المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانيالنقل والتخريج - التخريج عند الفقهاء والأصوليين

[يعقوب الباحسين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدفي تعريف التخريج وبيان أنواعه

- ‌الباب الأولفي أنواع التخريج

- ‌الفصل الأولتخريج الأصول من الفروع

- ‌المبحث الأولنشأته وتطوره

- ‌المبحث الثانيأمثلة لبعض الأصول المخرجة

- ‌المبحث الثالثحكم نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة

- ‌الفصل الثانيتخريج الفروع على الأصول

- ‌المبحث الأولنشأة العلم وتطوره

- ‌المبحث الثانيأسباب اختلاف الفقهاء

- ‌المبحث الثالثالتخريج على الأصول

- ‌المبحث الرابعالتعريف بأهم الكتب المؤلفة

- ‌المطلب الأولكتاب (تأسيس النظر) لأبي زيد الدبوسي

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب

- ‌المطلب الثانيتخريج الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب:

- ‌المطلب الثالثمفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب:

- ‌المطلب الرابعالتمهيد في تخريج الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نموذج من الكتاب:

- ‌المطلب الخامسالقواعد والفوائد الأصولية

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نموذج من الكتاب:

- ‌الفصل الثالثتخريج الفروع على الفروع

- ‌المبحث الأولمصادر التخريج

- ‌المطلب الأولنص الإمام وما يجري مجراه

- ‌الفرع الأول: في بيان المراد من النص وما يجري مجراه

- ‌الفرع الثاني: طرق معرفة النصوص

- ‌الطريق الأول:مؤلفاتهم المنسوبة إليهم

- ‌الطريق الثاني:نقل أصحابهم لآرائهم في المسائل المختلفة

- ‌المطلب الثانيمفهوم نص الإمام

- ‌المطلب الثالثفي أفعال الأئمة

- ‌المطلب الرابعتقريرات الإمام

- ‌المطلب الخامسالحديث الصحيح

- ‌المبحث الثانيطرق تخريج الفروع على الفروع

- ‌المطلب الأولالتخريج بطريق القياس

- ‌المطلب الثانيالنقل والتخريج

- ‌المطلب الثالثلازم مذهب الإمام

- ‌الباب الثانيفي مراتب المخرجين وصفاتهم وشروطهم

- ‌الفصل الأولمراتب المخرجين بين طبقات الفقهاء

- ‌المبحث الأولتقسيم وترتيب ابن كمال باشا

- ‌المبحث الثانيتقسيم وترتيب ابن الصلاح

- ‌المبحث الثالثتقسيم وترتيب ابن حمدان

- ‌المبحث الرابعفي تقسيمات أخر

- ‌الفصل الثانيشروط وصفات علماء التخريج

- ‌المبحث الأولشروط وصفات علماء التخريج

- ‌المبحث الثانيفي تحقق فرض الكفاية بهم

- ‌الفصل الثالثأنواع الأحكام المخرجة وصفاتها

- ‌خاتمة

- ‌المصادر والمراجع

- ‌فهرس الأعلام المترجم لهم

الفصل: ‌المطلب الثانيالنقل والتخريج

‌المطلب الثاني

النقل والتخريج

ومما يتفرع على مسألة ما قيس على كلام الإمام هل هو مذهب له، ما إذا نص الإمام في مسألة على حكم، ونص في غيرها من المسائل التي تشبهها على حكم آخر، يخالف حكمه في المسألة الأخرى، فهل يخرج له حكم آخر في كل مسألة بالقياس على المسألة المخالفة، فينقل جوابه في إحداهما إلى الأخرى، فيكون له في كل مسألة قولان: أحدهما بنصه، والآخر بالتخريج عن طريق القياس (1).

لقد عرفت هذه المسألة عندهم بمصطلح (النقل والتخريج)(2)، وبعضهم اكتفى بإطلاق التخريج عليها، مع أنه صرح بأن فيها نقلاً وتخريجاً، فكأنه اكتفى بما هو الأساس الذي بني عليه النقل. قال الخطيب الشربيني (3): (والتخريج أن يجيب الشافعي بحكمين مختلفين في صورتين متشابهتين، ولم يظهر ما يصلح للفرق بينهما، فينقل الأصحاب جوابه في كل صورة إلى الأخرى، فيحصل في كل صورة منهما قولان: منصوص ومخرج،

(1) شرح مختصر الروضة 3/ 644.

(2)

شرح مختصر الروضة 3/ 644، والوسيط في المذهب للغزالي 1/ 432، 2/ 724.

(3)

هو محمد بن أحمد الشربيني القاهري الشافعي. الملقب بشمس الدين والمعروف بالخطيب الشربيني، تلقى العلوم عن طائفة من مشايخ عصره، وتصدر للتدريس والإفتاء في حياة أشياخه. أثنى عليه أهل مصر ووصفوه بالصلاح والتقوى، وبمتانة العلم. توفي سنة 977هـ.

من مؤلفاته: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للنووي، والسراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير، في التفسير.

راجع في ترجمته: شذرات الذهب 8/ 384، ومعجم المؤلفين 8/ 269.

ص: 267

المنصوص في هذه هو المخرج في تلك، والمنصوص في تلك هو المخرج في هذه، فيقال: فيهما قولان بالنقل والتخريج) (1).

وقبل الكلام عن حكم ذلك، نذكر طائفة من الأمثلة المبنية على هذا الأساس، ليتضح بها هذا الموضوع:

1 -

فمن ذلك أن الإمام الشافعي- رحمه الله نص على أن المسافر في آخر الوقت يقصر، ونص في الحائض إذا أدركت أول الوقت، أنه تلزمها الصلاة. فقالت طائفة من علماء الشافعية في كل من المسألتين: قولان بالنقل والتخريج، أحد القولين أنه يلزم بأول الوقت الإتمام على المقيم، قياساً على قوله في الحائض، إذا أدركت أول الوقت.

والثاني لا يلزم بناء على نصه في ذلك. فقد نقل قوله في الحائض إلى المسافر. فجعلوا له في كل من الحالتين قولين: أحدهما بالنص والآخر بالتخريج (2).

2 -

ومن ذلك ما ورد أن الشافعي- رحمه الله نص، في الاجتهاد في الأواني، أنه إذا اجتهد فيها، وغلب على ظنه طهارة أحدهما استعمله وأراق الآخر، فإن استعمل ما غلب على ظنه طهارته ولم يرق الثاني، ثم تغير اجتهاده بأن غلب على ظنه عكس الاجتهاد الأول، أي غلب على

(1) مغني المحتاج 1/ 12 ونشير هنا إلى أن الطوفي قد ذكر فرقاً بين هذا المصطلح ومصطلح التخريج، وادعى أن التخريج ما كان من القواعد الكلية للإمام أو الشرع أو العقل، وأن النقل والتخريج ما كان من القياس على نص الإمام. ولم أجد فيما اطلعت عليه من كلام العلماء ما يؤيد هذه المقولة، والذي ورد في عباراتهم إطلاق التخريج، على ما كان من القواعد، وعلى ما كان من القياس على نص الإمام، وعلى ما كان من مفهوم كلامه أو أفعاله أو غير ذلك.

(2)

الوسيط للغزالي 2/ 724، فتح العزيز (مع المجموع للنووي) 4/ 459 - 460. ونشير هنا إلى أن هناك طريقين عند فقهاء الشافعية، إحداهما ما ذكرناها في المتن من النقل والتخريج، وأخراهما تقرير النصين، مع بيان الفرق بين الحائض والمسافر.

لاحظ: المصدرين السابقين.

ص: 268

ظنه طهارة ما ظنه نجساً ونجاسة ما ظنه طاهراً، فإن الشافعي قال: لا يعمل بالاجتهاد الثاني لئلا ينتقض الاجتهاد باجتهاد مثله، بل يخلطان أو يريقهما ويتيمم. وفي الاجتهاد في القبلة نص على أن المصلي لو اجتهد في القبلة، وغلب على ظنه أنها في جهة الغرب، مثلاً، ثم تغير اجتهاده، فإنه يغير اتجاهه ويعمل بالثاني، حتى أنه لو تغير اجتهاده أربع مرات فإنه يصلي إلى أربع جهات. فهاتان المسألتان متشابهتان نص فيهما على حكمين مختلفين هما عدم جواز العمل بالاجتهاد الثاني في المسألة الأولى، وجوازه في المسألة الثانية.

فخرجوا لكل من المسألتين قولاً من نظيرتها، فصار له في الاجتهاد في الأواني قولان: قول منصوص، هو أن لا يعمل بالاجتهاد الثاني، وقول مخرج على مسألة القبلة وهو أن يعمل بالاجتهاد الثاني. كما صار له في الاجتهاد في القبلة قولان: قول منصوص، وهو العمل بالاجتهاد الثاني، وقول مخرج على مسألة الاجتهاد في الأواني وهو عدم جواز العمل بالاجتهاد الثاني (1).

3 -

ومما يمثل ذلك في فقه الحنابلة ما جاء في المحرر في باب ستر العورة (فإن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه وأعاد. نص عليه. ونص فيمن جلس في موضع نجس فصلى أنه لا يعيد فيخرج فيها روايتان)(2) وقد شرح الطوفي (ت 716هـ) ذلك بقوله: (ذلك لأن طهارة الثوب والمكان كلاهما شرط في الصلاة، وهذا وجه الشبه بين المسألتين، وقد نص في الثوب النجس أنه يعيد، فينقل حكمه إلى المكان، ويتخرج فيه مثله، ونص في الموضع النجس على أنه لا يعيد، فينقل حكمه إلى الثوب النجس فيتخرج فيه مثله، فلا جرم صار في كل واحدة من

(1) الاجتهاد وطبقات مجتهدي الشافعية للدكتور محمد حسن هيتو ص 45 و 46.

وراجع الحكمين في: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 113، والمنثور للزركشي 1/ 94.

(2)

المحرر في الفقه لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية (ت 652هـ) 1/ 44 و45.

ص: 269

المسألتين روايتان إحداهما بالنص والأخرى بالنقل) (1).

4 -

ومن ذلك أن المعروف في المذهب الشافعي، بشأن إباحة التيمم، أنه لو تيقن وجود الماء في حد القرب، فإنه يلزمه السعي إليه. وأما إذا كان بين الرتبتين فقد نص الشافعي على أنه يلزمه الوضوء، إن كان على يمين المنزل ويساره. ونص أيضاً على أنه إذا كان قدامه على صوب مقصدة، فلا يلزمه. وقد اختلف علماء الشافعية في ذلك على طريقين:

أحدهما: تقرير النصين، والعمل بكل منهما في موضعه.

والثاني: جعل المسألة على قولين بالنقل والتخريج، أي يقاس حالة ما إذا كان في صوب المنزل على حالة ما إذا كان في يمينه أو شماله، وبقياس حالة ما كان في يمينه أو شماله على حالة ما إذا كان في صوب المنزل فيكون له في كل من الحالتين قولان: أحدهما بنصه والآخر بالتخريج قياساً على الحالة الأخرى.

وقد اعترض بعض العلماء على ذلك، مبيناً أن بين النصين فرقاً، لأن ما كان على يمين المنزل أو يساره فهو منسوب إلى المنزل، ومن عادة المسافر التردد إليهما، بخلاف حالة التقدم نحو قصد المسافر والرجوع إلى الخلف، فإنه ليس بمعتاد (2).

5 -

ومن ذلك من الفقه الشافعي، أنه إذا وجد الماء وكثر عليه الواردون وتزاحموا، فإن توقع أنه إذا انتظر نوبته لاستقاء الماء لم يخرج الوقت، لم يتيمم، إذ احتمال فرصة الوضوء قائمة، وإن علم أنه لا تنتهي إليه

(1) شرح مختصر الروضة للطوفي 3/ 641 وانظر نقل ابن بدران ذلك في كتابيه: نزهة الخاطر العاطر 2/ 443 وما بعدها والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ص 135، وانظر أصول ابن مفلح بتحقيق د. فهد السدحان 4/ 954.

وانظر تفصيل ذلك في الإنصاف 1/ 461.

(2)

الوسيط 1/ 433، والوجيز 1/ 19، وفتح العزيز مع شرح المجموع 2/ 205.

ص: 270

النوبة إلا بعد الوقت، فقد حكي أن الشافعي نص على أنه يصبر إلى أن يتوضأ، ولا يبالي بخروج الوقت. ونقل عنه أنه نص فيما لو حضر جماعة من العراة وليس ثم إلا ثوب واحد يصلون فيه بالتناوب، وعلم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد خروج الوقت، إنه يصبر ولا يصلي عارياً كالمسألة السابقة، ولكنه نص أيضاً على أنهم لو اجتمعوا في سفينة، أو بيت ضيق، وهناك موضع واحد يمكن فيه الصلاة قائماً، أنه يصلي في الوقت قاعداً، ولا يصبر إلى انتهاء النوبة إليه، بعد الوقت. وهذا مخالف لنصه في المسألتين السابقتين، فاختلف الشافعية في ذلك على طريقين:

أحدهما عدم التفريق بين هذه المسائل، والذهاب إلى أن له في كل منها قولين بالنقل والتخريج، بقياس كل منها على الأخرى. فيصلي في الوقت بالتيمم وعارياً وقاعداً، مراعاة لحرمة الوقت. والثاني هو إقرار النصوص على حالها، والقول بالتفريق، على أساس أن أمر القعود أسهل من أمر الوضوء وستر العورة. ولهذا فإنه يجوز ترك القيام في النفل، بخلاف التيمم وكشف العورة. ولبعض علمائهم نزاع في هذا التفريق (1). والشاهد في هذا هو الطريق الأول الذي لم يفرق بين المسائل، وجعل للإمام قولين بالنقل والتخريج في كل منها.

6 -

ومن ذلك أنه ورد النص عن الإمام الشافعي- رحمه الله بعدم جواز قعود المصلي في صلاة الجنازة، مع القدرة على القيام. وقطع الجمهور من الشافعية بركنية القيام فيها (2). وذهب بعض الشافعية من الخرسانيين، إلى تخريج قول بالجواز، كما هو الشأن في النوافل، لأن الصلاة ليست من فرائض الأعيان. خرجوه من إباحة جنائز بتيمم واحد. ولا يصلى بتيمم واحد فرضان.

ولهم وجه آخر، هو، إن تعينت الصلاة لم يصح إلا قائماً كما هو الشأن

(1) فتح العزيز 2/ 218 - 221.

(2)

الوجيز 1/ 22، والمجموع 5/ 222.

ص: 271

في الفرائض العينية، وإن لم تتعين صحت صلاته قاعداً، كما هو الشأن في النوافل. ففي المسألة إذن قولان أو وجهان بالنقل والتخريج (1).

7 -

ومن ذلك إقرار العبد بالجنايات المستلزمة للعقوبات، المذهب عند الحنابلة صحة ذلك، لأن الرق غير مانع منه، لأن العبد مكلف قادر على التزامها، ولا نظر إلى إبطال حق السيد لانتفاء التهمة في ذلك (2). مع اختلاف العلماء في التفريق بين ما يوجب القصاص في النفس، أو ما دونها.

وفي المذهب إن الإقرار بجناية توجب مالاً لا تقبل، كما ذكره القاضي. فذهب بعض العلماء إلى تخريج رواية أخرى في الإقرار بالجنايات المستلزمة للعقوبات، هي عدم القبول، قياساً على الإقرار بما يوجب المال. فيكون في مسألة الإقرار بالعقوبات، عنده، روايتان بالنقل والتخريج.

إحداهما: يقبل لانتفاء التهمة.

والأخرى: لا يقبل، لأنه إقرار على مال السيد، فلا يقبل قياساً على الإقرار بالديون (3).

وبعد توضيح معنى النقل والتخريج بالشرح والمثال، نذكر أن هذا النمط، وإن ورد في الكتب الفقهية، إلا أن العلماء لم يتفقوا على تأصيله، ولا على تجويز نسبة ما يخرج وينقل إلى الإمام، بل اختلفوا في ذلك. والمقصود من العلماء المختلفين، العلماء الذين جوزوا التخريج بناءً على القياس، أما الرافضون لذلك فليس بينهم خلاف في منع مثل هذا التخريج، بل هو أولى بالمنع من غيره، لأنهم إذا لم يجيزوا نقل الحكم إلى ما سكت عنه الإمام، فلأن لا يجيزون ذلك إلى ما نص على خلافه أولى. وبوجه عام

(1) الوجيز في الموضع السابق.

(2)

القواعد والفوائد الأصولية ص 232 - و 233.

(3)

المصدر السابق.

ص: 272

فإن وجهات نظر العلماء بشأن هذه المسألة تدخل في إطار الأقوال الآتية:

1 -

القول الأول:

عدم جواز ذلك، وممن ذهب إلى ذلك الحسن بن حامد (ت 403هـ)(1) وأبو الخطاب (ت 510هـ)(2) وابن قدامة المقدسي (ت 620هـ)(3) وأبو الحسن الآمدي (ت 631هـ)(4) وأبو الحسين البصري (ت 436هـ) في حالة ما إذا أمكن أن يفرق بينهما بعض المجتهدين (5). ولم أجد- فيما اطلعت عليه- تصريحاً لأصوليي الحنفية بهذا الشأن، لكنهم ذكروا انه لا يصح أن يكون للمجتهد في مسألة أو مسألتين لا فرق بينهما قولان؛ لما في ذلك من التناقض بخلاف اختلاف الرواية، فإنه ليس من المجتهد ولكنه من الناقل (6) ويلزم من هذا أنهم لا يجيزون النقل والتخريج؛ لأنهم حينما منعوا نسبة القولين المنصوصين في المسألة الواحدة إليه، فلأن يمنعوا ذلك فيما لم ينص عليه أولى (7)، وقد احتج أصحاب هذا القول بطائفة من الأدلة، منها:

أ- القياس على نصوص الشارع، فإنه إذا نص الشارع، في مسألة ما، على

(1) تهذيب الأجوبة ص 204.

(2)

التمهيد 4/ 367.

(3)

روضة الناظر ص 380.

(4)

الأحكام 4/ 302 وقد بين وجهة نظره فيما إذا وجدت مسألتان متشابهتان نص الإمام فيهما على حكم مختلف وطريقة معالجة مثل ذلك.

(5)

المعتمد 2/ 863 ويرى أبو الحسين، أيضاً أنه إن لم يمكن أن يذهب بعض المجتهدين إلى الفرق بينهما، فإنه يجري نصه فيها مجرى النص في المسألة الواحدة على قولين مختلفين، ولذلك حكم خاص (المعتمد 2/ 863).

(6)

التحرير بشرح التقرير والتحبير 3/ 334، وبشرح تيسير التحرير 4/ 232 ومسلم الثبوت بشرح فواتح الرحموت 2/ 394.

(7)

تحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد من الأقوال للدكتور عياضة السلمي ص 133 العدد السابع (من مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1413هـ/ 1992م).

ص: 273

حكم، ونص في مسألة أخرى تشبهها على حكم يخالف حكم ما نص عليه في المسألة الأخرى، فإنه لا يجوز نقل حكم إحداهما إلى الأخرى، كنصه في صوم الظهار على التتابع، وفي صوم التمتع على التفريق، فإنه لا يجوز أن نلحق أحدهما بالآخر (1). ونظراً إلى أن طريق فهم النصوص وتفسيرها واحد، فينبغي أن لا يجوز الإلحاق في نصوص المجتهد أيضاً.

ب- إن الظاهر من نص المجتهد على حكمين مختلفين في المسألتين، أن مذهبه في إحداهما غير مذهبه في الأخرى، فالتسوية بينهما في الحكم مخالفة لما يظهر من نصه فلا تجوز (2).

ج- إن مثل هذا النقل والتخريج يعد إحداث جواب مبتدأ لا نص للمجتهد فيه، ولا دخل له في كلامه، بل إنه نص على خلافه فلا يجوز (3).

د- إن الظاهر من إفتاء المجتهد بحكمين مختلفين في المسألتين المتشابهتين، أنه وجد بينهما فرقا، لم ينتبه إليه غيره (4)، فلا يجوز إلحاق إحداهما بالأخرى تخريجاً ونقلاً.

2 -

القول الثاني:

جواز ذلك. وممن ذهب إلى هذه الوجهة طائفة من علماء الشافعية (5)، ولكن تجويز ذلك ليس مطلقاً، بل اشترطوا فيه أن لا يجد بين المسألتين فارقاً، وإن لم تكن هناك علة جامعة، فهو من قبيل إلحاق الأمة بالعبد في

(1) التمهيد 4/ 369.

(2)

المصدر السابق.

(3)

تهذيب الأجوبة ص 204.

(4)

صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 88 و 89.

(5)

التمهيد 4/ 361 المجموع 1/ 44 والإبهاج 2/ 59 ونسب ذلك إلى القاضي أبي حامد المروزي، وإلى أبي بكر الصيرفي. وقال: إنه مذهب داود ومعظم الحنابلة.

ص: 274

قوله – صلى الله عليه وسلم "من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه"(1). وفي المجال التطبيقي نجد أنهم خرجوا ونقلوا كثيراً في طائفة من المسائل، أظهر فيها كثير من العلماء فرقاً.

وجواز التخريج والنقل هو أحد الوجهين عند الحنابلة أيضاً (2)، واختار الطوفي جواز ذلك، إذا كان بعد البحث والجد ممن هو أهل للنظر والبحث (3). وقال المرداوي، بشأن اختيار الطوفي هذا:(قلت وكثير من الأصحاب على ذلك)(4). وذكر ابن حمدان أن النقل والتخريج إذا أفضى إلى خرق إجماع، أو رفع ما اتفق عليه الجم الغفير من العلماء، أو عارضه نص كتاب أو سنة لم يجز (5). وقد احتج أصحاب هذا الرأي بطائفة من الأدلة، منها:

أ- لما كان الظاهر من المسألتين أنهما من جنس واحد، فإن الجواب في إحداهما يُعد كالجواب فيهما، إذ لا فرق في ذلك، ما دامت المسألتان من جنس واحد (6).

ب- إن الشارع إذا نص على حكم مسألة، ورأى بعض المجتهدين مسألة أخرى تشبهها، فإنه يلحقها بحكمها، كنص الشارع على تقييد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل الخطأ، وإطلاقها في كفارة الظهار، فقد قسنا إحداهما على الأخرى وشرطنا الإيمان فيهما، وإذا كان الأمر كذلك في

(1) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح ص97، والمجموع للنووي 1/ 44. والحديث رواه البخاري في الشركة في عدد من الأبواب، ورواه مسلم في الإيمان باب من أعتق شركاً له في عبدٍ، وأبو داود في العتق، والترمذي في الأحكام والنسائي في البيوع ومالك في الموطأ.

(2)

صفة الفتوى ص88.

(3)

شرح مختصر الروضة 3/ 641.

(4)

الإنصاف 12/ 244.

(5)

صفة الفتوى ص89.

(6)

تهذيب الأجوبة ص204.

ص: 275

نصوص الشارع فينبغي أن يكون كذلك في نصوص المجتهد (1) لأن طريق فهمها ودلالتها واحد.

ج- لو قال المجهد الشفعة لجار الدار وجبت لجار الدكان، لأنه لا فرق بينهما. فهذا نقل لحكم مسألة إلى نظيرتها (2) وإذا جاز النقل في ذلك جاز في غيره، إذا التفريق بين ذلك تحكم.

3 -

القول الثالث:

جواز التخريج في حالة البعد الزمني بين المسألتين، وفق أسس خاصة، وهذا ما اختاره ابن حمدان (ت 695هـ). وقد أضاف إلى شروط المجوزين الآخرين شروطاً أخرى لم يذكروها. ومجمل ما اشترطه لجواز التخريج والنقل ما يأتي:

أ- أن لا يفرق الإمام بين المسألتين صريحاً.

ب- أن لا يمنع النقل والتخريج بين المسألتين.

ج- أن لا يفضي النقل والتخريج إلى خرق الإجماع، أو معارضة نصوص الكتاب أو السنة.

د- أن لا يؤدي إلى رفع ما اتفق عليه الجم الغفير.

هـ- أن لا يكون زمن إحدى المسألتين قريباً من الأخرى، بحيث يُظن أنه ذاكر حكم الأولى، حين أفتى بالثانية.

فإذا ما تحققت هذه الشروط، وكان الإمام بعيد العهد بالمسألة الأولى ودليلها، جاز التخريج. وحينئذٍ ينظر إلى المسألتين، ولا تخلو الحال من أمرين الأول أن يُعلم تاريخهما فتعلم المتأخرة منهما، والأمر الآخر أن تجهل المسألة المتأخرة منهما.

(1) التبصرة: ص516، والمعتمد 2/ 866 و867 والتمهيد 4/ 369.

(2)

التمهيد 4/، 370، شرح اللمع بتحقيق د. عبد المجيد تركي 2/ 1084 لكن كلامه كان متعلقاً بالتخريج بوجه عام.

ص: 276

ففي الحالة الأولى- وهي العلم بالتاريخ- ينقل حكم الثانية إلى الأولى في الأقيس، ولا ينقل حكم الأولى إلى الثانية، إلا إذا جعلنا أول قوليه في مسألة واحدة مذهباً له، مع معرفة التاريخ، أو بتعبير آخر أنه لا يجوز إلا إذا جوزنا أن يكون للمجتهد قولان في مسألة واحدة مع معرفة التاريخ، وفي الحالة الثانية- وهي الجهل بالتاريخ- يجوز نقل حكم أقربهما من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو الأثر أو قواعد الإمام وأصوله إلى الأخرى في الأقيس، ولا عكس، إلا إذا جعلنا أول قوليه في مسألة واحدة مذهباً له مع معرفة التاريخ، أي تجويز أن يكون له قولان في مسألة واحدة مع معرفة التاريخ (1).

وجهة نظر ابن حمدان أن المجتهد في حالة قرب الزمن بين المسألتين يتحقق الظن بأنه ذاكر حكم الأولى، حين افتائه بالمسألة الثانية، ولهذا لا يجوز نقل الحكم ولا تخريجه، لأنه لولا ظهور دليل الحكم للمجتهد في المسألة الثانية وظهور فرق له فيها عن نظيرتها، مع ذكره لها ولدليلها، لما أفتى بما أفتى به في المسألة الثانية ولسوى بين المسألتين. أما في حالة بعد الزمن فإنه من المحتمل التسوية بين المسألتين عنده (2)، كما أنه من المحتمل أن يكون قد نسي فتواه الأولى، فكرر الاجتهاد وتغير رأيه، فتكون فتواه في الثانية رجوعاً عن فتواه الأولى، فلا تجوز نسبتها إليه إلا على القول بجواز نسبة قولين للمجتهد في مسألة واحدة مع معرفة التاريخ (3).

تعقيب على الآراء والاستدلالات:

بعد عرض ما تقدم من استدلالات لأقوال العلماء في المسألة، وتأملها جيداً، ترجح لنا أن الصواب كان مجانباً لمن جوز النقل والتخريج، لما فيه

(1) صفة الفتوى ص 88 و 89.

(2)

المصدر السابق.

(3)

تحرير المقال للدكتور عياضة السلمي ص 66.

ص: 277

من نسبة أقوال للأئمة نصوا على خلافها، وحينما رجحنا جواز التخريج عن طريق القياس، إنما رجحناه فيما سكت عنه الإمام لا فيما نص على خلافه، وقلنا أنه- مع ذلك- محتمل، ولهذا فلا يصح أن ينسب إليه، ويقال: قال فلان، وإنما يستحسن اتباع ما اختاره ابن عابدين من قوله: مقتضى ما قاله في المسألة الفلانية هو كذا، أو قياس مذهبه كذا ..

ولهذا فإن استدلالات المانعين من نسبة الأقوال إلى الأئمة عن طريق النقل والتخريج كانت متجهة وليس في استدلالات أصحاب الآراء الأخرى ما يخدش تلك الأدلة، أما استدلالات المجيزين فضعيفة، وقد نوقشت من قبل من منعوا التخريج بما يأتي:

1 -

نوقش دليلهم الأول بأنه لا يسلم لهم أن الجواب في أحد أفراد الجنس يعد جواباً لسائر الأفراد، ولو كان ما قالوه صحيحاً لكان ما ثبت من جواب في مسألة من مسائل الصلوات جائز النقل إلى مسائل الصلاة الأخرى، كنقل مسألة من صلى قاعداً مريضاً إلى من صلى قاعداً قادراً صحيحاً، ومثل هذا لا يجوز اتفاقاً (1).

2 -

ونوقش دليلهم بالقياس على نص الشارع بالفرق، فصاحب الشرع تعبدنا بالقياس ودلنا عليه. ولم يحصل ذلك من قبل المجتهد، كما أنه من الجائز أن يذهب العالم إلى الفرق بين المسألتين، فيخطئ المخرج في عدم إدراكه لذلك الفرق، وهذا غير متحقق في نصوص الشارع (2). ونوقش قولهم بتشبيه حالة النقل بحالة قياس كفارة الظهار على القتل الخطأ في نصوص الشارع، بأنه خارج عن محل النزاع، لأن الشارع في الكفارة صرح في إحداهما وسكت في الأخرى، فقسنا المسكوت على المنطوق، بخلاف المسألة المتنازع فيها، فإن المجتهد صرح في كل

(1) تهذيب الأجوبة ص 204.

(2)

التمهيد 4/ 368.

ص: 278

واحدة من المسألتين بخلاف الأخرى فلا يجوز (1). وصار ذلك كتنصيصه في صوم الظهار على التتابع، وفي صوم التمتع على التفريق، فلا يجوز إلحاق إحداهما بالأخرى اتفاقاً (2).

3 -

ونوقش دليلهم الثالث بأنه ليس نظير المسألة المتنازع فيها، لأن النقل إنما تحقق إلى مسكوت عنه. ونظير هذه المسألة أن يقول: الشفعة لجار الدار ولا شفعة في الدكان. وفي مثل ذلك لا يجوز النقل (3).

أما وجهة نظر ابن حمدان فمآلها عدم التسليم بالنقل إلا في نطاق محدود، وهو البعد الزمني بين المسألتين، ونقل حكم الثانية إلى الأولى دون العكس عند العلم بالتاريخ، ونقل الأقرب إلى الكتاب أو السنة أو أصول الإمام وقواعده إلى الأخرى عند الجهل بالتاريخ. ونتيجة ذلك ألا يكون للإمام قولان في المسألتين بل قول واحد في كلتيهما، إلا على القول بجواز نسبة قولين إلى المجتهد في مسألة واحدة مع معرفة التاريخ.

وهذا الأمر مشكل؛ لأنه سيؤدي إلى إلغاء رأي منصوص للإمام، بطريق القياس أو العرض على الكتاب والسنة أو أصول الإمام وقواعده. وادعاء أنه رأيه في كلتا المسألتين، وتلك نتيجة غير مقبولة، لما فيها من إلغاء نص بالقياس، ولما فيها من مخالفة لأسس وقواعد الترجيح.

(1) التمهيد 4/ 369 والتبصرة ص 516.

(2)

التمهيد 4/ 369.

(3)

المصدر السابق.

ص: 279