الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
في تحقق فرض الكفاية بهم
مما خاض فيه العلماء من موضوعات الاجتهاد، بيان حكمه الشرعي، ونظراً إلى أن التعرف على حكم الله- تعالى- في الوقائع مما لا بد منه، وأن الله لن يترك الناس سدى، وأنه أمرهم بالاعتبار بقوله {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر 2). ونظراً إلى أن النصوص الشرعية متناهية، والحوادث غير متناهية، وأن الناس في حاجة إلى معرفة حكم الله، ما دام تشريعه قائماً وباقياً، نظراً إلى تلك الأمور وغيرها، قال العلماء: إن المجتهد الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد يلزمه الاستنباط، سواء كان لنفسه أو لغيره، وأنه إن لم يفعل ذلك كان آثماً، إلا إذا قام به غيره من أهل الاجتهاد. وعلى هذا بنوا قولهم: إن الاجتهاد من فروض الكفايات (1).
وقد ذهبت جماعات من الأصوليين إلى أن الاجتهاد يختلف باختلاف أحوال المجتهد. وجعلوه على ثلاثة أضرب:
1 -
الضرب الأول: أن يكون فرض عين على المسؤول (2)، ويكون ذلك في حالتين:
أ- في حق غيره، وذلك عند خوف فوت الحادثة، إذا تعين عليه الحكم فيها، بأن يضيق الوقت، أو بحيث لا يستطيع السائل سؤال غيره عنها (3).
(1) الملل والنحل للشهرستاني 1/ 357، والبحر المحيط 6/ 206.
(2)
كشف الأسرار للبخاري 4/ 26، والتقرير والتحبير 3/ 292، وفواتح الرحموت 2/ 362.
(3)
المصادر السابقة، والبحر المحيط 6/ 207، وأصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص 367.
ب- في حق نفسه فيما نزل به، بحيث كان محتاجاً للعمل بما يؤديه إليه اجتهاده. لأن المجتهد لا يجوز له أن يقلد غيره (1).
2 -
الضرب الثاني: أن يكون فرض كفاية، وذلك في حالتين:
أ- الحالة الأولى: أن لا يخاف فوت الحادثة، مع وجود مجتهد غيره، يتمكن السائل من سؤاله، فيأثمون بتركه، ويسقط عن ذمة الكل بفتوى أحدهم (2).
ب- الحالة الثانية: أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين، في النظر، فيكون فرض الاجتهاد مشتركاً بينهما، فأيهما تفرد بالحكم، كان حكمه مسقطاً للفرض (3).
3 -
الضرب الثالث: أن يكون مندوباً وذلك في حالتين:
أ- الحالة الأولى: الاجتهاد قبل الوقوع، بأن يجتهد العالم، قبل نزول الحادثة، فيسبق إلى معرفة حكمها (4).
ب- الحالة الثانية: أن يستفتيه سائل عن حادثة، قبل نزولها به، فيكون الاجتهاد في الحالتين مندوباً (5).
وكلام الأصوليين في عد ما تقدم من المندوب يشكل بما ورد عن السلف، من نهيهم عن افتراض المسائل، وعن السؤال عما لم يقع، وقولهم بأن الاستفتاء في مثل ذلك، والاستغراق فيه، (يؤدي إلى تعطيل السنن والبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه)(6) واستدلالهم على ما قالوا بطائفة من الآثار
(1) المصادر السابقة.
(2)
كشف الأسرار 4/ 26و 27 ومسلم الثبوت 2/ 363، وأصول الفقه للخضري ص 367.
(3)
كشف الأسرار 4/ 27، والتقرير والتحبير 3/ 292، والبحر المحيط 6/ 207.
(4)
المصادر السابقة، ومسلم الثبوت بشرحه فواتح الرحموت 2/ 263، وأصول الفقه للخضري ص 367.
(5)
المصادر السابقة.
(6)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 139، وفتح الباري لابن حجر 13/ 266 =
والسنن (1).
وإذا نظرنا إلى واقع ما هو موجود في كتب الفقه، من جميع المذاهب، رأينا أن هذه الكتب مملوءة، بأمثال تلك المسائل، بل إن فيها من المسائل ما هو نادر الوقوع، أو مستحيله (2)، وما هو مستأهل للإلغاء والحذف (3). وما روي عن أبي حنيفة- رحمه الله وغيره من العلماء، من قولهم، في تبرير
(1) = ومختصر القول المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة المقدسي ص 37.
() انظر طائفة منها في المصادر المذكورة في الهامش السابق.
(2)
ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين للشيخ عبد الجليل عيسى ص 90، وانظر الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي من ص 279 - 285، (القول في أحكام الجان) وما ذكره من فروع فقهية، بشأن ذلك، كحكم زواج الإنسي من الجنية، وهل له، على القول بالجواز، أن يجبرها على ملازمة المسكن أو لا؟ وهل له منعها من التشكل في غير صورة الآدميين، عند القدرة عليه، أو لا؟ وعن غير ذلك من الأحكام.
وانظر، من جملة هذه الأحكام، امتداح السيوطي لمن خرج حكماً بمنع زواج الأنسي من الجنية، قياساً على منع نكاح الحر للأمة، وذلك (لما يحصل للولد من الضرر بالإرقاق، ولا شك أن الضرر بكونه من جنية، وفيه شائبة من الجن، خلقاً وخلقاً، وله بهم اتصال ومخالطة، أشد من ضرر الإرقاق الذي هو مرجو الزوال، بكثير، فإذا منع من نكاح الأمة مع اتحاد في الجنس، للاختلاف في النوع، فلأن يمنع من نكاح ما ليس من الجنس من باب أولى).
وعلق السيوطي على ذلك بقوله: وهذا تخريج قوي لم أر من تنبه له .. وانظر ما قالوه عن صلاتهم، وهل تنعقد الجماعة بالجن، وهل تجوز الصلاة خلف الجني؟ وهل إذا مر الجني، بين يدي المصلي، تقطع صلاته؟ وما شابه ذلك من الفروع. ومن الغريب أن ابن نجيم عندما نقل في الأشباه والنظائر ما قاله السيوطي، ذكر أيضاً نقلاً عن السراجية أن الحسن البصري حينما سئل عن ذلك، قالك يصفع السائل لحماقته، وذكر أنه جاء في يتيمة الدهر في فتاوى أهل العصر، أنه سئل علي بن أحمد عن التزويج بامرأة مسلمة من الجن هل يجوز، إذا تصور ذلك أم يختص بالآدميين؟ فقال: يصفع هذا السائل لحماقته وجهله. نقول: إن ابن نجيم علق على ذلك، وقال بأنه لا يدل على حماقة السائل ولو كان لا يتصور.!
انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 327.
(3)
مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح ص 80 وانظر فيه ما يتعلق بالأحق بالإمامة، مما لا يليق ذكره.
ذلك، بأننا نستعد للبلاء، قبل الوقوع (1)، ربما كان وجيهاً في مسائل محدودة، لا في الاسترسال، وافتراض المستحيل.
هذا وقد ذكرت طائفة من العلماء ضرباً رابعاً من ضروب الاجتهاد، هو الاجتهاد المحرم، وهو الاجتهاد في مقابلة النص القاطع (2)، أو الاجتهاد في مقابلة الإجماع الثابت، بطريق التواتر، أو الاجتهاد ممن هم ليسوا من أهل الاجتهاد، أو الاجتهاد الذي هو نتيجة التشهي والغرض (3).
وفي الحق إن الاجتهاد في مقابلة النص القاطع، ليس اجتهادً على الحقيقة، ولا يصدق عليه الحد أيضاً ولا كذلك الاجتهاد في مقابلة الإجماع، وما عدا ذلك فهو يفتقد شرط الاجتهاد، ولهذا لم يذكره أغلب العلماء.
وينبغي أن لا يكون هناك اجتهاد مكروه أيضاً، لأنه لا بد أن يكون مما اختلت فيه الشروط، أو وجدت فيه بعض الموانع.
ويبقى بعد ذلك الاجتهاد المباح، ولم يتطرقوا إليه ومقتضى ما بينوه من حالات الفرض والمندوب والحرام، أن يكون ذلك فيما عدا هذه الأحوال. وبوجه عام، فإن الأساس في حكم الاجتهاد، أن يكن فرض كفاية، وقد يخرج عن ذلك لاعتبارات تستلزم الخروج.
ولا شك أن وجود المجتهد المطلق، يتحقق به فرض الكفاية المذكور، ولكن هل وجود المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج، يتحقق به ذلك؟ لقد ذكر ابن الصلاح، أن ما رآه من كلام الأئمة يشعر بأن من كانت هذه حالته، ففرض الكفاية لا يتأدى به، ووجه ذلك بأن ما في هذا النوع من شائبة التقليد، ينقص مرتبتهم، ويؤدي على وقوع خلل في المقصود (4). ولكنه ذكر
(1) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 13/ 348.
(2)
التقرير والتحبير 3/ 292، وفواتح الرحموت 2/ 363.
(3)
مناهج الاجتهاد في الإسلام للدكتور محمد سلام مدكور ص 339.
(4)
أدب المفتي والمستفتي ص 95، وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 19.
أن هذا النوع من العلماء يتأدى بهم فرض الكفاية في الفتوى، وإن لم يتأد بهم فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى. وعلل ذلك بقوله:(لأنه قد قام في فتواه مقام إمام مطلق، فهو يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حياً قائماً بالفرض فيها، والتفريع، على الصحيح، في أن تقليد الميت جائز)(1).
وينبني على عدم تأدي فرض الكفاية بهم أن يكون هناك تفريط من قبل العلماء، وإخلال بما هو مفروض عليهم.
وإذا كان فرض الكفاية في الاجتهاد لا يسقط عن الأئمة بأمثال هؤلاء العلماء، فينبغي على الأئمة أن تعد نفسها لذلك، وتهيئ السبل لظهور المجتهدين القادرين على تقديم الحلول الشرعية الصحيحة، لما تحتاجه من الأحكام، وإلا فإنها تعد مفرطة في ذلك، وسيؤدي تفريطها إلى الاحتكام إلى شرائع وضعية وعلمانية، وإلى شرائع لا تمت إلى الإسلام بصلة، وفي ذلك إثم كبير.
(1) المصادر السابقة.