الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس
الحديث الصحيح
ورد عن طائفة كبيرة من السلف والأئمة أقوال تفيد أنه إذا صح الحديث فهو مذهبهم وهذه القوال وردت عنهم منذ عهد الصحابة وإلى يومنا هذا. وقد نقل هذا عن أبي حنيفة وأصحابه (1)، وصح عن الشافعي أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أو ما في هذا المعنى (2)، كما نقل عن غيره من العلماء (3).
ولا إشكال فيما لو كان للإمام رأي موافق للحديث، لأن نسبة الرأي إليه لا يعتريها شك، لا للحديث، ولكن لما أفتى به الإمام نفسه. لكن التساؤل يتضح في حالتين:
الحالة الأولى: أن لا يكون للإمام رأي في المسألة.
والحالة الثانية: أن يكون له رأي مخالف للحديث.
أما الحالة الأولى فإن الظاهر وما هو مقتضى الأدلة، وجوب العمل بالحديث، وهذا ما صرح به تقي الدين السبكي (4) لكن نسبة ذلك إلى الإمام، والقول بأن مذهبه كذا، فيه نوع من المجازفة، لعدم جزمنا بأن الإمام لم يطلع على الحديث، فلعله اطلع عليه، ولم يأخذ به لاعتبارات يعلمها.
(1) انظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري ص 10 وما بعدها، والانتقاء لابن عبد البر ص 144.
(2)
انظر: الفقيه والمتفقه 1/ 148 وما بعدها، معنى قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي ص 71، وأعلام الموقعين 4/ 202 وما بعدها.
(3)
المجموع 1/ 63 وما بعدها، وأدب المفتي والمستفتي ص 117.
(4)
معنى قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي ص 133.
أما الحالة الثانية، وهي حالة ما إذا كان للإمام رأي مخالف للحديث، فإن العلماء اختلفوا بشأنها على قولين:
1 -
القول الأول: العمل بالحديث وجعله مذهباً للإمام، وتصحيح نسبة الرأي إليه، وقد نقل ذلك عن عدد من علماء الشافعية. وذكر ابن الصلاح أن ممن أفتى بالحديث أبو يعقوب البويطي (ت 231هـ)(1)، وأبو القاسم الداركي (ت 375هـ)(2). وأن أبا الحسن الكيا الطبري الهراسي (ت 504هـ)(3) قطع به في كتابه في أصول
(1) هو أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي المصري، من أصحاب الإمام الشافعي المقدمين عنده، وكان يقول ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى، وليس أحد من أصحابي أعلم منه. كان عابداً متنسكاً مكثراً من ذكر الله. امتحن في مسألة القول بخلق القرآن، وحمل في أيام الواثق من مصر إلى بغداد، فامتنع عن الإجابة فحبس في بغداد وقيد، ولم يزل في السجن والقيد حتى مات سنة 231هـ على الأصح.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 6/ 60، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 98، والانتفاء لابن عبد البر ص 109، وطبقات الشافعية الكبرى 1/ 275.
(2)
هو أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الداركي، من كبار الفقهاء الشافعية، درس الفقه في نيسابور سنين، ثم انتقل إلى بغداد وسكنها حتى مات. أخذ الفقه على أبي إسحاق المروزي، وطائفة من علماء بغداد وغيرهم. ثم تصدر للتدريس في بغداد. كان لا يتعجل في فتواه، فإذا استفتي فكر كثيراً قبل الجواب، وربما أفتى بما يخالف مذهب إمامه، معللاً ذلك بما يذكره من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أولى من قول الإمام. اتهم بالاعتزال، وكانت وفاته ببغداد سنة 375هـ.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 2/ 361، وطبقات الشافعية الكبرى 2/ 240.
(3)
هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري الملقب بعماد الدين والمعروف بالكيا الهراسي من علماء الشافعية البارزين في القرن الخامس، ومن أبرز تلامذة إمام الحرمين. كان عالماً بارعاً ومفسراً وأصولياً وحافظاً للأحاديث ولد بطبرستان، وسكن بغداد، ودرس في النظامية، وقد اتهم بالباطنية. توفي ببغداد سنة 504هـ. لم يعرف سبب تسميته بالكيا ولا بالهراسي، ولكنهم ذكروا أن الكيا في اللغة الأعجمية تعني كبير القدر.
من مؤلفاته: أحكام القرآن، وشفاء المسترشدين وهو من كتب الخلافيات، وكتاب في أصول الفقه، ونقد مفردات الإمام أحمد.
…
=
الفقه (1) وذكر النووي أن ممن استعمل ذلك الإمام أبو بكر البيهقي (ت 458هـ)(2)، وآخرون. وقال: وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه، عملوا بالحديث وأفتوى به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث)، وبين أن ذلك كان نادراً (3) وفي كلام ابن برهان ما يدل على أنه يذهب إلى ذلك. قال:(فإن قال: فما قولكم فيمن وجد نصاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف مذهب الشافعي- رضي الله عنه؟ قلنا يجب عليه أن يأخذ بذلك، لأن مذهبه)(4) وذهب بعض الحنفية إلى مثل ذلك، فقد ذكر ابن الشحنة [890هـ](5) في شرحه
(1) = راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 2/ 448، وطبقات الشافعية الكبرى 4/ 281، وشذرات الذهب 4/ 8، والأعلام 4/ 329، والفتح المبين 2/ 6.
() أدب المفتي والمستفتي ص 118.
(2)
هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الخراساني البيهقي الشافعي. كان محدثاً من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله في الحديث، كما كان فقيهاً تتلمذ في ذلك على يد أبي الفتح المروزي. غلب عليه الحديث فاشتهر بذلك. رحل إلى العراق والجبال والحجاز وغيرها طالباً للعلم والحديث. عرف بالزهد والقناعة، وكانت وفاته في نيسابور في سنة 458هـ، ونقل تابوته إلى بيهق ودفن فيها.
من مؤلفاته: السنن الكبرى في الحديث، والمبسوط في فقه الشافعي، والجامع المصنف في شعب الإيمان، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وله كتاب في الخلافيات سلك فيه طريقة أصولية حديثة مستقلة جمع فيها المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 1/ 57، وشذرات الذهب 3/ 304، وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 3، والفتح المبين 1/ 249، ومعجم المؤلفين 1/ 206.
(3)
المجموع 1/ 64 وانظر أصل ذلك في أدب المفتي والمستفتي ص 118.
(4)
الوصول إلى الأصول 2/ 358.
(5)
هو أبو الفضل محمد بن محمد الحلبي الملقب بشمس الدين والمعروف بابن الشحنة. كان فقيهاً وأصولياً ومحدثاً. ولي قضاء حلب وانتقل إلى مصر وعمل فيها، ثم نفي إلى بيت المقدس، ثم أذن له في العودة إلى حلب، فعاد إليها، ثم ذهب إلى مصر فعاد إلى وظيفته السابقة وهي كتابة السر وأضيف إليه قضاء الحنفية أيضاً، ثم صرف عنه، وقد تعرض إلى شدائد ومحن، وأصيب في آخر عمره بالفالج، وأصابه ذهول. توفي سنة 890هـ.
للهداية، أنه (إذا صح الحديث، وكان على خلاف المذهب، عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفياً بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقد حكى ذلك ابن عبد البر (1) عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة) (2).
وبين النووي، تبعاً لما أورده ابن الصلاح، أنه ليس المقصود من كلام هؤلاء العلماء أن كل من رأي حديثاً صحيحاً قال: هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره، بل شرط ذلك أن يكون المفتي ممن بلغ درجة الاجتهاد في المذهب، وأن يغلب على ظنه أن الشافعي لم يقف على هذا الحديث، أو لم يعلم بصحته، وهذا لا يتحقق إلا بمطالعة كتب الشافعي وكتب أصحابه كلها، وهو شرط صعب قل من تحقق فيه (3). وقد أضاف القرافي (ت 684هـ)(4) إلى ذلك شرطاً آخر، هو
(1) = من مؤلفاته: طبقات الحنفية، ونهاية النهاية في شرح الهداية في فروع الحنفية، وتنوير المنار في أصول الفقه، والمنجد المغيث في الحديث وغيرها.
راجع في ترجمته: شذرات الذهب 7/ 349، والأعلام 7/ 51، ومعجم المؤلفين 11/ 294.
() هو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي. ولد بقرطبة ونشأ وطلب العلم فيها، فكان شيخ علماء الأندلس في زمانه، ولقبوه بحافظ المغرب. تولى القضاء في أماكن عدة. توفي سنة 463هـ.
من مؤلفاته: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، والاستيعاب لأسماء الصحابة، وجامع بيان العلم وفضله، والانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، والكافي في الفقه وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 6/ 64، والديباج المذهب ص 357، وشذرات الذهب 3/ 314، والأعلام 8/ 240.
(2)
الفتوى في الإسلام لجمال الدين القاسمي ص 112 نقلاً عن شرح ابن الشحنة للهداية.
(3)
المجموع 1/ 64، وأدب المفتي والمستفتي ص 118.
(4)
هو أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي البهنسي المشهور بالقرافي والملقب بشهاب الدين، والصنهاجي نسبة إلى صنهاجة من قبائل البربر في المغرب، والقرافي نسبة إلى القرافة وهي المقبرة المجاورة لقبر الشافعي في مصر. =
عدم وجود المعارض (1).
ويبدو أن وجهة نظر أصحاب هذا القول التمسك بظاهر ما روي عن الأئمة، ومن قول بعضهم إذا صح الحديث فهو مذهبي. فإن مثل هذا الكلام ظاهر في دلالته على المراد.
2 -
القول الثاني: عدم جعل الحديث مذهباً للإمام، وعدم تصحيح نسبة ذلك إليه، وهذا رأي الأكثرين من العلماء وإذا كانوا لم يصححوا النسبة فإن مواقفهم من العمل بالحديث مختلفة، ومن هذه المواقف.
أ- عدم جواز الأخذ بالحديث، وترك العمل به، والأخذ برأي الإمام، والقول بأن الحديث منسوخ أو مؤول، وهذا مذهب الكرخي من الحنفية (2).
ب- العمل بالحديث لمن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقاً، أو في ذلك الباب أو المسألة. ويكون عمله بالحديث- حينئذ- اجتهاداً منه، لتوفر شروط الاجتهاد فيه. أما من لم يكن كذلك، ولم يجد جواباً شافياً، فله العمل به، إن عمل به إمام مستقل غير إمامه، ويكون هذا عذراً له في ترك المذهب (3).
ويفهم من ذلك أن من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق، كلياً أو جزئياً،
(1) = ولد في مصر وفيها نشأ، وبرع في الفقه والأصول والتفسير وعلوم أخرى، وكان مالكي المذهب ذا إطلاع واسع في الأصول. توفي في القاهرة سنة 684هـ.
من مؤلفاته: الذخيرة في الفقه، شرح التنقيح في أصول الفقه، وأنوار البروق في أنواء الفروق، ونفائس الأصول في شرح المحصول.
راجع في ترجمته: المنهل الصافي 1/ 215، هدية العارفين 1/ 99، معجم المطبوعات 2/ 1501، الأعلام 1/ 94، معجم المؤلفين 1/ 158.
() شرح تنقيح الفصول ص 450.
(2)
الأصل 29 من أصول الكرخي المسماة: الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية، الملحقة بكتاب تأسيس النظر للدبوسي ص 169و 170.
(3)
أدب المفتي والمستفتي ص 121، والمجموع 1/ 64.
ولم يجد إماماً يوافق مذهبه الحديث ليقلده، فإنه لا يجوز له العمل به. ولعل وجهة نظر هذا القول أن نسبة ما يتضمنه الحديث المخالف لرأي الإمام، أبعد في الصحة من نسبة ما سكت عنه، فإذا كان الشأن أن لا ينسب إلى ساكت قول، فلأن لا ينسب إلأيه ما صرح بخلافه أولى، فضلاً عن أنه من الممكن أن تكون للإمام وجهة نظر في الحديث، وربما اطلع عليه، فظهر له معارض أو قادح، عنده. ووجهة النظر المذكورة صحيحة فيما نرى، ولكن في مجال دعوى أن الحديث مذهب الإمام، ونسبة ما تضمنه إليه. أما في نطاق العمل بالحديث فإنه إن كان المطلع عليه عارفاً بأحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم وبالغاً درجة الاجتهاد المطلق، وقادراً على الترجيح أو الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، فإن عليه العمل بالحديث.
يقول القرافي بشأن ما نقل عن الشافعي – رحمه الله من أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أو فاضربوا به- أي برأيه- عرض الحائط:(كثير من فقهاء الشافعية يعتمدون على هذا، ويقولون مذهب الشافعي كذا، لأن الحديث صح فيه، وهو غلط؛ فإنه لا بد من انتفاء المعارض. والعلم بعدم المعارض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة حتى يحسن أن يقول: لا معارض لهذا الحديث. وأما استقراء غير المجتهد المطلق فلا عبرة به. فهذا القائل من الشافعية ينبغي أن يحصل لنفسه أهلية هذا الاستقراء قبل أن يصرح بهذه الفتوى)(1). وما ذكره القرافي سبق أن ذكرنا ما هو في معناه عن الإمام النووي- رحمه الله.
ومهما يكن من أمر فإن العمل بالحديث هو الواجب، لأنه لا يجوز لأحد أن يعرض عن سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، لقول أحد من الناس، كائناً من كان. ولكن نسبة ذلك إلى الإمام، وادعاء أن ذلك مذهبه، لا تجوز، لما ذكرناه من توجيه، ولأننا لا نعلم موقف الإمام من ذلك الحديث، فلعله صح عنده أيضاً، ولكنه لم يأخذ به لوجود معارض له، أو لكونه منسوخاً عنده، أو
(1) شرح تنقيح الفصول ص 449.
لغير ذلك من الأسباب. ومما يعزز ذلك، ما روي عن الإمام مالك- رحمه الله من أن رجلاً سأله: لم رويت حديث [البيعان بالخيار](1) في الموطأ، ولم تعمل به؟ فقال مالك: ليعلم الجاهل مثلك أني على علم تركته (2). ومما يعزز ذلك أيضاً أن أبا الوليد موسى بن أبي الجارود (3)، وهو ممن صحب الشافعي- رحمه الله، حينما قال: صح حديث (أفطر الحاجم والمحجوم)(4) فأقول: قال الشافعي: أفطر الحاجم والمحجوم، ردوا عليه بأن الشافعي تركه مع علمه بصحته، لكونه منسوخاً عنده، وقد دل- رضي الله عنه على ذلك وبينه (5) ومثل ذلك أيضاً أن حديث خيار المجلس قد صح عند
(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع بلفظ [البيعان بالخاير ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتمت محقت بركة بيعهما]. كما أخرجه مسلم في كتاب البيوع باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، ومالك في الموطأ بلفظ [المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار].
(2)
انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك لشمس الدين محمد بن محمد الراعي الأندلسي [ت 853هـ] ص 225.
(3)
هو أبو الوليد موسى بن أبي الجارود المكي. من فقهاء مكة الذين أفتوا على مذهب الشافعي، كان أحد الثقات من أصحاب الشافعي، روي عنه كتاب الأمالي، قال عنه أبو عاصم: يرجع إليه عند اختلاف الرواية. روى عن البويطي ويحيى بن معين وغيرهم، وروى عنه الزعفراني والربيع وأبو حاتم الرازي وغيرهم. لم يقف كثيرون ممن ترجموا له على تاريخ وفاته.
راجع في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى 1/ 274، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 100، وطبقات الشافعي للأسنوي 1/ 38، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 15.
(4)
حديث صحيح أخرجه كثيرون من رواية شداد بن أوس، ومن رواية رافع بن خديج، ومن رواية ثوبان. [انظر بعض من أخرجه وطرقه المختلفة في تلخيص الحبير 2/ 193].
وقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إن الحديث صحيح لامرية فيه، ونقل عن ابن عبد البر ما يفيد نسخه، وذكر طائفة من وجهات النظر في الحديث، وفي تأويله. فانظرها في فتح الباري 4/ 177 وما بعدها.
(5)
أدب المفتي والمستفتي ص 119 و120 المجموع 1/ 64.
الإمام مالك، ولم يعمل به (1)، لقيام المعارض عنده، وهو عمل أهل المدينة (2)، أو قاعدة الغرر والجهالة القطعية (3). وصح عنده حديث (من نسى وهو صائم، فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)(4) لكنه لم يعمل به، وقال إن عليه قضاء يوم مكانه (5). بناءً على وجود ما يعارضه عنده، وهو أن الأكل والشرب أياً كان شكله ينفي ركن الصوم وحقيقته، إذ الصوم عنده الإمساك عن الأكل، فلا يوجد مع الأكل، لأنه ضده. وعلى الرغم مما بيناه من المجازفة في نسبة الأقوال إلى الأئمة، فإنهم خرجوا- على قلة- وجوهاً وطرقاً نسبوها إلى الأئمة، أو إلى المذهب.
وفيما يأتي نماذج لما خرجوه، بناءً على مقولة: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ونسبوه إلى الإمام:
1 -
إن وجهة نظر الإمام الشافعي- رحمه الله إن الترجيح في الأذان، وهو ذكر الشهادتين مرتين سراً قبل الجهر، ركن. قال القاضي حسين (6): إن الإمام أحمد البيهقي نقل عن الشافعي أنه إذا ترك الترجيع لا يصح أذانه.
(1) المدونة 3/ 234.
(2)
الموطأ 2/ 161 مع شرحه تنوير الحوالك.
(3)
الموافقات 3/ 21 و 22.
(4)
أخرجه مسلم بهذا اللفظ في كتاب الصوم، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر. وأخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان.
(5)
الموطأ 1/ 283 مع شرحه تنوير الحوالك.
(6)
هو أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المرورذي القاضي. أحد أئمة الشافعية ذائعي الصيت، في القرن الخامس الهجري، ومن قضاتهم البارزين. تفقه على أبي بكر القفال المروزي، وعرف بالوجوه الغربية في المذهب. توفي بمروالروذ سنة 462هـ.
من مؤلفاته: كتاب التهذيب وهو تلخيص لتهذيب البغوي، وأسرار الفقه، والتعليق الكبير، والفتاوى.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 1/ 400، وطبقات الشافعية الكبرى 3/ 155، والأعلام 2/ 254، ومعجم المؤلفين 4/ 45.
وهذا القول يفيد أنه ركن فيه. لكنهم صححوا في المذهب خلاف ذلك، وخرجوا للشافعي قولاً بكونه سنة، رجحوه على ما نقل عنه من الركنية. وكانت عمدتهم في ذلك الأحاديث الصحيحة التي جاءت بحذفه (1). ومثل ذلك ما ذكروه في التثويب في الصبح، وهو قول المؤذن: الصلاة خير من النوم، بعد قوله حي على الفلاح (2).
2 -
ومن ذلك أنهم ذكروا في مسألة التحلل من الإحرام بعذر المرض، أنه لو شرط في إحرامه أنه إذا مرض تحلل، فللأصحاب طريقان: أحدهما ما قاله الشيخ أبو حامد (3) وآخرون إنه لا يصح الاشتراط قولاً واحداً لصحة الحديث فيه. قال النووي: (قالوا وإنما توقف الشافعي لعدم وقوفه على صحة الحديث. وصرح الشافعي بهذا الطريق في نصه الذي حكيته الآن عنه وهو قوله لو صح حديث عروة لم أعده، فالصواب الجزم بصحة الاشتراط للأحاديث)(4).
والطريق الثاني أنه يصح الاشتراط في قوله القديم، وأما في الجديد فله قولان أصحهما الصحة، والثاني المنع. والطريق الذي ذكرناه أولاً
(1) المجموع 3/ 91 و 92.
(2)
نيل الأوطار 2/ 37.
(3)
هو أبو حامد محمد بن أحمد الأسفراييني الشافعي، كان من أئمة الشافعية في الفقه والأصول في زمانه، وكانوا يقولون لو رآه الشافعي لسر به، وعدوه من المجددين الذين ينطبق عليهم قول الرسول- صلى الله عليه وسلم – إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها أمر دينها. وكان أبو الحسين القدوري الحنفي يجله ويقدره. امتاز بقوة الحجة وجودة النظر. وقد سئل أبو عبد الله الصيمري الحنفي عن أقوى رجل رآه في الجدل، فقال: ما رأيت أنظر من أبي حامد. توفي ببغداد سنة 406هـ، ودفن بداره، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب.
من مؤلفاته: شرح مختصر المزني، وتعليقة كبرى في الفقه، وكتاب في الأصول لم يصل إلينا، وكتاب البستان، وهو صغير ذكر فيه غرائب.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 1/ 55، طبقات الشافعية الكبرى 3/ 24، شذرات الذهب 3/ 178، الفتح المبين 1/ 224.
(4)
المجموع 8/ 310.
هو الشاهد في إعمال الحديث الصحيح، وجعله مذهباً للإمام قولاً واحداً.
3 -
ومن ذلك ما قاله صاحب الحاوي عن الصلاة الوسطى: نص الشافعي أنها الصبح، وصحت الأحاديث أنها العصر، ومذهبه اتباع الحديث، فصار مذهبه أنها العصر، قال: ولا يكون في المسألة قولان، كما فهم بعض أصحابنا (1).
(1) المصدر السابق 3/ 61، وكتاب الحاوي من أوسع كتب الفقه الشافعي للإمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري المعروف بالماوردي المتوفي سنة 450هـ.