبَبُ الرَّفْعِ الْمَذْكُورِ أَيْ بِدُعَائِهِ الْمُقَارِنِ لَهُ.
وَعَطْفُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ تَنْوِيهٌ بِهِ إِذْ كَانَ مُعَاوِنَهُ وَمُنَاوِلَهُ.
وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ عَمَلِ إِبْرَاهِيمَ وَعَمَلِ إِسْمَاعِيلَ أُوقِعَ الْعَطْفُ عَلَى الْفَاعِلِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ وَالْمُتَعَلِّقَاتِ، وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أُسْلُوبِ الْعَطْفِ فِيمَا ظَهَرَ لِي وَلَا يَحْضُرُنِي الْآنَ مِثْلَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَدُلَّ عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْفَاعِلِينَ فِي صُدُورِ الْفِعْلِ تَجْعَلُ عَطْفَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ انْتِهَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ سَوَاءً فِي صُدُورِ الْفِعْلِ تَجْعَلُ الْمَعْطُوفَ مُوَالِيًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَإِسْمَاعِيلُ اسْمُ الِابْنِ الْبِكْرِ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَهُوَ وَلَدُهُ مِنْ جَارِيَتِهِ هَاجَرَ الْقِبْطِيَّةِ،