الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
شروط وصفات علماء التخريج
ذكرنا فيما سبق المرتبة التي يمثلها أهل التخريج بين طبقات أهل العلم، وعلمنا أنهم يعدون من المجتهدين، ولكنهم بمرتبة دون مرتبة أهل الاجتهاد المطلق.
ونظراً إلى أن موضوعنا يتعلق بالتخريج بخاصة، فإننا سنقصر كلامنا على السمات الأساسية في المخرجين. وهذه السمات يمكن أن تدخل ضمن نوعين من الشروط نذكرها فيما يأتي:
1 -
النوع الأول: الشروط المتعلقة بشخصية المجتهد:
بغض النظر عن الجوانب العلمية فيه. وهي شروط لا فرق في لزومها بين المجتهد المطلق ومجتهد المذهب أو التخريج ومجتهد الفتوى. ومن هذه الشروط:
أ- أن يكون بالغاً عاقلاً (1) وذلك لأن غير البالغ غير مكتمل القوى العقلية، وقد خالف بعض العلماء في اشتراط ذلك، وادعوا أن الاجتهاد من غير البالغ متصور (2). وأما العقل فلا بد منه لأنه مناط التكليف، ولأنه آلة المجتهد الأساسية. والمراد من ذلك أن يكون الفقيه سليم الإدراك،
(1) جمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلي 2/ 382، والبرهان 2/ 1330، والبحر المحيط 6/ 199.
(2)
المسودة ص 456 وانظر فيها الأقوال في ذلك، وما نقل عن الإمام أحمد- رحمه الله وما رجحه القاضي، وذهابه إلى أن ذلك جائز عقلاً، أما وقوعه فيغلب على الظن انتفاؤه.
خالياً من العيوب التي تشين العقل، وتنقصه، كالجنون والعته والسفه (1).
ب- أن يكون مؤمناً بشريعة الإسلام. وهذا الشرط من الأمور المعلومة بداهة، ولهذا لم يذكره أغلب العلماء، غير أن طائفة منهم، مع بداهته، نصت عليه. فقد ذكر الآمدي في الإحكام، أن من شروط المجتهد أن يعلم وجود الرب- تعالى- وما يجب له من صفات، ويستحقه من الكمالات، وأن يكون مصدقاً بالرسول- صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الشرع المنقول (2).
كما نص على ذلك ابن الهمام وغيره (3) لكن إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت 790هـ) ذكر أن النظار (أجازوا وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة (4)).
وهذا كلام غريب قال الشيخ عبد الله دراز (ت 1351هـ) رحمه الله معقباً على ذلك: (ما هي ثمرة هذا التجويز؟ هل يقلده المسلمون فيما استنبطه من الأحكام الشرعية، وهذا غير معقول، أم يعمل هو بها؟ وهذا لا يعنينا ولا يعد اجتهاداً في الشريعة (5)). ومقتضى هذه الدعوى تجويز اجتهادات المستشرقين من أعداء الإسلام، والمنكرين لنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم وهذا باطل يقيناً.
ج- أن يكون فقيه النفس (6). والمقصود بذلك أن يكون شديد الفهم بالطبع
(1) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه ص 162 و 163.
(2)
الإحكام 4/ 162 و 163.
(3)
التحرير بشرح التقرير والتحبير 2/ 292، وشرح الكوكب المنير 4/ 464 و 465، وفواتح الرحموت 2/ 363.
(4)
الموافقات 4/ 111.
(5)
المصدر السابق هامش (3) ولاحظ مناقشة كلام الشاطبي بشأن المقدمات.
(6)
البرهان 2/ 1332، وجمع الجوامع بشرح الجلال المحلي وحاشية الأنبابي 2/ 382.
لمقاصد الكلام، أي أن يكون له استعداد فطري يؤهله للاجتهاد. وعد إمام الحرمين هذا الفقه رأس مال المجتهد، وقال إنه أمر جبلي، ولا يتأتى كسبه وتحصيله بحفظ الكتب (1).
د- أن يكون عدلاً (2) بأن يجتنب الكبائر، ويتقي الصغائر في غالب أحواله (3). أو أن تكون له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة، من شرك، أو فسق، أو بدعة (4).
وعبر الباجي (ت 474هـ)(5) عن هذا الشرط بقوله: (أن يكون مع ذلك مأموناً في دينه، موثوقاً به في فضله (6)). وصحح بعض العلماء أن العدالة ليست شرطاً في الاجتهاد، لجواز أن يكون للفاسق قوة الاجتهاد (7).
(1) البرهان في الموضع السابق.
(2)
المصدر السابق، والمستصفى 2/ 350.
(3)
التحفة النبهانية بشرح المنظومة البيقونية ص 33.
(4)
نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 29، وانظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 413. بشأن العدالة، وص 414 بشأن الفرق بين الصغائر والكبائر.
(5)
هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الأندلسي المالكي الباجي. ولد بيطليوس، ثم رحل إلى باجة وأقام بها زمناً طويلاً، ثم رحل إلى مصر والشام والعراق، فأخذ العلم عمن لقيه فيها من العلماء.
وكانت رحلته طويلة استغرقت ثلاث عشرة سنة، عاد بعدها إلى بلده، فدرس وعلم وذاع صيته. تولى القضاء بالأندلس، وكان نظاراً قوي الحجة. قال عنه ابن حزم: لم يكن للمذهب المالكي بعد القاضي عبد الوهاب إلا أبو الوليد الباجي. توفي سنة 474هـ.
من مؤلفاته: إحكام الفصول في أحكام الفصول، والمنتقى في شرح الموطأ، وكتاب الحدود، والإشارة، والتعديل والتخريج لمن خرج عنه البخاري في الصحيح.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 2/ 142، والديباج المذهب ص 120، وشذرات الذهب 3/ 344، والفتح المبين 1/ 252.
(6)
إحكام الفصول ص 722.
(7)
المستصفى 2/ 350، وجمع الجوامع بشرح الجلال المحلي 2/ 385.
ولكنها شرط لقبول فتواه والعمل بموجبها (1).
تلك هي الشروط المتعلقة بشخص المجتهد أما غير ذلك من شروط كالحرية والذكورة فقد نص على عدم الاعتداد بها بعض الأصوليين وأهملها أكثرهم. وإنما لم يعتد بهما، لإمكان حصول الاجتهاد مع عدمهما (2)، ولأن الصحابة قد رجعوا إلى فتاوى عائشة- رضي الله عنها (3) وسائر أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم.
ولأن التابعين أخذوا بفتاوى نافع (4)، مولى عبد الله بن عمر (5) وعكرمة (6)
(1) المستصفى في الموضع السابق، والتقرير والتحبير 3/ 295.
(2)
التقرير والتحبير 3/ 294، وجمع الجوامع في الموضع السابق.
(3)
هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان القرشية تكنى بأم عبد الله، كانت من افقه نساء المسلمين، وأعلمهن بالدين والأدب. تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة. كانت أحب نسائه إليه، وأكثرهن رواية عنه. توفيت في المدينة سنة 58هـ.
راجع في ترجمتها: شذرات الذهب 1/ 61، والأعلام 2/ 240.
(4)
هو أبو عبد الله نافع مولى عبد الله بن عمر، ديلمي الأصل، مجهول النسب، أصابه عمر في بعض غزواته. كان من كبار التابعين وفقهائهم ومحدثيهم. سمع مولاه وأبا سعيد الخدري وعائشة وأبا هريرة. كان ثقة في روايته للحديث. أرسله عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلم أهلها السنن. توفي سنة 117هـ على أشهر الأقوال.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 5/ 4، وشذرات الذهب 1/ 154، والأعلام 8/ 5.
(5)
هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم أسلم مع أبيه وهو صغير، وهاجر إلى المدينة، كان ورعاً كثير الاتباع لآثار رسول الله- صلى الله عليه وسلم ومجاهداً، لم يتخلف عن السرايا في عهد النبي. وكان من أعلم الصحابة بمناسك الحج كثير الاحتياط والتحري في فتواه. توفي سنة 63هـ، وقيل سنة 73هـ، وقيل سنة 74هـ، وقيل غير ذلك.
راجع ترجمته: وفيات الأعيان 2/ 23، وشذرات الذهب 1/ 81، والأعلام 4/ 108.
(6)
هو أبو عبد الله البربري المدني. مولى عبد الله بن عباس. تابعي، كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي. تنقل في البلدان، وروى عنه زهاء ثلاثمائة =
مولى عبد الله بن عباس، قبل عتقهما (1).
وهذه الشروط عامة لكل المجتهدين، سواء كانوا مجتهدين اجتهاداً مطلقاً، أو من المجتهدين في المذهب، أو من المجتهدين في الفتوى.
2 -
النوع الثاني: الشروط المتعلقة بالجانب العلمي للمجتهد:
وفيما يتعلق بالشروط العلمية للمجتهد اختلفت وجهات النظر في أعداد ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم، ويرجع ذلك إلى أن بعضهم جمع طائفة من العلوم في علم واحد وكان أبو الفتح الشهرساني (ت 548هـ)(2) قد حصر هذه العلوم في خمسة، هي شروط الاجتهاد عنده، وهي:
أ- معرفة قدر صالح من اللغة، بحيث يمكنه من فهم لغات العرب، والتمييز بين الألفاظ الوضعية والاستعارية والنص والظاهر وغير ذلك من وجوه الدلالة التي هي الآلة التي يحصل بها الشيء.
ب- معرفة تفسير القرآن، وبخاصة ما يتعلق بالأحكام، معرفة تحيط بما جاء حولها من أخبار، وما كان موقف الصحابة المعتبرين منها، وما الذي فهموه منها.
(1) = رجل، منهم أكثر من سبعين تابعياً. توفي في المدينة سنة 105هـ.
راجع في ترجمته: شذرات الذهب 1/ 130، والأعلام 4/ 244.
() الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه ص 162.
(2)
هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني الشافعي. برع في الفقه والحكمة والكلام. تلقى علم النظر والأصول عن أبي القاسم الأنصاري، وابن نصر القشيري. رحل إلى بغداد، فأقام فيها ووعظ، ولقي وعظه قبولاً من العامة. اتهم بميله إلى أهل الزيغ، وتخبطه في الاعتقاد. توفي سنة 548هـ.
من مؤلفاته: الملل والنحل، نهاية الإقدام في علم الكلام، تلخيص الأقسام لمذاهب الأعلام وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 3/ 403، وطبقات الشافعية الكبرى 4/ 78، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 330، ومعجم المؤلفين 10/ 187.
ج- معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها، والإحاطة بأحوال النقلة والرواة، تعديلاً وجرحاً، وبالوقائع والمناسبات الخاصة فيها، وبعامها الوارد على سبب خاص، وبخاصها الذي عمم حكهم، والفرق بين الوجوب والندب والحظر والإباحة، حتى لا يشذ عنه وجه من الوجوه، ولا يختلط عليه باب بباب.
د- معرفة مواقع الإجماع، حتى لا يقع اجتهاده مخالفاً له.
هـ- معرفة مواضع القياس، وكيفية النظر، والتردد فيها (1).
والذي يبدو من تتبع كلام الأصوليين أن الشهرستاني أتى بخلاصة آرائهم بتركيز. ذلك أن كثيراً مما ذكره بعض الأصوليين كان تفريعاً وتنويعاً، أو شرحاً وضبطاً لهذه الشروط. وقد جمع السيوطي العلوم المشترطة في الاجتهاد، فذك خمسة عشر علماً، ورفض الاعتداد بثلاثة علوم أخر، هي المعرفة بالدليل العقلي، أي البراءة الأصلية، التي عدها ابن السبكي في جملة الشروط (2). وقال السيوطي إن إفرادها شرطها لا حاجة له، لأنها من جملة أصول الفقه. والعلم الثاني علم الكلام والثالث المنطق الذي قال عنه: إنه أقل وأذل من أن يذكر (3).
ومن الملاحظ على ما عده السيوطي وآخرون علماً مستقلاً، أنه يمكن أن يدخل بعضه في بعض. ومن أمثلة ذلك أن السيوطي ذكر علم اللغة، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع، على أنها ستة علوم (4)، مع أن أغلب العلماء يعدون ذلك شيئاً واحداً، هو معرفة قدر صالح من لغة وأساليب العرب. ولهذا فسنعرض عن مثل هذا المنهج، ونكتفي بذكر
(1) الملل والنحل 1/ 348 - 350.
(2)
جمع الجوامع بشرح الجلال المحلي 2/ 382.
(3)
تيسير الاجتهاد ص 41.
(4)
المصدر السابق ص 40.
المعاني الجامعة لتلك العلوم. لقد شرطوا في المجتهد، في الجانب العلمي، إحاطته بما يأتي:
أ- العلم بالمدارك المثمرة للأحكام، أي مصادر التشريع وأدلته، علماً يتحقق به المقصود. وهذه المدارك هي:
1 -
الكتاب: وهو أهم ما يجب العلم به، وبما يتصل به من علوم تساعد على فهمه وإدراك مراميه. ولا يشترط أن يعرف جميعه، بل شرطه أن يعرف ما يتعلق بالأحكام (1). وقد قدرها كثيرون بخمسمائة آية (2)، وقدرها آخرون بما هو أكثر من ذلك، فقيل إنها تسعمائة، وقيل إنها ثلاثمائة وألف، وقيل أكثر (3).
ولا يشترط حفظها، بل يكفي أن يكون عالماً بمواقعها، مستطيعاً الرجوع إليها وقت الحاجة (4). ولبعض العلماء رأي آخر، وهو أن الأحكام لا يقصر استنباطها على الآيات الخاصة بذلك، بل من الممكن أخذها من الآيات التي فيها القصص والمواعظ (5). وفي الكوكب المنير أن التنصيص على خمسمائة آية، ربما كان المقصود به ما دل على الأحكام بدلالة المطابقة، (وأما بدلالة الالتزام فغالب القرآن، بل كله، لأنه لا يخلو شيء منه عن حكم يستنبط منه)(6).
وينبغي له أن يعرف تفسيره، وما نقل من مأثور بشأن معانيه، وأن يحيط
(1) شرح اللمع 2/ 1033، والتلويح 2/ 117.
(2)
المستصفى 2/ 350 و 351، والمحصول 2/ 497، والإبهاج 3/ 254، ونهاية السول بحاشية سلم الوصول 4/ 548، وشرح مختصر الروضة 3/ 577، وفواتح الرحموت 2/ 363.
(3)
الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه ص 180 نقلاً عن إيقاظ الوسنان في العمل بالسنة والقرآن.
(4)
المحصول 2/ 497، والإبهاج 4/ 253، وشرح مختصر الروضة 3/ 577، والمستصفى 2/ 351.
(5)
شرح مختصر الروضة 3/ 577 و 578.
(6)
4/ 460.
بأسباب نزوله، وأن يعرف ناسخه ومنسوخه.
2 -
السنة: والشرط فيها أن يعلم متونها ومعانيها وطرقها وأسانيدها، بأن يعلم متواترها ومشهورها وآحادها، والسند الذي رويت به، وحال الرواة، وقوة الحديث بمعرفة الصحيح والحسن والضعيف منه. ولا يشترط أن يكشف عن ذلك بنفسه، بل يكفي فيه الأخذ من أولي الشأن، أو المتخصصين في ذلك (1). وفي جمع الجوامع وشرحه للجلال المحلي (2). أنه يكفي في زمانهم الرجوع إلى أئمة الحديث كالإمام أحمد والبخاري (3)
(1) شرح اللمع 2/ 1033، والتلويح 2/ 117، ونهاية السول بشرح سلم الوصول 4/ 549، وشرح الكوكب المنير 4/ 461و 462، وجمع الجوامع بشرح الجلال المحلي 2/ 384، وفواتح الرحموت 2/ 363.
(2)
هو محمد بن أحمد بن محمد المحلي المصري الشافعي الملقب بجلال الدين. كان فقيهاً وأصولياً ومتكلماً ونحوياً ومفسراً. تلقى علومه عن مشاهير العلماء في مصر، في زمنه، وصف بحدة الذكاء حتى قالوا: إن ذهنه يثقب الماس، وسماه بعضهم تفتازاني العرب، درس بالمؤيدية والبرقوقية. وكان متقشفاً يأكل من كسب يده في التجارة توفي في مصر سنة 864هـ.
من مؤلفاته: شرح الورقات، والبدر الطالع في حل جمع الجوامع، وشرح المنهاج في فقه الشافعية، وتفسير لم يتمه أكمله السيوطي بعده فسمي بتفسير الجلالين.
راجع في ترجمته: شذرات الذهب 7/ 303، والأعلام 5/ 333، والفتح المبين 3/ 40.
(3)
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي. إمام المحدثين وصاحب الصحيح. ولد ببخاري ونشأ يتيماً، ورحل إلى أقطار عديدة، طلباً للحديث عند من فيها من المحدثين. فكتب عنهم بخراسان والجبال ومدن العراق والحجاز والشام ومصر. وقيل إنه سمع عن ألف شيخ وزيادة، ولم يكتب عن كل أحد، بل عمن كان يقول: الإيمان قول وعمل. دخل بغداد فأذعن له علماؤها وأقروا بفضله بعد اختبار. توفي- رحمه الله في قرية خرتنك من قرى سمرقند في بلاد فارس سنة 256هـ.
من مؤلفاته: الجامع الصحيح، والتاريخ، والأدب المفرد، والضعفاء في رجال الحديث.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 3/ 329، وشذرات الذهب 2/ 134، والأعلام 6/ 34.
ومسلم (1) وغيرهم، فيعتمد عليهم في التعديل والتجريح لتعذر ذلك في زمانهم (2) وكان أبو إسحاق الشيرازي يقول بمثل ذلك قبلهم (3)، وممن وافق على ذلك الفخر الرازي في المحصول (4) وإذا كان الأمر كذلك في زمان الشيرازي وابن السبكي فلأن يكون الاعتماد على مثل هذه المراجع في زماننا أولى. ويكفي عند جمهور الأصوليين أن يعرف الأحاديث المتعلقة بالأحكام. وما نقل عن الإمام أحمد- رحمه الله في أن الرجل لا يكون فقيهاً حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث، أو ستمائة، فمبالغة. وهو محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا (5).
3 -
معرفته بمواقع الإجماع، حتى لا يأتي بحكم مخالف له. ولا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل عليه أن يعلم في كل مسألة يجتهد فيها، أن اجتهاده فيها ليس مخالفاً للإجماع (6).
4 -
معرفة الدليل العقلي، أي البراءة الأصلية، ومعرفة أننا مكلفون بالتمسك
(1) هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري. أحد أئمة الحديث المعروفين وصاحب الصحيح. تنقل بين البلدان طلباً للحديث، فرحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر، فسمع من علمائها، وكان كثير التردد على البخاري. وكان ثقة في الحديث، روى عنه أئمة كبار فيه. توفي- رحمه الله في نيسابور سنة 261هـ.
من مؤلفاته: الجامع الصحيح، المسند الكبير رتبه على الرجال، والكنى والأسماء، والأقران، وأولاد الصحابة، وأوهام المحدثين، وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات العيان 4/ 280، وشذرات الذهب 2/ 144. والأعلام 7/ 221.
(2)
جمع الجوامع بشرح الجلال المحلي وحاشية الأنبابي 2/ 384.
(3)
شرح اللمع 2/ 1033.
(4)
2/ 498و 499.
(5)
العدة 5/ 1597 وأصول الفقه لابن مفلح القسم الثاني ص 987.
(6)
المستصفى 2/ 351، شرح اللمع 2/ 1031و 1032 وشرح الكوكب المنير 4/ 464، والتلويح 2/ 118، والإبهاج 3/ 255 والمحصول 2/ 498، وفواتح الرحموت 2/ 363.
بها إلا إذا ورد ما يصرفنا عنها، من نص أو إجماع (1).
ويبدو أن هذا الشرط غير معتد به عند من لا يحتج بالاستصحاب. وقد رجح الشوكاني (2) ذلك، وقال:(وهو الحق، لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية، لا على الأدلة العقلية، ومن جعل العقل حاكماً، فهو لا يجعل ما حكم به داخلاً في مسائل الاجتهاد)(3).
ب- العلم بالطرق والوسائل الممكنة من الاستنباط الصحيح من الأدلة. وأهم ما يتناوله ذلك:
1 -
معرفته باللغة العربية وأساليبها وطرق دلالتها. وذلك لأن الكتاب والسنة، وهما منبع الأحكام الشرعية ومصدرها الأساس، عربيان، فلا بد أن يعرف المجتهد من علوم العربية ما يمكنه من فهم خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال، إلى الدرجة التي يستطيع بها تمييز صريح الكلام وظاهره ومجمله ومبينه وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده وغير ذلك، مما له تعلق بالفهم المطلوب لكل من الكتاب والسنة. ولا يشترط في ذلك أن يبلغ مبلغ الخليل بن أحمد (ت 170هـ)(4)
(1) المحصول 2/ 498، والمستصفى 2/ 351، روضة الناظر ص 353، جمع الجوامع بشرح الجلال المحلي 2/ 382و 383.
(2)
هو أبو عبد الله محمد بن علي الشوكاني الخولاني، ثم الصنعاني عالم مشارك في الحديث، والتفسير والفقه والأصول والتاريخ، والنحو والمنطق والكلام، إلى جانب عدد من العلوم الأخرى.
ولد بهجرة شوكان في اليمن ونشأ بصنعاء، قرأ على والده وكثير من علماء بلده، وأفتى وهو في العشرين من عمره، وولي القضاء في صنعاء حتى توفي في سنة 1250هـ.
راجع في ترجمته: أبجد العلوم 3/ 201، وما بعدها، وهدية العارفين 2/ 365، ومعجم المطبوعات 2/ 1160، والأعلام 6/ 298، ومعجم المؤلفين 11/ 53.
(3)
إرشاد الفحول ص 252.
(4)
هو: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي البصري. من أشهر علماء اللغة والنحو والعروض. روى عن أبي أيوب السختياني =
والأصمعي (ت 216هـ)(1) بل يكفي من ذلك ما يحقق الغاية المذكورة (2).
2 -
معرفته بطرق الاستثمار من الأدلة، وكيفية الحصول على الأحكام منها، ويكون ذلك بمعرفة قواعد أصول الفقه، وبخاصة معرفة القياس بشروطه وأركانه، لأنه أبرز مناطات الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه (3).
(1) = وغيره، وتتلمذ عليه عدد من العلماء المعروفين كسيبويه والنضر بن شميل، وكانت بينه وبين بعض مشاهير علماء عصره، كأبي عمرو بن العلاء، مناظرات. كان صاحب ذهن متميز فهو أول من استخرج العروض وحصن به أشعار العرب، كما كان أول مفكر لوضع معجم لغوي. عرف برجاحة العقل والصلاح والحلم والوقار، كما كان فقيراً صابراً. توفي في البصرة سنة 170هـ.
من مؤلفاته: العروض الشواهد، والنقط والشكل، والإيقاع، والجمل، وكتاب العين، والنغم، والعوامل.
راجع في ترجمته: طبقات النحويين واللغويين ص 47، والفهرست ص 63 وما بعدها، ووفيات الأعيان 2/ 15، وشذرات الذهب 1/ 275، والأعلام 2/ 314، ومعجم المؤلفين 4/ 112.
() هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي البصري المعروف بالأصمعي. من كبار أوائل علماء اللغة والأدب والنحو والأخبار والفقه. سمع ابن عون وغيره، وأكثر عن أبي عمرو بن العلاء. وقد أثنى عليه كثير من علماء عصره، وعرف بكثرة الحفظ والرواية، كان شديد الاحتراز في تفسير القرآن والسنة. مخافة أن يقول في ذلك برأيه. قدم بغداد زمن الرشيد ولقي حظوة عنده، ثم عاد إلى البصرة فتوفي فيها، سنة 216هـ، وقيل غير ذلك.
من مؤلفاته: نوادر الإعراب، الأجناس في أصول الفقه، المذكر والمؤنث، كتاب اللغات، كتاب الخراج.
راجع في ترجمته: طبقات النحويين واللغويين ص 167 وما بعدها، الفهرست ص 82، وفيات الأعيان 2/ 344، شذرات الذهب 2/ 36، الأعلام 4/ 162، معجم المؤلفين 6/ 187.
(2)
البرهان 2/ 1331، وإحكام الفصول ص 722، والمستصفى 2/ 352، والإبهاج 3/ 255 ونهاية السول مع حاشية سلم الوصول 4/ 552.
(3)
البرهان 2/ 1332، وإحكام الفصول ص 722، والمحصول 2/ 499، والإبهاج =
3 -
معرفته بكيفية النظر بأن يعرف شرائط البراهين والحدود، وكيف تركب المقدمات ويستنتج المطلوب، ليكون على بصيرة في اجتهاده (1). وعد أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) ذلك أحد علوم أربعة تعرف بها طرق الاستثمار (2)، وقد تابعه كثيرون ممن جاء بعده، كما ذكرنا.
ولا يشترط في المجتهد أن يحفظ الفروع، لأنها ثمرة الاجتهاد، فلا يصح أن تكون متقدمة عليه (3). وما ذهب إليه بعض الأصوليين من اشتراط ذلك (4)، أو اشترط أكثرها أو أشهرها (5)، فإنه مرجوح للسبب الذي ذكرناه. ولم يستبعد أبو حامد الغزالي إمكان الاجتهاد من دونها، ولكنها – في رأيه- ذات فائدة للفقيه في زمانه، من حيث إنها تولد الدربة لديه على استنباط أحكام المسائل المطروحة عليه (6).
ولا يشترط أن يعرف المنطق ولا علم الكلام على الراجح من أقوال العلماء (7). ولا حاجة إلى إلزامه بعلم بعد ذلك، إلا إذا كان اجتهاده يتوقف على معرفته، كحاجة من يجتهد في مسألة من مسائل الفرائض إلى الحساب.
ج- معرفته بمقاصد الشريعة. وهذا الشرط مما ذكره الشاطبي في
(1) = 3/ 255، ونهاية السول بحاشية سلم الوصول 4/ 551 وإرشاد الفحول ص 252.
() المحصول 2/ 498، والإبهاج في الموضع السابق، ونهاية السول في الموضع السابق.
(2)
المستصفى 2/ 351.
(3)
المصدر السابق، والبحر المحيط 6/ 205.
(4)
كأبي إسحاق وأبي منصور (البحر المحيط 6/ 205، وإرشاد الفحول ص 252).
(5)
البحر المحيط في الموضع السابق، وشرح الكوكب المنير 4/ 467.
(6)
المستصفى 2/ 353. ونذكر هنا أن حنبل روى عن الإمام أحمد- رحمه الله قوله (ينبغي لمن أفتاه أن يكون عالماً بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي) العدة 5/ 1595.
انظر أيضاً ميزان الأصول للسمرقندي ص 752.
(7)
شرح مختصر الروضة 3/ 583، 584، وتيسير الاجتهاد ص 41.
الموافقات (1) إذ جعل درجة الاجتهاد تتحقق بوصفين أحدهما فهم مقاصد الشريعة، وثانيهما التمكن من الاستنباط؛ بناءً على فهمه فيها. ولم يشترط جمهور الأصوليين ذلك، إذ اقتصروا على تفصيل الوصف الثاني الذي ذكره. وذكر الشوكاني أن الغزالي بين منهج الشافعي في الاستنباط، وكان مما جاء فيه، أنه ينبغي على المجتهد أن يلاحظ القواعد الكلية أولاً، ويقدمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل، فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الاسم (2). وهو في معنى ما ذكره الشاطبي في الموافقات. وإذا كان الشارع قد راعى المصالح باتفاق العلماء، فلا بد في الاعتداد بمثل هذا الشرط.
تلك هي شروط المجتهد بإجمال وتركيز، والذي يبدو من خلال ما عرضه العلماء، من شروط في المفتي، ومن يقوم بالتخريج، أن هذه الشروط لابد من أن تتحقق فيهم، ولكن بدرجة أقل. ومع ذلك فإن هناك طائفة من الشروط المختصة بهم، نذكر منها ما يأتي:
1 -
أن يكون عالماً بالفقه، أي الفروع الثابتة في المذهب؛ لأنها من مصادره الأساسية في الاجتهاد، بخلاف المجتهد المطلق الذي لا يشترط له ذلك.
2 -
أن يكون تام الارتياض في التخريج والاستنباط، بأن يكون قادراً على إلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه، بأصوله.
3 -
أن يكون ملتزماً بأصول إمامه وقواعده، ولا يتجاوزها، عند التخريج والاستنباط (3).
4 -
أن يكون بالإضافة إلى ذلك، متمكناً من الفرق والجمع، والنظر والمناظرة، فيما تقدم (4). ونظراً إلى أن الصفات العامة للمجتهد موجودة
(1) 4/ 105، 106.
(2)
إرشاد الفحول ص 258.
(3)
أدب المفتي والمستفتي ص 95، والمجموع 1/ 43، وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 18، والرد على من أخلد إلى الأرض ص 114، 115.
(4)
الإحكام للآمدي 4/ 236.
في مجتهد المذهب، أو المخرج، بدرجة اقل من المجتهد المطلق، وأن من شروطه التزامه بقواعد وفقه إمامه، فإننا نجد أن ابن الصلاح قال عنه إنه لا يعري عن ثوب التقليد، وذلك لطائفة من الأسباب، منها:
1 -
إخلاله ببعض العلوم والأدوات المعتبرة في المجتهد المستقل، مثل أن يخل بعلم الحديث، أو بعلم العربية. ولعله يقصد عدم التبحر في ذلك، وإلا فإنه لا يكون أهلاً للتخريج، إن لم يعرف اللغة أو الحديث.
2 -
إنه يتلقى حكم الإمام المدلل عليه، ويكتفي بدليل الإمام، دون أن يبحث عن ذلك. وهل لهذا الدليل من معارض أو لا؟
3 -
إنه لا يستوفي شروط النظر بصفة تامة، كما هو الشأن في المجتهد المستقل (1).
إن صفات هؤلاء العلماء التي ذكرها ابن الصلاح، جعلت بعض العملاء يترددون في عدهم من المجتهدين، وإننا نجد أن بعض الأصوليين كأبي الحسين البصري وآخرين، منعوا إفتاء مثل هذا بمذهب غيره من المجتهدين، بحجة أنه يسأل عما عنده، وهذا يجيب عما عند غيره (وأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي، وهو مخالف للإجماع)(2).
لكن طائفة من العلماء تخالف هذا الرأي. وقد أجاب ابن برهان عن اعتراض بهذا الشأن، مفاده أن المخرجين على هذا المذهب مجتهدون أو لا؟ (فإن كانوا مجتهدين، فلا يجوز لهم متابعة أحد، وإن كانوا مقلدين فما يؤمننا
(1) أدب المفتي والمستفتي ص 96 وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 19، وقد ذكر ابن الصلاح في أدب المفتي، وتابعه ابن حمدان في صفة الفتوى: أن مثل هذا المجتهد المقيد، قد يستقل بالاجتهاد والفتوى في مسألة خاصة، أو باب خاص. (انظر المصدرين السابقين، وانظر الرد على من أخلد إلى الأرض ص 115).
(2)
المعتمد في أصول الفقه 2/ 932 والإحكام للآمدي 4/ 236.
أن يكونوا غالطين؟) فقال: (لا نحتاج في حقهم إلى بيان رتبة الاجتهاد، بل يقال: إذا أحاطوا بأصول صاحب المقالة، كانوا منه بمنزلة صاحب المقالة بالإضافة إلى الرسول، فكأنهم من أهل الاجتهاد في الدين، لأنهم أحاطوا بقواعده، وهم من أهل الاجتهاد في المذهب، لإحاطتهم بأقوال صاحب المذهب)(1) وقد علل المحقق التفتازاني (ت 792هـ)(2) عدهم من المجتهدين في المذهب، بسبب اطلاعهم على المآخذ وأهليتهم للنظر، وما لهم من ملكة الاقتدار على استنباط الفروع من الأصول التي مهدها الإمام، بمنزلة المجتهد في الشرع، حيث يستنبط الأحكام من أصوله (3).
(1) الوصول إلى الأصول 2/ 357و 358.
(2)
هو: مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني الملقب بسعد الدين، ولد بتفتازان من بلاد فارس، وأقام بسرخس، وأبعده تيمورلنك إلى سمرقند وقد كان إماماً في علوم كثيرة، حتى ذاع صيته وانتفع الناس بمؤلفاته. وكانت في لسانه لكنة، ويذكر أنه لم يظهر عليه في مراحله الأولى نبوغ، ولكنه برز بعد ذلك في حلقة أستاذه العضد، وقد توفي في سمرقند سنة 792هـ. ألف في علوم متنوعة وشرح كتباً كثيرة.
من مؤلفاته: تهذيب المنطق، وشرح العقائد النسفية، والتلويح إلى كشف غوامض التنقيح في أصول الفقه، وحاشيته على مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وشرح الأربعين النووية، وشرح الشمسية، وحاشية الكشاف، عدا ما ألفه في البلاغة والصرف والنحو وسواها.
راجع في ترجمته: مفتاح السعادة 1/ 185 - 187، الدرر الكامنة 6/ 112، شذرات الذهب 6/ 321، كشف الظنون 1/ 496، هدية العارفين 2/ 429 - 430، والأعلام 7/ 219، ومعجم المؤلفين 12/ 228.
(3)
حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/ 308و 309.