الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه وسلم، حتى عصر الشيخ محمد رشيد؛ إذ لم يوجد فضلا عن أن ينقل خلاف في تحريم ربا النسيئة ولا سيما ربا النسيئة في الأثمان - القرض لأجل بفائدة.
4 -
تمييز الشيخ محمد رشيد بين الصور الخاصة من الربا التي قصر عليها التحريم بأنها منهي عنها لذاتها، وصور ربا النسيئة الأخرى بأنها منهي عنها لغيرها؛ أي لكونها ذريعة إلى الصورة الأولى تمييز تحكمي لا دليل عليه.
5 -
يكفي في وضوح أن الافتراض الذي أسست عليه المحاولة هو تصور وهمي لا حقيقة له معرفة أن هذا الافتراض يقضي بأن الإسلام يجيز عددا من صور ربا النسيئة التي استقر في الضمير الإنساني كراهيتها، واعتبارها سلوكا غير أخلاقي، بل إن التشريعات العلمانية تحرمها وتجرمها وتعاقب عليها.
ثانيا: محاولة الدكتور معروف الدواليبي:
في أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس عام 1951، قدم الدكتور معروف الدواليبي محاولة لإباحة الفوائد البنكية وشبهها، وملخص هذه المحاولة: افتراض أن الربا المحرم إنما يكون في القروض التي يقصد بها إلى الاستهلاك، لا إلى الإنتاج؛ ففي هذه المنطقة منطقة الاستهلاك يستغل المرابون حاجة المعوزين والفقراء، ويرهقونهم بما يفرضون عليهم من ربا فاحش، أما اليوم وقد انتشرت الشركات، وأصبحت القروض أكثرها قروض إنتاج لا استهلاك فإن من الواجب النظر فيما يقتضيه هذا التطور في الواقع، من تطور في الأحكام، ويتضح ذلك بوجه خاص عندما تقترض الشركات الكبيرة والحكومات من صغار المدخرين؛ فإن الآلة تنعكس والوضع ينقلب، ويصبح المقترض -أي الشركات والحكومات- هو الجانب القوي المستغل، ويصبح المقرض -أي صغار المدخرين- هو الجانب الضعيف الذي تجب حمايته، فيجب إذن أن يكون لقروض الإنتاج حكمها في الفقه الإسلامي، ويجب أن يتمشى هذا الحكم مع طبيعة هذه القروض، وهي طبيعة تغاير مغايرة تامة طبيعة قروض
الاستهلاك، والحل الصحيح أن تباح قروض الإنتاج بقيود وفائدة معقولة، ويمكن أن تخرج إباحة مثل هذه القروض على قاعدة أن الضرورات تبيح المحرمات، أو قاعدة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما لو تدرع العدو بمسلم، فلا بد من قتل المسلم حتى يمكن الوصول إلى العدو.
ويرد الدكتور السنهوري هذه المحاولة بأنه: أولا: يصعب كثيرا من الناحية العملية التمييز بين قروض الإنتاج وقروض الاستهلاك، حتى تباح الفائدة المعقولة في الأولى وتحرم إطلاقا في الثانية، وقد يكون واضحا في بعض الحالات أن القروض قروض إنتاج، كما هو في العقود التي تعقدها الحكومات والشركات كمقترض، ولكن هناك صورا أخرى من الإقراض أكثرها وقوعا القروض التي يعقدها الأفراد مع المصارف والمنظمات المالية، فهل هي قروض إنتاج تباح فيها الفائدة، أو هي قروض استهلاك لا تجوز فيها؟ وهل نستطيع التمييز في كل حالة على حدة؛ فنبيح هنا ونحرم هناك؟ ظاهر أن هذا التمييز متعذر، فلا بد إذن من أحد أمرين: إما أن تباح الفائدة في جميع القروض، وإما أن تحرم في جميعها، وإذا افترضنا جدلا أنه يمكن تمييز قروض الإنتاج عن قروض الاستهلاك فإن تخريج جواز الفائدة في هذه القروض على قاعدة أن الضرورة تبيح المحظور لا يستقيم؛ فالضرورة في هذه القاعدة بالمعنى الشرعي ليست قائمة، وإنما قد تقوم الحاجة، ويجب التمييز في الحكم بين الأمرين الضرورة والحاجة.
ويضاف إلى رد الدكتور السنهوري ما يأتي.
ا - أن المحاولة تقيد مطلق لفظ الربا الوارد في النصوص، وتقييد المطلق يجب أن يتم وفق القواعد الأصولية المعروفة؛ فيجب أن يستند إلى دليل ثابت، ولم تقدم المحاولة دليلا ثابتا ولا غير ثابت، وتقييد مطلق النص بمجرد الرأي والذوق محض تحكم.
2 -
أن تقييد مطلق اللفظ على النحو الذي ذهبت إليه المحاولة مخالفة لإجماع الأمة من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وقت المحاولة.
3 -
أن المحاولة مبنية على افتراض أن الحكمة من تحريم الربا منع استغلال الفقير، وأن هذه الحكمة منتفية في قروض الإنتاج، فينبغي أن ينتفي التحريم. إن هذا الافتراض مبني على تصور مخالف للقاعدة الأصولية؛ فأين الدليل على أن ما ذكر هو كل الحكمة من تحريم الربا؟ ولو فرضنا أن هذا هو كل الحكمة من تحريم الربا فإن القاعدة الأصولية أن الأحكام تدور مع العلة لا مع الحكمة؛ فمثلا الحكمة من قصر الصلاة في السفر -كما قيل- منع المشقة عن المصلي، ولكن وجود هذا الأمر في غير حالات السفر لا يبيح القصر، فلا يجوز للمريض قصر الصلاة، ولو كان إتمامها يشق عليه أكثر من المسافر، ويباح قصر الصلاة للمسافر، ولو انتفت المشقة كما في حالة المترفه في سفره.
إن القول بأن الحكمة من تحريم الربا منع استغلال الفقير، فإذا انتفى الاستغلال جاز الربا، هو تماما مثل أن يقول قائل: إن الحكمة من تحريم الزنا هو حفظ النسب، فإذا انتفى ضياع النسب بالزنا كما في حالة التعقيم انتفى التحريم.
4 -
أن هذا السبب المزعوم لتحريم الربا، وهو منع استغلال حاجة الفقير لا يدور وجودا وعدما مع كون القرض الربوي قرض إنتاج أو استهلاك، فاستغلال الحاجة منتف في بعض القروض الاستهلاكية، كما في اقتراض الثري لشراء يخت للنزهة مثلا، وهو هنا قرض مستهلك، واستغلال الحاجة موجود في بعض القروض الإنتاجية حالة اقتراض الحرفي الفقير لشراء ورشة يستغلها لكسب عيشه، وهو هنا قرض إنتاج.
5 -
لو سلم جدلا بأن الحكمة هي مناط الحكم، فمن قال أن كل الحكمة في تحريم الربا هي منع استغلال المقرض لحاجة المقترض؛ أي منع الأثر الضار في جانب المقترض؟ ألا يمكن أن يكون من الحكمة منع الأثر الضار للربا على المقرض؟ إن الآية الكريمة -في الواقع- أشارت إلى هذا الضرر بالنص على أن المقرض الذي يأكل الربا يقوم كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس، ويتعرض للمحق؛ فلا يربو قرضه عند الله، وذلك في مقابل الإشارة إلى أن المتصدق ينمو ماله، ويطهر وتتزكى نفسه، فلو انتفى الأثر الضار للربا على المقترض جدلا لبقي الأثر الضار للربا على المقرض.
ثم ما الذي يبرر أن نغفل عن الحكمة في تحريم الربا منع الأثر الضار على المجتمع، وقد أفاضت الكتابات قديما وحديثا في بيان الآثار السلبية للربا على المجتمع، سواء كانت هذه الآثار نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
6 -
لو افترض أن الحكمة من تحريم الربا هي منع استغلال حاجة المحتاج إلى المال، وافترض ارتفاع هذه المفسدة في حالة معينة فإن القول بحل الربا في هذه الحالات يكون مماثلا تماما لقول القائل: إن الحكمة من تحريم الزنا منع اختلاط الأنساب، فإذا ارتفعت هذه المفسدة في حالة معينة، كحالة استعمال منع الحمل، أو كون الرجل عقيما، أو المرأة عاقرا صار الزنا حلالا في هذه الحالات.
7 -
لقد افترضت المحاولة أن الحكمة من منع الربا هي حماية المقترض؛ لأنه الجانب الضعيف المحتاج للحماية، في حين أن المقترض في هذا العصر بنوك وحكومات هو الجانب القوي، أما المقرض فهم صغار المدخرين، فهم الجانب الضعيف المحتاج للحماية، لقد ركزت المحاولة على عملية القرض حينما يكون البنك مقترضا؛ أي متلقيا للودائع، وغفلت عن أن البنك سوف يعود، ولا يزال هو الجانب القوي، فيكون مقرضا، والمقرضون بالنسبة إليه جانب ضعيف، يستغل البنك حاجتهم للقرض، ولولا الحاجة ما اقترضوا.
8 -
إن الحكمة المزعومة وصف غير منضبط، تعتمد في الغالب على النية الباطنة، يتضح هذا بمثال من يقترض لشراء سيارة؛ فقد يشتريها لغرض توصيل أولاده للمدرسة، أو لغرض استعمالها لمتطلبات مؤسسة تجارية، أو لاستخدامها للتأجير، فمتى يعتبر القرض قرض إنتاج لا تتوفر فيه حكمة
المنع أو قرض استهلاك تتوفر فيه؟
والأحكام التشريعية لا تبني على الأوصاف غير المنضبطة، وإنما قد تبني عليها الأحكام الخلقية، وهكذا فلا يمكن تصور قانون يصدر معتمدا في بناء أحكامه على مجرد الحكمة بما هي وصف غير منضبط، والإسلام ليس فقط عقيدة أو أحكاما متعلقة بالضمير، وإنما هو شريعة وقانون، وهذا هو السبب في أن القاعدة الأصولية اعتبرت العلة مناطا للحكم، ولم تعتبر الحكمة، والعلة في فقه القواعد الأصولية وصف منضبط.
9 -
إن كل ما تقدم يفسر أن المفهوم الشائع والمعروف للربا عند جميع الشعوب وفي مختلف العصور لم يعرف مثل هذه التفرقة التي أسست عليها المحاولة، وغرابة الفكرة كافية لعدم الانخداع بالبريق الشكلي لها.
لقد كنت أظن أن الدكتور معروف الدواليبي بعد أن اطلع على نقد الناقدين لمحاولته وتبينه عدم صحة الأساس الذي بنيت عليه قد تخلى عنها، ويبدو أن هذا قد حصل فعلا، ولكن بطريقة غريبة؛ إذ يبدو أنه بعد اطلاعه على مصادر الحق للدكتور السنهوري حاول أن يرقع محاولته بالأخذ بالمحاولات الأخرى التي شرحها كتاب مصادر الحق. إن هذا ما يظهر من بحث د. الدواليبي المنشور والمتداول بعنوان " حول موقف الشريعة من المصارف "الأحكام والقواعد العامة الشرعية ".
فقد استند إلى محاولة الشيخ محمد رشيد رضا المنوه عنها آنفا بادعاء أن الربا المحرم هو الربا الذي يعقد بعد حلول دين سابق؛ لتأجيل هذا الدين بعد حلوله، وقد سمى د. معروف هذا الربا ب "الربا القرآني! ".
كما أخذ بالفكرة التي بنيت عليها محاولة الدكتور السنهوري التي سيأتي الكلام عنها لاحقا، وذلك بادعاء أن الربا الذي يسميه "الربا القرآني " هو المحرم تحريم الغايات، وأن ما عداه من أنواع الربا محرم تحريم وسائل؛ لقد صنع د. معروف مثل ما يصنع الطبيب الذي لا يتبين له عند الكشف على مريضه طبيعة المرض، وإنما تقوم لديه احتمالات ثلاثة مثلا فيصرف لمريضه ثلاثة أدوية