الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
نص الإمام وما يجري مجراه
وقد رأينا أن نجعل هذا المطلب في فرعين، أحدهما في بيان المقصود من النص وما يجري مجراه، وآخرهما في بيان الطرق التي نتعرف بها على تلك النصوص.
الفرع الأول: في بيان المراد من النص وما يجري مجراه
النص في اللغة الرفع، ومن ذلك منصة العروس. ويقال نص الحديث ينصه إذا رفعه. وهذا المعنى هو أكثر استعمالاته (1).
وفي اصطلاح الفقهاء والأصوليين نجد اختلافاً في بيان معناه، بين جمهور العلماء من جهة، وأتباع المذهب الحنفي من جهة أخرى.
ففي اصطلاح الجمهور أطلق على معان متعددة منها
أ- أنه بمعنى الظاهر، أي ما فهم المعنى المراد منه من غير قطع، وهذا الاطلاق ورد عن الشافعي رحمه الله.
ب- إنه ما يقابل الظاهر بمعنى ما يحتمل التأويل، فالنص ما لا يحتمل التأويل أصلاً، وعلى هذا فإن الظاهر ما دلالته ظنية، والنص ما دلالته قطعية.
ج- إنه ما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل (2).
وفي اصطلاح الحنفية أطلق النص على ما كان أعلى مرتبة في الوضوح
(1) لسان العرب.
(2)
المستصفي للغزالي 1/ 384 - 387، والبرهان 1/ 142.
من الظاهر، ودون مرتبة المفسر والمحكم، فالنص ما ظهر منه المراد كالظاهر وزاد على ذلك بأن كان سوق الكلام من أجله (1). كما في قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة/275) فإنه ظاهر في دلالته على حل البيع وحرمة الربا، ونص في التفرقة بينهما؛ لأن النص سيق للرد على من زعم التسوية بينهما وقاس الربا على البيع (2).
وقد أطلق النص أيضاً على صيغة الكلام الأصلية التي وردت عن المؤلف أو المتكلم، وهو من المعاني المولدة، التي استعملها الناس قديماً بعد عصر الرواية (3).
وإن إطلاق الأصوليين للنص على صيغ الكتاب والسنة هو من هذا القبيل.
والذي يبدو من كلام الفقهاء والأصوليين، حينما يتكلمون عن نصوص الأئمة وما يجري مجراها، أنهم كانوا يقصدون في تعبيرهم (نص عليه)، ما دل عليه بألفاظه صراحة. ومن تعبيرهم معنى النص. ما دل عليه بألفاظه بصورة غير صريحة، وهذا هو اصطلاح جمهور الأصوليين في تقسيم الألفاظ من حيث كيفية دلالتا على المعنى. حيث إنهم جعلوا دلالة اللفظ على المعنى قسمين أحدهما دلالته عليه بمنطوقه، وثانيهما دلالته عليه بمفهومه، والدلالة الأولى هي الدلالة اللفظية التي تؤخذ من عبارات المتكلم، أما
(1) ميزان الأصول للسمرقندي ص 320، كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 1/ 123 - 125 بتحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، كشاف اصطلاحات الفنون 3/ 1405، التوضيح مع التلويح 1/ 124 و125، والتقرير والتحبير 1/ 146.
هذا ونشير هنا إلى أن ما ذكر في المتن هو اتجاه المتأخرين من العلماء، وهناك وجهة نظر أخرى في التفريق بينهما عند الحنفية، هي وجهة نظر المتقدمين منهم. فانظر ذلك في كشف الأسرار المشار إليه في الهامش، وتفسير النصوص للدكتور/محمد أديب صالح 1/ 156 - 164.
(2)
المصادر السابقة.
(3)
المعجم الوسيط، مادة (النص).
الدلالة بمفهوم اللفظ فهي دلالة معنوية أو التزامية، والكلام عنها سيأتي في مبحث المفهوم.
والمنطوق عندهم نوعان: صريح وغير صريح.
1 -
فالمنطوق الصريح (1): هو ما وضع له اللفظ، فيدل عليه بالمطابقة أو التضمن، ويسمى الثابت به، عند الحنفية. ثابتاً بعبارة النص (2). ومن الأمثلة على ذلك من كلام الأئمة:
أ- قول الشافعي – رحمه الله: (وكان على المصلي في كل صلاة واجبة أن يصليها متطهراً وبعد الوقت، ومستقبلاً للقبلة، وينويها بعينها، ويكبر، فإن ترك واحدة من هذه الخصال لم تجزه صلاته)(3).
فهذا النص واضح وصريح في بيان مذهب الشافعي –رحمه الله في بعض شروط الصلاة، وأن أي واحدة من الخصال التي ذكرها، يؤدي عدمها إلى عدم الصلاة دون أن يحتمل مثل هذا الكلام معنى آخر.
(1) المنطوق في اللغة هو الملفوظ، أو المتكلم به، وهو اسم مفعول من النطق، يقال نطق ينطق نطقاً إذا تكلم (لسان العرب).
وفي اصطلاح علماء الأصول هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي ما استفيد من الألفاظ المنطوق بها نفسها، بحسب وضعها اللغوي. وهذا بخلاف المفهوم الذي دل عليه اللفظ لا في محل النطق، أي دلالته على ما سكت عنه. ويبدو – والله أعلم – أن إطلاقه على ما دل عليه اللفظ غير حقيقي، لأن ما دل عليه اللفظ ليس هو المنطوق، بل المنطوق به هو الألفاظ لا معناها.
(2)
أصول السرخسي 1/ 236 -
…
، كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 1/ 171
…
التوضيح بشرح التلويح 1/ 130، التقرير والتحبير 1/ 106، فواتح الرحموت 1/ 406.
ونشير هنا إلى وجود بعض وجهات نظر عند الحنفية في هذا الشأن، تتعلق باشتراط سوق الكلام للمراد، أو أن يكون مقصوداً أصلياً ولو على سبيل الالتزام، فراجعها للفائدة.
(3)
الأم 1/ 99.
ب- ومن ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله بشأن وجوب العمل بخبر الواحد، فقد نص في رواية أبي الحارث (1) على أنه:(إذا كان الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً، ونقله الثقاة فهو سنة، ويجب العمل به، على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس)(2). فهذا الكلام صريح في بيان رأي الإمام أحمد في وجوب العمل بخبر الواحد الصحيح، على المكلف متى بلغه الخبر، وأنه يقدم على القياس وغيره من طرق الرأي. والأمثلة على ذلك كثيرة. وبوجه عام فإن المعنى إذا كان مستفاداً من الألفاظ، على حسب ما وضعت له في اللغة، سواء كان مدلولاً عليه بالمطابقة أو التضمن، فإنه المراد من النص عند الجمهور، ومن عبارة النص عند الحنفية.
2 -
وأما المنطوق غير الصريح: فهو ما دل عليه اللف، لا بإحدى الدلالتين المذكورتين أي المطابقة والتضمن، بل بالالتزام (3)، وهو ما يتناوله قولهم: ما يجري مجرى النص فتدخل فيه دلالات الاقتضاء، والإشارة والتنبيه أو الإيماء. ولبعض العلماء في عد هذه الأمور من المنطوق وجهة نظر مخالفة، إذ جعلوها من باب دلالة المفهوم، ولكننا آثرنا الأخذ بوجهة نظر ابن الحاجب (4) في عدها من دلالة المنطوق، نظراً لأن هذه الأمور هي من
(1) هو: أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ من أصحاب الإمام أحمد الذين كان يأنس بهم ويقدمهم ويكرمهم. روى عن افمام أحمد رحمه الله مسائل كثيرة وجود الرواية عنه.
راجع في ترجمته: طبقات الحنابلة 1/ 74 و75، والإنصاف 12/ 280.
(2)
العدة 3/ 859.
(3)
نهاية السول للأسنوي 1/ 309 وما بعدها، الإحكام للآمدي 3/ 64.
(4)
هو: أبو عمرو عثمان بن عمر بن أب بكر بن يونس الكردي الأصل المالكي المذهب الملقب بجمال الدين، والمعروف بابن الحاجب، لكون أبيه جندياً حاجباً عند الأمير =
أحكام وحالات المذكور، بخلاف المفهوم الذي يبين أحكام وحالات غير المذكور (1).
وقد ذكروا أن غير الصريح قسمان، لأنه إما أن يكون مقصوداً للمتكلم أو لا:
أ- والمقصود للمتكلم ينسم بحسب استقرائهم إلى قسمين:
أولهما: ما يتوقف عيه الصدق، أو الصحة العقلية، أو الشرعية، ويسمى دلالة الاقتضاء (2). فمثال ما يتوقف عليه الصدق قوله – صلى الله عليه وسلم – (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)(3) فإن هذه الأمور موجودة في الواقع وليست مرفوعة، فلابد لصدق الكلام من تقدير فيكون المراد: رفع إثم الخطأ أو ما شابه ذلك، ومثال ما تتوقف عليه الصحة العقلية {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} "يوسف /82"فلو لم يقدر أهل القرية، لم يصح الكلام عقلاً، ومثال الصحة الشرعية: أعتق عبدك عني على ألف، فإنه يستدعي تقدير الملك (4).
(1) = عز الدين الصلاحي، عرف بالفقه والقراءة والأصول والنحو والصرف والعروض. ولد بمصر ودرس وتفقه بمذهب مال، وتخرج عليه عدد من العلماء. ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها. ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها، ثم انتقل إلى الإسكندرية وكانت وفاته فيها 646هـ/1249م.
من كتبه: الإيضاح شرح المفصل للزمخشري، منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل، ومختصر منتهى السول والأمل وغيرها.
راجع في ترجمته وفيات الأعيان 2/ 413، مفتاح السعادة 1/ 125، الديباج المذهب ص 189، شذرات الذهب 5/ 234، الأعلام 4/ 211.
() مختصر المنتهى الأصولي بشرح العضد 2/ 171، ولاحظ مناهج العقول مع نهاية السول 1/ 311.
(2)
شرح مختصر ابن الحاجب 2/ 172، والإحكام للآمدي 3/ 64 و65.
(3)
الحديث: لا يوجد بهذا اللف، لكن أخرجه ابن ماجة وابن حبان والحامك عن ابن عباس يرفعه بلفظ (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). قال الحاكم إنه صحيح على شرط الشيخين. كشف الخفاء 1/ 522.
(4)
شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 172، والإحكام للآمدي 3/ 64 و65، أصول السرخسي 1/ 248، وميزان الأصول للسمرقندي ص 401، وكشف الأسرار =
ثانيهما: أن يقترن بحكم لو لم يكن للتعليل هو أو نظيره لكان بعيداً فيفهم منه التعليل ويدل عليه، وإن لم يصرح به، ويسمى تنبيهاً وإيماء (1). وهو أقسام متعددة يبحثها الأصوليون، في مسالك العلة من مباحث القياس.
ب- وأما غير المقصود للمتكلم فيسمى دلالة الإشارة، نحو قوله –صلى الله عليه وسلم – (النساء ناقصات عقل ودين، فقيل: يا رسول الله ما نقصان دينهن؟، قال: تمكث إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها، لا تصلي ولا تصوم)(2).
فهذا الحديث يدل بحسب وضعه على نقصان دينهن، ولكنه يدل بطريق الالتزام على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وكذلك أقل الطهر، لذكر الحديث شطر الدهر مبالغة في نقصان دينهن، ولو كان الحيض يزيد على ذلك لذكره.
ونحو دلالة مجموع قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف 15)، وقوله تعالى:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان 14) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر بعد طرح مدة الفصال. وهذا أمر لم يكن مقصوداً في الآيتين، ولكنه يلزم من مجموعهما. ونحو دلالة قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ
…
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ
…
} (البقرة 187)، على عدم فساد صوم من أصبح جنباً، لأن لو
(1) = للبخاري 1/ 188 و2/ 438 والمستصفي للغزالي 2/ 186، والتقرير والتحبير 1/ 217 وفواتح الرحموت 1/ 411.
() شرح العضد على مختصر المنتهى 2/ 172 ونهاية السول 3/ 44.
(2)
الحديث باللفظ المذكور لا أصل له عند أهل الحديث، لكنه يتردد في كتب الفقهاء والأصوليين. وقد أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر بلفظ (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن). قالت (أي امرأة منهن): يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين).
صحيح مسلم باب بيان نقصان الإيمان 1/ 61 ومع شرح النووي 2/ 66. وانظر أقوال العلماء في ذلك في كشف الخفاء 1/ 379 و380.
كان يفسد لما أبيح الجماع في آخر جزء من الليل (1).
وعلى هذا فإن ما ورد عن الأئمة، مما يدخل في هذه الأنواع من الدلالة، يُعد من آرائهم الجارية مجرى النص، والتي صححوا نسبتا إليهم.
ومن أمثلتها:
1 -
ما رواه الحسن بن زياد (2) عن أبي حنيفة- رحمه الله في شأن صلاة كسوف الشمس، وقوله:(إن شاؤوا صلوا ركعتين، وإن شاؤوا صلوا أربعاً، وإن شاؤوا أكثر من ذلك). فلم يصرح أبو حنيفة –رحمه الله – بكون صلاة الكسوف نافلة، ولكن ذلك عرف من نصه إيماء لأن كلامه يفيد التخيير. قال الكاساني (ت 587هـ) (3):(والتخيير يكون في النوافل لا في الواجبات)(4).
(1) أصول السرخسي 1/ 236. والإحكام للآمدي 3/ 65 وشرح مختصر المنتهى للعضد 2/ 172.
(2)
هو الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي كان أبوه من موالي الأنصار، واللؤلؤي نسبة إلى بيع اللؤلؤ. تتلمذ على أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن. وكان فطناً يقظاً حافظاً للروايات عن أبي حنيفة توفى سنة 204هـ.
من مؤلفاته: الخراج والنفقات وأدب القاضي، والفرائض والأمالي.
راجع في ترجمته: الجواهر المضية 2/ 56 (ترجمة 448) شذرات الذهب 2/ 12، والأعلام 2/ 191.
(3)
هو: أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الملقب علاء الدين وملك العلماء، تفقه على علاء الدين السمرقندي، وقرأ عليه معظم تصانيفه وتزوج بابنته. أرسل من ملك الروم إلى نور الدين محمود الزنكي في حلب، فولاه نور الدين التدريس في الحلاوية، وقد بقي في حلب حتى مات سنة 587هـ والكاساني نسبة إلى كاسان مدينة في بلاد تركستان.
من مؤلفاته: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع في الفقه، والسلطان المبين في أصول الدين.
راجع في ترجمته: الجواهر المضية 4/ 25، كشف الظنون 1/ 371، معجم المؤلفين 3/ 75.
(4)
بدائع الصنائع 1/ 280.
2 -
ومن ذلك ما ذكره محمد بن الحسن – رحمه الله – بشأن حكم صلاة الكسوف، فقد ذكر في الأصل ما يدل على عدم الوجوب. قال:(ولا تصلي نافلة في جماعة إلا قيام رمضان وصلاة الكسوف) قال الكاساني (ت 587هـ): "فاستثنى صلاة الكسوف من الصلوات النافلة، والمستثنى من جنس المستثنى منه، فيدل على كونها نافلة" فنص محمد لم يصرح بكونها نافلة، ولكن ذلك عُرف واستدل عليه عن طريق الاستثناء، كما ذكر الكاساني (1) لكن من الممكن المنازعة في عد مثل هذا الكلام من باب المنطوق غير الصريح.
3 -
ومما نسب إلى الإمام أحمد – رحمه الله – إيماء أنشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يثبت نسخه. قال أبو الخطاب (2):"وأومأ إليه أحمد في رواية الأثرم وغيره. وقد سئل عن القرعة فقال: "في كتاب الله في موضعين {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} "الصافات/141" و {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} "آل عمران /44"(3) وهذا شرع يونس، وهذا شرع زكريا) (4). فذكر الإمام
(1) بدائع الصنائع 1/ 280.
(2)
هو: أبو الخطاب: محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني البغدادي، الحنبلي، والكلوذاني نسبة إلى كلواذي بلدة قريبة من بغداد. ولد ونشأ ببغداد وتتلمذ على القاضي أبي يعي، وحدث عن الجوهري. كان إمام الحنابلة في عصره، بارعاً في الفقه والأصول وعلم الخلاف والفرائض، وكان الكيا الهراسي إذا رآه مقبلاً قال: قد جاء الفقه.
تولى التدريس والإفتاء وتتلمذ عليه عدد من أئمة الحنابلة، منهم الشيخ عبد القادر الجيلي وغيره. وقد توفى ببغداد سنة 510هـ/1116م.
من كتبه: التمهيد في أصول الفقه، الانتصار في المسائل الكبار، رؤوس المسائل، الهداية في الفقه، عقيدة أهل الأثر.
راجع في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة 1/ 116، شذرات الذهب 4/ 27، المنهج الأحمد 2/ 233، الأعلام 5/ 291، الفتح المبين 2/ 11.
(3)
نص الآية: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه غليك، وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم. وما كنت لديهم إذ يختصمون). انظر: تفسيرها في روح المعاني 3/ 158، و159.
(4)
التمهيد 2/ 411.
أحمد هاتين الآيتين، دون أن يعلق عليهما، يفهم منه أنه يرى حجية شرع من قبلنا، ولو لم يكن ذلك ما كان لذرهما فائدة، فهو لم يصرح بالحجية، ولكنه أومأ إليها.
4 -
ومما نسب إليه أيضاً عدم اعتداده بإجماع غير الصحابة. قال أبو الخطاب: (لا يعتد بإجماع غير الصحابة. وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي داود: الإتباع أن يتبع ما جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعن أصحابه وهو بعد في التابعين مخير" (1). والذي يفهم من هذا الكلام عدم حجية إجماع التابعين، لأنه لو كان حجة لما أجاز لمن جاء بعدهم الخيار.
5 -
ومن ذلك وجه خُرج للإمام أحمد، وهو: إنه لا يجوز تخصيص عام السنة بخاص الكتاب. فقد ذكر القاضي أبو يعلي أن الإمام أحمد – رحمه الله – أومأ إليه في رواية حنبل وغيره، فقال: السنة مفسرة للقرآن ومبينة له. وظاهر هذا أن البيان يقع بها (2). وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يخصصها القرآن، لأنه لو كان كذلك، لكان هو المبين للسنة لا العكس (3).
مرتبة غير الصريح: ونظراً إلى أن ما يدل بظاهره أو إيمائه أو دلالته أو غير ذلك من الطرق غير الصريحة، دون ما يدل بنصه غير المحتمل للتأويل، فإن الرأي يميل إلى ترجيح النص غير المحتمل للتأويل على ما سواه. وإن ما ورد عن الإمام نصاً أو بلفظه الصريح ينبغي أن يكون مقدماً على ما علم من رأيه باللف المحتمل لجملة من المعاني.
ومن أجل هذا الاحتمال الدلالي نجد كثيراً من الآراء المنسوبة إلى بعض الأئمة عن طريقها، كانت مجالاً للنقد، ولإبداء وجهات نظر تختلف في نتائجها عما نسبه المخرج للإمام، وإذا كان للإمام رأي ثابت بالنص
(1) المصدر السابق 3/ 256.
(2)
العدة 2/ 570.
(3)
المصدر السابق هامش 2 لمحقق الكتاب د. أحمد بن علي سير المباركي.
الصريح يخالف ما نسب إليه إيماء فإنهم يرجحون النص الصريح، ويؤولون ما ثبت بالإيماء أو الإشارة أو الدلالة. ومن هذا القبيل:
1 -
ذكر علماء الحنابلة رأيين للإمام أحمد – رحمه الله – أحدهما بنص صريح يجيز التعبد بالقياس، وآخرهما بالإيماء يمنع التعبد به. ففي شأن جواز التعبد به ذكر أبو الخطاب مما نص عليه أحمد – رحمه الله – في رواية بكر بن محمد (1) عن أبيه، فقال:"لا يستغني أحد عن القياس"(2) وفي شأن عدم جواز التعبد به. قال: "وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الميموني (3)، فقال: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين، المجمل والقياس"(4). وقد تأول القاضي رأي أحمد – رحمه الله – المنسوب إليه إيماء، على أن المراد استعمال القياس في معارضة السنة.
2 -
ومن ذلك ما ذكرناه سابقاً، مما نسب عن طريق الإيماء إلى الإمام أحمد من عدم اعتداده بإجماع التابعين فإن هذا مما تأوله القاضي أيضاً، وقال عنه بأنه (محمول على آحادهم)(5) وحينئذ يكون التخيير الوارد في هذه الرواية – من وجهة نظر القاضي – ليس المقصود به جواز ترك الإجماع،
(1) هو: أبو أحمد بكر بن محمد البغدادي النسائي الأصل. ومن أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده. وقد سمع عنه مسائل كثيرة، ولم يذكر في الطبقات تاريخ وفاته. راجع في ترجمته: طبقات الحنابلة 1/! 19، والمنهج الأحمد 1/ 381.
(2)
التمهيد 3/ 366.
(3)
هو أبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي. كان من أصحاب الإمام أحمد، سمع منه مسائل كثيرة، وكان أحمد – رحمه الله – يعتني به عناية شديدة، ويسأله عن أخباره ومعاشه ويحثه على إصلاح ذلك. توفي سنة 274هـ.
راجع في ترجمته: طبقات الحنابلة 1/ 212، وشذرات الذهب 2/ 165.
(4)
التمهيد 3/ 368.
(5)
العدة 4/ 1090، وقد عزز القاضي رأيه هذا بما جاء من قول الإمام أحمد في رواية المروذي (إذا جاءك الشيء من الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به). وانظر التمهيد أيضاً 3/ 256.