الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
تخريج الفروع على الأصول
ويشتمل على:
- تمهيد في: تعريفه، وبيان موضوعه، ومباحثه وفائدته، والعلوم التي استمد منها وبعض أحكامه.
- المبحث الأول: نشأة هذا العلم وتطوره.
- المبحث الثاني: أسباب اختلاف الفقهاء.
- المبحث الثالث: التخريج على الأصول، وحكم نسبة الآراء إلى الأئمة بناء عليه.
- المبحث الرابع: التعريف بأهم الكتب المؤلفة فيه.
تمهيد
في: تعريفه – وبيان موضوعه ومباحثه –
وفائدته – وبعض أحكامه
لم نجد من تكلم عن ذلك على أنه علم مستقل يحمل هذا الاسم، وإنما كان يتحدث عن التخريج باعتباره عملاً من أعمال المجتهد أو المفتي. ولهذا فقد كانت بعض مباحثه ترد في باب الاجتهاد من مباحث أصول الفقه، وما ألف في هذا الباب مما يحمل العنوان المذكور، كان تطبيقاً وتمثيلاً لعملية التخريج، فهو ألصق بالفن منه بالعلم، ومن أجل ذلك لم نطلع على من عرفه على أنه علم قائم بذاته، مما يجعل، مهمة تعريفه غير سهلة. وربما كان النظر فيما ألف في هذا الباب، وتأمل ما ذكره مؤلفوها في مقدمات كتبهم مما يساعد على توضيح ذلك، ويكشف عن إطار هذا العلم وحدوده.
إننا لو نظرنا إلى الكتب المؤلفة في هذا العلم، نجد أن أكثر مؤلفيها قد ذكروا في مقدمات كتبهم أن أهم ما يهدفون إليه من تلك الكتب هو رد الاختلافات الفقهية إلى الأصول التي انبنت عليها الآراء، فكأن تخريج الفروع على الأصول هو بيان للأسباب والعلل التي دعت الفقهاء إلى الأخذ بما قالوه من أحكام.
يقول الزنجاني (1): (ثم ال يخفى عليك أن الفروع إنما تبنى على
(1) هو: أبو المناقب. وقيل أبو الثناء محمود بن أحمد بن بختيار الزنجاني الشافعي. كان بحراً من بحار العلم كما يقول الأسنوي. برز في الفقه والأصول والتفسير والحديث. استوطن بغداد وتولى فيها القضاء مدة ثم عزل. درس في المدرسة النظامية والمستنصرية، واستشهد ببغداد، أيام دخول التتار بقيادة هولاكو إليها سنة 656هـ.
…
=
الأصول، وأن من لا يفهم كيفية الاستنباط، ولا يهتدي إلى وجه الارتباط بين أحكام الفروع وأدلتها التي هي أصول الفقه، لا يتسع له المجال، ولا يمكنه التفريع عليها بحال. فإن المسائل الفرعية على اتساعها، وبعد غايتها، لها أصول معلومة وأوضاع منطوقة، ومن لا يعرف أصولها وأوضاعها لم يحط بها علماً) (1).
فالتخريج – عنده – هو بيان للأصول التي استند إليها الأئمة في الاستنباط وبيان لكيفية ووجه الاستنباط منها، وجمع للفروع المختلفة، وإن تباعدت أبوابها، إن كانت تستند إلى أصل واحد.
ويفه من كلامه أن هذا العلم أيضاً، يهيئ العالم به إلى التفريع على الأصول وبيان أحكام ما لم ينص عليه، استناداً إلى تلك الأصول أو العلل إن كانت تلك الوقائع تتفق مع الفروع المنقولة عن الأئمة في معناها، وفي الدخول تحت القاعدة أو الأصل الذي رُدت إليه الفروع.
وفيما ذكره الأسنوي (2) في كتابه المؤلف في هذا العلم تصرحي بأن هذا
(1) = من مؤلفاته: السحر الحلال في غرائب المقال في فروع الشافعية، وتهذيب الصحاح للجوهري، وتخريج الفروع على الأصول.
راجع في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى 5/ 154، طبقات الشافعية للأسنوي 2/ 15، الأعلام 7/ 161، الفتح المبين 2/ 70، معجم المؤلفين 12/ 148، هدية العارفين 2/ 405.
() تخريج الفروع على الأصول ص 1 و2.
(2)
هو: أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي الشافعي الملقب بجمال الدين. ولد بأسنا في صعيد مصر، وقدم إلى القاهرة وتلقى علومه على عدد من علمائها، فانتهت غليه رئاسة الشافعية، ولي الحسبة ووكالة بيت المال، ثم اعتزل الحسبة، برع في التفسير والفقه والأصول والعربية والعروض وكانت وفاته بمصر سنة 772هـ.
من مؤلفاته: التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، نهية السول شرح منهاج الوصول في أصول الفقه، طبقات الشافعية، الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية، الهداية إلى أوهام الكفاية في فروع الفقه الشافعي، خبايا =
العلم، كما يبين مآخذ العلماء وأصولهم التي استندوا إليها فيما ذهبوا إليه من الأحكام، فإنه يقصد منه أيضاً بيان كيفية استخراج الفروع من تلك الأصول. وقد ذكر أنه – شخصياً – فرع على تلك القواعد أحكاماً فيما لم يقف فيه على نقل (1). وأن غرضه من تأليف كتابه هو أن "يعرف الناظر في ذلك مأخذ ما نص عليه أصحابنا وأصلوه وأجملوه أو فصلوه، ويتنبه على استخراج ما أهملوه، ويكون سلاحاً وعدة للمفتين، وعمدة للمدرسين"(2). وأن به تتحقق غاية الطلب، وهي "تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول، والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج"(3).
واستناداً إلى مثل ما تقدم، وإلى ما اطلعنا عليه في بعض كتب الفقه والأصول. سنقوم بتعريف هذا العلم، وبيان موضوعه ومباحثه وفائدته، وبعض أحكامه.
أولاً: تعريفه:
إذا نظرنا إلى ما تقدم من وجهات النظر، وأردنا أن نعرف علم تخريج الفروع على الأصول تعريفاً يوفق بين تلك التصورات، فإننا نقترح تعريفه بأنه:
(هو العلم الذي يبحث عن علل أو مآخذ الأحكام الشرعية لرد الفروع إليها بياناً لأسباب الخلاف، أو لبيا حكم ما لم يرد بشأنه نص عن الأئمة بإدخاله ضمن قواعدهم أو أصولهم)(4).
(1) = الزوايا، المنثور في القواعد.
راجع في ترجمته: الدرر الكامنة 3/ 147، شذرات الذهب 6/ 223، معجم المطبوعات 1/ 445، هدية العارفين 1/ 561، الأعلام 3/ 344، معجم المؤلفين 5/ 23.
() التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص 46.
(2)
المصدر السابق ص 46 و47.
(3)
المصدر السابق.
(4)
على أساس أن هذه الحكام معلومة ومعروفة من خلال القاعدة التي هي من القضايا =
ثانياً: موضوعه ومباحثه:
1 -
موضوعه:
بعد أن بينا معنى الموضوع وما يراد به عندهم، في الفصل السابق، فإننا سنحاول تلمس موضوع هذا العلم، وفق ذلك المعنى، من خلال المؤلفات التي كتبت في مجاله التطبيقي، وما ورد في كتب أصول الفقه مما يتعلق ببعض مباحثه، إذ لم أجد من تناول ذلك فيما سبقن ولم أطلع على دراسة نظرية لهذا العلم من بل.
إن إلقاء نظرة على المؤلفات التي طرحت في هذا المجال يوضح أنها كانت تتناول طائفة من القواعد والأصول المختلف فيها، وبعض القواعد والضوابط الفقهية (1) والأحكام الفقهية التي بنيت على هذه القواعد والضوابط. كما أن بعضها اختص بذكر ما يبنى على القواعد النحوية واللغوية من الأحكام الشرعية، كالذي صنعه الأسنوي (ت 772هـ) في كتابه:(الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية)(2) وإفرادها في التأليف لا يعني خروجها عن أن تدخل ضمن القواعد الأصولية، فهي منها وليست خارجة عنها.
وإذن فهذه الكتب تبحث في القواعد الأصولية من حيث ما يبتني عليها
(1) = الحملية الكية الموجبة عندهم، فعمل المخرج هو ضم قضية صغرى إلى الكبرى المتمثلة بالقاعدة الأصولية أو الفقهية لينتج عن ذلك حكم موضوع الصغرى، ولذلك يكون هذا الحكم قد انتقل من القوة إلى الفعل. وعمل المخرج هنا يمكن أن يعد من باب تحقيق المناط، أو تطبيق القاعدة على ما يمكن أن يدخل تحتها من فروع أو جزئيات.
(انظر: التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 1/ 29، وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع 1/ 31 و32.
() كما هو كتاب (تأسيس النظر) لأبي زيد الدبوسي.
(2)
الكتاب مطبوع بتحقيق د/عبد الرزاق السعدي، وتوجد طبعة أخرى للكتاب بتحقيق د/ محمد حسن عواد بعنوان (الكوكب الدري فيما يخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية).
من الفروع الفقهية، وفي الفروع الفقهية من حيث انبناؤها على تلك الأصول.
وههنا أمر جدير بالنظر والتأمل، وهو أن كثيراً من هذه الكتب لم تتناول ما يتعلق بالتخريج على أقوال الأئمة، وشروط المخرج وما يصح أن ينسب إلى الإمام وما لا يصح أن ينسب إليه، مع أن هذه الموضوعات قد وردت في مباحث الاجتهاد في أكثر كتب الأصول. وإذن فموضوع التخريج يتناول الأدلة والقواعد الأصولية، ومن ضمنها قواعد النحو واللغة، كما يتناول الأحكام الفقهية، وصفات المخرج، والشروط التي لابد من تحققها في بناء الفروع على الأصول، وهو أمر أضفناه على ما ورد من الموضوعات المبحوثة في كتب التخريج، لأن أغلب هذه الكتب قصرت كلامها على ما هو من قبيل الاستنباط للأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، الذي هو شأن المجتهد المطلق، ولم يتناول القسم الآخر الذي اصطلح على تسميته بالتخريج، متميزاً بهذا الاطلاق على الاستنباط من الأدلة الشرعية.
وهنا أمر آخر ينبغي التنبيه إليه أيضاً، وهو أن التخريج أساساً إنما نشأ نتيجة الخلافات المذهبية، ورغبة علماء كل مذهب في الدفاع عن آراء أئمتهم، ورد استنباطاتهم الفقهية إلى أصول معينة، أو أصول مستنبطة ومخرجة من مجموعة من الفروع الفقهية، ثم الدفاع عن تلك الأصول، لتسلم لهم قوة الفروع بقوة الأصول. ولهذا فإنه من الممكن أن يقال: إن علم التخريج هذا من ثمرات علم الخلاف والجدل، أو على تقدير آخر إنه على صلة وثيقة به، وعلى هذا فإن بحث هذا العلم في الفروع والأصول إنما هو في نطاق ما وقع الخلاف فيه بين علماء المذاهب، أو بين علماء المذهب الواحد نفسه.
ويتضح مما قدمناه أن موضوع علم تخريج الفروع على الأصول متعدد، ومسألة تعدد موضوع العلم الواحد قضية فيها جدل بين أهل الاختصاص. وقد رجح كثير من المحققين جواز ذلك، إذا كان هناك نوع تناسب بين الأمور المتعددة (1).
(1) صدر الشريعة: التوضيح 1/ 22.
وذكر ابن الهمام (ت 861هـ)(1) أنه لا مانع من تعدد موضوع العلم الواحد، إذا كانت له غاية واحدة، فالموضوع تابع للغاية التي توجد في الذهن (2)، وهذا ما ذهب إليه الشريف الجرجاني (ت 816هـ)(3) وغيره (4).
على أنه مهما يكن من أمر فإن تخريج الفروع على الأصول يبحث في
(1) هو: كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي الأصل، ثم الإسكندري، ثم القاهري، العالم الحنفي المعروف بابن الهمام والمشارك في عدد من العلوم كالفقه والأصول والتفسير وعلم الطبيعة والفرائض والتصوف والنحو والصرف وغيرها.
عرف عنه أنه جدلي مناظر، وكان يقول: أنا لا أقلد أحداً في المعقولات. تنقل في البلدان، وكان آخر مطافه العودة إلى مصر. حيث توفي في القاهرة سنة 861هـ.
من مؤلفاته: شرح الهداية في الفقه المسمى فتح القدير للعاجز الفقير، والمسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، والتحرير في أصول الفقه، وله مختصر في الفقه سماه زاد الفقير وغيرها.
راجع في ترجمته: مفتاح السعادة 2/ 135 - 136، شذرات الذهب 7/ 298، هدية العارفين 2/ 201، معجم المطبوعات 1/ 278، الأعلام 6/ 255، معجم المؤلفين 10/ 264.
(2)
التحرير مع شرحه تيسير التحرير 1/ 11 و12.
(3)
هو: علي بن محمد بن علي الجرجاني الحسني الحنفي، ويعرف بالسيد الشريف. ولد بجرجان وإليها نسب، ودرس في شيراز، وفر منها إلى سمرقند بعد دخول تيمور لنك غليها. ثم عاد على شيراز بعد موت تيمورلنك، فأقام فيها حتى توفاه الله سنة 816هـ. شارك في كثير من العلوم لا سيما الفلسفية والعربية والأصولية، وبرع فيها حتى قالوا عنه إنه علامة دهره، وعالم بلاد الشرق.
من مؤلفاته: التعريفات، شرح المواقف، شرح السراجية في الفرائض ورسالة في متن أصول الحديث وغيرها.
راجع في ترجمته: مفتاح السعادة 1/ 187، الأعلام 5/ 7، معجم المؤلفين 7/ 216.
(4)
حاشيته على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 16.
أكثر من موضوع، سواء كانت تلك الموضوعات مقصودة أصالة أو تبعاً.
2 -
مباحثه ومسائله:
تعد مباحث ومسائل علم تخريج الفروع على الأصول ذات صلة وثيقة بموضوعه، لأن موضوعات المسائل والمباحث هي نفسها موضوعات العلم أو أنواعها، أو أعراضها الذاتية، أو ما تركب من هذه الأشياء أو بعضها.
ولما كان موضوع العلم، كما عرفنا، هو ما يبحث فيه عن الأحوال العارضة له، فإن مسائله ومباحثه هي معرفة هذه الأحوال العارضة لموضوع العلم نفسه سعة وضيقاً. وإن النظر في الكتب ذات الصلة بها العلم يوضح أن مباحثه ومسائله تتناول ما يأتي:
أ- المباحث المتعلقة بأحوال الأدلة أو القواعد المختلف فيها، أو أنواعها، لا من حيث حقيقتها، بل من حيث صحتها، واستقامة إثبات الأحكام الشرعية بها، وثبوت هذه الأحكام بها.
ب- المباحث المتعلقة بكيفية استخراج الأحكام من أدلتها مثل المباحث التي ترجع إلى شرائط الاستدلال كتقديم النص على الظاهر، والمتواتر على الآحاد، وبعض المبادئ اللغوية ودلالات الألفاظ، مما دخلت عندهم تحت أبواب التعارض والترجيح (1).
وبوجه عام، فإنه لا يبحث في هذه الأمور جميعاً، وإنما يبحث فيما اختلف فيه منها، سواء كان في دلالته على معناه أو تقديمه على غيره، أو ونه مرجحاً لسواه، أو غير ذلك.
ج- أسباب الاختلاف بين الفقهاء.
د- المباحث المتعلقة بالفقيه الذي يخرج الأحكام على قواعد الأئمة، والشروط الواجب تحققها فيه، ممن يسمون أهل التخريج، أو أصحاب الوجوه، أو ما شابه ذلك.
(1) الأسنوي، نهاية السول 1/ 17.
هـ- مباحث الأحكام والفروع الفقهية، من حيث اكتشاف الروابط بينها، وردها إلى أصول الإمام، أو إلى أصول مخرجة تنسب إلى الإمام.
ثالثاً: الفائدة والغاية من هذا العلم:
وبعد أن أوضحنا معنى الفائدة والغاية، في الفصل السابق، فإن من الممكن أن نقول أن الباعث على طلب علم تخريج الفروع على الأصول، أو غايته، هو التعرف على مآخذ الأئمة لما توصلوا إليه من أحكام، وبالتالي معرفة أسباب اختلافهم في الأحكام. وأن ثمرته أو فائدته هي تخريج آراء وأقوال للأئمة، مبنية على تلك القواعد والأصول فيما لم يرد عنهم فيها نص (1).
ولاش أنهما أمران يتصل بعضهما بالآخر، وأنه لا تخريج من دون التعرف على مصادره، التي هي نصوص الأئمة وقواعدهم التي تبنى عليها الأحكام.
وأن عنوان هذا العلم (تخريج الفروع على الأصول) يؤكد على جانب الفائدة والثمرة، ولكن هذه الفائدة لا تتحقق من دون التعرف على النصوص والقواعد التي يبني عليها التخريج، وحيث إن هذه القواعد والأصول لم تكن مقصودة لذاتها، بل لتخريج الأقوال عليها، ولمعرفة أسباب الخلاف بين العلماء فيما توصلوا إليه من الأحكام، فقد آثرنا عدم التفريق بينهما، وذكر ما يترتب على هذا العلم من المصالح سواء كانت في غاياته أو من ثمراته المترتبة عليه.
ونذر هنا أن التخريج نفسه وإن كان المقصود الأساس منه التعرف على آراء الأئمة فيما لم يرد عنهم فيه نص، إلا أن دراسة هذا العلم تتحقق منها فوائد كثيرة، قد يكون بعضها غير مقصود أصالة ولكنه يأتي عن طريق التبعية، وقد رأينا الاكتفاء من ذلك بالآتي:
1 -
إن هذا العلم ينمي الملكة الفقهية، ويدرب المتعلم على الاستنباط
(1) تأسيس النظر ص 9، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 1، 2.
والترجيح وتفريع المسائل وبنائها على الأدلة، والتعرف على آراء الأئمة في المسائل التي لم يرد عنهم نص بشأنها وعلى أحكام النوازل الطارئة أيضاً، على أن الجزء الأخير في هذه الفائدة لا يتحقق لكل أحد، بل هو خاص بالعلماء القادرين على ذلك ممن تتحقق فيهم شروط أهل التخريج التي سنذكرها فيما بعد.
2 -
وإن من أهم ما يستفاد من دراسة هذا العلم الكشف عن أن الاختلافات الواقعة بين الفقهاء فيما استنبطوه من أحكام فقهية، لم تكن اختلافات اعتباطية، وإنما هي اختلافات مردودة إلى أسس علمية ومناهج في الاستنباط مختلفة، وإلى الاختلاف في إقرار بعض الأدلة أو أنواعها، مما يُعد في الأمور الطبيعية والإنسانية التي تحصل في أغلب العلوم، وبذلك تتحقق فائدة مهمة، وهي إزالة الشكوك عن بعض النفوس التي تستغرب مثل تلك الاختلافات.
3 -
إن هذا العلم يُخرج علم الأصول من جانبه النظري إلى مجال تطبيقي عملي، تتبين به الثمرات المترتبة على القواعد الأصولية، بل والقواعد الفقهية أيضاً، وبذلك فإنه يعطي علم الأصول مزيداً من الوضوح.
4 -
إن هذا العلم، نتيجة لما ذكرناه في الفائدة السابقة، يمكن المتعلم من الفهم الدقيق لما يدرسه وذلك بربطه كثيراً من الجزئيات بعد معرفته مآخذها، في سلك واحد، مما يساعد على فهم وحفظ وضبط المسائل الفقهية، ومما يوضح ذلك، مثلاً إن قول الحنفية بأحكام مثل جواز إزالة النجاسة بكل مائع، وافتتاح الصلاة بأي لفظ يتضمن معنى التكبير، واختتامها بأي لفظ يقوم مقام التسليم، وقيام غير الفاتحة مقامها في الصلاة، وجواز دفع القيمة في الزكاة وزكاة الفطر بدل الأعيان، وجواز التغذية والتعشية في الكفارات وعدم وجوب استيفاء العدد فيها بتجويز صرف الطعام إلى مسكين واحد ستين يوماً، أو مسكينين في ثلاثين يوماً أو عشرة مساكين في ستة أيام، بدلاً من ستين مسكيناً في جميع ذلك.
إن قول الحنفية بمثل هذه الأحكام وما يشابهها مما هو في معناها، ومخالفة الشافعية لهم في جميعها (1) قد يبدو لو نظر إلى كل منها على انفراد بأن لا رابطة بينها، ولكننا لو عرفنا بأن مرد ذلك الاختلاف إلى أن الأصل في المعاين الشرعية عند الحنفية أنها صفات للمحال والأعيان المنسوبة إليها، أثبتها الشارع معللة بمصالح العباد، بينما ذهب الشافعية إلى أن تلك المعاني ليست من صفات الأعيان المنسوبة إليها، بل أثبتها الله تعالى تحكماً وتعبداً غير معللة. أقول لو عرفنا ذلك اتضح الأمر أكثر، وسهل حفظ هذه الفروع وما يشبهها مما يدخل في هذا المجال.
5 -
إن هذا العلم بإخراجه الأصول من الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي، يحقق الربط بين علمين مهمين هما: الفقه وأصوله، مما يزيل ذلك الانفكاك الذي خيم عليهما قروناً كثيرة نتيجة للدراسة النظرية وحدها في مجال الأصول.
6 -
إن رد الأحكام الفقهية إلى قواعد الأصول، ومعرفة أن الاختلافات فيها تعود إلى المآخذ، يُعرف المتعلم الراجح من المرجوح من الآراء، بمعرفته الراجح من المرجوح في قواعد الأصول، مما يساعد في أحيان كثيرة على التقريب بين المذاهب، ويقلل من التنافر بين أتباعها، ويذيب ما بينهم من حواجز.
رابعاً: العلوم التي استمد منها علم تخريج الفروع على الأصول:
إن تتبع مباحث الكتب المؤلفة في التخريج، ومعرفة المقصود منه والفائدة التي تترتب عليه، يوضح أن مادة هذا العلم مستمدة من طائفة من
(1) لاحظ مسألة (1) من كتاب الطهارة في تخريج الفروع على الأصول للزنجاني، ليتضح مرد الخلاف في هذه المسائل والجامع بينها.
العلوم، من أهمها – بحسب النظر المشار إليه – أصول الفقه، واللغة، والفقه، وعلم الخلاف.
أما أصول الفقه فهي من أهم ما استمد منه هذا العلم، فالتخريج مبني أساساً على بيان مآخذ العلماء وما يمكن أن يخرج عليها من الأحكام الفرعية، وهذه المآخذ وما يتصل بها هي العمدة في التخريج، كما أن البحث عن شروط المخرج، وما يصح أن يخرج عليه، ومالا يصح يعد من المباحث الداخلة في مجالات علم الأصول.
وأما استمداده من علوم اللغة فلأن معرفة دلالة الأدلة متوقفة عليها، وفهمها مستند إلى وجوهها المتعددة، ومن المعلوم أن هذه العلوم هي من أهم ما استمد منها أصول الفقه، ولهذا بحث علماء هذا الفن في خلافات العلماء في مقتضى الأمر والنهي وصيغ العموم والخصوص ودلالاتها والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة والتنبيه ومعاني الحروف وغيرها، مع بيان ما ينبني على الاختلاف فيها من اختلاف في الحكام المستنبطة، والأحكام المخرجة على ذلك.
وأما الفقه فإنه وإن كان ثمرة من ثمار التخريج إلا أنه باستقراء الفروع الفقهية المتعددة يمكن التوصل إلى معرفة مآخذ العلماء، واستخراج القواعد أو العلل التي بنوا عليها أحكامهم ما أن بمعرفته، تعلم مواضع الخلاف بين العلماء مما يدعو إلى البحث عن أسباب الخلاف، التي هي من المقاصد الأساسية لهذا العلم أيضاً.
أما استمداده من علم الخلاف فلأن الغاية من هذا العلم كانت بيان مآخذ العلماء ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم، ومناظرة الخصم ومجادلته سعياً إلى تصحيح كل منهم مذهب إمامه، والدفاع عن أصوله التي بني عليها استنباطاته، مع تضعيف رأي الخصم وتزييف وجهة نظره. وقد ذكر
ابن خلدون (ت 808هـ)(1) في شأن المناظرات التي كانت تجري بين العلماء أن مما كان فيها (بيان مآخذ هؤلاء الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. وكان هذا الصنف يسمى بالخلافيات)(2).
على أننا نذكر هنا أن طائفة من المؤلفات في هذا العلم تقتصر على ذكر مآخذ العلماء وأسباب اختلافهم، دون دخول في الترجيحات، والمناقشات. كما في تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي (ت 430هـ)(3)، أو ذكر بعض
(1) هو: ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد الحضرمي، الإشبيلي الأصل التونسي المولد، ثم القاهري المالكي. المشهور بابن خلدون، من العلماء والمؤرخين والحكماء. ولد بتونس سنة 732هـ، ونشأ بها، وتلقى العلم عن عدد من معاصريه، ولي الكتابة بفاسن ثم رحل على غرناطة وبجاية وقد تقلبت به الأحوال وعاد إلى تونس ثم فر منها إلى الشرق، بعد أن سُعي به إلى سلطانها، وأقام بالقاهرة، وولي قضاء المالكية وتصدر للإقراء في الأزهر.
وقد برع في علوم كثيرة، ولكن كان أكثر ما شهره مقدمته التي كتبها لما ألفه في التاريخ؛ لما فيها من منهج جديد في دراسة التاريخ وتحليل المجتمعات. توفي في القاهرة سنة 808هـ.
من مؤلفاته: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم البربر، ومقدمته المشهورة، وله شرح للبردة، وتلخيص لبعض الكتب ومنها المحصول لفخر الدين الرازي، وله عدد من الكتب في الحساب وأصول الفقه وغير ذلك.
راجع في ترجمته: نيل الابتهاج ص169، وشذرات الذهب 7/ 76، والأعلام 3/ 330، والفتح المبين 3/ 14، ومعجم المطبوعات العربية 1/ 95، ومعجم المؤلفين 5/ 188.
(2)
المقدمة ص 818 - 820.
(3)
هو: أبو زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي البخاري الحنفي، نسبة إلى دبوسية قرية بين بخاري وسمرقند، من فقهاء الحنفية وأصولييهم، قيل أنه أول من وضع علم الخلاف وأبرزه للوجود، وكان يضرب به المثل في النظر واستخراج الحجج. توفى ف بخاري سنة 430هـ وقيل 432هـ.
من مؤلفاته: تقويم الأدلة، والأنوار، وتأسيس النظر في الأصول، والأمد الأقصى في الحكم والنصائح.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيئة 2/ 449، ومفتاح السعادة 2/ 53، شذرات =
الاستدلالات لأصحاب الآراء المختلفة، مع اللجوء، في أحيان قليلة إلى الترجيح والتزييف لآراء الخصم، كما في تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (ت656هـ)(1).
هذا وقد استمد العلماء الذين ولجوا مباحث التخريج، بعض مباحثهم من مصادر أخرى كالقرآن الكريم والحديث الشريف وما اتصل بهما من علوم أفادت في التعرف على الأخبار وطرقها وترجيحاتها.
وكالمنطق الذي استمد منه بعض المقدمات وطرق ترتيب الأدلة، ووجوه الدلالات، وكعلوم آداب البحث والمناظرة التي حددت الشروط والأسس التي تقوم عليها المناظرات والمجادلات، وتحديد وظيفة كل من السائل والمعلل وغير ذلك.
خامساً: حكمه:
تتوقف معرفة حكم هذا النوع من التخريج على بيان حالة المخرج، وما يقوم به من عمل:
1 -
فإن كان المقصود من ذلك هو مجرد التعليل وبيان الأسباب التي دعت الأئمة إلى الأخذ بما أخذوا به، فالذي يظهر أنه جائز، ما لم يكن ذلك في مجال التعصب فإنه مكروه، وقد يحرم إذا تجاوز ذلك. ومثل هذا العمل لا يدخل في نطاق الاجتهاد، ولا يتأدى به فرض الكفاية لعدم انطباق وصف الاجتهاد عليه.
2 -
وإن كان المقصود منه بيان أحكام الوقائع التي لم يرد فيها نص عن الإمام، بإلحاقها بما ورد عنه بالطرق المعتد بها أصولياً، فحكمه الجواز.
(1) = الذهب 3/ 246، الفتح المبين 1/ 236، معجم المؤلفين 6/ 96، كشف الظنون 1/ 467، معجم المطبوعات العربية والمعربة 1/ 866. () لاحظ على سبيل المثال: المسألة (4) من كتاب الصوم، والمسألة (7) من مسائل الربان والمسائل (3 و7 و8، 10) من كتاب الجراح والمسألة (4) من مسائل الطلاق في كتاب: تخريج الفروع على الأصول للزنجاني.
وقد جرى العمل على ذلك، وكان غليه مفزع المفتين. لكن كلام الأئمة يشعر بأن ما كانت حالته كذلك، فلا يتأدى به فرض الكفاية في الاجتهاد، لما فيه من نقص وخلل في المقصود. غير أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى؛ لأنه في فتواه يقوم مقام الإمام المطلق ويؤدي ما يتأدى به (1).
(1) أدب المفتي والمستفتي ص 95 و96 والمجموع للنووي 1/ 43.