الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَوَدَّةَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ أَهْلُ الْقِصَصِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ قَدْ يُوهِمُ الْقَاصِرِينَ قَصْرَ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَادِثَةِ لِعَدَمِ ظُهُورِ الْعُمُومِ مِنْ أَلْفَاظِ تِلْكَ الْآيَاتِ.
وَالرَّابِعُ:
هُوَ حَوَادِثُ حَدَثَتْ وَفِي الْقُرْآنِ تُنَاسِبُ مَعَانِيَهَا سَابِقَة أَو لَا حقة فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يُوهِمُ أَنَّ تِلْكَ الْحَوَادِثَ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَيَدُلُّ لِهَذَا النَّوْعِ وُجُودُ اخْتِلَافٍ كَثِيرٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ بَحْثِ أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنَ «الْإِتْقَانِ» فَارْجِعُوا إِلَيْهِ فَفِيهِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [94] أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً بِأَلِفٍ بَعْدِ لَامِ السَّلَامِ وَقَالَ كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ (تَصْغِيرُ غَنَمٍ) فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ (أَيْ ظَنُّوهُ مُشْرِكًا يُرِيدُ أَنْ يَتَّقِيَ مِنْهُمْ بِالسَّلَامِ) وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ الْآيَةَ. فَالْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ وَقَعَتْ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهَا لَكِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَازِلَةً فِيهَا بِخُصُوصِهَا وَلَكِنْ نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّ قَبْلَهَا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: 94] وَبَعْدَهَا: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النِّسَاء: 94] .
وَفِي تَفْسِيرِ تِلْكَ السُّورَةِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نِزَاعَ الزُّبَيْرِ وَالْأَنْصَارِيِّ فِي مَاءِ شِرَاجِ الْحَرَّةِ قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاء: 65] الْآيَةَ قَالَ السَّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ الزَّرْكَشِيِّ قَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعينَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ هَذَا الْحُكْمَ لَا أَنَّ هَذَا كَانَ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ؟ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَسَانِيدِ لَا يُدْخِلُونَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ فِي الْمُسْنَدِ.
وَالْخَامِسُ:
قِسْمٌ يُبَيِّنُ مُجْمَلَاتٍ وَيَدْفَعُ مُتَشَابِهَاتٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَة: 44] فَإِذَا ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّ مَنْ لِلشَّرْطِ أُشْكِلَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَكُونُ الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ كُفْرًا، ثُمَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُمُ النَّصَارَى عَلِمَ أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِينَ
تَرَكُوا الْحُكْمَ بِالْإِنْجِيلِ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ (ظَنُّوا أَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْمَعْصِيَةُ) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَلِكَ؟ أَلَا تَسْمَعُ لِقَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لُقْمَان: 13] . وَمِنْ هَذَا الْقسم مَالا يُبَيِّنُ مُجْمَلًا وَلَا يُؤَوِّلُ مُتَشَابِهًا وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ وَجْهَ تَنَاسُبِ الْآيِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ الْآيَةَ، فَقَدْ تَخْفَى الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ فَيُبَيِّنُهَا مَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ سَأَلَهَا عَنْهَا فَقَالَتْ:«هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ» .
هَذَا وَإِنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ جَاءَ لِهَدْيِ أُمَّةٍ وَالتَّشْرِيعِ لَهَا، وَهَذَا الْهَدْيُ قَدْ يَكُونُ وَارِدًا قَبْلَ الْحَاجَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهِ قَوْمٌ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ أَوِ الثَّنَاء أَو غير هما، وَقَدْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهِ جَمِيعُ مَنْ يَصْلُحُ لِخِطَابِهِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ بِكُلِّيَّاتٍ تَشْرِيعِيَّةٍ وَتَهْذِيبِيَّةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَعْيُ الْأُمَّةِ لِدِينِهَا سَهْلًا عَلَيْهَا، وَلِيُمْكِنَ تَوَاتُرُ الدِّينِ، وَلِيَكُونَ لِعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مَزِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ أَضْعَافَ هَذَا الْمُنَزَّلِ وَأَنْ يُطِيلَ عُمَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلتَّشْرِيعِ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ عُمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَة: 3] ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلِمَاتِهِ عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ جُزْئِيَّةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ مُرَادَ اللَّهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْمِيمُ مَا قُصِدَ مِنْهُ الْخُصُوصُ وَلَا إِطْلَاقُ مَا قُصِدَ مِنْهُ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ ذَلِك قد يقْضِي إِلَى التَّخْلِيطِ فِي الْمُرَادِ أَوْ إِلَى إِبْطَالِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدِ اغْتَرَّ بَعْضُ الْفِرَقِ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ فِي الْخَوَارِجِ: إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى آيَاتِ الْوَعِيدِ النَّازِلَةِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَوَضَعُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَجَاءُوا بِبِدْعَةِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ بِالذَّنْبِ، وَقد قَالَ الحورية لِعَلِيٍّ رضي الله عنه يَوْمَ التَّحْكِيمِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الْأَنْعَام: 57]
فَقَالَ عَلِيٌّ «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ»
وَفَسَّرَهَا فِي خُطْبَةٍ لَهُ فِي «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ» .
وَثَمَّةَ فَائِدَةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ لِأَسْبَابِ النُّزُولِ وَهِيَ أَنَّ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ عِنْدَ حُدُوثِ
حَوَادِثَ دَلَالَةٌ عَلَى إِعْجَازِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الِارْتِجَالِ، وَهِيَ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ فِي أَقْوَالِهِمْ، فَنُزُولُهُ عَلَى حَوَادِثَ يَقْطَعُ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوْا أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.