الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يزن، وهو يومئذ مشرك، اشتراها بخمسين دينارا، فقال رسول الله: إنا لا نقبل من مشرك، ولكن إذ بعثت بها فنحن نأخذها بالثمن، بكم أخذتها؟ قال: بخمسين دينارا، قال: فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس على المنبر للجمعة، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكسا الحلة أسامة بن زيد (1)».
(1) طبقات ابن سعد 4: 65.
مواقفه الحربية:
لما كان أسامة، على الأرجح، عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، يبلغ من العمر ثمانية عشر عاما- فإننا ندرك من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجازة شباب الصحابة للحرب، حيث كان يمتحنهم، ولا يأذن لمن لم يبلغ الحلم منهم، أن أسامة لم يجز قبل الرابعة عشرة من عمره على أي حال، وهي السن التي زوجه فيه النبي الكريم لما بلغ.
وعلى هذا نستنتج أنه لم يشارك في الجهاد قبل السنة السادسة من الهجرة، ومع هذا لم يتضح لنا تحديد عن الغزوات التي شارك فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن نجابته قد برزت في وقت مبكر، وفراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ودعواته له- قد أحلاه في مقتبل العمر مكانا بارزا، ومنزلة مرموقة، فقد كان مع والده عام 8 هـ في غزوة مؤتة في بلاد الشام؛ حيث روى ابن سعد، عن ابن أبي حازم «أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن الراية صارت إلى خالد بن الوليد، بعد قتل القواد الثلاثة، قال صلى الله عليه وسلم: فهلا إلى رجل قتل أبوه، يعني أسامة بن زيد (1)» ورأى بعضهم أن أول ما جر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال، أن بعثه على جيش - لم يحدد ابن سعد جهته، ولا اسم المعركة - فلقي فقاتل فذكر منه بأس، مما يدل على شجاعة وحماسة، قال أسامة: «فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أتاه البشير بالفتح، فإذا هو متهلهل وجهه، فأدناني منه، ثم قال: حدثني.
(1) طبقات ابن سعد 4: 62.
فجعلت أحدثه، فقلت: فلما انهزم القوم، أدركت رجلا وأهويت إليه بالرمح، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فقتلته، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ويحك يا أسامة! فكيف لك بلا إله إلا الله، فما زال يكررها علي، حتى لوددت أني انسلخت من كل عمل عملته، واستقبلت الإسلام يومئذ جديدا، فلا والله، لا أقاتل أحدا قال: لا إله إلا الله بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)». وقد جاء، في دائرة المعارف الإسلامية، أنه أعيد قبل وقعة أحد لصغر سنه، وأنه قاتل بشجاعة في وقعة حنين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى له معاشا بعد وقعة خيبر (2).
«ولما كان الجيش، الذي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمارته إلى أسامة بن زيد، لم يغادر المدينة، حتى تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة. فقال له أبو بكر: ما الذي عهد إليك رسول الله؟ قال: عهد إلي أن أغير على أبنى صباحا ثم أحرق (3)» ، وقد جاء في دائرة المعارف أن هذه المدينة تعرف الآن بخان الزيت (4).
قال ابن سعد: فبعثه أبو بكر إلى آبل، واستأذن لعمر أن يتركه عنده، ثم أمره أبو بكر أن يجزر في القوم، قال هشام بن عروة: " فأمره أبو بكر أن يجزر في القوم، بقطع الأيدي والأرجل والأوساط في القتال؛ حتى يفزع القوم، قال: فمضى حتى أغار عليهم، ثم أمرهم أن يفطموا الجراحة حتى يرهبوهم، قال ثم رجعوا، وقد سلموا وقد غنموا. قال: فساروا، فلما دنوا من الشام - أصابتهم ضبابة شديدة، فسترهم الله بها حتى أغاروا وأصابوا حاجتهم، قال: فقدم بنعي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هرقل، وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبرا واحدا، فقالت الروم: ما بال هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا، قال عروة: فما رئي جيش كان أسلم من الجيش (5).
(1) طبقات ابن سعد 4: 69.
(2)
دائرة المعارف الإسلامية 3: 229.
(3)
طبقات ابن سعد 4: 66.
(4)
دائرة المعارف الإسلامية 3: 229.
(5)
طبقات ابن سعد 4: 68.
ذلك أن عزم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقوته في الحق، وثباته على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى لجيش أسامة أثرا، بعد توفيق الله جل وعلا، حيث كانت من الآراء التي أشير بها على أبي بكر، بعدما وقع ردة من العرب، عدم تنفيذ جيش أسامة؛ لاحتياجه إليه فيما هو أهم، فامتنع أبو بكر رضي الله عنه أشد الإباء، وأصر على أن ينفذ جيش أسامة، وقال:«والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين» ، إلى آخر ما قال "، فكان خروج جيش أسامة في ذلك الوقت من أكبر المصالح، والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب، إلا أرعبوا منهم، وقالوا: " ما خرج هؤلاء من قوم، إلا وبهم منعة شديدة "، فقاموا أربعين يوما، ويقال سبعين يوما، ثم أتوا سالمين غانمين، ثم رجعوا، فجهزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال أهل الردة، ومانعي الزكاة (1).
ذلك أنهم بعدما لقوا الروم، وهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين، كان ذلك من أسباب ثبات بعض القبائل على الإسلام (2).
وفي اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعث أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى الشام، وشدة اهتمام أبي بكر الصديق بذلك في أول خلافته، استفاض ابن عساكر في تاريخه في ذلك؛ فقد أخرج من طريق الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغير على أبنى، -بضم الهمزة والقصر-، اسم موضع في فلسطين بين عسقلان والرملة، يقال لها يبنى بالياء، صباحا وأن يحرق، ثم قال رسول الله لأسامة: امض على اسم الله، فخرج بلوائه معقودا، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، فخرج به إلى بيت أسامة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فعسكر بالجرف، وضرب عسكره في موضع سقاية سليمان اليوم، وجعل الناس يأخذون بالخروج، فيخرج من فرغ من حاجته إلى معسكره، ومن لم يقض حاجته فهو على فراغ، ولم يبق أحد من المهاجرين
(1) البداية والنهاية 6: 304.
(2)
البداية والنهاية 6: 305.
الأولين، إلا انتدب في تلك الغزوة: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في رجال من المهاجرين، والأنصار عدة؛ منهم: قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش رضي الله عنهم، فقال رجال من المهاجرين، وكان أشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين، فكثرت القالة في ذلك، فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك القول، فرده على من تكلم به، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقول من قال، فغضب رسول الله غضبا شديدا، وقد عصب على رأسه بعصابة وعليه قطيفة، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة بن زيد؟ فوالله، لئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وايم الله، إن كان للإمارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة، وإن كان لأحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، وجاء المسلمون الذين سيخرجون مع أسامة رضي الله عنه، يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنفذوا بعث أسامة، ودخلت أم أيمن رضي الله عنه فقالت: أي رسول الله، لو تركت أسامة يقيم في معسكره، حتى تماثل، فإن أسامة إن خرج على حاله هذه- لم ينتفع بنفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذوا بعث أسامة.
فمضى الناس إلى المعسكر، فباتوا ليلة الأحد، ونزل أسامة يوم الأحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل مغمور، وهو اليوم الذي لدوه فيه، واللدود ما يسقاه
المريض من الأدوية، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تهملان، وعنده العباس، والنساء حوله، فطأطأ عليه أسامة فقبله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء، ويصبهما على أسامة، قال أسامة رضي الله عنه: فأعرف أنه كان يدعو لي، قال أسامة: فرجعت إلى معسكري، فلما أصبح يوم الإثنين غدا من معسكره، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا، فجاءه أسامة، فقال: اغد على بركة الله، فودعه أسامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفيق، وجعل نساؤه يتماشطن سرورا براحته، ودخل أبو بكر رضي الله عنه فقال: " يا رسول الله أصبحت مفيقا بحمد الله، واليوم يوم ابنة خارجة، فأذن لي، فأذن له فذهب إلى السنح، وركب أسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق بالعسكر، فانتهى إلى معسكره، ونزل وأمر الناس بالرحيل، وقد متع النهار؛ أي طال وامتد وتعالى، فبينا أسامة يريد أن يركب من الجرف - أتاه رسول أم أيمن رضي الله عنها، تخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت.
فأقبل أسامة إلى المدينة، ومعه عمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يموت، فتوفي عليه الصلاة والسلام حين زاغت الشمس يوم الإثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول»، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب رضي الله عنه بلواء أسامة معقودا، حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده، فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة، ولا يحله أبدا، حتى يغزو بهم أسامة، فقال بريدة:" فخرجت باللواء، حتى انتهيت إلى بيت أسامة، ثم خرجت به إلى الشام معقودا مع أسامة، ثم رجعت به إلى بيت أسامة، فما زال معقودا في بيته حتى توفي ".
فلما بلغ العرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد منها عن الإسلام، قال أبو بكر لأسامة: انفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول لله صلى الله عليه وسلم، وأخذ الناس بالخروج، وعسكروا في موضعهم الأول، وخرج بريدة باللواء، حتى انتهى إلى معسكرهم الأول، فشق ذلك على كبار المهاجرين الأولين، ودخل
على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد رضي الله عنهم، فقالوا: يا خليفة رسول الله، إن العرب قد انتفضت عليك من كل جانب، وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئا، اجعلهم عدة لأهل الردة، ترمي بهم في نحورهم، وأخرى لا تأمن على أهل المدينة، أن يغار عليها، وفيها الذراري والنساء، ولو تأخرت لغزو الروم، حتى يضرب الإسلام بجرانه، ويعود أهل الردة إلى ما خرجوا منه، أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذ، فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا. فلما استوعب أبو بكر كلامهم، قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئا؟ قالوا: لا، قد سمعت مقالتنا، فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة، لأنفذت هذا البعث، ولا بد أن يئوب منه، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي من السماء، يقول: أنفذوا جيش أسامة، ولكن خصلة أكلم فيها أسامة، أكلمه في عمر يقيم عندنا، فإنه لا غنى بنا عنه، والله ما أدري يفعل أسامة أم لا؟ والله إن أبى لأكرهه.
فعرف القوم أن أبا بكر عزم على إنفاذ بعث أسامة، ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته، وكلمه في أن يترك عمر، ففعل، وجعل يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أسامة: نعم، قال: فخرج وأمر مناديه ينادي عزمة مني أن لا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لن أوتى بأحد أبطأ عن الخروج عنه، إلا ألحقته به ماشيا، وأرسل إلى النفر من المهاجرين الذين كانوا تكلموا في إمارة أسامة، فغلظ عليهم وأخذهم بالخروج، فلم يتخلف إنسان واحد، وخرج أبو بكر يشيع أسامة والمسلمين، فلما ركب من الجرف في أصحابه، وهم ثلاثة آلاف رجل، وفيهم ألف فرس، فسار أبو بكر إلى جنب أسامة ساعة، ثم قال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاك، فانفذ لأمر رسول الله، فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه، إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله.
فخرج سريعا، فوطئ بلادا هادئة، لم يرجعوا عن الإسلام مثل جهينة. وغيرها من قضاعة، فلما نزل بوادي القرى، قدم عينا له من بني عذرة يدعى
حرثيا، فخرج على صدر راحلته أمامه، فغزى حتى أتى أبنى، فنظر إلى ما هناك وارتاد الطريق، ثم رجع سريعا حتى لقي أسامة على مسيرة ليلتين من أبنى، فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم، وأمره أن يسرع السير، قبل أن تجتمع الجموع، وأن يشنها غارة (1).
وفي هذه الغزوة التي سرد ابن عساكر بعض وقائعها، يقول ابن كثير في تاريخه: فأغار أسامة على تلك البلاد، وغنم وسبى، وكر راجعا سالما مؤيدا (2).
وذكر الكاندهلوي أن جيش أسامة، لما خرج لوجهه الذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلى بلاء حسنا، ولقي من الروم مقاومة شديدة، ولكن الله سلمه، وغنم هو وجيشه وردهم الله إلى المدينة صالحين (3).
وكانت هذه المعركة التي قادها أسامة، بإمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات دروس عديدة أفادت الإسلام في عاجل أمره نصرا وتثبيتا، وقوة وتمكينا في النفوس، وفي آجل أمره بما يستفيده القادة العسكريون والإداريون، من مصالح تبرز أمامهم في كل موقف يعترضهم، وتتبدى نتائجه في كل معضلة يراد منها تفكيك القوة، ودس بذور التخاذل في الصفوف، وما أكثر الفوائد والمصالح التي يجب أن يستنار بها، والمماثلة لهذه البعثة، وما اكتنفها من أمور، حتى تقوى العزائم، وينضج الفكر المرشد للأمور المهمة، لما في الرأي الصائب من مصلحة نحو الإسلام، ومردود في تفهيم الناس لما تنطوي عليه تعاليمه، ودور الرجال المخلصين في توجيه الأمور بنظرتهم البعيدة الصادقة المخلصة. ومن صدق مع الله ألهمه الله الحكمة، وبصره بمواطن الزلل، فسار نحو الأصلح، وتجافى عن الأمور الضارة، وما التوفيق إلا من عند الله.
(1) تهذيب ابن عساكر 1: 120.
(2)
البداية والنهاية 5: 312.
(3)
حياة الصحابة 1: 413.
صفحة فارغة
القراءات القرآنية
وموقف المفسرين منها
بقلم: د. محمد علي حسن عبد الله
إن الحديث عن القراءات القرآنية متعدد الجوانب، عن معناها، وعن نشأتها وضوابطها وأثرها العقدي والفقهي، وأثرها في اللغة العربية، وفي كل ناحية من هذه النواحي كتب أكثر من بحث، وفيها أكثر من طاعن؛ فعن معناها ونشأتها كتب المستشرقون لينالوا من مكانة القراءات بل القرآن، وعن قبولها أكثر من رأي للمفسرين، بين قابل ومدافع، وبين مرجح ومفضل، وبين طاعن وناقد، وعن سند القراءات عند المحدثين بين تواتر وشذوذ، وعن ضوابطها ما بين مكثر ومقل عند علماء القراءات، وعن أثرها الفقهي خلاف طويل بين الفقهاء.
فالحديث عن موضوع القراءات ذو شجون وشجون، وقد أصابتني الحيرة في أيهما أبدأ: الرد على المستشرقين، أو على المفسرين، أو على اللغويين، ورأيت أن
جانبا واحدا كاف لتناوله بالدراسة والبحث، ولما كان عملي التدريس لعلوم التفسير في الدراسات العليا، ومن خلال استقرائي لكثير من كتب التفسير، لفت انتباهي مواقف علماء التفسير من القراءات، ما بين مدافع ومرجح وطاعن، وقد أسهم الطاعنون من المفسرين إسهاما كبيرا في تغذية المستشرقين في طعنهم بالدين، وأنهم وإن قالوا ما قالوا، عن حسن نية أو عن سوء قصد، إلا أن المستشرقين لم يكتبوا بأي حال، إلا عن سوء نية وقصد في الطعن في الدين. .
من أجل هذا، عقدت العزم على الكتابة في هذا الموضوع الذي لم ينل حظه من العناية والرعاية، بيد أن الكتابة في جميع جوانبه تحتاج إلى جهد لست ببالغه في هذا البحث، وأسأل الله أن يعين على التمام؛ لذا تناولت ما تعلق بموقف علماء التفسير من القراءات، تاركا الحديث عن نشأتها إلى ما كتبه الأستاذ الفاضل الدكتور إبراهيم خليفة، ناقدا للمستشرق الماكر جولد زيهر، الذي ألف كتابا بعنوان " المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن الكريم"، وقد خص فيه موضوع القراءات، وأتى بأقوال وأهوال في موضوع القراءات، ولم تنل من الرد الكافي عند العلماء، إلا حين انبرى للرد الدكتور المذكور في كتابه مناهج المفسرين، وأتى من الكلام بما لا يزاد عليه، وقد أحسن وأجاد في مذكراته عن القراءات القرآنية.
أما عن موضوع القراءات عند اللغويين- فقد طلع علينا كتاب قيم، للأستاذ الدكتور إبراهيم رفيده " النحو وكتب التفسير"، وبقي الحديث عن جوانب أخرى؛ منها الجانب الذي أكتب فيه هذا البحث.
خطتي في البحث:
كنت أطمح للكتابة في موضوع القراءات بين المفسرين وأهل اللغة والمستشرقين، ولكن رأيت أن مجال البحث سيطول؛ لذا اقتصرت على جانب واحد " القراءات القرآنية وموقف المفسرين منها "، وآمل أن أتعرض للجوانب الأخرى إن شاء الله.
هذا، وقد قسمت هذا الموضوع إلى فصلين وخاتمة.
أما الفصل الأول:
فهو القراءات القرآنية، وقسمته إلى ثلاثة مباحث:
الأول: معنى القراءات القرآنية.
الثاني: نشأتها.
الثالث: أركانها.
وقد اقتصرت على هذه المباحث الثلاثة، ولم أتعرض للقراء السبعة أو العشرة وحياتهم؛ إذ الحديث عنهم إطالة للبحث، عن غير فائدة.
أما الفصل الثاني:
فهو موقف المفسرين من القراءات القرآنية، وأعني بها القراءات المتواترة؛ إذ هي الجديرة بوصف القرآنية، أما القراءات الشاذة- فلها موضوع آخر نبحثه فيما بعد.
وقد وقع هذا الفصل في ثلاثة مباحث: الطاعنون في القراءات والمرجحون ثم المدافعون، وقد اقتصرت على ذكر أشهر المفسرين في كل مجال.