المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالثفي أفعال الأئمة - التخريج عند الفقهاء والأصوليين

[يعقوب الباحسين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدفي تعريف التخريج وبيان أنواعه

- ‌الباب الأولفي أنواع التخريج

- ‌الفصل الأولتخريج الأصول من الفروع

- ‌المبحث الأولنشأته وتطوره

- ‌المبحث الثانيأمثلة لبعض الأصول المخرجة

- ‌المبحث الثالثحكم نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة

- ‌الفصل الثانيتخريج الفروع على الأصول

- ‌المبحث الأولنشأة العلم وتطوره

- ‌المبحث الثانيأسباب اختلاف الفقهاء

- ‌المبحث الثالثالتخريج على الأصول

- ‌المبحث الرابعالتعريف بأهم الكتب المؤلفة

- ‌المطلب الأولكتاب (تأسيس النظر) لأبي زيد الدبوسي

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب

- ‌المطلب الثانيتخريج الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب:

- ‌المطلب الثالثمفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب:

- ‌المطلب الرابعالتمهيد في تخريج الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نموذج من الكتاب:

- ‌المطلب الخامسالقواعد والفوائد الأصولية

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نموذج من الكتاب:

- ‌الفصل الثالثتخريج الفروع على الفروع

- ‌المبحث الأولمصادر التخريج

- ‌المطلب الأولنص الإمام وما يجري مجراه

- ‌الفرع الأول: في بيان المراد من النص وما يجري مجراه

- ‌الفرع الثاني: طرق معرفة النصوص

- ‌الطريق الأول:مؤلفاتهم المنسوبة إليهم

- ‌الطريق الثاني:نقل أصحابهم لآرائهم في المسائل المختلفة

- ‌المطلب الثانيمفهوم نص الإمام

- ‌المطلب الثالثفي أفعال الأئمة

- ‌المطلب الرابعتقريرات الإمام

- ‌المطلب الخامسالحديث الصحيح

- ‌المبحث الثانيطرق تخريج الفروع على الفروع

- ‌المطلب الأولالتخريج بطريق القياس

- ‌المطلب الثانيالنقل والتخريج

- ‌المطلب الثالثلازم مذهب الإمام

- ‌الباب الثانيفي مراتب المخرجين وصفاتهم وشروطهم

- ‌الفصل الأولمراتب المخرجين بين طبقات الفقهاء

- ‌المبحث الأولتقسيم وترتيب ابن كمال باشا

- ‌المبحث الثانيتقسيم وترتيب ابن الصلاح

- ‌المبحث الثالثتقسيم وترتيب ابن حمدان

- ‌المبحث الرابعفي تقسيمات أخر

- ‌الفصل الثانيشروط وصفات علماء التخريج

- ‌المبحث الأولشروط وصفات علماء التخريج

- ‌المبحث الثانيفي تحقق فرض الكفاية بهم

- ‌الفصل الثالثأنواع الأحكام المخرجة وصفاتها

- ‌خاتمة

- ‌المصادر والمراجع

- ‌فهرس الأعلام المترجم لهم

الفصل: ‌المطلب الثالثفي أفعال الأئمة

‌المطلب الثالث

في أفعال الأئمة

الفعل في اللغة إحداث شيء من عمل وغيره (1)، وفي لسان العرب أنه كناية عن كل عمل متعد أو غير متعد.

وفي اصطلاحات أهل الفلسفة والمنطق أنه [تأثير الشيء في غيره ما دام مؤثراً](2) والذي يفهم من كلام الأصوليين أن المراد من الفعل عندهم، هو إحداث الشيء، من عمل وغيره، فلا تدخل فيه كل الأفعال، بحسب اصطلاحات علماء النحو والصرف، فمثل مات وعاش وكان وأحس وأصبح وأسود وأبيض ليست أفعالاً في اصطلاح علماء الأصول؛ لأن من نسبت إليه لم يفعلها (3)، وإن كانت أفعالاً بحسب الاصطلاحات الصرفية.

وقد تكلم العلماء في التفريق بين الأفعال والأعمال، واختلفوا فيما

(1) معجم مقاييس اللغة.

(2)

مقولات البليدي ص 225 مع حاشية حسن العطاء وقد ذكروا أن التسخين مع المسخن فعل لكونه تأثيراً، ومع المتسخن كيف، لكونه ليس كذلك. وفي تعريفات الجرجاني: أنه كون الشيء مؤثراً في غيره، كالقاطع ما دام قاطعاً، أو أنه الهيئة العارضة للمؤثر في غيره بسبب التأثير كالهيئة الحاصلة للقاطع بسبب كونه قاطعاً. ص 127 وقد بين الشيخ حسن العطار معنى العبارة المذكورة في المقولات السابقة، بقوله:[ومعنى العبارة أنه في حالة وجود المسخن بكسر الخاء أي فاعل التسخين كالنار مثلاً توجد السخونة، فهذه السخونة مع ملاحظة فاعلها وكون تأثيرها منه مقولة الفعل، فإذا انقطع النظر عنه كانت من مقولة الكيف. وفي الحقيقة إن الذي من مقولة الفعل، هو التسخين أعني إيجاد السخونة، وأما نفس السخونة فهي أثره، فبينهما اختلاف وليس الفرق اعتبارياً كما أفاد] ص 225.

(3)

أفعال الرسول لمحمد سليمان الأشقر 1/ 42.

ص: 221

بينهم في ذلك، ولكن الذي يؤخذ من كلامهم، وإن اختلفوا أن الأفعال أعم من الأعمال (1).

(1) ومن الآراء التي ذكرت في التفريق بينهما، ما يأتي:

أ- رأي الراغب الأصفهاني في مفرداته، وهو أن العمل ما كان من الحيوان بقصد، ولا ينسب إلى الجمادات، بخلاف الفعل فإنه ينسب إلى الحيوانات، إن وقع منها، سواء كان بقصد أو غير قصد، كما ينسب إلى الجمادات [منتهى الآمال ص 68] وعلى هذا فإن الفعل أعم من العمل، فكل عمل فعل ولا عكس.

ب- إن العمل ما كان مع امتداد زمان، نحو {يعملون له ما يشاء من محاريب} [سبأ 13] و {مما عملت أيدينا} [يس 71] وهذا بخلاف الفعل فإنه يكون من غير بطء، وفي طرفة عين. نحو:{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} ؟ [الفيل 1]{كيف فعل ربك بعاد} [الفجر 6] فهذه إهلاكات وقعت بغير بطء (منتهى الآمال ص 68 و 69).

ج- رأي القرافي في الأمنية؛ وهو أن العمل فعل له شرف وظهور، والفعل مطلق الأثر، ولذلك قال تعالى {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟} ولم يقل عمل، لأنه أثر فيه عقاب واقتصاص، لا شرف وتعظيم [الأمنية ص 132].

د- رأي ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام. وخلاصته أن العمل قد يطلق على ما يتعلق بأفعال القلوب، لكن الأسبق إلى الفهم، والمتبادر من لفظ العمل تخصيصه بأفعال الجوارح. ولهذا فإنه استبعد إخراج الأقوال من الأعمال، لأنها من فعل اللسان وهو من الجوارح.

ورد على من اعترض على ذلك بأن من حلف لا يعمل عملاً، فقال قولاً لا يحنث، بأن هذه يمين واليمين مرجعها إلى العرف، وفي العرف لا يسمى القول عملاً. بخلاف الإطلاق اللغوي.

وقد أخرج التروك من شمول لفظ العمل لها، لأنه وإن كانت فعل كف، لكن لا يطلق عليها لفظ العمل.

فتح الباري 1/ 13، منتهى الآمال ص 71، أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام كتاب الطهارة حديث 1، 1/ 9.

هـ- رأي الحافظ ابن حجر: وهو أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل فيه مجازاً. وجعل الفعل كالعمل في هذا الشأن، وذكر مثالاً لدخول الأقوال في الأفعال على وجه التجوز. قوله تعالى:{ولو شاء ربك ما فعلوه} بعد قوله {زخرف القول} [الأنعام 112].

فتح الباري 1/ 13.

ص: 222

ونظراً إلى أن الفعل عندهم هو إحداث الشيء، فإنهم اختلفوا في جملة مسائل تتعلق بفهم هذا الأمر، منها:

1 -

ترك الفعل، أو الكف عنه، هل يدخل في الأفعال أو لا؟ والمراد من الترك هنا، هو الإعراض عن الفعل المقدور قصداً (1). والراجح عند جمهور الأصوليين أنه من الأفعال، بناءً على أن الكف أي الانتهاء عن المنهي عنه، فعل (2). خلافاً لطائفة من العلماء، منهم أبو هاشم الجبائي (3)، حيث عدوا المكلف به في النهي الانتفاء، وهو ليس بفعل، كما قالوا (4).

والاختلاف في هذه المسألة مما يترتب عليه أثر واختلاف في الفروع الفقهية (5).

2 -

إن الترك قد يكون مع وجود المقتضي له، وقد يكون بخلاف ذلك، بأن لم يعرض مثل ذلك الأمر في زمان المجتهد، أو لعدم وجود ما يقتضيه، والأمر الأول هو الذي يصح أن يكون موضوع البيان.

3 -

نظراً إلى أن الأفعال تشمل الأقوال أيضاً، على ما هو الراجح، فإن الترك

(1) أفعال الرسول للأشقر (محمد سليمان) 2/ 49.

(2)

جمع الجوامع بشرح الجلال المحلي وحاشية العطار 1/ 280.

(3)

هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، كان هو وأبوه من شيوخ المعتزلة. عرف بذكائه وخبرته بعلم الكلام وأساليب الجدل. وكانت له آراء خاصة به في الكلام وفي أصول الفقه، توفي في بغداد ودفن بها سنة 321.

من مؤلفاته: الجامع الكبير، النقد على أرسطاطاليس في الكون والفساد، الاجتهاد، والطبائع والنقد على القائلين بها، والعدة في أصول الفقه.

راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 2/ 355، وشذرات الذهب 2/ 289.

الأعلام 4/ 7 والفتح المبين 1/ 172 ومعجم المؤلفين 5/ 230.

(4)

المصدر السابق (جمع الجوامع) 1/ 281، ولاحظ الإبهاج في شرح المنهاج 2/ 70 و71 وتوضيحه للمسألة، وما نقله عن التبريزي من موافقة الغزالي لأبي هاشم.

(5)

لاحظ بعض ما يترتب على الخلاف في ذلك من خلاف في الفروع الفقهية في الإبهاج شرح المنهاج 2/ 72.

ص: 223

تبعاً لذلك ينقسم إلى نوعين هما:

أ- ترك الفعل والإعراض عنه.

ب- ترك القول وهذا يتناول أمرين هما:

1 -

السكوت عن الجواب وغيره من القول، عدا الإنكار.

2 -

والسكوت عن الإنكار خاصة، وهو التقرير (1).

وسنجعل للسكوت ودلالته على آراء الأئمة مبحثاً خاصاً، إن شاء الله.

وبعد هذه المقدمة، نبين فيما يأتي حكم ما يفعله المجتهد أو يتركه، دون أن يرد عنه ما يفيد جوازه أو عدمه. فهل يعد مثل ذلك الفعل أو الترك مذهباً له؟ بمعنى أن مذهبه جواز فعل مثل ذلك الفعل الذي فعله؟ وهل تصح نسبته إليه؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:

1 -

القول الأول:

إن فعله يعد مذهباً له، ويترتب على ذلك صحة نسبته إليه. وهو أحد الوجهين عند الحنابلة وهو اختيار ابن حامد. قال:[وكل ما نقل عن أبي عبد الله أنه فعله في نفسه، وارتضاه لتأدية عنايته، وكل ذلك ينسب إليه، بمثابة جوابه وفتواه](2) وقال بعد أن مثل لذلك: (وهذا قول عامة أصحابنا وقال المرداوي (ت 885هـ): (أن ذلك هو الصحيح من المذهب؟)(3) وقد اختار الشاطبي (4) هذا القول، وانتصر له ورد ما أثير حوله من اعتراض، وعد

(1) أفعال الرسول 2/ 50.

(2)

تهذيب الأجوبة ص 45.

(3)

شرح التحرير ورقة 229ب، وشرح الكوكب المنير 4/ 497.

(4)

هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي الشهير بالشاطبي. عالم مجتهد محقق في الفقه والأصول والحديث والتفسير واللغة. توفي سنة 790هـ.

من تصانيفه: الموافقات، شرح الخلاصة في النحو، الاعتصام.

راجع في ترجمته: هدية العارفين 1/ 18، معجم المطبوعات 1/ 1090، الأعلام =

ص: 224

المفتي شارعاً من وجه، وأنه نائب عن صاحب الشرع في التبليغ، وفي أن يتخذ أسوة (1).

وكما أن هذا القول يمثل أحد الوجهين عند الحنابلة، فإنه كذلك عند الشافعية. فحينما رأى أصحابه نصه، أنه لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، ثم اشتراه في مرضه، اختلفوا في تخريج مذهب له من ذلك على وجهين، وذكروا مثل ذلك رفي إقامة جمعتين في مكان واحد لما دخل بغداد (2).

ومما يمثل ذلك من أفعال الإمام أحمد- رحمه الله ما رواه المروذي عنه (3) في طهارته، أنه غسل لحيته حتى وصل الماء إلى أصول شعره (4) وقد استند الإمام مالك- رحمه الله في الموطأ إلى مثل ذلك، بشأن صيام يوم الجمعة، فهو وإن كان دليلاً مضافاً إلى غيره، لكنه يتعلق بعد الفعل مذهباً لفاعله؛ وبصحة نسبته إليه. قال: وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه (5). وعلى هذا القول ينظر إلى فعل الأئمة وتركهم، كما ينظر إلى فعل الرسول- صلى الله عليه وسلم وينقسم كما تنقسم أفعاله- صلى الله عليه وسلم، فإن فعله على وجه العبادة أو التدين دل على استحبابه عنده، وإن فعله على غير وجه التعبد ففي دلالته الوجهان. وأن ما يروي عن الأئمة من أنواع التعبدات والتزهدات

(1) = 1/ 75، معجم المؤلفين 1/ 118.

() الموافقات 4/ 246 وما بعدها.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19/ 153 ولاحظ تفاصيل المسألة في المجموع 4/ 584 - 590 ووجه الاستدلال أن الشافعي حينما قدم بغداد وجدهم يصلون الجمعة في أكثر من مسجد، ولم ينكر ذلك، ولعل دلالة الفعل مأخوذة من كونه يصلي الجمعة في واحد من تلك المساجد، ولم ينكر على من صلى في غيره.

(3)

هو أبو بكر أحمد بن الحجاج المروذي. من أصحاب الإمام أحمد، وقد كان الإمام ينبسط إليه ويقدمه، لورعه وفقهه. روى عن أحمد مسائل كثيرة. وكانت وفاته ببغداد سنة 275هـ.

راجع في ترجمته: طبقات الحنابلة 1/ 56 وشذرات الذهب 2/ 166.

(4)

تهذيب الأجوبة ص 45.

(5)

شرح صحيح مسلم للنووي 8/ 19.

ص: 225

والتورعات لا يصح أن يقال أنه مذهبه، أو أن ينسب إليه، دون النظر في طائفة من المقدمات التي تلقي بعض الأضواء على ذلك (1).

أدلة هذا القول:

وقد استدل لهذا الرأي بما يأتي:

أ- قيام المجتهدين مقام النبي- صلى الله عليه وسلم في الأمة. بدليل قوله- صلى الله عليه وسلم (أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم)(2) والدلالة من ذلك على المطلوب أن الوراثة في العلم والتبليغ والهداية والاتباع تقتضي أن لا يأتي الوارث بما لا دليل عليه، لا سيما مع الدين والورع (3).

ب- استدلال العلماء بأفعال الصحابة- رضي الله عنهم على مذاهبهم، وجعلها بمثابة فعل الرسول- صلى الله عليه وسلم وهذا يعني أنهم أقاموا أفعالهم

(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/ 153 و 154 والمقدمات التي ذكرها شيخ الإسلام هي:

أ- هل يعتقد المجتهد حسن ما يقوم به من هذه التعبدات، بحيث يقوله ويفتي به، أو أنه يفعلها دون أن يعتقد ذلك، تأسيساً بغيره، أو ناسياً؟

ب- هل فيها إرادة لتلك الأفعال توافق اعتقاده؟ لأنه من الجائز أن يقدم عليها بطبعه المخالف لاعتقاده، وهذا يحصل كثيراً.

ج- هل يرى المجتهد أن ما فعله أفضل من غيره؟ أو أنه فعل المفضول لأغراض أخرى مباحة، مع رؤياه أن الآخر أرجح؟

د- وإذا كان يرى أحدهما أرجح فهل هو أرجح مطلقاً، أو أنه أرجح في بعض الأحوال؟

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19/ 54.

(2)

الموافقات 4/ 244، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 103.

والحديث رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وحسنه حمزة الكتاني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده. لكن توجد شواهد تدل على أن للحديث أصلاً [لاحظ: كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2/ 83 حديث 1745].

(3)

صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لابن حمدان ص 103.

ص: 226

كأقوالهم في الدلالة على مذاهبهم، كما أن أفعال النبي- صلى الله عليه وسلم كأقواله في الدلالة على الأحكام الشرعية (1).

ج- إن التأسي بأفعال من يعظمه الناس ويحبونه، سر مبثوث في طباع البشر، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال، وأنهم قد يرجحونه على القول. وقد ثبت هذا مع الصحابة والنبي- صلى الله عليه وسلم فقد نهاهم عن الوصال في الصوم، فلم ينتهوا واحتجوا بأنه يواصل، وتوقفوا عن الإحلال، بعدما أمرهم بذلك في حجة الوداع، حتى ذبح وحلق فاتبعوه، إلى غير ذلك من الوقائع التي تدل على أن النظر إلى الفعل، واقتداء الناس فيه بمن أحبوا، مطبوع في نفوسهم (2)، وإذا كان شأن الفعل كذلك، فمن المستبعد أن يقدم المجتهد- لا سيما المعروف بورعه وتقواه على عمل يرى أن الناس يقلدونه فيه ولا يكون رأيه ومذهبه.

2 -

القول الثاني:

إن ما فعله لا يعد مذهباً له، ولا تصح نسبته إليه. وهذا هو الوجه الثاني عند الحنابلة (3) والشافعية (4) وقد استدل لهذا القول بما يأتي:

أ- إن الأئمة المجتهدين ممن يجوز عليهم الذنب والمعصية، والخطأ والسهو والاستمرار على ما هم عليه، لأنهم غير معصومين عن خطأ، وليس هناك وحي ينبه إلى الخطأ، ويرشد إلى الصواب، كما هو الشأن في النبي- صلى الله عليه وسلم" (5).

(1) تهذيب الأجوبة ص 46.

(2)

الموافقات 4/ 248 - 251.

(3)

تهذيب الأجوبة ص 45، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 104 والمسودة ص 532، شرح الكوكب المنير 4/ 497، أصول ابن مفلح ج 4 ص 953. بتحقيق د. فهد السدحان، شرح التحرير ورقة 229ب.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19/ 153.

(5)

صفة الفتوى ص 104 ومجموع الفتاوى 19/ 152.

ص: 227

ب- إن أفعال المجتهدين حينما لا يوجد ما يدل على أن ما فعلوه هو رأيهم ومذهبهم، محتملة، فقد يكون فعل المجتهد مما جرت به عادته، أو يكون فعله تقليداً لغيره، بسبب عدم نظره في المسألة، أو لتعارض الأدلة عنده، أو لأي سبب آخر (1). وما يفعله المقلد لا ينسب له ولا يعد مذهباً له، لأن مذهب المجتهد ما توصل إليه عن نظر واستدلال.

تعقيب على الأدلة:

تلك هي أهم الأدلة التي استند إليها الفريقان وهي أدلة فيها مجال للتأمل والمناقشة. أما أدلة الفريق الأول الذاهب إلى أن ما يفعله المجتهد يعد مذهباً له وتصح نسبته إليه، فإن فيها من الوهن ما فيها. فدليلهم الأول- العلماء ورثة الأنبياء.- لا يساعدهم على دعواهم، فالوراثة بالعلم هي درايتهم بأحكام الشرع المأخوذة عن النبي- صلى الله عليه وسلم، مع ملكة الاستنباط الصحيح منها، ولم يقم دليل على أنهم يقومون مقام الأنبياء في كونهم مصادر للتشريع، وأنهم معصومون، وأن ما يؤخذ من أقوالهم يؤخذ من أفعالهم. ومن التعسف والمبالغة في منح الدرجات، أن يزعم الشاطبي أن المجتهد شارع من وجه (2)، أو أن يدعي ابن حامد أن مقامات العلماء بمثابة مقامات صاحب الشريعة (3). فهذه مرتبة عظيمة لم يدعها أحد من المجتهدين. ودليلهم الثاني لا يسلم على إطلاقه، فما لم تقم قرائن أو دلائل على أن ذلك الفعل مذهبه، فإن نسبة ذلك الفعل إليه تدخل في الإطار الذي نحن بصدده، ولا يوجد تلازم بين وجهات نظر الأفراد وأفعالهم، فقد يفعلون ما لا يؤمنون به، فالجهة بينهما منفكة، فقد يرى بعض الناس حرمة السندات أو الأسهم، ولكنه يقوم بشرائها أو بيعها، وقديماً قال أحد الشعراء:

(1) المصدران السابقان، وتهذيب الأجوبة ص 45.

(2)

الموافقات 4/ 245.

(3)

تهذيب الأجوبة ص 45 - 46.

ص: 228

إعمل بقولي ولا تنظر إلى عملي ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري

على أن هناك فرقاً بين النبي- صلى الله عليه وسلم وغيره من البشر فالنبي معصوم من تعمد ارتكاب المعاصي، وإذا أخطأ أو نسي أو غفل فإنه لا يقر على ذلك، بل ينزل الوحي بالتنبيه والتصويب، وهذا المعنى غير متحقق في المجتهدين وسواهم من البشر. فقياس أفعال المجتهدين على أفعاله- صلى الله عليه وسلم قياس مع الفارق وغير مستقيم.

ودليلهم الثالث يتضح الجواب عنه مما تقدم، وكون التأسي بالأفعال سراً مبثوثاً في طباع البشر، كما يقول الشاطبي، لا يعني أن فعل المجتهد يمثل مذهبه.

وقد علق الشيخ عبد الله دراز (1) محقق كتاب الموافقات على كلام الشاطبي بقوله: وهل يكفي هذا لأن يكون دليلاً شرعياً على شرعية التأسي بالمفتي ولو لم يقصد البيان؟ (2).

وأما أدلة الفريق الثاني فإن طائفة من العلماء المصححين. لعد الفعل مذهباً للمجتهد لم يرتضوها، فعن الدليل الأول يقول الشاطبي:[إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي فليعتبر مثله في نصب أقواله، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمداً وسهواً، لأنه ليس بمعصوم، ولما لم يكن ذلك معتبراً في الأقوال، لم يكن معتبراً في الأفعال](3).

وعن الدليل الثاني الذي يقول بأن أفعال المجتهد محتملة، يقول ابن

(1) هو الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن حسنين دراز. حفظ القرآن وابتدأ تلقي علومه على والده وعمه. ثم انتقل إلى القاهرة فأكمل دراسته في الأزهر، وكان من أساتذته فيه كبار علماء مصر آنذاك. كانت له اهتمامات بالشعر والأدب إلى جانب علوم الشريعة، توفي في القاهرة سنة 1932م.

من مؤلفاته: تعليقاته على كتاب الموافقات للشاطبي.

راجع في ترجمته: الفتح المبين 3/ 173.

(2)

الموافقات 4/ 248 هامش 7.

(3)

المصدر السابق 4/ 251.

ص: 229

حامد: إن [ذلك لا يؤثر شيئاً؛ إذ مع الاحتمال لا يخرجها أن تكون ديناً](1).

ويتضح مما ذكرناه سابقاً أن الملحوظات التي أبديت على وجهة نظر أصحاب الرأي الثاني، غير مقبولة، لأننا بينا الفرق بين الأقوال والأفعال، والفرق بين المجتهدين وصاحب الرسالة- صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فإن أخذ مذهب المجتهد من أفعاله، ونسبة ذلك إليه قضية ليست مسلمة، وفيها مجازفة وبعد عن الدقة، وينبغي أن لا يكون ذلك إلا في أضيق الحدود، وعند وجود قرائن تدل على ذلك. كفعله لذلك على جهة التعليم، أو حصول ذلك منه مراراً وتكراراً ينفي احتمال الخطأ والنسيان. والله أعلم.

أمثلة للتخريج عن طريق أفعال الأئمة:

ومما يمثل أفعال الأئمة من فقه الحنابلة، النقول الآتية عن إمام المذهب- رحمه الله.

1 -

اختلف الروايات عن الإمام أحمد- رحمه الله بشأن حلق الرأس.

فروي عنه أنه مكروه وروي عنه ما يفيد الجواز، وروي عنه التفريق بين ما إذا كان الحلق بالموسى فيكره، وما إذا كان بالمقراض فلا يكره.

وقد أخذ الجواز من أقواله، كما أنه يخرج مما نقل من إقرار وفعل له.

قال حنبل: كنت أنا وأبي نحلق رؤوسنا في حياة أبي عبد الله، فيرانا ونحن نحلق، فلا ينهانا، وكان هو يأخذ رأسه بالجلمين [أي المقراض]، ولا يحفيه، ويأخذه وسطاً (2).

2 -

ومن ذلك ما روي عنه بشأن صورة تخليل اللحية. قال يعقوب (3): سألت

(1) تهذيب الأجوبة ص 46.

(2)

المغني 1/ 89.

(3)

لم يتضح لي المراد منه هنا، فهناك أكثر من شخص بهذا الاسم، رووا عن الإمام أحمد- رحمه الله منهم يعقوب بن إبراهيم الدورقي ويعقوب بن إسحاق بن بختيان، جار أبي عبد الله وصديقه، ومنهم يعقوب بن العباس الهاشمي، وغيرهم.

انظر في أسماء وتراجم من اسمه يعقوب ممن أخذ عن الإمام أحمد: طبقات =

ص: 230

أحمد عن التخليل؟ فأراني من تحت لحيته، فخلل بالأصابع. وقال حنبل: من تحت ذقنه، من أسفل الذقن، يخلل جانبي لحيته جميعاً بالماء، ويمسح جانبيها وباطنها. وقال أبو الحارث: قال أحمد: إن شاء خللها مع وجهه، وإن شاء إذا مسح رأسه (1) فالصورة المذكورة للتخليل هنا تمثل مذهب الإمام، لا سيما أنه فعلها على طريق التعليم، وبعد سؤاله عن ذلك.

3 -

ومن ذلك ما خرجوه من استحباب أن يفتح المصلي، عند الجلوس، أصابع رجله اليمنى، فيستقبل بها القبلة، ومعناه أن يثنيها نحو القبلة. أخذوه من رواية الآثرم، قال:(تفقدت أبا عبد الله، فرأيته يفتح أصابع رجله اليمنى فيستقبل بها القبلة)(2).

4 -

ومن ذلك ما خرجوه بشأن عدم زيادة الجلوس بعد الركعتين على التشهد، وعدم تطويله. مما قاله حنبل في صورة جلوس الإمام أحمد. قال:[رأيت أبا عبد الله يصلي، فإذا جلس في الجلسة بعد الركعتين أخف الجلوس، ثم يقوم كأنه على الرضف (3) وإنما قصد الاقتداء بالنبي- صلى الله عليه وسلم وصاحبه](4). وهذا الحكم وإن كان الأساس فيه ما ورد من صفة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لكنه يصلح مثالاً لفعل الإمام نفسه أيضاً، على سبيل الاقتداء والتأسي.

5 -

ومن ذلك أيضاً ما ذكروه بشأن صفة التورك في الصلاة. فقد روى الأثرم في صفة تورك الإمام أحمد، ما يأتي:(رأيت أبا عبد الله يتورك في الرابعة في التشهد، فيدخل رجله اليسرى من تحت ساقه الأيمن، ولا يقعد على شيء منها، وينصب اليمنى، ويفتح أصابعه، وينحي عجزه كله، ويستقبل بأصابعه اليمنى القبلة، وركبته اليمنى على الأرض ملزقة)(5).

(1) = الحنابلة 1/ 414 وما بعدها.

() المغني 1/ 106.

(2)

المصدر السابق 1/ 523.

(3)

الرضف: الحجارة المحماة. الواحدة رضفة، مثل تمر وتمرة.

(4)

المغني 1/ 537.

(5)

المصدر السابق 1/ 539.

ص: 231