الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع
تقريرات الإمام
ومما يتصل بمجال المصادر التي تستقي منها آراء الأئمة تقريراتهم لما يصدر عن غيرهم، والمقصود بذلك عدم إنكار المجتهد ما يفعل بحضرته، أو ما يصدر عن غيره من فتوى، في وقائع معينة. وبحث هذه المسألة يتصل بأمرين:
الأمر الأول: هو هل العلماء بمنزلة الأنبياء في مسائل التشريع، فينطبق عليهم ما ينطبق على الأنبياء؟ أو لا؟
والأمر الثاني: هل يعتبر السكوت عن الإنكار دليلاً على الموافقة فينزل منزلة النطق في نسبته إلى الساكت أو لا؟
ونظراً إلى وقوع الاختلاف في هاتين المسألتين فقد ترتب على ذلك اختلاف العلماء في هذه المسألة التي معنا، وتميز لهم رأيان:
الرأي الأول: إن تقريراتهم تعد من مذاهبهم وتصح نسبة قول لهم بموجبها، وممن تبنى هذا الرأي الشاطبي (ت 790هـ) في الموافقات، وقد عد الإقرار راجعاً إلى الفعل معللاً ذلك بأن (الكف فعل، وكف المفتي عن الإنكار، إذا رأى فعلاً من الأفعال كتصريحه بجوازه)(1). كما رجح ذلك ابن حامد، إذا كان سكوت المجتهد عند المعارضة (2). ووجهة نظر أصحاب هذا الرأي تستند إلى طائفة من الأدلة، من أهمها:
1 -
قياس حال المفتي على النبي- صلى الله عليه وسلم فكما أن تقريرات رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) 4/ 251.
(2)
تهذيب الأجوبة ص 51.
تعد صحيحة ومنسوبة إليه، فكذلك تقريرات المجتهدين- وهذا الدليل مستند إلى ما استند إليه القائلون بحجية عمله، وهو قوله- صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء (1).
2 -
إن إنكمار المنكر من الوظائف الأساسية للعلماء، وقد ثابر السلف على ذلك، ولم يبالوا بما يترتب عليه من المضرات. ولهذا فإن المجتهد لا يمكن أن يسكت على ما يفعل أو يقال بحضرته، أو على ما يعلم به، إن كان مما ينكره ولا يرتضيه، فيحمل سكوته على موافقته على ذلك، وبالتالي فإن ذلك يعد رأياً له، وتصح نسبته إليه.
3 -
إن سيرة الصحابة تشهد لمثل هذا الاعتبار، فلم تكن الصحابة تسكت عند المعارضة، على ما تنكره من قول أو فعل، إلا إذا افتقدت الدليل.
وتدل أحكام الوقائع الجزئية المنقولة عنهم على وجود معارضات وإنكارات كثيرة من بعضهم لبعض (2).
الرأي الثاني: إن سكوت الأئمة وعدم إنكارهم لا يعد تقريراً، لما علموه أو قيل أو فعل في حضرتهم ولم ينكروه، ولا تصح نسبته إليهم؛ ولهذا الرأي ذهب الأكثرون من علماء الحنابلة (3). وهو مقتضى مذهب الإمام الشافعي الذي نقل عنه أنه [لا ينسب إلى ساكت قول](4)، ولرفضه الأخذ بالإجماع السكوت المبني على حمل السكوت على الوفاق. ومما احتج به أصحاب هذا الرأي:
1 -
إن السكوت لا يتحتم أن يكون دالاً على الرضا، فهو كما يحتمل الموافقة، يحتمل الرفض، وقد ذكر العلماء طائفة من الاحتمالات التي
(1) الموافقات 4/ 251 ولاحظ تخريج الحديث عند ذكر أدلة من قال بصحة نسبة رأي إلى المجتهد بناء على أفعاله.
(2)
تهذيب الأجوبة ص 52 - 55 وانظر في المصدر المذكور طائفة من الوقائع التي حصل فيها الإنكار.
(3)
المصدر السابق ص 51.
(4)
المنخول للغزالي ص 318.
هي من هذا القبيل، بعضها يصلح للمجال الذي نحن بصدده (1)، وبعضها لا يفيد ذلك، لأنه يتعلق بموضوع رفض الاحتجاج بالإجماع السكوتي (2)، ومجال الإجماع كان قبل استقرار المذاهب، والكلام في مسألتنا يتعلق بآراء المتبوعين بعد استقرار المذاهب.
2 -
إن الفقهاء قد يرون غيرهم من المفتين يأتون بعباداتهم من صلاة وغيرها، مما فيه مخالفة لوجهات نظرهم في المسألة، فلا ينكرون عليهم ذلك، ولا يخاصمونهم فيه، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن ينسب رأي لمن سكت منهم بناء على ذلك (3).
تعقيب على الأدلة:
إذا نظرنا إلى أدلة الرأيين السابقين ترجح لنا الرأي الثاني غير المصحح لنسبة رأي إلى الإمام بناء على سكوته. وذلك لما في أدلة الرأي الأول من الوهن. أما دليلهم الأول فهو دليل من قاس أفعال المجتهد على أفعال الرسول- صلى الله عليه وسلم وقد بينا ما في ذلك من التجاوز في إعطاء غير
(1) كأن لم يتحدد له رأي في المسألة، لأنه في مهلة النظر والبحث عن الأدلة، أو أنه كان قد أبدى رأيه في المسألة في حالة سابقة ولم يجد حاجة لتكرار إظهاره، أو يتصور أن من أفتى أو فعل فعلاً بحضرته لن يجدي معه الإنكار لالتزامه برأي إمام آخر قلده، أو لظنه أن اعتراضه يثير جدلاً ونقاشاً يترتب عليه من المفسدة ما يفوق المصلحة المرادة.
انظر بحث: تحرير المقال للدكتور عياضة السلمي ص 110 من العدد 7 من مجلة جامعة الإمام 1413هـ- 1992م.
(2)
كأن يكون سكوته لمانع في باطنه لا يمكننا الإطلاع عليه، أو لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب، أو لأنه لا يرى الإنكار في الأمور الاجتهادية، أو أنه اجتهد ولكن لم يتبين له رأي، أو أنه علم لو أنه أبدى رأيه لم يلتفت إليه المخالف، أو الخوف من إبداء رأيه، أو لأنه في مهلة النظر، أو لأنه لا يرى المبادرة بالمعارضة لعارض من العوارض فيموت قبل إبداء رأيه، أو يظن أن غيره كفاه، أو غير ذلك.
انظر: كشف الأسرار للبخاري 3/ 428 وشرح مختصر المنتهى للعضد 2/ 37 وشرح مختصر الروضة 1/ 81.
(3)
تهذيب الأجوبة ص 51.
المعصوم، من الخصائص، ما هو من صفات المعصوم، ولا يلزم من الدليل الثاني الإنكار على المخالف، فقد يعرض المجتهد عن ذلك لاعتبارات مختلفة، فدلالة السكوت على الموافقة ليست غير احتمال يقبل ما يخالفه. ولهذا فإن نسبة رأي للإمام بناء عليه فيه نوع من المجازفة، واحتمال كبير للخطأ.
والاستدلال بسيرة الصحابة لا يفيد؛ لأنه كما ورد عنهم الإنكار ورد عنهم السكوت في مسائل كان رأيهم فيها مخالفاً لما اشتهر، كسكوت ابن عباس (1) في مسألة العول في زمن عمر (2) وغير ذلك. وما ذكره أصحاب الرأي الثاني بشأن عدم تحتم دلالة السكوت على الموافقة صحيح؛ لأن احتمال الموافقة ضئيل بالنسبة إلى الاحتمالات الآخر. وهذا يعززه دليلهم الثاني الذي أقر به ابن حامد ضمناً، من خلال مناقشته له (3).
ولهذا فإن السكوت بمجرده لا يعد إقراراً، ما لم تتصل به قرينة توضح أنه كان كذلك، وما لم توجد القرينة فالظاهر- والله أعلم- أن لا تصح نسبته إلى الإمام.
(1) هو أبو العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم عرف بذكائه ووفرة علمه وفقهه، وكثرة اطلاعه، ولقب بحبر الأمة لتلك المزايا. توفي بالطائف بعد أن كفر بصره سنة 68هـ.
راجع في ترجمته: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 48، وشذرات الذهب 1/ 75، والأعلام 4/ 95.
(2)
هو: أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي القرشي، الملقب بالفاروق. ثاني الخلفاء الراشدين وأول من لقب بأمير المؤمنين منهم. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة. كان من أشراف قريش، ومن رجالاتهم المعدودين، وكان إسلامه فتحاً على المسلمين. تميز بشجاعته وذكائه وحصافة عقلة. في عهده تم فتح العراق والشام ومصر، ومصرت مدن عديدة، وهو الذي جعل الهجرة مبدأ التاريخ الإسلامي، وضرب الدراهم الإسلامية، بويع بالخلافة سنة 13هـ، بعد وفاة أبي بكر بعهد منه، واستشهد سنة 23هـ.
راجع في ترجمته: الإصابة 4/ 588، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 38، وشذرات الذهب 1/ 33، والأعلام 5/ 45، والفتح المبين 1/ 48، وقد أفردت لترجمته كتب كثيرة قديماً وحديثاً.
(3)
تهذيب الأجوبة ص 55.