الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
حكم نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة
ذكرنا في المبحث السابق أن كثيراً من أصول الأئمة لم ينص عليها من قبلهم وإنما هي مخرجة من فروعهم الفقهية، اجتهاداً من أهل التخريج، بناء على فهمهم لنصوص الأئمة وإدراكهم لعللها، والمعاني الرابطة بينها عند تعددها، وإذا كان الأمر كذلك فإن احتمالات الخطأ في تخريج القواعد والأصول أمر ممكن، ولا يمكن القطع بنسبتها إليهم - لا سيما إذا كانت مبنية على فروع جزئية محدودة، أو باستقراء جزئي مبتور.
وهذا الأمر - كما يظهر- هو الذي دعا بعض العلماء إلى إنكار مثل هذه التخريجات، على تفاوت بينهم في ذلك، فابن برهان (ت 518هـ)(1) ينكر ذلك جملة وتفصيلاً، فقد قال في مسألة اقتضاء الأمر الفورية أو عدمها، وما نسب من آراء بشأنها على أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله-: (وهذا خطأ
(1) هو: أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد الوكيل المروف بابن برهان الحنبلي ثم الشافعي. ولد ببغداد وفيها نشأ وتلقى علومه على مشاهير علماء زمانه، كأبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي، وألكيا أبي الحسن الهراسي. كان حاد الذكاء سريع الحفظ، غلب عليه علم الأصول، وكان يُضرب به المثل في حل الإشكال. درس بالنظامية شهراً واحداً وعزلن ثم تولى ذلك ثانياً يوماً واحداً وعزل أيضاً. وكانت وفاته ببغداد سنة 518هـ وقيل غير ذلك.
من مؤلفاته: الوصول على الأصول، والبسيط، والأوسط في علم الأصول أيضاً، وله الوجيز في الفقه.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 1/ 82، طبقات الشافعية للأسنوي 1/ 208، الأعلام 1/ 173 الفتح المبين 2/ 15.
في نقل المذاهب، فإن الفروع تبني على الأصول. ولا تبنى الأصول على الفروع. فلعل صاحب المقالة لم يبن فروع مسائله على هذا الأصل، ولكن بناها على أدلة خاصة، وهو أصل يعتمد عليه في كثير من المسائل) (1).
وربما كان ما ذكره ابن برهان من احتمال الخطأ، هو الدافع لكثير من العلماء على جعل التخريج على أصول وقواعد الإمام، يأتي بعد مرتبة التخريج من الفروع الفقهية المنصوص عليها من قبله (2).
ومن خلال ما خرج للأئمة من أصول نجد أن العلماء قد اختلفوا في صحة تخريج عدد منها. وسنكتفي بذكر بعض الأمثلة، لإيضاح ذلك وليس للحصر.
1 -
ذكر أبو بكر الرازي (ت 370هـ) أن ما روي عن أبي حنيفة – رحمه الله من تجويزه قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد، يتخرج من ظاهره أن أبا حنيفة يرى الإجماع على أحد الرأيين في العصر التالي ليس بإجماع صحيح ولا يحتج به. لكن أبا الحسن الكرخي (ت 340هـ) كان يرى أن افتاء أبي حنيفة بذلك لا يلزم منه هذا الأصل المخرج، إذ من الجائز أن يكون مذهبه أنه إجماع صحيح. وإن لم يفسخ قضاء القاضي إذا قضى بخلافه. وقد كان الكرخي يوجه رفضه لمثل هذا التخريج توجيهاً خاصاً لم نعلمه لأنه ذهب حفظه عن تلميذه الجصاص فلم ينقله (3) ولكنه – مع ذلك – يكشف لنا أن ما ذكره ابن برهان لا يخلو من وجاهة، وأن تخريج الأصول بمثل هذا الطريق ليس سبيلاً مؤكداً، وأنه ربما كان طريقاً على الخطأ.
2 -
وذكر القاضي أبو يعلي (ت 458هـ) تخريج أصل للإمام أحمد – رحمه الله – مفاده أن الأصل في الأعيان المنتفع بها قبل الشرع الإباحة، أخذاً
(1) الوصول إلى الأصول 1/ 150، فواتح الرحموت 1/ 387.
(2)
أدب المفتي والمستفتي ص 97.
(3)
الفصول 3/ 340.
من إيماء أحمد في رواية أبي طالب (1)، وقد سأله عن قطع النخل؟ فقال: لا بأس به لم نسمع في قطع النخل، شيئاً. والحجة في ذلك أن الإمام أحمد أسند الإباحة في قطع النخل، لعدم ورود الشرع بحظره (2).
فتعقب ابن تيمية (3) هذا التخريج من هذه الرواية، وبين أن قول الإمام أحمد بعدم البأس لا يعني أخذه بما ذكر. فقد يكون ذلك مأخوذاً من العمومات الشرعية، ويجوز أن يكون مما سكت عنه الشرع فيكون عفواً، ويجوز أن يكون استصحاباً لعدم التحريم، ويجوز أن يكون ذلك راجعاً إلى أن الأصل هو الإباحة العقلية. ثم إن ما جاء في الرواية عن أحمد رحمه الله من إباحة القطع هو من الأحكام المتعلقة بالأفعال، لا المتعلقة بالأعيان (4).
3 -
ومن هذا القبيل اختلاف علماء الحنفية في مسألة مخاطبة الكفار بالشرائع
(1) هو: أحمد بن حميد أبو طالب المشكاني. صحب الإمام أحمد، وروي عنه مسائل كثيرة. وكان أحمد – رحمه الله يكرمه ويقدمه كان صالحاً فقيراً صبوراً على الفقر. توفى سنة 244هـ. انظر: طبقات الحنابلة 1/ 39.
(2)
التمهيد لأبي الخطاب 4/ 270، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص 107 و108، والمسودة لابن تيمية ص 478 و479.
(3)
هو: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المعروف بابن تيمية الحراني ثم الدمشقي. ولد بحران. وتحول به أبوه إلى دمشق، فظهر نبوغه واشتهر بين العلماء ثم ذهب إلى مصر، فتعصب عليه جماعة من أهلها فسجن مدة ثم نقل إلى الإسكندرية ثم أطلق فعاد إلى دمشق. والشيخ –رحمه الله من أبرز علماء الحنابلة ومجتهديهم، كان عالماً بالفقه والأصول والحديث والتفسير والعربية وغيرها من العلوم. وكانت وفاته بدمشق سنة 728هـ.
من مؤلفاته: مجموعة فتاويه، ومنهاج السنة، وأصول التفسير، ودرء تعارض العقل والنقل والاستقامة وغيرها.
راجع في ترجمته: الدرر الكامنة 1/ 168، وشذرات الذهب 6/ 80، والأعلام 1/ 144، ومعجم المؤلفين 1/ 261، وهدية العارفين 1/ 105.
(4)
المسودة ص479، والقواعد والفوائد الأصولية ص 108.
وتخريجهم رأياً لمشايخهم في المسألة، هو أن الكفار لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط. وقد تنوعت تخريجاتهم وتوجيهاتهم فيها.
وهذه المسألة مما لم ينص عليها علماء الحنفية المتقدمون، ولكن بعض المتأخرين خرجوا لعلمائهم رأياً من مسائلهم، ومن خلافاتهم مع الإمام الشافعي رحمه الله في طائفة من الفروع (1).
فبعضهم خرج ذلك من أن المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء صلاة الردة، خلافاً للشافعي رحمه الله فدل على أن المرتد الذي هو كافر، غير مخاطب بالصلاة عندهم (2) وبعضهم خرج ذلك من أن المكلف إذا صلى في أول الوقت ثم ارتد، ثم أسلم والوقت باقٍ. فإن عليه الأداء، خلافاً للشافعي، وكذا لو حج ثم ارتد ثم أسلم. وبعضهم خرج ذلك من أن الشرائع ليست من الإيمان عند الحنفية، خلافاً للشافعي، فلا يكونون مخاطبين بأداء الشرائع المبنية على الإيمان.
وهذه تخريجات مرفوضة، أو ضعيفة، عند المحققين من علماء الحنفية، وقد أجابوا عنها بما يدل على أن علماءهم لم يقولوا بالأحكام المذكورة بسبب عدهم الكفار غير مخاطبين بالشرائع، بل لأسباب أخر (3).
وصحح السرخسي وتابعه صدر الشريعة، أن هذا القول يؤخذ من قولهم إن من نذر أني صوم شهراً ثم ارتد ثم أسلم لم يجب عليه شيء.
قال السرخسي: (فعرف أن الردة تبطل وجوب أداء كل عبادة، فيكون هذا شبه التنصيص عن أصحابنا أن الخطاب بأداء الشرائع التي تحتمل السقوط لا يتناولهم ما لم يؤمنوا)(4).
ولا شك أن مثل هذا الاختلاف في التخريجات، ومثل هذه الاعتراضات الموجهة إليها يعزز وجهة النظر القائلة بكثرة احتمالات الخطأ في
(1) التوضيح بشرح التلويح لصدر الشريعة 1/ 214 و215.
(2)
المصدر السابق، وأصول السرخسي 1/ 75.
(3)
المصدران السابقان، ولاحظ فيهما الإجابة عن كل هذه التخريجات.
(4)
أصول السرخسي 1/ 75 و76.
التخريج، بصورة واضحة.
4 -
ومن هذا القبيل تخريج ابن الرفعة (1)(ت 710هـ) أصلاً للشافعي هو الأخذ بقاعدة سد الذرائع، أخذه من نصه في باب إحياء الموات من كتاب الأم، إذ قال رضي الله عنه بعد ذكر النهي عن بيع الماء ليمنع به الكلأ، وأنه يحتمل أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله. قال ابن الرفعة:(وإذا كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام)(2).
لكن الشيخ تقي الدين السبكي (3) نازع في هذا التخريج، وقال: (إنما أراد
(1) هو: أحمد بن محمد بن علي الأنصاري البخاري المصري الشافعي، الشهير بابن الرفعة، والملقب بنجم الدين، والمكنى بأبي العباس. كان من كبار أئمة الشافعية في مصر. قال عنه الأسنوي: إنه لم يخرج في غقليم مصر بعد ابن الحداد من يدانيه، ولا نعلم في الشافعية مطلقاً بعد الرافعي من يساويه. كان أعجوبة في معرفة مذهب الشافعي، وفي قوة التخريج. عرف بالدين والتقوى، ومن أشهر تلاميذه تقي الدين السبكي. توفى في مصر سنة 710هـ.
من مؤلفاته: شرح التنبيه المسمي بـ "الكفاية"، وشرح الوسيط المسمى بـ "المطلب" ولم يتمه، والإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان.
انظر في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 5/ 177، طبقات الشافعية للأسنوي 1/ 601، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 66، الدرر الكامنة 1/ 336. معجم المؤلفين 2/ 135 شذرات الذهب 6/ 22.
(2)
الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 119.
(3)
هو: أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الملقب بتقي الدين، ولد بسبك من أعمال المنوفية في مصر، وإليها نسب، تلقى الفقه على رجل أعمى من أهل شباط ثم ارتحل إلى القاهرة وسمع من جماعة كثيرين، وأخذ العلم عن كبار علماء القاهرة، واتخذ طريقة الجنيد في التصوف ثم ارتحل إلى الإسكندرية، فالشام، ثم عاد واستر في القاهرة مدرساً ومفتياً ومصنفاً حتى عام 739هـ، حين شغر منصب قضاء الشام بموت الجلال القزويني فتولاه الإمام السبكي، فمرض وعاد إلى مصر، وسكن على شاطيء النيل حتى توفاه الله سنة 756هـ، ودفن بمقابر الصوفية بباب النصر. شارك في علوم كثيرة التفسير والحديث، واللغة والنحو والجدل والخلاف والفقه، =
الشافعي – رحمه الله تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه. ومن هذا النوع الماء، فإنه مستلزم عادة لمنع الكلأ الذي هو حرام. ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل) (1).
5 -
ومن ذلكما ذكره الغزالي (2) في المنخول، ونسبه إلى أبي حنيفة، وهو تجويز إخراج السبب من عموم اللف، أخذ ذلك تخريجاً من قول أبي حنيفة – رحمه الله إن الحامل لا يلاعن عنها (3)، مع أن الآية وردت في امرأة العجلاني وكانت حاملاً (4). ومن إخراجه ولد الأمة الموطوءة من
(1) = والأصول، وكان محققاً ومدققاً، ذا استنباطات جليلة في الفقه والقواعد المحررة. قيل غنه صنف نحو مائة وخمسين كتاباً مطولاً ومختصراً.
من كتبه: الإبهاج في شرح المنهاج لم يكمله وأتمه ابنه، مختصر طبقات الفقهاء، الدر النظيم في التفسير ولم يكمله.
راجع في ترجمته: طبقات الشافعية للأسنوي 2/ 75، الدرر الكامنة 4/ 74، شذرات الذهب 6/ 180، الأعلام 4/ 302، معجم المؤلفين 7/ 127.
() الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 119.
(2)
هو: أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي المعروف بحجة الإسلام. والغزالي من أشهر علماء المسلمين وأبرزهم في ميادين الحكمة والكلام والفقه والأصول والتصوف مع جمعه إلى ذلك جملة من علوم أخرى. ولد بطوس وارتحل في طلب العلم، فأخذه عن أبي نصر الإسماعيلي، ثم عن إمام الحرمين الجويني في نيسابور، ثم جلس للاقراء، وندب للتدريس في المدرسة النظامية ببغداد، وأعجب به أهل العراق، وعمت منزلته ثم أقبل على السياحة والعبادة، وكانت وفاته بطوس سنة 505هـ،
من مؤلفاته: إحياء علوم الدين، والمستصفي في أصول الفقه والمنخول في أصول الفقه، وشفاء الغليل في أصول الفقه، والوجيز في فروع الفقه الشافعي، وتهافت الفلاسفة والمنقذ من الضلال وإلجام العوام عن علم الكلام، وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 3/ 353، طبقات الشافعية الكبرى 4/ 101، 182، شذرات الذهب 4/ 10، طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 192، هدية العارفين 2/ 79، والأعلام 7/ 22 معجم المؤلفين 11/ 266.
(3)
انظر رأي أبي حنيفة وتوجيه رأيه ورأي من وافقه بهذا الشأن في الهداية بشرح فتح القدير3/ 259، وفي رد المحتار 3/ 490، وتبين الحقائق 3/ 20.
(4)
الآيات الواردة في اللعان هي الآيات: 6 - 9 من سورة النور ونصها: 0والذين يرمون =
عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)(1)، فلم يثبت نسبه منه إلا بدعواه، مع أن النص العام (الولد للفراش) جاء بسبب وليدة زمعة، وكانت أمة موطوءة (2) ويعزو الغزالي في المستصفي إخراج أبي حنيفة ولد الأمة من العموم لعدم علمه بالسبب (3). لكن الحنفية يرفضون نسبة مثل هذا الأصل لأبي حنيفة، وإن كانت نسبة الفروع الفقهية إليه صحيحة. لكنهم يؤلونها بطائفة من التأويلات التي تبعد نسبة هذا الرأي عن إمامهم (4).
6 -
ومثل ذلك يتحقق حتى في القواعد والضوابط الفقهية. ومن أمثلة ذلك أن المسائل الاثنى عشرية (5) المختلف فيها بين أبي حنيفة – رحمه الله
(1) = أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين. (7) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9)).
وقد ذكر أكثر من سبب لنزول هذه الآية، ومنها ما أشار إليه الغزالي.
والعجلاني هو عويمر بن نصر. وفي صحيح البخاري ماي شهد لذلك. وقد نقل عن السهيلي أنه قال: إنه الصحيح، ونسب غيره إلى الخطأ (تفسير آيات الأحكام 3/ 135).
وانظر الروايات بهذا الشأن في تلخيص الحبي ر- كتاب اللعان 3/ 224 ومابعدها.
()(الولد للفراش وللعاهر الحجر) جزء من حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة، وقال المناوي: وهو متواتر فقد جاء عن بضعة وعشرين صحابياً (كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2/ 451)، لاحظ قصة الحديث في البخاري وشرحه فتح الباري 12/ 32. فقد جاء بشان الاختلاف في إثبات نسب ولد جارية زمعة، فقد ادعاه سعد بن أبي وقاص لأخيه عتبة، وادعى عبد بن زمعة أنه (أخوه) وابن جارية أبيه وقد ولدته على فراشه.
(2)
المنخول ص 151 و152.
(3)
المستصفي مع فواتح الرحموت 2/ 61.
(4)
التحرير لابن الهمام بشرح التقرير والتحبير 1م36، وبشرح تيسير التحرير 1/ 265.
(5)
المسائل الإثنا عشرية هي إثنا عشر فرعاً، فقهياً جلس فيها المصلى الجلسة الأخيرة قدر التشهد ولم يسلم، ثم حدث ما يفسد الصلاة، فعند أبي حنيفة أن صلاته تفسد كما =
وصاحبيه لم يتفق على الأصل الذي بنيت عليه. فبناها أبو سعيد البردعي (ت 317هـ)(1) على أن الخروج عن الصلاة بصنع المصلى فرض عند أبي حنيفة، وليس فرضاً عندهما (2) فأنكر أبو الحسن الكرخي (ت 340هـ) ذلك، وقال: هذا غلط، لأن الخروج قد يكون بمعصية كالحدث العمد، ولو كان فرضاً لاختص بما هو قربة (3).
وخرجها على أصل آخر هو (ما غير الفرض في أوله غيره في آخر عند أبي حنيفة)(4).
(1) = لو حدث ذلك في خلال الصلاة، وعند صاحبيه لا تفسد، لأن الصلاة قد تمت بالجلوس المساوي في فترته قدر التشهد.
وقد اختلف علماء الحنفية في الأصل الذي تبنى عليه هذه الفروع، فمنهم من انتصر للكرخي، ومنهم من انتصر للبردعي، نظراً لأن بعض الفروع الفقهية صعب تطبيق هذا الضابط عليها، على تخريج الكرخي.
وممن أيد البردعي فيما ذهب إليه حسن بن عمار الشرنبلالي (ت 1069هـ) في رسالة (المسائل البهية الزكية على الإثنى عشرية). ويمكن مراجعة هذه المسائل في كتاب تأسيس النظر، وفي كتب الفقه الحنفي في موضع مفسدات الصلاة. وقد أضاف بعض العلماء مسائل أخر إليها فوصلت إلى عشرين فرعاً.
راجع: تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي في الأصل الأول في كتابه المذكور.
ورد المحتار لابن عابدين 1/ 606، وفتح القدير لابن الهمام 1/ 274، والعناية للبابرتي بهامش فتح القدير 1/ 273، وتبيين الحقائق للزيلعي 1/ 151.
() هو: أبو سعيد أحمد بن الحسين من كبار علماء الحنفية في بغداد في زمانه. كان أستاذاً لأبي الحسن الكرخي وأبي طاهر الدباس القاضي وأبي عمرو الطبري ويرهم. وكانت له منارات مع داود وغيره والبردعي نسبة إلى بردعه، وهي بلدة في أقصى بلاد أذربيجان. توفي سنة 317هـ قتيلاً في وقعة القرامطة مع الحجاج.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيئة 1/ 163، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 141، والفهرست لابن نديم ص 293.
(2)
الهداية 1/ 274، واللباب في شرح الكتاب بتحقيق محي الدين عبد الحميد 1/ 87 و88، وتبيين الحقائق للزيلعي 1/ 151، والعناية مع فتح القدير 1/ 274، ورد المحتار لابن عابدين 1/ 449 و1/ 606 وما بعدها.
(3)
رد المحتار 1/ 449 و1/ 606 وما بعدها، فتح القدير 1/ 275.
(4)
تأسيس النظر ص 11 وما بعدها.
تعقيب في مسألة نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة:
والذي يظهر لنا من خلال ما لاحظناه من نقد لبعض التخريجات، وما أطلعنا عليه مما لم نذكره، أن مجال النقد في نسبة القواعد والأصول المخرجة إلى الأئمة ينبع من أمرين:
الأمر الأول: أن الأساس في الوصول إلى قواعد الأئمة هو الاستقراء الذي يعتمد على ملاحظة الأقوال الواردة عنهم، والموازنة بينها، وتحليل صفاتها ودلالاتها ومعانيها للوصول بذلك على القضايا الكلية أو القواعد التي تربط بين تلك الأحكام أو القواعد المتفرقة (1).
والاستقراءات التي بنيت عليها القواعد كانت ناقصة، والاستقراء الناقص وإن كان هو المنهج العلمي الصحيح في نظر جون ستيورت مل والمناطقة المعاصرين (2)، لأنه يكسبنا علماً جديداً، ويعرفنا على المجهول، لكن بسبب أن نتيجته أعم من أية مقدمة من مقدماته، فإنه في معرض إيقاع الباحث في الخطأ. فقد يكتشف فيما بعد أمثلة أخرى تخالف الأمثلة التي بنى عليها نتائجه السابقة، الأمر الذي يستدعي تبديل الحكم السابق بما يتفق مع الاكتشاف الجديد ومن قوانين المنطق أن صدق الحكم الجزئي ليس دليلاً على صدق الحكم الكلي (3).
ومن المعلوم أن تخريج أصول الأئمة كان معتمداً على مثل هذا الاستقراء الناقص، بل والبالغ النقصان؛ لأنهم في كثير من الأحيان يبنون القواعد على فروع لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأحياناً على فرع أو فرعين، مما يجعل بعض تخريجاتهم في نطاق الظن الضعيف.
الأمر الثاني: أن الأصول المخرجة كانت تعتمد على فهم المخرج نفسه
(1) لاحظ: المنطق التوجيهي للدكتور/ أبو العلاء عفيفي ص 118 - 121.
(2)
المصدر السابق 123/ 124.
(3)
مسائل فلسفية 1/ 147 للدكتور/ توفيق الطويل.
للنص ولحاظه وجه الدلالة فيه، فهو لا يعدو أن يكون مجتهداً في التعرف على مدرك الإمام في الفرع الفقهي موضوع التحليل، وحينئذ فإن احتمال الخطأ في معرفة مدرك الإمام وارد. ومما يدل على ذلك اختلافهم في بعض الأصول المخرجة، واستدراك بعضهم على بعض، مما سبقت الإشارة إلى طائفة منها. وهذا الأمر يضيف خللاً آخر إلى مادة الاستقراء، لأنه يدخل فيها - في حالة الخطأ - ما ليس منها.
وفي كثير من الأحيان لا نجد في مراجع المذاهب ما يؤيد تخريج مثل تلك الأصول أو القواعد للأئمة. فقد لا تكون مرادة لهم، ولعلهم كانوا يوجهون آراءهم بعلل وأسباب أخر. ومن ذلك مثلاً ما خرجه السمرقندي (1) في تأسيس النظائر من أصول وقواعد للأئمة، فإن كثيراً منها يمكن مناقشته فيها.
وعند الرجوع إلى المصادر الفقهية المشهورة في المذهب بشأن الفروع المندرجة في الأصول المذكورة لا نجد تعليل الكثير منها بالأصل الذي ذكره. بل إن الفقهاء يذكرون عللاً وأسباباً أخرى غير تلك الأصول.
وتأسيساً على ما تقدم فن نسبة الأصول والقواعد إلى الأئمة يحتاج إلى مزيد من البحث والتأمل، وتتبع ما نقل عنهم من تراث فقهي، أو أصولي، أو غير ذلك، والتعرف على الطريق الذي أتبع في تخريج الآراء ونسبتها إليهم.
ولكننا ننبه هنا إلى أن كثيراً من الانتقادات المتعلقة بالنسبة كانت لتخريجات مبنية على عدد محدود من الفروع، وربما كان بعضها مبنياً على
(1) هو: أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي الحنفي، الملقب بإمام الهدى. وهو من علماء الحنفية المشهورين، قال عنه القرشي:(هو الإمام الكبير صاحب الأقوال المفيدة والتصانيف المشهورة) توفى سنة 373هـ، وقيل سنة 393هـ.
من مؤلفاته: تأسيس النظائر الفقهية، وكتاب عيون المسائل، وكتاب النوازل في الفقه، وتنبيه الغافلين وبستان العارفين.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيئة للقرشي 1/ 544 و545، وتاج التراجم لابن قطلوبغا ص 79، ومفتاح دار العادة 2/ 142، وكشف الظنون 1/ 334.
فرع واحد، الأمر الذي أدى إلى نسبة الآراء المتعددة والمتناقضة إلى بعض الأئمة في بعض الأحيان، وفي المسألة الواحدة (1). ولو كان التخريج مبنياً على الاستقراء التام أو الواسع النطاق، باستقصاء كل ما ورد عن الإمام، فإن ذلك يصلح طريقاً إلى التأصيل، ويحقق غلبة ظن بمآخذهم، وما استندوا إليه في التفريع. وهذا المنهج هو الذي قامت عليه قواعد سائر العلوم، وبه استنبطت شروطها، ووضعت ضوابطها والله أعلم.
(1) لاحظ على سبيل المثال ما خرجوه من وجهات نظر متعددة للإمام أحمد – رحمه الله في مسألة غفادة خبر الواحد العلم أو عدم إفادته ذلك، حيث ذكروا له ما يقرب من خمسة آراء متناقضة أو متضادة.
انظر: العدد ص 898 وما بعدها والتمهيد لأبي الخطاب 3/ 78 وروضة الناظر ص 99 و100، والمسودة ص 240 - 244.
ولاحظ أيضاً ما نقل عنه في مسألة رواية العدل عن غيره هل تعد تعديلاً له أو لا؟
انظر: العدة ص 934 وما بعدها، والتمهيد لأبي الخطاب 3/ 129 - 130، والمسودة ص 273، وأصول الفقه لابن مفلح بتحقيق د/ فهد السدحان ص 209.