المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خاتمة يتبين لنا من خلال ما قدمنا من عرض للتخريج، بأنواعه - التخريج عند الفقهاء والأصوليين

[يعقوب الباحسين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدفي تعريف التخريج وبيان أنواعه

- ‌الباب الأولفي أنواع التخريج

- ‌الفصل الأولتخريج الأصول من الفروع

- ‌المبحث الأولنشأته وتطوره

- ‌المبحث الثانيأمثلة لبعض الأصول المخرجة

- ‌المبحث الثالثحكم نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة

- ‌الفصل الثانيتخريج الفروع على الأصول

- ‌المبحث الأولنشأة العلم وتطوره

- ‌المبحث الثانيأسباب اختلاف الفقهاء

- ‌المبحث الثالثالتخريج على الأصول

- ‌المبحث الرابعالتعريف بأهم الكتب المؤلفة

- ‌المطلب الأولكتاب (تأسيس النظر) لأبي زيد الدبوسي

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب

- ‌المطلب الثانيتخريج الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب:

- ‌المطلب الثالثمفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب:

- ‌المطلب الرابعالتمهيد في تخريج الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نموذج من الكتاب:

- ‌المطلب الخامسالقواعد والفوائد الأصولية

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نموذج من الكتاب:

- ‌الفصل الثالثتخريج الفروع على الفروع

- ‌المبحث الأولمصادر التخريج

- ‌المطلب الأولنص الإمام وما يجري مجراه

- ‌الفرع الأول: في بيان المراد من النص وما يجري مجراه

- ‌الفرع الثاني: طرق معرفة النصوص

- ‌الطريق الأول:مؤلفاتهم المنسوبة إليهم

- ‌الطريق الثاني:نقل أصحابهم لآرائهم في المسائل المختلفة

- ‌المطلب الثانيمفهوم نص الإمام

- ‌المطلب الثالثفي أفعال الأئمة

- ‌المطلب الرابعتقريرات الإمام

- ‌المطلب الخامسالحديث الصحيح

- ‌المبحث الثانيطرق تخريج الفروع على الفروع

- ‌المطلب الأولالتخريج بطريق القياس

- ‌المطلب الثانيالنقل والتخريج

- ‌المطلب الثالثلازم مذهب الإمام

- ‌الباب الثانيفي مراتب المخرجين وصفاتهم وشروطهم

- ‌الفصل الأولمراتب المخرجين بين طبقات الفقهاء

- ‌المبحث الأولتقسيم وترتيب ابن كمال باشا

- ‌المبحث الثانيتقسيم وترتيب ابن الصلاح

- ‌المبحث الثالثتقسيم وترتيب ابن حمدان

- ‌المبحث الرابعفي تقسيمات أخر

- ‌الفصل الثانيشروط وصفات علماء التخريج

- ‌المبحث الأولشروط وصفات علماء التخريج

- ‌المبحث الثانيفي تحقق فرض الكفاية بهم

- ‌الفصل الثالثأنواع الأحكام المخرجة وصفاتها

- ‌خاتمة

- ‌المصادر والمراجع

- ‌فهرس الأعلام المترجم لهم

الفصل: ‌ ‌خاتمة يتبين لنا من خلال ما قدمنا من عرض للتخريج، بأنواعه

‌خاتمة

يتبين لنا من خلال ما قدمنا من عرض للتخريج، بأنواعه المختلفة، مدى أهميته ومدى ما أفادت منه المجتمعات الإسلامية، خلال قرون كثيرة، عانت منها من وطأة التقليد، ومن افتقاد الثقة بالنفس، فقد كان التخريج هو ملجأهم في تحصيل الظن بآراء أئمة المذاهب التي يقلدونها، سواء كان ذلك بتحديد القواعد التي بنيت عليها الأحكام، أو بالتعرف على أحكام الجزئيات الجديدة وفقاً لتلك القواعد، أو تشبيهاً لها بما ورد عنهم من آراء في وقائع جزئية أخر، أو غير ذلك من الأساليب، وبذلك استقام المنهج الأصولي، واكتملت جوانبه، ونمت الثروة الفقهية واتسعت جنباتها، وغطت بأحكامها جميع ما كان يحصل لهم من الوقائع والنوازل، ولئن كان في ذلك بعض الجوانب السلبية، إلا أن نفي جوانبه الإيجابية يعد من الحكم المجانب للعدل.

ولعل أسوأ ما فيه من السلبيات اتخاذه تراث الأئمة، من قواعد ونصوص وأفعال وتقريرات، مصادر للفقه، ومنبعاً للأحكام، بدلاً من نصوص الكتاب وما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال أو أفعال أو تقريرات.

وقد بان لنا، من خلال ما عرضناه، أن التخريج مظنة الخطأ، وأن طائفة من القواعد والأحكام المخرجة من قبل بعض العلماء، لم تكن مرضية من طائفة أخرى منهم.

وفي العصر الحاضر هبت معاملات ونوازل جديدة، اقتضاها التطور العلمي، والاندفاع الحضاري والصناعي، وما أورثه ذلك من التغيرات الاجتماعية والحياتية، وكان كل ذلك محتاجاً إلى معرفة موقف الفقه منه.

ص: 350

وقد تصدى كثير من العلماء إلى تحليل هذه الوقائع والنوازل، منهم من اجتهد فيها، بحثًا عن دليل شرعي يؤيدها أو يرفضها، ومنهم من أنفق وقته بحثاً عما يشابهها من جزئيات في كتب الفقه، لغرض تخريجها عليها.

وقد اختلفت آراء هؤلاء العلماء تبعاً لاختلافهم في التخريجات، وتكييف الوقائع، موضوع الفتوى، وكان من تلك الآراء ما هو فتاوى شخصية منسوبة لأفراد، ومنها ما هو رأي جماعي، سواء كان من لجان إفتاء واسعة، أو من مجامع فقهية، أو من دوائر ومؤسسات شبيهة بذلك.

وسنمثل في هذه الخاتمة لبعض هذه الأمور والنوازل، التي حدثت في عصرنا الحالي، مما لم يبحثها سلفنا الصالح، كما سنمثل لنماذج محدودة مما أبديت فيها وجهات النظر، مع الإشارة إلى الاختلافات في التكييف والتخريج.

1 -

أما الأمور والنوازل الجديدة فهي كثيرة جداً ولا يكاد يوجد مرفق من مرافق الحياة لم توجد فيه نوازل، ولكننا سنكتفي بذكر قدر محدود منها، وفي مجالات محدودة أيضاً، لا لدراستها، أو إعطاء رأي فيها، وإنما لبيان الحاجة إلى تكييفها وتخريجها أو الاجتهاد فيها.

ففي المجال الاقتصادي ظهرت منشآت مالية جديدة، وطرائق في التعامل كثيرة (1)، فظهرت البنوك وشركات التأمين المتنوعة، والشركات

(1) نشير فيما يأتي إلى بعض المراجع المفيدة في هذا الشأن:

تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية للدكتور سامي حسن أحمد حمود، والجامع في أصول الربا للدكتور رفيق يونس المصري، والمعاملات المالية المعاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية للدكتور علي أحمد السالوس، والنظام الاقتصادي الإسلامي للدكتور محمد عبد المنعم عبد القادر عفر، والغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، والودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام للدكتور حسن عبد الله الأمين، وأحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامية لستر بن ثواب الجعيد. وفقه النوازل- الموضوع الثالث من المجلد الأول للدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد وغيرها.

ص: 351

الاستثمارية المختلطة الأعمال والاقتراض بطريق السندات والمضاربات التجارية في (البورصة) بالأسهم والسندات والأعيان، والتفنن في الاكتساب الربوي، سواء كان في فوائد البنوك، أو صناديق التوفير، أو الاعتماد المستندي وكتاب الضمان، أو خصم الأوراق التجارية، أو ما يسمى بشهادات الاستثمار المصرفية أ، وب، وج.

ومن ذلك ما نشأ نتيجة التطور الصناعي والاتساع التجاري الهائل، من حقوق تحتاج إلى تكييف ينبني عليه الحكم الشرعي، كالحقوق التي أدخلها مجمع الفقه الإسلامي تحت اصطلاح (الحقوق المعنوية)(1) كحق التأليف، وحق النشر، وحق الاختراع والابتكار، وحق الأسماء والعناوين والعلامات الصناعية التجارية وغيرها (2). ومن ذلك احتكار استيراد بعض المصنوعات والسلع وحصرها بوكيل محدد، لا يجوز لغيره أن ينافسه فيها، ومن ذلك ما نشأ في المجالات الطبية (3)، كمسألة المعالجة ببعض أنواع الأدوية، ومسألة تشريح جسم الميت للأغراض التعليمية، أو لبيان أسباب الوفاة، ومسألة اقتطاع أجزاء من جسم الإنسان الحي، ونقلها وزرعها في جسم آخر، وهل يختلف الحكم في زرع أعضاء الكافر في جسم المسلم، أو زرع أعضاء المسلم في جسم الكافر؟ وهل للإنسان أن يتبرع ببعض أعضائه كعينه أو كليته أو غيرهما لغيره؟ سواء كان ذلك في حياته أو بعد مماته؟ ومتى يعتبر الإنسان ميتاً؟ هل عند توقف قلبه؟ أو عند موت خلايا مخه؟ وهل يجوز رفع أجهزة الإنعاش الصناعي عن المريض أو التأخر في تركيبها؟ وما الذي يترتب على

(1) انظر القرار رقم (5) للدورة الخامسة لمجلس الفقه الإسلامي المنعقدة في الكويت سنة 1409/ 1988م.

(2)

انظر: حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن للدكتور فتحي الدريني.

(3)

انظر في ذلك:

الأحكام الشرعية للأعمال الطبية للدكتور/ أحمد شرف الدين.

حكم نقل الأعضاء في الفقه الإسلامي للدكتور/ عقيل بن أحمد العقيلي.

نقل وزراعة الأعضاء الآدمية من منظور إسلامي للدكتور/ عبد السلام عبد الرحيم السكري، وفقه النوازل (المجلد الثاني) للدكتور/ بكر بن عبد الله أبو زيد.

ص: 352

ذلك من المسؤوليات الجنائية؟ وما حكم التبرع بالدم وبيعه؟ (1) وإنشاء ما يسمى ببنوك الدم؟ وما حكم نقله إلى بدن آخر؟ وهل يترتب على ذلك من الحرمة ما يترتب على شرب لبن الأمهات المنشئ للجزئية؟ وما أثر إخراج الدم من البدن بالحقنة لغرض إجراء الفحص؟ هل يترتب عليه فطر الصائم أو لا؟

وما حكم تجميع لبن الأمهات وخلطه وتأسس ما يسمى ببنوك الحليب؟ وتغذية الأطفال منها، مما يترتب عليه الاختلاط والريبة في الأنساب؟ (2)

ومن الوقائع المعاصرة ما أطلق عليه اسم التلقيح الصناعي، أو أطفال الأنابيب (3)، وما يترتب عليه من نشوء ظاهرة استئجار الأرحام، وبيع وشراء

(1) انظر رسالة: نقل الدم وأحكامه الشرعية لمحمد صافي.

(2)

انظر القرار رقم (6) من قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في جدة في ربيع الثاني سنة 1406هـ- ديسمبر سنة 1985م، فقد جاء فيه بعد ذكر المبررات ما يأتي: (

وبناء على ذلك قرر:

أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي.

ثانياً: حرمة الرضاع منها) وقد خرجوه على مقاصد الشارع الكلية بالمحافظة على الأنساب ومنع ما يؤدي إلى الاختلاط والريبة.

(3)

انظر: فقه النوازل للدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد المجلد الأول، البحث الخامس.

وانظر: قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في عمان في شهر صفر سنة 1407هـ/ أكتوبر سنة 1986م، فقد جاء فيه، بعد عرضه سبعة من طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام، تحريم خمسة طرق منها، وتجويز طريقين عند الحاجة إلى ذلك مع تأكيد أخذ الاحتياطات اللازمة، والطريقان الجائزان في قراره، هما:

1 -

أن تؤخذ نطفة من زوج وبيضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.

2 -

أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً خارجياً.

وانظر الفتاوى للشيخ محمود شلتوت ص 328 و 329 من طبعة دار الشروق سنة 1403هـ فقد أفتى بتحريم ذلك، وخرجه على التبني، بل هو أشد منه، ووجه التخريج عنده، أن كلاً منهما فيه إدخال عنصر غريب في النسب.

ص: 353

بويضات النساء، وبذور الرجال مما يسمى بالحيوانات المنوية، وتأسيس بنوك لحفظ ذلك وبيعه.

ومن ذلك الصناعات الكيماوية، وصناعة الأسلحة الفتاكة التي لا تميز بين محارب وغيره، ويذهب ضحيتها الأطفال والشيوخ والنساء، وتدمر الأشجار والثمار والممتلكات وأماكن العبادة، مما يتعارض مع النصائح والتعليمات التي زودت بها الجيوش الإسلامية، من منع قطع الأشجار المثمرة، ومنع قتل النساء والأطفال والشيوخ، ومن ذلك وضع المتفجرات في المحلات العامة، ببلاد المسلمين، مما يترتب عليه أن يذهب ضحيتها الأبرياء، إلى غير ذلك من الأمور التي يصعب حصرها واستقصاؤها.

ومن الممكن أن يقال ذلك في جميع ميادين الحياة، وليس في الميادين التي ذكرناها وحدها.

2 -

وقد أسهم العلماء ولجان الفتوى والمجامع الفقهية، في دراسة بعض هذه الموضوعات وأبدوا وجهات النظر فيها، وسأذكر فيما يأتي نماذج لبعض وجهات النظر، تمثل تخريجات للأحكام في قضايا متفرقة، قد لا تجمعها وحدة الموضوع، وسأبين وجه تخريجها عند القائلين بها، وعند من عارضوهم، بإيجاز وتركيز شديدين، لأن الغرض من ذلك هو عرض الواقع وتصويره، وليس دراسة هذه المسائل.

أ- من أوائل ما اشتدت الحاجة إلى معرفة حكمه في هذا القرن حكم فوائد ودائع صناديق التوفير والبنوك، والاقتراض منها سواء كانت من البنوك الزراعية أو الصناعية أو العقارية أو التجارية.

وكثر الكلام فيها، بين مجيزين يتذرعون بتخريجها على أن الربا إنما حرم لما فيه من الظلم، ومثل هذه الأمور لا ظلم فيها، أو بأنها ذات مصلحة للفرد والأمة ولم يرد بخصوصها ما يمنعها، وحيث كانت المصلحة فثم شرع الله، أو أنها من الأمور الضرورية أو المحتاج إليها، والضرورات تبيح

ص: 354

المحظورات، والحاجة تنزل منزلة الضرورة. أو ما شابه ذلك من التخريجات، وإزاء أولئك وقف جمهور العلماء يرفضون مثل هذه التسويغات، ويعلنون حرمة هذه الفوائد، وأن هذه المعاملات ربوية، وإن اكتست بجلباب جديد، ولا يصح القول بأنها عقد جديد مستحدث، وللناس أن يحدثوا من العقود ما يرون فيه مصلحة أو حاجة. إذ معنى الربا متحقق فيها وعلته قائمة. وأن استقصاء ذلك يحتاج إلى كتاب منفرد (1).

ب- ومن ذلك مسألة التأمين التجاري أو التأمين بقسط ثابت، وهو من العقود الجديدة التي لم تكن موجودة قبل القرن الرابع عشر الميلادي، ولهذا فإن لم يرد بشأنه شيء في الفقه الإسلامي، مثل ما ورد عن ابن عابدين (ت 1252هـ) في كتاب رد المحتار بشأن التأمين البحري، وتحريمه للسوكرتاه، أو التأمين الذي تجريه الشركات فيه (2). وقد اختلفت تكييفات وتخريجات العلماء المعاصرين لهذه النازلة، فاختلفت بالتبعية أحكامهم

(1) انظر في ذلك: المعاملات المالية المعاصرة، في ضوء الشريعة الإسلامية للدكتور/ علي أحمد السالوس ص 67 وما بعدها، وص 91 وما بعدها، والودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام للدكتور/ حسن عبد الله الأمين ص 288 وما بعدها، الفتاوى للشيخ محمود شلتوت ص 351 وما بعدها، الاجتهاد للدكتور/ عبد المنعم النمر ص 254 وما بعدها، وفوائد البنوك هي الربا المحرم للدكتور/ يوسف القرضاوي، ودراسات في الاقتصاد الإسلامي والمعاملات المعاصرة للدكتور علي حسن عبد القادر ص 50 وما بعدها، وتطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية للدكتور سامي حسن أحمد حمود ص 206 وما بعدها وغير ذلك من الكتب الكثيرة التي تناولت موضوع الربا بوجه عام، وهذه المسألة بوجه خاص.

(2)

ذكر ابن عابدين في حاشيته رد المحتار مسألة التأمين، وبما مثل به يتضح أنه أراد التأمين البحري وأفتى بحرمة أخذ التاجر بدل الهالك من ماله، وخرجه على أنه التزام ما لا يلزم، ومنع من تخريجها على تضمين المودع الوديعة إذا أخذ أجراً عليها، لوجود الفارق بينهما؛ لأن المال ليس في يد صاحب السوكره، بل في يد صاحب المركب، وإذا كان صاحب السوكره هو صاحب المركب يكون أجيراً مشتركاً، قد أخذ أجره على الحفظ وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكنه الاحتراز عنه، كالموت، الغرق. رد المحتار شرح الدر المختار 4/ 170.

ص: 355

بشأنها، فمنهم من أجازها، ومنهم من منعها (1) فالذين منعوا منها اختلفت تخريجاتهم: فخرجها بعضهم على أنها من باب أكل أموال الناس بالباطل، فيدخل في النهي الوارد في قوله تعالى:{} (النساء/ 29)(2).

وخرجها الشيخ محمد بخيت المطيعي في رسالته (السوكرتاه) بالقياس على القمار. قال (عقد التأمين عقد فاسد شرعاً، وذلك لأنه معلق على خطر، تارة يقع، وتارة لا يقع، فهو قامر معنى)(3) ومما علل به المنع في هذه الواقعة، أن ضمان الأموال شرعاً إما أن يكون بطريق الكفالة أو بطريق التعدي أو الإتلاف، ولا يوجد أي من هذه الأسباب في عقد التأمين، ولهذا المعنى- أي المخاطرة- ذهب الشيخ أحمد إبراهيم- رحمه الله إلى منعها (4)، وخرجها آخرون على أنها من عقود الغرر، إذ هي عقد احتمالي (5).

(1) اتخذ مجمع الفقه الإسلامي في دورته المنعقدة في 10 شعبان سنة 1398هـ، بمكة المكرمة قراراً يمنع التأمين التجاري بجميع أنواعه، بإجماع الآراء عدا الشيخ مصطفى الزرقا.

كما اتخذ مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، في دورته العاشرة المنعقدة في الرياض في 4/ 4/ 1397هـ، قراراً بتحريم التأمين التجاري بجميع صوره.

المعاملات المالية المعاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية للدكتور علي أحمد السالوس ص 394 وما بعدها.

(2)

انظر: الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير ص 647. ونظرية التأمين في الفقه الإسلامي للدكتور محمد زكي السيد ص 81 حاشية 1.

(3)

رسالة (السوكرتاه) من مجموعة ثلاث رسائل ص 12 طبعة جمعية الأزهر العلمية 1351هـ/ 1932م. وانظر أيضاً: الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي ص 648 ومناقشة المؤلف لهذا التخريج، وبيان الفرق بين التأمين والقمار.

(4)

الغرر في الفقه الإسلامي ص 648.

(5)

المصدر السابق ص 650، والمعاملات المالية المعاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية للدكتور/ علي أحمد السالوس ص 380 و 381.

ص: 356

أما المجيزون للتأمين التجاري، فقد اختلفوا في تخريجه، واضطربت أقوالهم فيه، وسنكتفي بذكر أهم هذه الأوجه التخريجية.

1 -

فمنهم من خرجه على أنه من التعاون المحبب، وأنه محقق لمساندة الإنسان لغيره، ومساندة الغير له، في تحمل الكوارث والصعاب، وهو داخل في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1)(المائدة / 2).

2 -

ومنهم من خرجه على أنه نوع من التبرعات، وليس من البيوع، فلا ينطبق عليه ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيوع الغرر (2).

3 -

ومنهم من خرجه على قاعدة أن الأصل في العقود الإباحة وأن التأمين عقد جديد، وأن الشارع لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة من العقود، بل لهم أن يبتكروا أنواعاً جديدة تدعوهم حاجة الأمة إليها (3) وللشيخ علي الخفيف توجيه مقارب لهذا (4)، وقد أضاف إلى ذلك أنه لا ضرر فيه، وأنه محقق للفائدة، وأنه لا يوجد نص يمنع منه.

4 -

ومنهم من خرج ذلك بالقياس على عقد المضاربة في الشريعة الإسلامية،

(1) التأمين في الشريعة والقانون للدكتور غريب الجمال ص 73 طبعة دار الشروق/ جدة/ 1977م، وممن خرجه على أنه من ضروب التعاون د/ محمد يوسف موسى. انظر ص 203 من المصدر المذكور.

وانظر: نظرية التأمين في الفقه الإسلامي للدكتور محمد زكي السيد ص 126 وما بعدها.

(2)

المصدر السابق ص 77، وممن خرجه على ذلك محمد بن الحسن الحجوي في كتابه الفكر السامي 2/ 504 وما بعدها، وقد أجهد نفسه في التفريق بين هذه المعاملة والبيع، وأكد أنها نوع من التبرعات، وكأنها جمعية خيرية لإعانة المنكوبين! ولم يفته أن يوبخ العلماء الرافضين لذلك، وأن يتهمهم- باطلاً- بالجبن.

(3)

المصدر السابق. وهذا أحد الوجوه التي خرج بها الشيخ الزرقا جواز عقد التأمين، في بحثه: التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه.

وانظر هذا الاستدلال ومناقشته في كتاب (نظرية التأمين في الفقه الإسلامي) ص 123 وما بعدها.

(4)

التأمين في الشريعة الإسلامية للدكتور غريب الجمال ص 111.

ص: 357

الذين يكون المال فيه من أحد طرفيه، والعمل من الطرف الآخر، فالمال من المشتركين الذين يدفعون الأقساط، والعمل من جانب الشركة التي تستغل هذه الأموال، وتدفع الأرباح للمشتركين، وقد تطرف صاحب هذا التخريج، وأباح التأمين على الحياة أيضاً (1).

5 -

ومنهم من خرجه بالقياس على عقد الموالاة، وعلى تحمل العاقلة الدية (2).

6 -

ومنهم من خرجه على ما رآه بعض العلماء من أن العدة تلزم الواعد، ويقضي عليه بتنفيذها جبراً عليه إن امتنع. فالتأمين هو من هذا القبيل، لأنه التزام من المؤمن للمستأمنين، ولو بلا مقابل، على سبيل الوعد، أن يتحمل عنهم أضرار الحادث الخطر الذي يتعرضون له (3).

7 -

ومنهم من خرجه على نظام التقاعد والمعاش لموظفي الدولة (4).

8 -

ومنهم من خرجه على أنه من باب المصالح المرسلة (5).

9 -

ومنهم من خرجه على أنه مما تعامل به الناس، وتعارفوا عليه، والعرف مما يحتج به (6).

(1) المصدر السابق ص 201 وصاحب هذا التخريج هو الشيخ عبد الوهاب خلاف، في مقال له منشور بمجلة لواء الإسلام العدد (11) السنة (8) رجب سنة 1374هـ.

(2)

المصدر السابق ص 210 و 229 وفي ص 229 ذكر لمناقشة الشيخ أبي زهرة لهذا الاستدلال والتخريج وانظر النظام الاقتصادي الإسلامي ص 74.

(3)

المصدر السابق ص 209، وهذا التخريج هو أحد الوجوه التي استند إليها الشيخ الزرقا، وقد استأنس بأحد آراء المالكية الذاهب إلى لزوم الوعد.

وانظر: التأمين الإسلامي ص 35.

(4)

التأمين في الشريعة والقانون للدكتور/ غريب الجمال ص 211.

(5)

نظرية التأمين في الفقه الإسلامي للدكتور محمد زكي السيد ص 161، والتأمين الإسلامي بين النظرية والتطبيق لعبد السميع المصري ص 34.

(6)

نظرية التأمين في الفقه الإسلامي ص 133، وانظر القائلين بهذا التخريج في الهامش (1) من الصفحة المذكورة.

ص: 358

10 -

ومنهم خرجه نزولاً على حكم الضرورة (1).

ج- ومن ذلك مسألة حق التأليف والطبع والنشر، الذي هو من الحقوق الجديدة الداخلة في نطاق ما أطلق عليه مجمع الفقه الإسلامي اصطلاح الحقوق المعنوية، فقد اختلف العلماء في تكييفه وتخريجه، مما ترتب عليه اختلاف وجهات نظرهم في حكمه، ومن تلك التخريجات:

1 -

قياسه على المصنوعات؛ لأن الكتاب المؤلف كالمصنوع، والمؤلف كالصانع فكما أن من صنع جهازاً، أو شيئاً فإنه يكون له، ومن حقه منع غيره من الاستفادة منه، أو إجازته الاستفادة منه بالأجر، أو المجان فكذلك الكتاب.

وهو شيء متأكد متقوم، وليس حقاً محضاً غير متأكد ولهذا فإنه يورث.

وممن خرجه على ذلك الشيخ أبو الحسن الندوي، وقد استأنس لرأيه بما نقله عن بعض العلماء المتقدمين الذين كانوا يمنعون من شاؤوا، ويأذنون لمن شاؤوا بأن يرووا عنهم، وروي عن بعضهم أنه كان يأخذ أجراً (2).

2 -

قياسه على ما ورد في الفقه الحنفي، بشأن (النزول عن الوظائف بمال)(3) وممن خرجه على ذلك بعض علماء الهنود، باعتبار أن كلاً منهما من الحقوق، وتجويز متأخري الحنفية التنازل عن الوظيفة بمال، قالوا به لجريان العرف ولحاجة الناس، استحساناً أو استثناء من الأصل العام الذي يقضي بالمنع (4).

وقد رفض الشيخ الندوي هذا التخريج لطائفة من الأسباب، منها:

(1) المصدر السابق ص 135 والتأمين الإسلامي بين النظرية والتطبيق ص 34.

(2)

حق الابتكار للدكتور فتحي الدريني ص 149 - 153.

(3)

نقل ابن عابدين عن العيني في فتاواه أنه: ليس للنزول شيء يعتمد عليه، ولكن العلماء والحكام مشوا ذلك للضرورة واشترطوا إمضاء الناظر لئلاً يقع نزاع.

انظر: رد المحتار 4/ 519.

(4)

حق الابتكار ص 94.

ص: 359

أ- إن الحكم المذكور ليس متفقاً عليه عندهم، بل أكثرهم على المنع.

ب- الفرق بين التنازل عن الوظيفة، وأخذ العوض على حق الطباعة، لأن الوظيفة شيء قد تأكد استحقاقه لصاحبه، وإن لم تتم ملكيته عليه، بخلاف حق الطباعة.

ج- إن كمية الوظيفة تكون محدودة في (حق الوظائف) ويكون منالها حتماً لا شبهة فيه، أما حق الطباعة فلا تكون كمية المال المرجو منها محدودة، ولا الحصول عليه متيقناً، لذا يدخل بيعه في بيع الغرر، لأن الطباعة ربما ينتج عنها الخسارة (1).

3 -

وخرج بعضهم ذلك قياساً على إفتاء علماء المذهب الحنفي بجواز أخذ الأجرة على فعل بعض الطاعات، كالإمامة والأذان وتعلم القرآن، مع أن الأصل عدم الجواز، ولكن استثنيت تلك الأمور استناداً إلى قاعدة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان). ومعنى ذلك قياس أمر استحساني على أمر استحساني، وإذا كان هناك نص يخالف ذلك فإن العرف يصلح مخصصاً، كما خصص المنع من أخذ الأجرة على الطاعات، وهذا التخريج قال به الأستاذ عبد الحميد طهماز (2).

4 -

وخرج الشيخ تقي الدين النبهاني في كتابه (مقدمة الدستور الإسلامي) حكماً مخالفاً لما تقدم، وذهب إلى أنه ليس لمؤلف الكتاب أي حق في الاستئثار به، وأنه يجوز لأي ناشر كان، فرداً أو مؤسسة، أن ينشره كما يشاء.

وخرج ذلك على مصلحة ترويج الفكر الإسلامي، وتحريره من كافة القيود؛ لكي يصل إلى أكبر قدر من الناس، فهم شركاء في البحث عن الحقيقة، وفي وصولها إليهم أيضاً (3).

(1) المصدر السابق ص 156 و 157.

(2)

المصدر السابق ص 175 و 176.

(3)

المصدر السابق ص 162و 163.

ص: 360

وإذا كان الأمر، كما ذكر الشيخ النبهاني، فلعله قاسه على ما كان الناس فيه شركاء كالماء والكلأ.

وإنما ذكرنا هذه التخريجات لبيان اختلاف وجهات النظر، وقد بت مجلس مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره الخامس المنعقد في الكويت في جمادي الأول سنة 1409هـ (كانون الأول 1988م) بهذا الشأن وأصدر قراره رقم (5) باعتبار الحقوق المعنوية كالاسم التجاري، والعنوان التجاير، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار حقوقاً خاصة لأصحابها، وأنها أصبحت في العرف المعاصر ذات قيمة مالية معتبرة لتمول الناس بها، وهي حقوق يعتد بها شرعاً، فلا يجوز الاعتداء عليها، وأنه يجوز التصرف بها ونقلها بعوض مالي، ونص في الفقرة الثالثة منه على حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار، وعدها حقوقا مصونة شرعاً، لأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها.

والذي يفهم من ذلك أنها خرجت على اعتبارها ذات قيمة مالية، وأن الأساس لهذا الاعتبار هو العرف المعاصر (1).

والذي نحصل عليه، مما تقدم ذكره في هذه الخاتمة، أن الحاجة إلى التخريج والاجتهاد قائمة في عصرنا، وأن القيام به من الواجبات الكفائية، وأن الاختلاف فيه ممكن، إن مل يوجد النص الصريح، لكن على المخرج والمجتهد أن يتقي الله فيما يقول، وأن ينظر إلى المسائل

(1) انظر نص هذا القرار في قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي 1406 - 1409هـ/ 1985 - 1988م، ص 93.

هذا ومما يجدر التنويه عنه بحث الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد (حق التأليف تاريخاً وحكماً) في المجلد الثاني من كتابه فقه النوازل من ص 77 - 146، وقد ذكر مؤلفه أنه يرى أن الأولى للعالم المسلم، إذا لم تدعه حاجة، أن لا يأخذ عوضاً عن مؤلفاته، وأما إذا دعته الحاجة فيأخذ بقدرها، ومن أغناه الله فالأولى له التعفف. ص 143.

ص: 361

بعين الشرع، لا بعين (الشيخ العصري)، وأن يتبع منهج السلف من علماء هذه الأمة، الذين كانوا يهدفون إلى التوصل إلى الحكم الشرعي، وفق ما تقتضيه الأدلة، دون أن يكون لهم توجه سابق، من حيث التحليل أو التحريم، فيتخذون من الفتاوى وسائل لتصيد المبررات لاختراق المحظورات الشرعية، فالشرع هو الحاكم على التصرفات، وليست التصرفات أو الأعراف حاكمة عليه.

وفي ختام هذا البحث نحمد الله تعالى على أن وفقنا من الانتهاء منه، ونرجوه تعالى أن يغفر لنا زلاتنا، وما بدر من هفواتنا، وأن يوفقنا في أعمالنا إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.

ص: 362