الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن إبراهيم النخعي (1) أنه قال: ما أخرجت الأرض من قليل أو كثير من شيء ففيه العشر، وإن لم يخرج إلا دستجة (2) بقل، فكان أبو حنيفة يأخذ بهذا ويقول: لا تترك أرض تعتمل لا يؤخذ منها ما يجب عليها من الخراج، وما يجب عليها من العشر إذا كان في أرض العشر، قليلاً أخرجت أم كثيراً (3).
المطلب الثاني
مفهوم نص الإمام
ذكرنا أن مصادر التخريج التي تؤخذ منها مذاهب الأئمة الأربعة آراؤهم ونصوصهم الصريحة، أو ما يجري مجرى نصوصهم، من اقتضاء أو إيماء أو إشارة، أو تنبيه على رأي، أو ما شابه ذلك، مما يدخل في اصطلاحاتهم في نطاق [المنطوق]. ولكن إذا كان مذهب الإمام مما يتوصل إليه لا عن طريق الدلالة اللفظية الوضعية، بل عن طريق المفهوم، أو الدلالة الالتزامية فهل يعد ما يتوصل إليه عن هذا الطريق مذهباً للإمام، فينسب إليه؟.
(1) = الأشعري، وأستاذ الإمام أبي حنيفة في الفقه والحديث. تلقى الفقه عن إبراهيم النخعي وكان من أذكى تلاميذه. قيل لإبراهيم من لنا بعدك؟ فقال حماد. توفي سنة 119هـ وقيل سنة 120هـ.
راجع في ترجمته: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 83، والفهرست لابن النديم ص 285، وشذرات الذهب 1/ 157.
() هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي أحد الأئمة المشاهير، كان تابعياً رأى عائشة رضي الله عنها ودخل عليها صغيراً، ولم يثبت له منها سماع. روى عن مسروق وعلقمة وشريح وغيرهم. عرف بحدة الذهن والبراعة في الفقه. قال الشعبي: ما ترك أحداً أعلم منه. كان شيخاً لحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة. توفي سنة 96هـ وقيل 95هـ.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 1/ 6، وشذرات الذهب 1/ 111 والأعلام 1/ 80 وتاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد علي السايس وجماعته ص 194.
(2)
الدستجة: الحزمة، معرب جمعه دساتج، ومنه دستة المستعملة في الإثنى عشر.
(3)
الخراج ص 53.
اختلفت آراء العلماء في ذلك، ولبيان وجهات نظرهم ينبغي لنا أن نوضح معنى المفهوم، وما هو المختلف فيه من أقسامه.
معنى المفهوم (1): المفهوم في اللغة المعروف والمدرك بالعقل، وهو اسم مفعول من الفهم، الذي هو معرفة الشيء وإدراكه بالعقل أو القلب (2). وفي اصطلاح علماء أصول الفقه أنه ما فهم من اللفظ في غير محل النطق (3)، بأن كان حكماً لغير المذكور وحالاً من حالاته (4).
وقيل: هو المعنى المستفاد من حيث السكوت اللازم للفظ (5) وهو قسمان: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.
1 -
مفهوم الموافقة: وهو ما كان المسكوت عنه موافقاً للمنطوق في حكمه، نفياً وإثباتاً. ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب أيضاً (6) ويطلق عليه
(1) المفهوم، عند المناطقة، هو ما من شأنه أن يحصل في العقل، سواء حصل بالفعل أو بالقوة، وسواء كان بالذات كالكلى، أو بالواسطة كالجزئي.
وعلى رأي طائفة أخرى، أن المفهوم هو ما حصل عند العقل لا في العقل. وهذا بناء على اختلافهم في أن صور الجزئيات الجسمانية هي هي مرتسمة فيما أسموه النفس الناطقة، بواسطة الحواس، أو أنها مرتسمة في الحواس لا في النفس، فمن فسر المفهوم بالمعنى الأول قال في العقل، ومن فسره بالمعنى الثاني قال عند العقل، والمفهوم والمعنى عندهم متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار، لأن كلاً منهما هو الصورة الحاصلة في العقل أو عنده، على الاختلاف المذكور، لكنهما مختلفان، من حيث القصد والحصول، فمن حيث أنها تقصد باللفظ تسمى معنى، ومن حيث أنها تحصل في العقل تسمى مفهوماً. [كشاف اصطلاحات الفنون 3/ 1154] وكل ذلك من زيادات المتفلسفين على المفاهيم والدلالات اللغوية.
(2)
انظر: لسان العرب.
(3)
الإحكام للآمدي 3/ 66، جمع الجوامع بشرح الجلال المحلي وحاشية العطار 2/ 316 و 317.
(4)
شرح مختصر المنتهى للعضد 2/ 171.
(5)
شرح الكوكب المنير 3/ 473.
(6)
الإحكام للآمدي 3/ 69، ومختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2/ 172، وذكر الأسنوي أنه يسمى تنبيه الخطاب أيضاً، ولكنه ذكر لحسن الخطاب من أسماء مفهوم =
اسم [دلالة النص] باعتباره مما يفهم من النص ومنطوقه (1). ومن أمثاله: تحريم شتم الوالدين وضربهما المستفاد من قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء 23].
وجمهور العلماء يفرقون بين ما إذا كان المسكوت عنه مساوياً للمنطوق. وما كان فيه أولى منه بالحكم. فما كان المفهوم فيه أولى من المنطوق أطلقوا عليه [فحوى الخطاب]، كتحريم الشتم والضرب، فإنهما أشد من التأفيف المنهي عنه، وما كان المفهوم فيه مساوياً للمنطوق سموه [لحن الخطاب]، كتحريم إحراق مال اليتيم، فإنه مساو لتحريم أكله المستفاد من منطوق قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء 10](2). أما إذا كان المسكوت عنه الموافق دون المنطوق، نحو عدم إجابة الوالدين بالنسبة للتأفيف فلم يعتدوا به (3). ولهذا فإن الكلام منحصر في الأمرين السابقين. وقد اتفق العلماء، باستثناء الظاهرية على صحة الاحتجاج به (4) وهو عندهم بمنزلة النص؛ لأن معرفته متوقفة على مجرد فهم اللغة، لكن العلماء اختلفوا في دلالته على معناه هل هي لفظية أو قياسية؟ (5) ولهذا فإنه طريق صحيح لمعرفة مذاهب الأئمة، ونسبتها إليهم، لأن هذا، عند
(1) = المخالفة لا الموافقة. نهاية السول 1/ 313، 314.
() التوضيح مع شرح التلويح 1/ 131، التقرير والتحبير 1/ 109، كشف الأسرار مع أصول البزدوي 2/ 412، فواتح الرحموت 1/ 408.
(2)
شرح جمع الجوامع 2/ 317، 318.
(3)
حاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 317.
(4)
الإحكام للآمدي 3/ 71 ولاحظ حجج الظاهرية في الأحكام لابن حزم ص 931، وما بعدها.
(5)
جمع الجوامع مع شرح الجلال المحلي بحاشية العطار 1/ 318، وما بعدها، شرح الكوكب المنير 3/ 483، شرح مختصر المنتهى 2/ 173، فواتح الرحموت 1/ 410، البحر المحيط 4/ 11.
الكثيرين منهم، مما يجري مجرى النص (1).
2 -
مفهوم المخالفة: وهو ما دل عليه اللفظ غير محل النطق، وكان حكمه مخالفاً للمنطوق (2). وعلى ما عبر عنه الآمدي (3) فإنه [ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت، مخالفاً لمدلوله في محل النطق](4) أو هو [الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه](5)، ويسمى مفهوم المخالفة لمخالفة حكم المسكوت حكم المذكور، ويسمى أيضاً دليل الخطاب (6). ويطلق عليه الحنفية اسم المخصوص بالذكر (7). ويعود ذلك إلى أن المنطوق يتضمن قيداً معتبراً في الحكم، فينتفي الحكم في المسكوت عنه لانتفاء ذلك القيد (8).
(1) وقد يكون المفهوم قطعياً أو ظنياً تبعاً لقوة المعنى وشدة مناسبته للفرع.
لاحظ: شرح العضد على مختصر المنتهى 2/ 173.
(2)
شرح العضد على مختصر المنتهى لابن الحاجب 2/ 173.
(3)
هو سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد التغلبي الآمدي الحنبلي ثم الشافعي، جمع بين الحكمة والمنطق والكلام، والأصول والفقه، وبرع في الخلاف، وكان من الأذكياء، قيل عنه إن لم يكن في زمانه أحفظ للعلوم منه، ولد بآمد وأقام ببغداد، ثم مصر، وكانت وفاته بدمشق سنة 631هـ، ودفن بسفح جبل قاسيون.
من مؤلفاته: غاية المرام في علم الكلام، ودقائق الحقائق في الحكمة، والإحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه وغاية الأمل في علم الجدل وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 2/ 455، مفتاح السعادة 2/ 55، شذرات الذهب 5/ 144، معجم المؤلفين 7/ 155.
(4)
الأحكام 3/ 69.
(5)
المستصفى 2/ 191.
(6)
الإحكام للآمدي 3/ 69، المستصفى 2/ 191، شرح مختصر المنتهى للعضد 2/ 173.
شرح الكوكب المنير 3/ 489، البحر المحيط 4/ 13، وفي الكوكب المنير أنه سمى دليل الخطاب، لأن دلالته من جنس دلالات الخطاب، أو لأن الخطاب دال عليه، أو لمخالفته منطوق الخطاب.
(7)
الفصول في الأصول للجصاص 1/ 291، كشف الأسرار للبخاري 2/ 465.
(8)
تفسير النصوص للدكتور محمد أديب صالح 1/ 609.
والاحتجاج بالمفهوم المخالف مما اختلف فيه العلماء، فمنهم من احتج به، ومنهم من رفض الاحتجاج به، كالحنفية، ومنهم من فصل في الكلام، فاحتج ببعض المفاهيم دون بعض. كما أن جمهور الحنفية فرقوا بين مفاهيم نصوص الشارع ومفاهيم النصوص الأخرى، فرفضوا الاحتجاج بها في نصوص الشارع، وقبلوها في مصطلح الناس وعرفهم، وفي الروايات وغير ذلك مما لا يعود إلى نص الشارع (1)، ولجميع هؤلاء أدلة خاصة بهم، وشروط معينة لمن قال منهم بصحة الاحتجاج به، تعرف جميعها في مواضعها من كتب الأصول، وقد جعلوا مفهوم المخالفة أقساماً متعددة، تبعاً للقيد المذكور في المنطوق، ومن هذه الأقسام: مفهوم الصفة نحو، [في الغنم السائمة زكاة](2)، ومفهوم الشرط، نحو قوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق 6]، ومفهوم الغاية، نحو قوله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة 222] ومفهوم العدد نحو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور 2]، ومفهوم اللقب، نحو: في الغنم زكاة، وكتخصيص الأشياء الستة في الذكر بتحريم الربا، ومفهوم الحصر ومفهوم الحال والجار والمجرور والظرف وغيرها مما يمكن أن يدخل بعضه في مفهوم الصفة (3).
(1) التقرير والتحبير 1/ 117، ورد المحتار مع الدر المختار 1/ 110، 111.
(2)
رواه البخاري عن أنس بلفظ [وفي صدقة الغنم في سائمتها أربعين إلى عشرين ومائة شاة] والصيغة المذكورة مما أوردتها كتب الفقه والأصول، وقد قال ابن الصلاح: أحسب أن قول الفقهاء والأصوليين: في سائمة الغنم زكاة، اختصار منهم.
تلخيص الحبير 2/ 157.
(3)
انظر في أنواع هذه المفاهيم وأمثلتها، وآراء العلماء وأدلتهم بشأنها:
الأحكام للآمدي 3/ 7 .. ، الفصول للجصاص 1/ 291 .. ، المستصفى للغزالي 2/ 191
…
، كشف الأسرار للبخاري 2/ 465 .. ، شرح مختصر المنتهى للعضد 2/ 173
…
، نهاية السول للأسنوي 1/ 314 .. ، الإبهاج 3/ 368، المحصول للرازي 1/ 253
…
، شرح جمع الجوامع للمحلي بحاشية العطار 1/ 322 .. ، شرح مختصر الروضة للطوفي 2/ 756
…
، البحر المحيط للزركشي 4/ 24
…
، شرح الكوكب المنير 3/ 497
…
وغيرها.
التخريج على مفهوم نصوص الإمام:
وقد تبع الاختلاف في حجية مفهوم المخالفة الاختلاف في جواز أخذ مذهب الإمام منه. فمقتضى مذهب جمهور متأخري الحنفية جواز ذلك، وإن كانوا لا يرون حجية المفهوم المخالف في نصوص الشارع. فقد نقل الحصكفي [ت 1088هـ] (1) عن جملة من مصادر الحنفية ما يفيد ذلك. فعن النهر:[إن مفاهيم الكتب حجة، بخلاف أكثر مفاهيم النصوص، وإن المفهوم معتبر في الروايات- أي عن الأئمة- إتفاقاً]. وذكر أن مما يعتبر مفهوم كلامه اتفاقاً. أقوال الصحابة ولكنه ذكر أنه [ينبغي تقييده بما يدرك بالرأي لا ما لا يدرك به].
ووجه ابن عابدين (2) ذلك في شرحه، بأن ما لا يدرك بالرأي في حكم
(1) هو محمد بن علي بن محمد الحصني الأصل الدمشقي الحنفي، الملقب بعلاء الدين والمعروف بالحصكفي نسبة إلى حصن كيفا في ديار بكر. تتلمذ على والده وعلى الإمام محمد المحاسني خطيب دمشق، في مراحله الأولى، ثم تنقل في البلدان وأخذ العلم عن كثيرين.
كان من علماء الحنفية البارزين في زمانه. عكف على التدريس وتتبع العلم، وصار مفتي الحنفية في دمشق التي توفي فيها سنة 1088هـ.
من مؤلفاته: الدر المختار شرح تنوير الأبصار، إفاضة الأنوار في شرح المنار في أصول الفقه، وتعليقات على الجامع الصحيح للبخاري، وعلى أنوار التنزيل للبيضاوي، وغيرها.
راجع في ترجمته: الأعلام 6/ 294، والفتح المبين 3/ 103، ومعجم المؤلفين 11/ 56، ومعجم المطبوعات العربية والمعربة ص 778.
(2)
هو محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن عابدين الدمشقي الحنفي. من فقهاء وأصوليي الحنفية المتأخرين. ولد في دمشق ونشأ في حجر والده. وجلس في محله للتجارة، ثم انصرف للعلم، فأخذ منه بحظ وافر من معقوله ومن منقوله. وصار مفتي الديار الشامية، وإمام الحنفية في زمانه. توفي في دمشق سنة 1252هـ.
من مؤلفاته: رد المحتار شرح تنوير الأبصار المعروف بحاشية ابن عابدين، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، ونسمات الأسحار على شرح المنار المسمى =
المرفوع، والمرفوع نص، والحنفية لا يحتجون بالمفهوم في نصوص الشارع (1) ونص على ذلك طائفة من كتب الحنفية (2)، ومما مثلوا به لذلك: إن المتأخرين قالوا لو قال: مالك علي أكثر من مائة كان إقراراً بالمائة، فهذا دليل على اعتبارهم المفهوم، في غير النصوص الشرعية (3).
ومما يوضح ذلك في مفاهيم الكتب أن القدوري [ت 428هـ](4) نص في الكتاب على أن [السهو يلزم إذا زاد في صلاته فعلاً من جنسها ليس منها
…
أو جهر الإمام فيما يخافت، أو خافت فيما يجهر] فأخذ بعض علماء الحنفية من تقييده الجهر والإخفات بالإمام، أن المنفرد لا سهو عليه
(1) = بإفاضة الأنوار في أصول الفقه، وغير ذلك من الكتب والرسائل والفتاوى.
راجع في ترجمته: الأعلام 6/ 42، والفتح المبين 3/ 147، ومعجم المؤلفين 9/ 77 ومعجم المطبوعات العربية والمعربة ص 150، 151.
() الدر المختار شرح تنوير الأبصار لعلاء الدين محمد بن علي الحصكفي (ت 1088هـ) بحاشية رد المحتار لابن عابدين 1/ 110، 111 (ط2 1386هـ/ 1966م).
(2)
التقرير والتحبير 1/ 117، ورد المحتار لابن عابدين 1/ 110، 111، والكشف عن أحكام الوقف للشيخ عبد الرحيم فرغل البليني ص49 نقلاً عن أنفع الوسائل، وانظر رسالة (شرح المنظومة المسماة عقود رسم المفتي) ففيها نقول وتفاصيل كثيرة وأمثلة متنوعة بهذا الشأن.
(3)
المصادر السابقة.
(4)
هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر بن حمدان المعروف بالقدوري. كان شيخ الحنفية في العراق، ورئيسهم في زمانه. سمع الحديث وروى عن طائفة من العلماء منهم الخطيب البغدادي صاحب التاريخ. كان حسن العبارة، قوياً في المناظرة. توفي في بغداد ودفن فيها سنة 428هـ.
من مؤلفاته: المختصر المشهور، وشرح مختصر الكرخي، والتجريد والتقريب، ومسائل الخلاف بين أصحابنا وغير ذلك.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 1/ 6، والجواهر المضية 1/ 248، وتاج التراجم ص7، ومعجم المؤلفين 2/ 66.
في حالتي الجهر فيما يخافت فيه، أو الإخفاء فيما يجهر فيه (1). وذكر المقري (ت 758هـ)(2)، وهو من علماء المالكية، عدم جواز تخريج آراء للأئمة ثم نسبتها إليهم، بناء على مفهوم المخالفة، قال:[لا تجوز نسبة بالتخريج والإلزام بطريق المفهوم، أو غيره إلى غير المعصوم، عند المحققين، لإمكان الغفلة أو الفارق، أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام أو التقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في السكوت أقوى، أو عدم اعتقاده العكس، إلى غير ذلك. فلا يعتمد في التقليدين ولا يعد في الخلاف](3).
وفي كلام أبي إسحاق الشيرازي الشافعي [ت 476هـ] ما يدل على منع مثل هذا التخريج، ورفضه أن ينسب ذلك إلى الأئمة. قال:(قول الإنسان ما نص عليه، أو دل عليه بما يجري مجرى النص، وما لم يدل عليه فلا يحل أن يضاف إليه، ولهذا قال الشافعي- رحمه الله: لا ينسب إلى ساكت قول)(4). وكلام الشيرازي هذا، وإن كان بشأن ما قيس على كلام الإمام، إلا أن عباراته عامة وشاملة، بل إن دلالة المفهوم مما كثر فيها الجدل والخلاف أكثر مما وقع في القياس.
(1) الكتاب بشرح اللباب 1/ 97.
(2)
هو محمد بن محمد بن أحمد القرشي المقري التلمساني. ولد بتلمسان لأسرة ميسورة الحال، فتفرغ للعلم في زمن مبكر، وارتحل إلى المشرق قاصداً الحج فالتقى في طريقه بعدد من علماء مصر والشام والقدس والحجاز. أخذ علمه عن عدد من علماء عصره، وتتلمذ عليه عدد غير قليل من العلماء، منهم من يعدون أشهر علماء عصرهم، كلسان الدين بن الخطيب [ت 776هـ]، وابن خلدون المؤرخ والرحالة المشهور [ت 808هـ]، والشاطبي صاحب الموافقات [ت 790هـ] وغيرهم.
تولى القضاء فترة، ولازم في آخر حياته السلطان "أبو عنان" المريني. وفي أثناء عودته مع السلطان المذكور من قسنطينة عاجلته المنية في مدينة فاس سنة 758هـ.
من مؤلفاته: عمل من حب لمن طب، والطرف والتحف، والقواعد، وغير ذلك.
راجع في ترجمته: مقدمة المحقق لكتاب القواعد لملقري.
(3)
قواعد المقري 1/ 348 و 349.
(4)
التبصرة ص 517، شرح اللمع 2/ 1084.
ونجد عند علماء الحنابلة وجهتي نظر مختلفتين في هذا الشأن، فقد اختار الخرقي وابن حامد وإبراهيم الحربي (1) صحة نسبة ذلك إلى الإمام (2).
وحجتهم في ذلك أن ما يذكر من قيد لابد أن تكون له فائدة، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان ذكره لغواً، قال ابن حامد:[ومع هذا فقد ثبت وتقرر أن إمامنا وغيره من العلماء لا يأتون لكلمة من حيث الشرط إلا ولذلك فائدة، فلو كانت القضية بالشرط وعدم الشرط سواء، كان ما جاء به الفقيه من الشرط أيضاً لغواً، وهذا بعيد أن ينسب إلى أحد من العلماء](3).
وهذا الوجه قال عنه في شرح التحرير: [وهو الصحيح من المذهب](4).
والوجه الثاني أن مفهوم كلام الإمام لا يعد مذهباً له، ولا تصح نسبته إليه. وقد اختار ذلك أبو بكر عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال (ت 363هـ) وحجة هؤلاء إن القيد لا يتعين للنفي فيما عداه، فقد يكون خاصاً بواقعة معينة، أو يكون القيد لحالة خرج الكلام فيها مخرج الغالب (5)، أو لإمكان الغفلة، أو لوجود الفارق، أو الرجوع عن الأصل، أو غير ذلك من الأمور (6). ومعنى ذلك أنه لا جزم بأن الإمام أراد بالقيد المذكور في
(1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الحربي. تتلمذ على طائفة من العلماء منهم أحمد بن حنبل. كان معروفاً بالزهد والبراعة في العلم. قال عند الدارقطني: كان إماماً، وكان يقاس بأحمد بن حنبل في علمه وزهده. روى عن أحمد مسائل كثيرة. توفي ببغداد سنة 285هـ، ودفن في بيته.
من مؤلفاته: غريب الحديث، دلائل النبوة، كتاب الحمام، وسجود القرآن وغيرها. راجع في ترجمته: طبقات الحنابلة 1/ 86 - 93، شذرات الذهب 2/ 190، والأعلام 1/ 32.
(2)
صفة الفتوى والمفتي والمستفتي 102، تهذيب الأجوبة ص 189 وما بعدها. الإنصاف 12/ 254، شرح الكوكب المنير 4/ 497، 498، المسودة ص 532.
(3)
تهذيب الأجوبة ص192، صفة الفتوى والمفتي ص 103.
(4)
التحبير في شرح التحرير للمرداوي ورقة 229 ب.
(5)
صفة الفتوى والمفتي ص103.
(6)
قواعد المقري (قاعدة 120) 1/ 348و 349.
كلامه نفي الحكم عن المسكوت عنه، وينبني على ذلك أن لا تصح نسبة أي رأي له عن طريق المفهوم. ومن الغريب أن هذه الوجهة تتناقض مع وجهة بعض متأخري الحنفية الذين منعوا استنباط الأحكام عن طريق المفهوم المخالف في نصوص الشارع، وأجازوها في كلام الصحابة والعلماء والمصنفات وغيرها، مع إمكان الغفلة، ووجود الاحتمالات المذكورة، في كلام غير المعصوم.
والذي يظهر- والله أعلم- أن استنباط مذاهب الأئمة، عن طريق مفهوم كلامهم المخالف، فيه نوع من المجازفة، وإن كان يحتمل الصواب. ولكن إن قامت علامات وقرائن على أن القيد لم تكن له فائدة إلا نفي الحكم عما عداه، صح التخريج وصحت النسبة.
ومن أمثلة التخريج عن طريق المفهوم ما أخذ من نص الإمام أحمد- رحمه- الله- في رواية إسحاق بن منصور (1)، حيث نص على أن [كل من لم يكن له شيء يفعله في طريق المسلمين، ففعله، فأصاب شيئاً فهو ضامن. فإن المفهوم منه انتفاء الضمان بما ينشأ عن الفعل المباح](2). وعلى الرغم من قبول كثير من العلماء مبدأ التخريج من مفاهيم نصوص الأئمة، لكننا قلما نجد لهم تصريحاً بأن ما خرجوه كان بناء على المفهوم، فالأمثلة التي هي من هذا القبيل قليلة جداً، غير أنهم في شروحهم، وعرضهم لنصوص الأئمة يذكرون أحكاماً
(1) هو أبو يعقوب إسحاق بن منصور بن بهرام المعروف بالكوسج المروزي. ولد بمرو ودخل العراق والحجاز والشام وسمع من كثيرين، منهم سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع الجراح وغيرهم. تفقه على أحمد وإسحاق، وكان عالماً وفقيهاً كما كان ثقة مأموناً. روى عن أحمد- رحمه الله طائفة من المسائل توفي سنة 251هـ بنيسابور.
من مؤلفاته: المسائل في الفقه، دونها عن أحمد.
راجع في ترجمته: طبقات الحنابلة 1/ 113 - 115، وشذرات الذهب 2/ 123، الأعلام 1/ 297.
(2)
القواعد والفوائد الأصولية ص78.
نابعة من مفاهيم تلك النصوص، إذ الكثير من نصوص الأئمة لا يخلو من قيود أو شروط لما يصدرونه من فتاوى، فيما يعرض عليهم من الحوادث الجزئية، فشرح تلك النصوص، وبيان محترزاتها، يتضمن إعطاء أحكام مختلفة لما لم يتحقق فيه القيد، وهذا كثير وشائع في كتب الفقه، فإذا نسبنا ذلك إلى الأئمة قلنا إن ما يثبت لهم بطريق المفهوم كثير جداً، وربما فاق عدد ما يسند إليهم عن طريق النص. ومثل ذلك ما يستفاد من مفاهيم الكتب المشروحة (1).
ووفق وجهة نظر من اعتدوا بالمفهوم المخالف، ونسبوا ما يقتضيه إلى الإمام، وعدوه مذهباً له، فإنه لو نص الإمام على ما يخالف المفهوم ففي المسألة عندهم وجهان:
أحدهما: بطلان المفهوم، نظراً لقوة النص وخصوصه، ولضعف دلالة المفهوم، فيكون في المسألة رواية واحدة.
الثاني: عدم بطلان المفهوم، لأنه كالنص في إفادته للحكم. وعلى هذا الوجه يكون للإمام في المسألة قولان، إن كانا عامين، أحدهما يثبت بالمنطوق والآخر بالمفهوم (2).
وقد ذكر ابن حمدان مثالاً لذلك، فقال: [كقوله- أي أحمد- رحمه الله في الأب والأخ لما سئل عن عتق الأب بالشراء، فقال يعتق، وعن عتق
(1) ومن ذلك على سبيل المثال:
أ- ما ورد في الإنصاف 2/ 291 [مفهوم قوله [وإن رفع ولم يسجد صحت] أنه لو رفع وسجد إمامه قبل دخوله في الصف، أو قبل وقوف آخر معه: أن صلاته لا تصح، وهو الصحيح وهو المذهب. وعليه الجمهور.
ب- ما ورد في الإنصاف 2/ 314 [تنبيه: اشتمل قول المصنف في قصر الصلاة [ومن سافر سفراً مباحاً] على منطوق ومفهوم].
ج- ما ورد في الإنصاف 2/ 554 حيث قال عن عبارة المصنف بشأن عدم نبش قبر الميت (أو بلع مال غيره غرم ذلك من تركته)(تنبيه: مفهوم قوله [أو بلع مال غيره] أنه لو بلع مال نفسه أنه لا ينبش، وهو الصحيح، وهو المذهب ..).
(2)
صفة الفتوى والمفتي ص 103، الإنصاف 12/ 254.
الأخ به، فقال: يعتق. فمفهوم الأولى أن الأخ لا يعتق، ولفظ الثانية يعتق، فإن قلنا إن المفهوم يبطل بالمنطوق، كانت المسألة رواية واحدة، وإلا صار في الأخ روايتان، إحداهما بنصه، والأخرى بنقل وتخريج] (1).
وهذه المسألة تحتاج إلى تأمل، لأن دلالة المفهوم دلالة ضعيفة فلا تعارض دلالة المنطوق. ومن شرط العمل بالمفهوم أن لا يوجد تصريح بخلافه، وقد وجد.
(1) صفة الفتوى والمفتي ص 103.