المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيأسباب اختلاف الفقهاء - التخريج عند الفقهاء والأصوليين

[يعقوب الباحسين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدفي تعريف التخريج وبيان أنواعه

- ‌الباب الأولفي أنواع التخريج

- ‌الفصل الأولتخريج الأصول من الفروع

- ‌المبحث الأولنشأته وتطوره

- ‌المبحث الثانيأمثلة لبعض الأصول المخرجة

- ‌المبحث الثالثحكم نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة

- ‌الفصل الثانيتخريج الفروع على الأصول

- ‌المبحث الأولنشأة العلم وتطوره

- ‌المبحث الثانيأسباب اختلاف الفقهاء

- ‌المبحث الثالثالتخريج على الأصول

- ‌المبحث الرابعالتعريف بأهم الكتب المؤلفة

- ‌المطلب الأولكتاب (تأسيس النظر) لأبي زيد الدبوسي

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب

- ‌المطلب الثانيتخريج الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب:

- ‌المطلب الثالثمفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نماذج مختارة من الكتاب:

- ‌المطلب الرابعالتمهيد في تخريج الفروع على الأصول

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نموذج من الكتاب:

- ‌المطلب الخامسالقواعد والفوائد الأصولية

- ‌الفرع الأول: التعريف بالكتاب:

- ‌الفرع الثاني: نموذج من الكتاب:

- ‌الفصل الثالثتخريج الفروع على الفروع

- ‌المبحث الأولمصادر التخريج

- ‌المطلب الأولنص الإمام وما يجري مجراه

- ‌الفرع الأول: في بيان المراد من النص وما يجري مجراه

- ‌الفرع الثاني: طرق معرفة النصوص

- ‌الطريق الأول:مؤلفاتهم المنسوبة إليهم

- ‌الطريق الثاني:نقل أصحابهم لآرائهم في المسائل المختلفة

- ‌المطلب الثانيمفهوم نص الإمام

- ‌المطلب الثالثفي أفعال الأئمة

- ‌المطلب الرابعتقريرات الإمام

- ‌المطلب الخامسالحديث الصحيح

- ‌المبحث الثانيطرق تخريج الفروع على الفروع

- ‌المطلب الأولالتخريج بطريق القياس

- ‌المطلب الثانيالنقل والتخريج

- ‌المطلب الثالثلازم مذهب الإمام

- ‌الباب الثانيفي مراتب المخرجين وصفاتهم وشروطهم

- ‌الفصل الأولمراتب المخرجين بين طبقات الفقهاء

- ‌المبحث الأولتقسيم وترتيب ابن كمال باشا

- ‌المبحث الثانيتقسيم وترتيب ابن الصلاح

- ‌المبحث الثالثتقسيم وترتيب ابن حمدان

- ‌المبحث الرابعفي تقسيمات أخر

- ‌الفصل الثانيشروط وصفات علماء التخريج

- ‌المبحث الأولشروط وصفات علماء التخريج

- ‌المبحث الثانيفي تحقق فرض الكفاية بهم

- ‌الفصل الثالثأنواع الأحكام المخرجة وصفاتها

- ‌خاتمة

- ‌المصادر والمراجع

- ‌فهرس الأعلام المترجم لهم

الفصل: ‌المبحث الثانيأسباب اختلاف الفقهاء

‌المبحث الثاني

أسباب اختلاف الفقهاء

ذكرنا أن لعلم تخريج الفروع على الأصول، علاقة بينة بالخلافات المذهبية والجدل والمناظرات، التي كانت قائمة بين علماء المسلمين، وأن هدف علماء هذا الفن كان بيان مآخذ علمائهم، والأصول التي رُدت إليها أقوالهم، والدفاع والمنافحة عن وجهات نرهم في ذلك، ولهذا فإن الحديث عن أسباب الخلاف، يُعد ذا صلة مباشرة به، إن لم يكن من أركانه الأساسية.

ونذكر في بداية حديثنا أن الاختلاف في الأفكار والآراء والطبائع والأخلاق واللغات ظاهرة إنسانية، وقد جعل الله - سبحانه- ذلك جزءاً من طبيعة الإنسان قال:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (الروم /229، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود 118 و119)، فالاختلاف في القدرات البدنية، والاستعدادات الفطرية، ودرجات العلم والفهم والذكاء، والمدارك العقلية، ورواسب الأعراف والعادات، وغيرها، كان له آثار ونتائج في تفكير الإنسان وفهمه، وطريقة توصله إلى المعرفة، وفي ميله وانجذابه إلى أنواع من الأدلة والأمارات والمفاهيم، دون الانجذاب إلى غيرها، ولذلك كانت الاختلافات في الأحكام الفقهية وبعض الأسس والأصول التي تُبنى عليها.

على أننا نشير إلى أن الشارع قد ذم الاختلاف في مواضع كثيرة من كتابه، كما بين أن بعض أنواع الاختلاف يُعد من الأمور السيئة والظواهر السلبية في المجتمع، كاختلاف أصحاب الملل وأهل البدع والأهواء. قال

ص: 74

تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام/159) وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} (آل عمران/105)، وهذا النوع من الاختلاف ليس هو موضوع بحثنا، وإن كان من الممكن أن يتخرج عليه كثير من الأحكام والقضايا العقدية، لأنه اختلاف منشؤه الزيغ والانحراف، والتأثر بمعطيات الأفكار الوثنية القديمة، وهو يمثل الشذوذ والخروج عن العقيدة السلفية الصحيحة، ومثل هذا ليس محل اجتهاد، ولا تدعو إليه حاجة، ولا تتوقف عليه مسيرة الأمة وتطورها ورقيها، ولا معايش الناس ومعاملاتهم وعباداتهم، ولهذا فقد اتفق أصوليو هذه الأمة – إلا من شذ منهم، وكان موضع نكير (1) - على أن المصيب فيه واحد، وأن المخطيء فيه آثم، وذلك لوضوح الأدلة، ولعدم الحاجة إلى مزيد بيان على ما أوضحه الشارع بشأنها.

فكلامنا – إذن- هو عن النوع الأول من الاختلاف المسموح بالاجتهاد فيه (2). لتوقف حياة الإنسان العملية عليه، وحاجته إلى معرفة ثمراته ونتائجه التزاماً بما شرع الله، واطمئناناً إلى أن ما يفعله المكلف إنما هو مما كلفه به الخالق – سبحانه – والبحث عن أسباب هذا الاختلاف يكشف عن أن تلك الاجتهادات لم تكن عن انحراف وزيغ، ولا عن شهوات وهوى، (وإنما عن أسباب يعذر لمثلها المخطيء ويؤجر أجراً واحداً، ويحمد المصيب ويؤجر أجرين، فضلاً من الله ورحمة)(3). على أن معرفة تلك الأسباب مما يساعد

(1) نقل ذلك عن عبيد الله بن الحسن العنبري (ت 168هـ)، وعن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255هـ) المعتزليين. وهناك من العلماء من لم ينقل عن الجاحظ التصويب في الأصول، بل نفي الإثم والحرج.

انظر في ذلك: المحصول 2/ 500ن والإحكام للآمدي 4/ 178، والإبهاج 3/ 257، ونهاية السول 3/ 205.

(2)

من المفيد مراجعة كتاب (ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين) للشيخ عبد الجليل عيسى، ومقدمة شمس الدين المناوي لكتابه (فوائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد) ص 17.

(3)

أسباب اختلاف الفقهاء للدكتور عبد الله التركي. مقدمته للشيخ عبد الرزاق عفيفي.

ص: 75

على ربط كثير من الفروع بأصولها، ونظمها في سلك واحد، مما يمكن العارف بذلك من تكوين تصور صحيح للعلاقات القائمة بين كثير من الفروع المتنوعة التي لا يجمعها باب واحد، وإنما تتفق بوصف مشترك يجمع بينها، الأمر الذي يساعد على الاستنباط والتخريج والفهم. ومسألة الاختلاف بين الفقهاء مما شغلت العلماء، فألفوا فيها الكتب المتنوعة، والكثيرة، منذ فجر نهضة الفقه الإسلامي. غير أن أغلب هذه الكتب لم تختص ببيان أسباب الاختلاف، وإنما تعرضت لآراء الفقهاء المختلفة في طائفة من المسائل الفقهية، كالذي عليه (اختلاف الفقهاء) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ)(1)، والإشراف على مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي (ت 422هـ)، و (حلية العلماء في اختلاف الفقهاء) لأبي بكر محمد بن أحمد الشاشي الشافعي (ت 507هـ)(2). و (اختلاف

(1) هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري. المؤرخ المفسر الفقيه. ولد في آمل طبرستان، ونشأ فيها، ثم تركها بعد أن ترعرع، واستوطن بغداد، فبرز بين علمائها واشتهر فيها. وعرض عليه القضاء والمظالم فامتنع عن توليها. كان عالماً مطلعاً محققاً ومجتهداً في أحكام الدين، وحافظاً لكتاب الله بصيراً بمعانيه وعارفاً بالسنن وطرقها، وبأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، توفي في بغداد سنة 310هـ.

من مؤلفاته: تاريخ الأمم والملوك والمعروف بتاريخ الطبري، وجامع البيان في تفسير القرآن، واختلاف الفقهاء، والخفيف وهو كتاب مختصر في الفقه، وتهذيب الآثار، والتبصير في أصول الدين وغيرها.

راجع ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى 2/ 135، ومعجم الأدباء 18/ 40 - 94، ووفيات الأعيان 3/ 332، وطبقات المفسرين ص 95، وشذرات الذهب 2/ 260، والأعلام 6/ 96.

(2)

هو أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي القفال الفارقي الملقب بفخر الإسلام كان رئيس الشافعية ي العراق في عصره، ولد في ميافارقين، وتفقه على بعض علمائها، كما قرأ الشامل في الفقه على مصنفه أبي نصر الصباغ.

تولى التدريس في المدرسة النظامية بعد الشيخ أبي إسحاق، واستمر في ذلك حتى وفاته سنة 507هـ.

كان مهيباً، وقوراً متواضعاً ورعاً، ولقبه طلبته بالجنيد لزهده وشدة ورعه.

من كتبه: حلية العلماء في معرفة الفقهاء المعروف بالمستظهري لكونه ألفه للإمام =

ص: 76

الفقهاء) لأبي جعفر الطحاوي الحنفي (ت 321هـ)(1) وغيرها. وهذه الكتب، وإن كان بعضها يتطرق إلى استدلالات العلماء، وبيان مآخذهم، إلا أنها لم تؤلف لغرض بيان الأسباب المؤدية إلى الاختلاف.

ومن الجدير بالذكر أن ننوه بأنه كانت توجد قضايا رئيسة وكبرى، يدور حولها الخلاف، حظيت باهتمام طائفة أخرى من علماء المذاهب، انتصر كل منهم فيها إلى مذهبه، وزيف – بحسب ما رآه – حجج خصمه. ومما نشر من هذه الكتب، كتاب (الاصطلام في الخلاف) لأبي المظفر السمعاني الشافعي المتوفى سنة 489هـ (2) وكتاب (رؤوس المسائل) لجار الله محمود بن عمر الزمخشري الحنفي المتوفى سنة 538هـ (3)، وكتاب (طريقة الخلاف بين

(1) = المستظهر بالله. وشرح مختصر المزني، والمعتمد، والفتاوى وغيرها.

راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 3/ 356، طبقات الشافعية للأسنوي 2/ 87، شذرات الذهب 4/ 16، الأعلام 5/ 316، معجم المؤلفين 8/ 253.

() انظر ترجمته في الفصل الأول من الباب الثاني من هذا الكتاب.

(2)

هو أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار المروزي السمعاني التميمي. نسبة إلى سمعان وهي بطن من تميم. كان من العلماء البارزين، ومفتي خراسان في زمانه. قدمه نظام الملك على أقرانه. تفقه على مذهب أبي حنيفة، ثم تحول إلى مذهب الشافعي في حجة لأمر ظهر له، فلقي بسبب ذلك أذى شديداً عند عودته إلى بلدته. تنقل في البلدان فسافر إلى بغداد والحجاز وغير ذلك. ووقع في أسر الأعراب فترة توفى في مرو التي ولد فيها سنة 489هـ.

راجع في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى 4/ 21، وطبقات الشافعية للأسنوي 2/ 29، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 281، وشذرات الذهب 3/ 393، والأعلام 7/ 03، والفتح المبين 1/ 266.

(3)

هو أبو القاسم محمود بن عمر جار الله الخوارزمي الزمخشري. نسبة إلى زمخشر من قرى خوارزم. كان إماماً في التفسير والفقه واللغة وعلم البيان. عرف بالاعتزال والمجاهرة به، لكنه متمذهب بمذهب أبي حنيفة في الفروع. تنقل في البلدان، وجاور في مكة فلقب بجار الله. توفي بالجرجانية من قرى خوارزم، وبعد عودته من مكة، سنة 538هـ. =

ص: 77

الأسلاف) لعلاء الدين محمد بن عبد الحميد الأسمندي السمرقندي الحنفي المتوفى سنة 552هـ (1)، وكتاب (إيثار الإنصاف في آثار الخلاف) لسبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى سنة 654هـ (2). والموضوعات التي تطرقت إليها هذه الكتب، وما كان على شاكلتها، دارت حول قضايا محددة، وتكاد تكون واحدة.

(1) = من مؤلفاته: الكشاف في تفسير القرآن، وأساس البلاغة، والمفصل، والجبال والأمكنة والمياه، وغيرها.

راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 4/ 254، وشذرات الذهب 4/ 118، والأعلام 7/ 178.

() هو أبو الفتح علاء الدين محمد بن عبد الحميد بن الحسن الأسمندي السمرقندي. من أهالي أسمند من قرى سمرقند. كان من فحول فقهاء الحنفية، ومن مناظريهم البارزين.

تفقه على السيد الأشرف، وروى عنه أبو المظفر السمعاني. واتهم بشحة الكلام، حتى أنه يسكت عن الجواب في كثير مما يعلم، كما اتهم بأنه كان يشرب الخمر ويقال: أنه تنسك وترك المنارة توفى سنة 552هـ.

من مؤلفاته: التعليقة في مجلدات، ومختلف الرواية، وطريقة الخلاف بين الأئمة الأسلاف، وبذل النظر في أصول الفقه، وغيرها.

راجع في ترجمته: تاج التراجم ص 56، والجواهر المضية 3/ 208، والأعلام 6/ 187، وطريقة الخلاف مقدمة المحقق د/ محمد زكي عبد البر ص 17 وما بعدها.

(2)

هو أبو المظفر شمس الدين يوسف بن قُزغلي المعروف بسبط ابن الجوزي، وذكر بعضهم أنه ابن فرغلي، وخطأ من قال قُزغلي. لن صاحب الأعلام رجح الأول، وقال إن معنى قزغلي في التركية ابن البنت. ولد أبو المظفر ونشأ في بغداد تحت رعاية جده لأمه أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 596هـ)، ثم تركها متنقلاً بين البلدان، بعد وفاة جده. فرحل على دمشق والموصل ومصر، معلماً ومتعلماً. كان في شبابه حنبلياً، لكنه انتقل إلى مذهب أبي حنيفة بعد ذلك. وكان فيه شيء من الرفض والتشيع، استوطن دمشق ومات فيها سنة 564هـ.

من مؤلفاته: إيثار الإنصاف، ومعادن الإبريز في التاريخ، والإيضاح في قوانين الاصطلاح وشرح الجامع الكبير وغيرها.

راجع في ترجمته: الجواهر المضية 3/ 633، وتاج التراجم ص 83، وشذرات الذهب 5/ 266، والأعلام 8/ 246، ومقدمة محقق إيثار الإنصاف ص 7 وما بعدها.

ص: 78

بعضها أصول ينبني عليها فروع فقهية كثيرة، وغالبها من الجزئيات الفقهية.

وقد تكون رسالة (تأسيس النظائر) لأبي الليث السمرقندي المتوفى سنة 373هـ من أقدم ما ألف بهذا الشأن، ولكنها لم تكن شاملة ونما اقتصر المؤلف فيها على ذكر ما يزيد على ثمانين أصلاً مختلفاً فيه بين العلماء، لا سيما الأحناف منهم، وما يترتب على هذا الخلاف من نتائج في المجال التطبيقي التفريعي، وهذا عمل جليل، لكنه، كما ذكرنا، لم يبحث عن الأسباب التي أوجبت الخلاف بين الفقهاء بصورة شاملة.

وربما كان أول من أفرد أسباب الاختلاف بين الفقهاء بصورة شاملة – فيما ظهر لنا – هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي المتوفى سنة 521هـ (1) في كتاب (التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم). وقد حصر المؤلف – رحمه الله – أسباب الاختلاف في ثمانية أوجه، هي:

1 -

اشتراك الألفاظ والمعاني.

2 -

الحقيقة والمجاز.

3 -

الإفراد والتركيب.

4 -

الخصوص والعموم.

(1) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي. ولد فيمدينة بطليوس في الأندلس، وسكن بلنسية. كان أديباً عالماً في النحو واللغة، ومشاركاً في علوم أخرى. تتلمذ على طائفة من علماء عصره، كان من أبرزهم القاضي عياض. توفى في بلنسية سنة 521هـ.

من مؤلفاته: الاقتضاب في شرح أدب الكاتب، والتنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسمين في آرائهم .... ، والمثلث في اللغة، وشرح موطأ الإمام مالك، وغيرها.

من مؤلفاته: الاقتضاب في شرح أدب الكاتب، والتنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم

، والمثلث في اللغة، وشرح موطأ الإمام مالك، وغيرها.

راجع في ترجمته: الديباج المذهب ص 140 و141، ووفيات الأعيان 2/ 282، وشذرات الذهب 4/ 64، والفتح المبين 2/ 19، ومعجم المؤلفين 6/ 121.

ص: 79

5 -

الرواية والنقل.

6 -

الاجتهاد فيما لا نص فيه.

7 -

الناسخ والمنسوخ.

8 -

الإباحة والتوسع.

وبعض هذه الأسباب متداخلة فيما بينها، كما هو ظاهر. ومن الملاحظ عليه، أنه وسع الكلام في الأسباب العائدة، إلى الجانب اللغوي والأدبي، وفيما يتعلق بالسنة من جهة الرواية والنقل، وطوى بعض المباحث الأخرى، دون تفصيل، ولا نماذج تطبيقية (1). ولم يتطرق إلى المسائل الفقهية إلا نادراً.

ونجد، بعد ذلك، أبا الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (ت 595هـ)، يذكر في مقدمة كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) أسباب الاختلاف باقتضاب. وقد حصرها في ستة أمور، هي:

- تردد اللفظ بين أن يكون عاماً يراد به الخاص، أو خاصاً يراد به العام، أو عاماً يراد به العام، أو خاصاً يراد به الخاص. أو يكون له دليل خطاب أو لا يكون.

2 -

الاشتراك في الألفاظ، سواء كانت مفردة أو مركبة.

3 -

اختلاف الإعراب.

4 -

تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة، أو حمله على نوع من أنواع المجاز.

5 -

إطلاق اللفظ تارة، وتقييده تارة.

6 -

التعارض بين الأدلة (2).

ويلاحظ على هذه الأسباب، أنها – باستثناء التعارض، بين الأدلة-

(1) انظر: الباب السادس في الخلاف العارض من قبل الاجتهاد والقياس (ص 211)، والباب السابع في الخلاف العارض من قبل النسخ (ص215)، فقد كان كلامه عاماً، دون ذكر نماذج محددة في الفروع المبنية على الخلاف.

(2)

بداية المجتهد 1/ 5 و6.

ص: 80

ترجع إلى سبب واحد يتعلق بقواعد الدلالات اللغوية، والنحوية. فهو تقسيم غير جامع، ولم يقم على أساس استقرائي صحيح، ولا على قسمة عقلية.

وممن تناول هذا الموضوع شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 728هـ)، في رسالته (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، ولكن الذي يبدو أن الرسالة لم يكن المقصود منها حصر أسباب الخلاف بوجه عام، وإنما كان الغرض منها بيان الأعذار التي تلتمس للمختلفين، مع توفر الأحاديث، المتعلقة في المسألة، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

وقد حصر الأعذار، أو أسباب الاختلاف، في ثلاثة أصناف، هي:

1 -

عدم اعتقاد المجتهد أن الحديث قد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم.

2 -

عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.

3 -

اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

وقد فرع عن هذه الأصناف الثلاثة عشرة أسباب، تتعلق جميعها بالأحاديث، منه ما يتعلق بوصولها للمجتهد أو عدم وصولها إليه، ومنها ما يتعلق بقوتها وضعفها، ومنها ما يتعلق بدلالتها على المعنى أو عدم دلالتها عليه، ومنها ما يتعلق بما يشترطه بعضهم في بعض أنواعها، وما يتعلق بالتعارض فيما بينها تخصيصاً أو نسخاً (1).

وفي عصر الإمام ابن تيمية – رحمه الله – أفرد أبو القاسم محمد بن أحمد بن جُزي الغرناطي المالكي المتوفى سنة 741هـ (2)، على غير عادة

(1) رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص 10 وما بعدها، وانظر أيضاً في مجموع الفتاوى 20/ 231 وما بعدها.

(2)

هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن جزي الكلبي الغرناطي، كان عالماً مشاركاً في فنون مختلفة من عربية وفقه وأصول وأدب وحديث. وكان حافظاً للتفسير، مستوعباً للأقوال، جماعه للكتب. شُهد له بالفضل منذ حداثته، عندما تقدم خطيباً للمسجد الأعظم في بلده. مات شهيداً بكائنة طريف سنة 741هـ.

من مؤلفاته: القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية، وتقريب الوصول إلى =

ص: 81

الأصوليين، (الباب العاشر) من كتابه (تقريب الوصول إلى علم الأصول، في أسباب الخلاف بين المجتهدين. وقد حصرها – على ما ذكر – بحسب الاستقراء، في ستة عشر سبباً، هي:

1 -

تعارض الأدلة.

2 -

الجهل بالدليل.

3 -

الاختلاف في صحة نقل الحديث.

4 -

الاختلاف في نوع الدليل، هل يحتج به أم لا؟

5 -

الاختلاف في قاعدة من الأصول، ينبني عليها الاختلاف في الفروع، كحمل المطلق على المقيد، وشبه ذلك.

6 -

الاختلاف في القراءات في القرآن.

7 -

اختلاف الرواية في ألفاظ الحديث.

8 -

اختلاف وجه الإعراب، مع اتفاق القراء في الرواية.

9 -

كون اللفظ مشتركاً بين معنيين.

10 -

الاختلاف في حمل اللفظ على العموم أو الخصوص.

11 -

الاختلاف في حمل اللفظ على الحقيقة أو على المجاز.

12 -

الاختلاف في هل في الكلام مضمر أو لا

13 -

الاختلاف في هل الحكم منسوخ أو لا؟

14 -

الاختلاف في حمل الأمر على الوجوب أو على الندب.

15 -

الاختلاف في حمل النهي على التحريم أو الكراهة.

16 -

الاختلاف في فعل النبي – صلى الله عليه وسلم، هل يحمل على الوجوب أو الندب، أو الإباحة؟ (1).

(1) = علم الأصول، والتسهيل لعلوم التنزيل، ووسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم، وغيرها.

راجع في ترجمته: الدرر الكامنة 5/ 88 و89، والديباج المذهب ص 295، الأعلام 5/ 325.

() تقريب الوصول ص 168 - 171.

ص: 82

وكان عرضه لهذه الأسباب موجزاً، ولم يذكر لكثير منها أمثلة، بل اكتفى بالتعداد، وما مثل له اكتفى بمثال أو مثالين، مع العرض الموجز.

وممن تكلم عن أسباب الاختلاف في هذه الفترة تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي (ت 771هـ) في كتابه (الأشباه والنظائر). فبين المآخذ المختلف فيها بين الأئمة مما ينبني عيها فروع فقهية، وقدم لذلك ببيان أن الخلاف إما في مسائل مستقلة، أو في فروع مبنية على أصول، وأن القسم الأول، أي الخلاف في المسائل المستقلة ينشأ من أمور، منها:

1 -

كون اللفظ مشتركاً (كالقرء) فإنه عند الشافعي الطهر وعند أبي حنيفة الحيض، وكلمة (أو) في قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ} (المائدة /33) فحملها مالك على التخيير، فيفعل السلطان ما يراه في هذه الأمور، وقال الشافعي وأبو حنيفة للتفصيل والتقسيم، فمن حارب وقتل وأخذ المال صلب وقتل، ومن قتل ولم يأخذ قتل، ومن أخذ ولم يقتل قطع

2 -

الاختلاف في محل النفي، هل هو لنفي الحقيقة أو لنفي الكمال؟ نحو:(لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)(1)، حمله الشافعية على الصحة والحقيقة، وقال الحنفية إنه لنفي الكمال، أي لا صيام كامل؛ ونحو ذلك: لا نكاح إلا بولي.

3 -

الخلاف الناشئ عن دعوى ارتباط إحدى الآيتين بالأخرى.

4 -

الغفلة عن أحد الدليلين المتقابلين – ولو بالعموم والخصوص – فينسحب

(1) ذكر ابن حجر أنه لم ير هذه الصيغة، لكن في الدارقطني (لا صيام لمن لم يفرضه في الليل) وفي حديث حفصه (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) وقد رواه الخمسة، وقد مال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه، وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان.

انظر: تلخيص الحبير2/ 188 و189، وسبل السلام 2/ 301، و302.

ص: 83

على العموم من لم يبلغه دليل الخصوص.

5 -

الخلاف الناشئ عن جهة الراوي ضعفاً أو إرسالاً، ونحوه، أو نقله الحديث بما يظنه المعنى، أو جهله بالإعراب، أو بسبب الحديث، أو تصحيفه، أو إسقاطه شيئاً به تمام المعنىن إما لعدم سماعه القدر الزائد، أو لظنه عدم ارتباطه بما اقتصر عليه، أو لنقله من الصحف.

6 -

الخلاف الناشئ من جهة الاجتهاد، وهو يختلف باختلاف القرائح والأذهان، وما لها من استعداد، كما أنه يتصل بباب القياس، وما ينشأ فيه من أنواع الخلاف، ولا سيما في شأن العلة (1).

وأما النوع الثاني من الخلاف، وهو الخلاف في الفروع، بعد الاتفاق على أصولها، فهو في غالب ما ذكره من الأمثلة يرجع إلى تخريج المناط، وتحقيقه، كاتفاقهم على أن رفع المجمع عليه باطل. ولكنهم اختلفوا في إحداث قول ثالث: هل يرجع المجمع عليه أو لا؟ فمن رأي أنه يرفع المجمع عليه قال ببطلانه، ومن رأى أنه لا يرفعه قال بجوازه، ولو اتفقوا على أنه رافع لاتفقوا على بطلانه. ومن ذلك في الفقه، اتفاقهم على أن الغرر مجتنب في البيع لحديث "نهي عن بيع الغرر"(2)، وللإجماع على ذلك، لكنهم اختلفوا في بيع الغائب هل هو غرر أو لا، بناء على اختلافهم في معنى الغرر (3).

وممن أسهم في هذا الموضوع في هذه الفترة أبو إسحاق غبراهيم بن موسى الشاطبي (ت 790هـ) فقد تكلم عن الخلاف بين الفقهاء، وأسبابه،

(1) الأشباه والنظائر 2/ 254 وما بعدها. وقد ذكرنا طائفة مما ذكره من الأسباب بنصه.

(2)

حديث (نهي عن بيع الغرر) رواه مسلم وأحمد وابن حبان من حديث أبي هريرة، ورواه ابن ماجة وأحمد من حديث ابن عباس. (تلخيص الحبير 3/ 6). وفي الجامع الصغير أن حديث (نهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر، برواية مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، عن أبي هريرة، حديث صحيح). (الجامع الصغير ص 192).

(3)

الأشباه والنظائر 2/ 262.

ص: 84

في كتاب (الموافقات في أصول الشريعة)، وذكر سبق ابن السيد في التأليف في ذلك، وكرر حصرها في ثمانية أسباب، ولم يزد على عدها، كما أوردها ابن السيد. لكن الشاطبي ميز بين ما هو خلاف حقيقي، وما هو خلاف ظاهري، وذكر ضربين من الخلاف، وقال عنهما: إنهما مما لا يعتد به، وهما:

1 -

ما كان من الأقوال خطاً مخالفاً، لمقطوع به في الشريعة.

2 -

ما كان ظاهره الخلاف، وليس في الحقيقة كذلك.

ولهذا فإنه قال بأنه لا يصح نقل الخلاف في أمثال ذلك، ثم ذكر عشرة أسباب تجعل بعض العلماء ينقلون الخلاف في المسائل، مع أنه لا خلاف فيها لدى التحقيق، ونبه المجتهدين إلى مثل ذلك، ودعاهم إلى التفهم، وقياس ما سواها عليها وإلى عدم التساهل في افتراض الخلافات فيما ليس فيه خلاف، الأمر الذي يؤدي إلى مخالفة الإجماع (1).

وفي القرن الثاني عشر الهجري، أبدى الشيخ أحمد بن عبد الرحمن المعروف بشاه ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ)، اهتماماً بهذا الموضوع، فكتب رسالة تتعلق بذلك سماها (الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف)، كما تناول هذا الموضوع في كتابه (حجة الله البالغة)(2)، الذي تضمن أغلب ما في الرسالة المذكورة بنصه.

وقد تكلم عن أسباب الخلاف بين الصحابة والتابعين، فذكر منها ضروباً مختلفة، تتعلق بأقوال وأفعال النبي – صلى الله عليه وسلم (3)، ومن الممكن رد جميع ما ذكره، إلى ما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في رسالته سالفة الذكر. لكنه أضاف إلى ذلك أسباب اختلاف الفقهاء، مما لم يرد في أسباب اختلاف الصحابة والتابعين، آخذاً ذلك – كما ذكر – مما جاء في أول

(1) الموافقات 4/ 211 - 222.

(2)

1/ 140 - 162.

(3)

ص 15 - 33.

ص: 85

كتاب الأم للشافعي – رحمه الله. وهي الأسباب المتقدمة نفسها، مضافاً إليها الاختلاف في الاحتجاج ببعض الأدلة، كالاختلاف في الاحتجاج بآراء الصحابة، وكالاختلاف في الأخذ ببعض وجوه الرأي، كالاستحسان وغيره (1). كما أضاف إلى ذلك، أيضاً، سبب الاختلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي، مما لا يخرج عن الأسباب المتقدمة، إلا في التوسع في بعض المجالات، عند بعضهم، بما لا يتوسع فيه الآخرون.

وفي رسالته فوائد كثيرة تتعلق بالاجتهاد والتقليد وآثار الجدل والخلاف، في علم الفقه والأصول، وما ترتب على التعمق في بعض الفنون، من افتراض الصور المستبعدة في الفقه، مما لا يتعرض له عاقل (2).

وفي القرن الرابع عشر الهجري تكلم صديق بن حسن القنوجي (ت 1307هـ) عن أسباب الاختلاف، ولكن كلامه كان بشأن الاختلاف مطلقاً، لا بشأن الاختلافات الفقهية، فتناول أسباب الاختلاف في الاعتقادات والمذاهب والملل والنحل والأديان. وكان من تلك الأسباب ما هو حقيقي مسلم، ومنها ما هو غريب عن روح الفكر الإسلامي، ولصيق بالخرافات والأفكار الوثنية (3). ومن الأسباب المقبولة التي ذكرها:

1 -

اختلاف الطبائع في البيئات والبلاد والعادات والأمزجة.

2 -

اختلاف حال البلدان تطوراً ورقياً، من أمم زراعية، أو صناعية، أو متأخرة في سائر المجالات.

3 -

توجه العناية الإلهية بإرسال رسل مبشرين ومنذرين، وقد كانوا في أقطار

(1) ص 34 - 45.

(2)

ص87 - 96.

(3)

من تلك الأسباب ذكره اختلاف طوالع المواليد، والقرانات الجزئية والكلية، وبعض ما كره من تجارب الهنود، إن من كانت الشمس أو المشتري في سابعه انكشف له حقيقة الإسلام، وخرج من دينه إليه، وما إلى ذلك من الخزعبلات والخرافات. انظر: 1/ 404 و 405 من كتابه (أبجد العلوم).

ص: 86

متباعدة، وكان بينهم أزمنة وقرون ممتدة، وكانوا متعبدين بشرائع متنوعة {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ

} (البقرة/213).

4 -

التأثر بمن كان له نوع نفوذ على عقليات الناس، سواء كان من الأذكياء أو الحكماء أو الأولياء الصلحاء، أو الرؤساء، على حسب ما بلغته تلك العقول من التأثر بذلك (1).

5 -

اختلاف الناس فيما خلقوا عليه، وما يوجد بينهم من فروق، في الفهم والذكاء، والشجاعة والليونة وغيرها. فمنهم المنحصر في المحسوس، ومنهم من يتجاوزون ذلك بدرجات في المعقول، ومنهم العجول في القبول والإنكار، من غير تأمل واختيار، ومنهم المتأني في ذلك، ومنهم المتسامح الذي يكتفي بالظن وبصورة من الصور المحتملة التي تفي بظاهر المقصود، ومنهم المتفحص المتيقظ، الذي لا يكتفي بذلك

إلى غير ذلك من الفروق التي تترتب عليها أنواع الخلافات.

6 -

اختلاف أحوال الشيء في نفسه، فقد يكون الشيء علة تامة لشيء، ناقصة لشيء، مستقلة أو لا، وقريبة أو لا، كافية أو لا، أو يكون له عدة علل، وقد يكون واجب الاجتماع مع شيء، على تقدير، وممتنع الاجتماع معه، على تقدير آخر، وربما يكون بين شيئين علاقة الغيرية من وجه، والعينية من وجه آخر أو وجوه

مما يترتب عليه وقوع الاختلاف بحسب نظر الإنسان.

7 -

اختلاف التعبيرات عن الشيء الواحد، أو الصورة الواحدة، فقد ينظر إليها أحد الأشخاص من زاوية معينة، وينظر إليها الآخر من زاوية غير

(1) ومما يتصل بذلك ما ذكره من انتشار الكذابين والمتنبئين والدجاجلة والمحرفين والمخترعين من أصحاب البخت والقوة، وما يتصل بذلك من دواعي الرفض والقبول عند الناس، لمناسبات وطبائع جبلية عندهم. انظر: 1/ 406 من كتابه (أبجد العلوم).

ص: 87

تلك، فيعبر كل منهما عن رؤيته، فتختلف العبارات، وتكثر المصطلحات والاختلافات

إلخ.

8 -

اختلاف اللاحقين في فهم كلام السابقين، وهذا قد يعود إلى الفروق بين الأفراد أنفسهم في الفهم والإدراك، أو إلى الكلام نفسه، بسبب ما فيه من دلالات غير صريحة ولا واضحة، مما هي مثار الاختلاف في التفسير والفهم (1).

والكلام عن التفرق أو الاختلاف بوجه عام، قد تطرق إليه كثير من المفسرين عند تعرضهم لتفسير الآيات المتعلقة بذلك، ولكنهم لم يخصوا أسباب الاختلاف بين الفقهاء بكثير من الاهتمام (2)، ولهذا فقد رأينا الإعراض عن التطرق إليها، ومتابعة مسيرتها.

وفي العصر الحاضر ظهرت طائفة من الكتب التي تناولت هذا الموضوع، وسنكتفي بالتعرض إلى بعضها، دون استقراء شامل لها، نظراً لكثرتها، ولكون ما فيها لا يعدو أن يكون تكراراً لما ورد فيما سبقها من كتب فمن هذه الكتب:

أولاً: أسباب اختلاف الفقهاء للشيخ علي الخفيف – رحمه الله (3).

(1) انظر تفصيل ذلك في كتابه المذكور 1/ 404 - 411.

(2)

وممن اهتم بذلك من القدماء أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ فقد أفرد في رسالته (مقدمة جامع التفاسير) فصلاً بعنوان 0فصل في عامة ما يوقع الاختلاف ويكثر الشبه). وذكر ثلاثة أشياء قال إن حق العالم أن يُعنى بتهذيبها، وسد الثلم المنبثقة منها.

أحدها: وقوع الشبه من الألفاظ المشتركة.

والثاني: اختلاف النظرين، من جهة الناظرين. وذلك بناء على اختلاف أفكارهم ومعتقداتهم.

والثالث: اختلاف نظر الناظرين، من اللفظ إلى المعنى، أو من المعنى إلى اللفظ.

انظر: مقدمة جامع التفاسير مع تفسير الفاتحة للراغب الأصفهاني ص 40 و41.

(3)

الشيخ على الخفيف كان من علماء مصر المعروفين. درس في كليات الحقوق، وحاضر في عدد من المعاهد العليا. وكتابه (محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء) =

ص: 88

وقد تناول المؤلف في كتابه هذا حالة التشريع في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الصحابة والتابعين، وتكلم عن أسباب الاختلاف الذي وقع بينهم، بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم، ثم أسباب الاختلاف في العصور التالية لذلك. وقد جعل من هذه الأسباب ما هو موجود مع توفر النص، ومنها ما هو سبب للاختلاف فيما لا نص فيه.

1 -

أما أسباب الاختلاف مع وجود النص فردها إلى ثلاثة أمور، هي:

أ- الاختلاف العائد إلى مصادر الأحكام، وهي الكتاب والسنة. والاختلاف فيها يقصد به ما سبق أن ذكرناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، وما يتعلق بذلك من الاختلاف في بعض شروط هذه الأدلة، من حيث تواتر القرآن، ووجود النسخ في بعض آياته، واتصال سند الحديث، ووصوله إلى الفقيه، وتوثيق الرواة، واشتراط عمل الراوي بما رواه، أو كونه مما لا تعم به البلوى، وغير ذلك مما يتعلق بهذين الدليلين.

ب- الاختلاف بسبب الاختلاف في فهم النصوص، سواء كان ذلك مما يتعلق بمفردات الألفاظ، أو بتراكيبها وأساليبها مما هو من مباحث الألفاظ ووجوه دلالاتها.

ج- اختلافهم فيما يدل عليه فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما لم تعلم جهته. فمثلاً أن النبي قال (صلوا كما رأيتموني أصلي)(1) وقال (خذوا عني مناسككم)(2)، لكن أفعال الصلاة وأفعال الحج متعددة، وقد

(1) = هو محاضرات ألقاها على طلبة معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة سنة 55/ 1956م.

() حديث (صلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، متفق عليه من حيث مالك بن الحويرث بألفاظ مختلفة. واللفظ المذكور هنا للبخاري في كتاب الأذان مع زيادة في أوله وآخره. (انظر: تلخيص الحبير 1/ 193).

(2)

(خذوا عني مناسككم) جزء من حديث صحيح رواه مسلم من حديث جابر (تلخيص الحبير 2/ 144)

ص: 89

وقع اختلاف الفقهاء في كثير منها، فكان منها ما يعده بعض الفقهاء واجباً وبعده غيرهم مندوباً. وهكذا الكلام في كثير من أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم.

2 -

وأما أسباب الاختلاف فيما لا نص فيه فهي كثيرة تشمل كل ما يتناوله الاجتهاد وما يستند إليه المجتهد من تلك الأدلة. وقد بحث في الإجماع والقياس والمصلحة والاستحسان والاستصحاب والعرف، وما ينبني على الاختلاف في الاحتجاج بها من اختلاف في أحكام الفروع. ولم يترك الكلام عن الخلاف، بين من اتفقوا على دليل من هذه الأدلة، على بعض الشروط المتعلقة به، كالاختلاف بين القائلين بالقياس في بعض شروطه، أو القائلين بالإجماع في بعض شروطه.

تلك هي أهم الأسباب التي ذكرها الشيخ الخفيف في محاضراته القيمة وقد عرضناها بإيجاز وتركيز. وليس فيما ذكره ما يضاف إلى ما تقدم، ولكن محاضراته تميزت بالإكثار من الأمثلة والشواهد، المأخوذة من واقع ما كان بين السلف من خلاف، وما سطر في بطون كتب الفقهاء في مراحل التدوين التالية، وردها إلى الأسباب التي ذكرها.

ثانيا: أسباب اختلاف الفقهاء للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي. وقد جعله مؤلفه في تمهيد وأربعة أبواب وخاتمة، كان التمهيد في تبرير الخلاف، وفي نشأته وتطوره وأنواعه وآراء العلماء بشأنه، والفائدة من معرفة أسبابه، والآثار السيئة للخلافات. وكانت الخاتمة في بيان موقف المسلمين من الاختلاف، وحثهم على الاعتصام بالكتاب والسنة.

أما أسباب الاختلاف فقد حصرها في أربعة، جعل لكل منها باباً من أبواب كتابه، وهذه الأسباب والأبواب هي:

1 -

الباب الأول في الأسباب الراجعة إلى الاختلاف في (المبادئ الفقهية). ويبدو من خلال استعراضه لهذه المبادئ، أنه يقصد القواعد الأصولية، كالاختلاف في أن الأصل في الأحكام والمعاني الشرعية التعبد أو

ص: 90

التعليل، وهل يفترق الفاسد عن الباطل، وما حكم الزيادة على مقدار الواجب، وما حكم الأفعال قبل ورود الشرع وغير ذلك (1).

2 -

والباب الثاني في الأسباب الراجعة إلى الأدلة، كالاختلاف في بعض شروطها، أو بما يحتج به وما لا يحتج. وقد جعل الأدلة المتفق عليها، والمختلف فيها في باب واحد (2).

3 -

والباب الثالث في الأسباب الراجعة إلى دلالة النصوص. وقد أدخل فيها أفعال الرسول – صلى الله عليه وسلم، وطائفة من المباحث اللفظية الاشتراك وموجب الأمر والنهي، والعام والخاص والتخصيص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمفهوم، والحقيقة والمجاز، ودلالات بعض الحروف (3).

4 -

والباب الرابع في الأسباب الراجعة إلى الاختلاف في تحقق التعارض، ووجوه الترجيح (4).

وما ذكره الأستاذ الباحث من أسباب، تُعد عناوينها الكبرى جامعة لجميع أسباب الاختلاف، ولكنها تحتاج إلى نوع من الإيضاح والتفصيل، كما أنه لم يفرق بين الأسباب العائدة إلى الاختلاف في المبادئ الفقهية، والأسباب العائدة إلى دلالات النصوص، مع وجود التشابه بينهما. ثم إن ما ذكره من مبادئ فقهية، هو في حقيقته من القواعد الأصولية. ولم يظهر لنا وجه إدخاله أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – في دلالات النصوص، إلا إذا كان المقصود بذلك نصوص الرواة. والكتاب، بوجه عام، دراسة علمية قيمة، تضاف إلى بناء صرح أسباب اختلاف الفقهاء.

ثالثاً: دراسات في الاختلافات الفقهية، حقيقتها، نشأتها، أسبابها،

(1) ص 49 - 70.

(2)

ص71 - 137.

(3)

ص 141 - 193.

(4)

ص 197 - 220.

ص: 91

المواقف المختلفة منها للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني.

والكتاب في حقيقته ليس مقتصراً على أسباب الاختلاف، وإنما تناول طائفة من المسائل التي لها علاقة بها. فتناول حقيقة الاختلافات الفقهية، ونشأتها وأسبابها في الباب الأول، أما الباب الثاني فجعله في خمسة فصول، ذات علاقة بذلك، بين فيها موقف العلماء من الاختلافات الفقهية، ونماذج من أدب العلماء مع بعضهم، وموقف المسلم منها، والتنبيه على مواقف شاذة، وما وقع من الإنكار في المسائل الخلافية. ولم تنل أسباب الاختلاف من كتابه غير 59 صفحة من مجموع صفحات الكتاب البالغة 169 صفحة عدا الفهارس، من الطبعة التي اطلعنا عليها.

وقد حصر مؤلف الكتاب أسباب اختلاف الفقهاء، في أربعة أسباب إجمالية، تتفرع عنها أسباب تفصيلية، وهذه الأسباب هي:

1 -

الاختلاف في ثبوت النص وعدم ثبوته (ص 37).

2 -

الاختلاف في فهم النص (ص 51).

3 -

الاختلاف في طرق الجمع والترجيح بين النصوص (ص 58).

4 -

الاختلاف في القواعد الأصولية وبعض مصادر الاستنباط (ص70).

ومن خلال تفصيله هذه الأسباب، والتمثيل لها، نجد أنها ليست حاصرة، وقد فاته أن يذكر طائفة أخرى من أسباب الاختلاف، ليست دون ما ذكره أهمية، كما أنه لم يكن دقيقاً في التمييز بين الأسباب، فادخل بعض ما يتعلق بالمباحث اللفظية في سبب اختلاف الفقهاء في الفهم (1)، وبعض ما هو من باب الاختلاف في الفهم، أو التعارض، في سبب ثبوت النص الشرعي وعدم ثبوته (2).

(1) انظر على سبيل المثال رده سبب اختلاف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الإباحة إلى الاختلاف في الفهم (ص 57)، مع أنه من مباحث الألفاظ، وما سماه القواعد الأصولية.

(2)

انظر على سبيل المثال رده الاختلاف في خيار المجلس إلى الاختلاف في ثبوت =

ص: 92

رابعاً: أسباب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية، للدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي.

وقد صدر منه الجزء الأول فقط، وقد صدره المؤلف بتمهيد يزيد على خمسين صفحة، عرف فيه الفقه والشريعة، وبين أنواع الحكم، الشرعي وأسباب الاختلاف في عهد الصحابة والتابعين، ثم تكلم عن الأئمة المجتهدين، وبين مناهج استنباط كل منهم، وسبب انتشار أو ضمور بعض المذاهب الفقهية، مما لا يتصل اتصالاً مباشراً بالموضوع.

وجعل كتابه، بعد التمهيد، كما يفهم من خطة بحثه، ومما جاء في الجزء الأول المذكور، متضمناً أربعة أبواب، تحصر أسباب الخلاف، وادعى أن جميع الأسباب الجزئية لاختلاف الفقهاء، تندرج تحت الكليات التي تضمنتها أبواب كتابه. والحكم على الكتاب يتطلب الاطلاع التام على جميع محتوياته، ولما كان الكتاب لما يتم طبعاً أو تأليفاً فليس الحكم عليه متيسراً ولا دقيقاً. وسنكتفي بأن نذكر أنه حصر أسباب الاختلاف في قسمين رئيسين، فرع واحداً منها فأصبحت الأقسام عنده ثلاثة، على الوجه الآتي

القسم الأول: يتعلق بالمصادر الأصلية، الكتاب والسنة، وجعل هذا القسم نوعين:

النوع الأول: الأسباب التي يشترك فيها الكتاب والسنة، وهي الاختلاف في القواعد الأصولية واللغوية.

النوع الثاني: الأسباب التي تختص بالسنة، وهي الاختلاف في العلم بالحديث، أو الثقة به، أو العمل به تحت شروط معينة، أو التعارض بين الأحاديث ودفعه.

ــ

= النص (ص 39) مع أنه مردود إلى التعارض بني مضمونه وعمل أهل المدينة عند مالك، والاختلاف في فهم التفرق الوارد في نصه. وألا فإن الحديث ثابت عند مالك وقد رواه في الموطأ.

ص: 93

والقسم الثاني: يتعلق بما سماه المصادر التبعية كالإجماع والقياس وقول الصحابي والاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وغيرها.

وهذا القسم يمثل الخلاف في الاجتهاد بالرأي فيما لا نص فيه، عن طريق العمل بمصدر من المصادر التبعية. وقد جعل هذا القسم في بابين:

الباب الأول: يتعلق بأسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الأحكام بسبب اختلافهم في الاجتهاد بالرأي.

الباب الثاني: يتعلق بأسباب اختلاف أئمة المذاهب، الناشيء من اختلافهم في العمل بالمصادر التبعية (1).

وبناء على ذلك تكون أبواب كتابه الأربعة، كما يأتي:

الباب الأول: في اختلاف الفهقاء بسبب اختلافهم في القواعد الأصولية واللغوية.

الباب الثاني: في اختلاف الفقهاء بسبب اختلافهم في السنة.

الباب الثالث: في اختلاف الصحابة والتابعين بسبب الاختلاف بالرأي والاجتهاد.

الباب الرابع: في اختلاف أئمة المذاهب بسبب اختلافهم في العمل بالمصادر التبعية.

وقد حاول المؤلف أن يضبط أسباب الاختلاف بحصر عقلي، ولكن الذي يبدو لنا، أن هذه الأمور الإنسانية، لا تخضع لمثل ذلك الضبط.

خامساً: وقد تطرق إلى هذا الموضوع باحثون كثيرون، سواء كان ذلك ببحث الموضوع منفرداً، أو بالتعرض إليه ضمن مبحث أشمل وأوسع. ومن هذه البحوث:

1 -

(ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين) للشيخ عبد الجليل عيسى.

(1) انظر: ص 61 - 63 من الجزء الأول من الكتاب.

ص: 94

2 -

(أدب الاختلاف في الإسلام) للدكتور طه جابر فياض العلواني.

3 -

(معرفة علم الخلاف الفقهي قنطرة إلى تحقيق الوفاق الإسلامي) للدكتور زكريا عبد الرزاق المصري.

4 -

(صفحات في أدب الرأي، أدب الاختلاف في مسائل العلم) لمحمد عوامة.

5 -

(الأصول العامة للفقه المقارن) للشيخ محمد تقي الحكيم.

وبعد هذا العرض الموجز لطائفة من وجهات النظر، في حصر أسباب الاختلاف بين الفقهاء، نجد أن بينها تلاقياً كبيراً، وإذا كانت هناك فروق بينها، فإن ذلك ينبع من طائفة من الأمور، كأن يحصر بعضها الأسباب في مجال معين، كان يشغل العلماء في حينه، كما في الأسباب التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في رفع الملام، حيث كانت تلك الأسباب تدور حول السنة في غالبها، أو أن يفرع بعضهم أسباباً وينوع فيها، بينما هي متداخلة فيما بينها كالذي فعله ابن جزي، أو أن بعضها اقتصر على أهمها، يما بدا له، أو أن بعضها خرج من مجال الفقه إلى مجال أوسع وأرحب كالذي فعله صديق القنوجي.

وفي الحق إن حصر أسباب الاختلاف يحتاج إلى استقراء شامل لكل المسائل الخلافية، وبيان منشأ الخلاف في كل منها، ثم جمع تلك الأسباب وتصنيفها، وهذا أمر لا نظن أن أحداً، ممن ذكرنا، قد قام به، لما فيه من المشقة العظيمة، ولأنه لم يكن عندهم من الأمور المقصودة بالذات، لتتوجه نحوه الهمم.

ومحاولة حصر تلك الأسباب بالتقسيم العقلي فيه نوع من المجازفة، لأن الخلافات منها ما يرجع إلى الطبيعة الإنسانية، وقوة الإدراك والفهم، وهذه أمور لا تخضع للمقاييس العقلية.

وقد رأى الشيخ محمد تقي الحكيم حصر أسباب الاختلاف في قسمين:

ص: 95

الأول: الأصول والمباني العامة المعتمد عليها في الاستنباط، مما يقع موقع المقدمة الكبرى في قياس الاستنباط.

والثاني: تطبيق تلك الأصول والمباني، بعد الاتفاق عليها، على الجزئيات، أو ما يسمى بتشخيص الصغريات (1).

وعلى هذا فإن الخلاف لا يخرج عن هاتين الحالتين، ولا يتخطى مقدمتي قياس الاستنباط، فهو إما خلاف في كبرى القياس، أو خلاف في صغراه بعد تسليم كبراه.

وهذا التقسيم وإن كان صحيحاً، من حيث النظر العقلي، ومن حيث واقع المسائل المختلف فيها، لكنه في إيجازه لا يعطي تصوراً شافياً لأسباب الخلاف.

ومهما يكن من أمر فإن النظر فيما ذُكر من أسباب، وفيما ذُكر من محاولات الضبط، دعانا إلى أن نجمع بين الأمرين، فنرتب الأسباب ونحصرها وفق الآتي:

أولاً: الأسباب العائدة إلى الأصول المعتمدة في الاستنباط، مما يقع موقع المقدمة الكبرى في قياس الاستنباط، وهذا يتناول ما يأتي:

1 -

الأسباب العائدة إلى الأدلة وأنواعها وشروطها وما يتعلق بذلك.

فقد يكون اختلافاً في حجية الدليل وصلاحيته لإثبات الأحكام كالاختلاف في قول الصحابي، وشرع من قبلنا، والقياس، والاستصحاب والعرف والاستحسان وغيرها. أو خلافاً ف بعض أنواعه، بعد الاتفاق على حجيته، كالاختلاف في إجماع أهل المدينة، أو إجماع طوائف معينة كأهل البيت، أو يكون خلافاً في بعض شروطه، كالاختلاف في بعض أنواع السنة، كالحديث المرسل، والحديث الأحادي فيما تعم به البلوى، والحديث الذي عمل راويه بخلافه، أو

(1) الأصول العامة للفقه المقارن ص 18 و19.

ص: 96

الحديث المخالف للقياس، أو الحديث المختلف في شروط صحته، وكالاختلاف في بعض شروط الإجماع، عند من يراه حجة، فهل انقراض العصر شرط أو لا؟ وهل يدخل من بلغ درجة الاجتهاد، من أهل العصر التالي، مع المجمعين؟ ويقع في الأدلة المختلف فيها أيضاً عند من يحتج بها، كالاختلاف في العلة في القياس وهل يجوز أن تكون قاصرة؟ وهل يجوز التعليل بالحكم أو بالوصف المركب وهل تثبت العلة بالدوران أو الطرد أو الشبه أو ما شابه ذلك، أو لا تثبت؟ وهل يجوز القياس على حكم ثابت بالقياس، أو لابد أن يكون حكم الأصل منصوصاً؟

وهل يجري القياس في الحدود والكفارات والمقدرات أو لا؟ وهل يجوز القياس على ما عدل به عن القياس أو لا؟ وهل يجري القياس في اللغة أو لا؟

2 -

الأسباب العائدة إلى دلالات الألفاظ ويدخل في ذلك طائفة كثيرة من الأسباب، منها الاختلاف في دلالة المفهوم سواء كان مفهوم موافقة أو مخالفة، ومنها الاختلاف في المقتضى وهل له عموم، والاختلاف في دلالة العام وتعارضه مع الخاص، وجواز استعمال المشترك في جميع معانيه، إن لم يكن بينها تضاد، وجواز استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي في وقت واحد، والاختلاف في حمل المطلق على المقيد في بعض صوره، والاختلاف في الأمر ومقتضاه الحقيقي، وما حكمه إذا ورد بعد الحظر؟ وهل يقتضي المطلق منه الوحدة أو التكرار؟ وهل هو على الفور أو التراخي؟ والاختلاف في النهي ومقتضاه الحقيقي. وهل يقتضي النهي الفساد والبطلان أو لا؟

3 -

الأسباب العائدة إلى مناهج وطرق الترجيح. فإذا وقع تعارض بين مدلولي دليلين لم يمكن الجمع بينهما، فإن طريق المجتهد الترجيح، وهناك مبادئ عامة متفق عليها، ولكن العلماء اختلفوا في طائفة من أسباب الترجيح بني الأدلة، سواء كانت عقلية أو نقلية، أو عقلي ونقلية.

ص: 97

فالترجيح في الأخبار يكون من جهة السند، ومن جهة المتن، ومن جهة أمر خارج، فهل تقدم رواية المثبت على رواية النافي أو لا؟ وإذا تعارض الحاظر والمبيح فما المقدم؟ وكذلك الترجيح في العلل وقع فيه خلاف كثير. وبوجه عام فإن هذا باب واسع تدخل فيه مسائل كثيرة.

ثانياً: الأسباب العائدة إلى مجالات التطبيق وتحقيق الماط، مما يختلف الأمر فيه باختلاف الفهم والإدراك والتصور. مما يقع موقع المقدمة الصغرى في قياس الاستنباط.

هذا وننبه هنا إلى أن هناك طائفة من أسباب الاختلاف، قد يبدو أنها لم تدخل في هذا الحصر، كأفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – وكشروط التكليف، وهل تزول بالنسيان والإكراه والسكر، وفي الحق أنها داخلة فيما تقدم، فأفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – من الأدلة، ومعرفة دلالتها تتصل بالفهم، وكذلك شروط التكليف، فإن الاختلاف بشأنها يتعلق بالفهم، وتحقيق المناط. وربما خرج نزر يسير عن ذلك، ولكن يمكن إدخاله في تلك الأنواع بضرب من التأويل – والله أعلم-.

ص: 98