الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعدها من المشاهد، هم رجال الطبقة الثانية (1) هؤلاء الصفوة بطبقاتهم هم خير من بلغ الرسالة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتماما بالعمل، وتثبتا في النقل، وصدقا في العبارة، وترسما لخطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من كتاب الله، لم يتجاوزهن حتى يحفظهن ويعمل بهن؛ ولذا عقد العلماء بابا لأهمية العلم قبل القول والعمل (2).
(1) طبقات ابن سعد 4: 5.
(2)
انظر فتح الباري ج 1 ص 159.
وفاته:
في الحديث عن وفاة أسامة بن زيد، يحسن بنا أن نتعرض لما وصلنا عن صفاته، وعن أولاده وتاريخ الوفاة ومكانها، كما هي عادة المؤرخين العرب؛ لارتباط هذه الأشياء بحياة المتوفى ومكانته. فأما عن صفاته: فقد ذكر ابن الأثير أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما كان أسود أفطس (1)، ويعضد هذه الرواية ما ذكره ابن سعد رواية عن هشام بن عروة، عن أبيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الإفاضة من عرفة، من أجل أسامة بن زيد ينتظره، فجاء غلام أفطس أسود، فقال أهل اليمن: إنما جئنا من أجل هذا، قال: فلذلك كفر أهل اليمن من أجل ذا» . قال محمد بن سعد: قلت ليزيد بن هارون: ما يعني بقوله: كفر أهل اليمن من أجل هذا؟ قال: ردتهم حين ارتدوا في زمن أبي بكر، إنما كانت لاستخفافهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (2). ولضحكة. . . رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى وجه أسامة دلالة ومعنى، تفسرها تلك العبارة التي قالها لعائشة رضي الله عنها، فقد ذكر ابن سعد عن أبي السفر قال:«بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هو وعائشة، وأسامة عندهم، إذ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه أسامة فضحك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن أسامة جارية لحليتها وزينتها حتى أنفقها (3)» ، وجاء في البداية والنهاية من صفاته: أنه كان أسود كالليل، أفطس حلوا حسنا كبيرا فصيحا عالما ربانيا (4)، وكان له بطن، فكان يسميه بعضهم ذا البطن (5)، وقد روي عن
(1) أسد الغابة 1: 81.
(2)
الطبقات 4: 63.
(3)
الطبقات 4: 62.
(4)
البداية والنهاية 5: 312.
(5)
طبقات ابن سعد 4: 69.
ميمونة أنها رأت قريبا لها، وقد أرخى إزاره بطنه، فلامته في ذلك ملامة شديدة، فقال لها: إني قد رأيت أسامة بن زيد رخي إزاره، فقالت: كذبت، ولكن كان ذا بطن، فلعل إزاره كان يسترخي إلى أسفل بطنه (1).
وأسامة بن زيد الذي رفعه الله بالإسلام؛ فأنقذه الله ومن قبله والده من الرق، وأكرمهما بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما، واختصاصها ليكونا ممن يحوطهما بحنانه الأبوي، ويخصها بدعاء يرفع الله به منزلتهما في الآخرة، كما شوهد عيانا رفع منزلتهما في الدنيا، بالذكر الحسن والتوفيق في المهمات، وحسن الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله، وطواعيتهما الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان أسامة رضي الله عنه هو خير من أدرك هذه المكانة، وجميع صحابة رسول الله خيار، ويهتمون بكل عمل خير؛ فكان في تصرفاته متمثلا للشكر على ما تفضل الله به عليه، قدوة في التنفيذ، وحرصا على العمل، واهتماما بدلالة النص من مصدره الشرعي، وتواضعا في النفس، وتلمسا لمداخل الخير، وأداء لما فرض الله عليه: شرفا للصحبة الكريمة، ومحبة لله ولرسوله، وإخلاصا في العمل، وفي إمرته على الجيش في الشام كان مظفرا موفقا.
ذلك أن الصفات النبيلة والأخلاق الرفيعة قد وقرت في نفوسهم؛ أخذا من كتاب الله الذي كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت عائشة رضي الله عنها (2)؛ لأن امتثال القرآن، أمرا ونهيا، سجية له صلى الله عليه وسلم، وخلق تطبعت به نفسه، فترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جعله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل.
فكانت هذه الصفات النبوية والأخلاق الكريمة، قدوة لصحابته، يتحلون بها، ويهتمون باحتذائها وتلمس مداخلها لينتهجوها قدوة صالحة، وأسامة بن زيد واحد من أبناء مدرسة النبوة، بل هو من ألصق الصحابة بها، منذ التحق
(1) طبقات ابن سعد 4: 71.
(2)
انظر تفسير ابن كثير 4: 402.
والده زيد بن حارثة بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل بعثه صلى الله عليه وسلم، وإلى تسلسل مسيرة الحياة له ولابنه أسامة، فكانا ألصق برسول الله صلى الله عليه وسلم من الأبناء بآبائهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحنى عليهما من الأب على أبنائه المنحدرين من صلبه، ثبت في الصحيحين عن أنس، قال:«خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله إلا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، ولا لامست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)» ، ومن هنا كان كل فرد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا في الصدق ونبل الأخلاق؛ حيث مدحهم الله جل وعلا، في مواطن من كتابه الكريم، ونهى رسول الله عن النيل منهم، وأبان عن فضلهم ومكانتهم، وجاءت أحاديث في فضائلهم كاملة، وأحاديث مخصصة في فضائل أفراد منهم.
ومن فضائل الأفراد، وردت أحاديث في فضائل زيد بن حارثة، وابنه أسامة بن زيد رضي الله عنهما (2)، كما ذكر ابن كثير في تاريخه اهتمام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بأسامة، حتى أن عمر لا يلقاه إلا قال له:"السلام عليك أيها الأمير"(3)؛ حيث ذكر ابن سعد أنه يقول: ما كنت لأحيي أحدا بالإمارة غير أسامة بن زيد؛ لأن رسول الله قبض وهو أمير (4).
وأما أولاده فقد ذكر ابن الأثير أنه كان يكنى أبا محمد، وقيل أبو زيد، وقيل أبو يزيد، وقيل أبو خارجة، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبويه (5)، والكنية قد تكون من مسميات أولاده، ما عرفنا منهم وما لم نعرف، وقد تكون اختيارا لحق به، كما هي عادة العرب، ولكن الذي وصل إلينا علمه عن أولاده رضي الله عنه أن عددهم سبعة: خمسة أبناء وبنتان، والأبناء هم محمد وجبير وزيد وحسن وحسين، والبنتان عائشة وهند.
وقد ذكر ابن سعد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج أسامة لما بلغ، وهو ابن أربع
(1) انظر تفسير ابن كثير 4: 402.
(2)
راجع في فضائلهما جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير 9: 37 - 41.
(3)
البداية والنهاية 5: 312.
(4)
أسد الغابة 1: 71.
(5)
الطبقات 4: 67.
عشرة سنة، ثم ذكر من زوجاته ثمان (1)»، مما يدل على أنه قد رزق أولادا أكثر من ذلك، وأن بعضهم قد يكون توفي صغيرا، فلم يأت له ذكر، أو أن الرواة أغفلوا سيرته؛ حيث لوحظ أن سيرته رضي الله عنه، قد أسدل الستار على كثير منها، بعدما اختار لنفسه العزلة، ولم يرو إلا النزر اليسير منها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبار الجيش الذي بعثه صلى الله عليه وسلم بقيادة أسامة، وقد ورد عن محمد بن عمر: أن أولاد أسامة بن زيد من الرجال والنساء، في كل دهر، لم يبلغوا أكثر من عشرين إنسانا (2) وعن تاريخ وفاته ومكانها: جاءت بعض الاختلافات:
ذكر ابن سعد، عن محمد بن عمر:«أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض، وأسامة ابن عشرين سنة (3)» ، وعلى رأيه هذا الذي لم يعضده أحد يكون مولده عام 10 قبل الهجرة، وسنه عندما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون عاما، وهذا يخالف ما أجمع عليه بأن عمره ثمانية عشر عاما.
والزركلي في الأعلام يرى أنه: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رحل أسامة إلى وادي القرى فسكنه، ثم انتقل إلى دمشق في أيام معاوية، فسكن المزة، وعاد بعد ذلك إلى المدينة، فأقام إلى أن مات بالجرف، في آخر خلافة معاوية في عام (4)، وعن وادي القرى الذي أبان الزركلي أن أسامة سكنه، قال ياقوت في معجمه: هو واد بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، كثير القرى، وفتحها النبي صلى الله عليه وسلم عام سبع عنوة، ثم صولحوا على الجزية، قال أحمد بن جابر: في سنة سبع، لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر، توجه إلى وادي القرى، فدعا أهلها للإسلام، فامتنعوا عليه وقاتلوه، ففتحها عنوة، وغنم أموالها، وأصاب المسلمون منهم أثاثا ومتاعا، فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وترك النخل والأرض في أيدي
(1) راجع الطبقات 4: 72.
(2)
راجع الطبقات 4: 72.
(3)
الطبقات 4: 72.
(4)
الأعلام 1: 282.
اليهود وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر، فقيل إن عمر رضي الله عنه أجلى يهودها فيمن أجلى، فقسمها بين من قاتل عليها، وقيل إنه لم يجلهم؛ لأنها خارجة من الحجاز، وهي الآن مضافة إلى عمل المدينة، وكان فتحها في جمادى الآخرة سنة سبع (1).
وهذا يدل على أن وادي القرى بعيد عن المدينة، فيقدر اليوم بما يزيد عن 150 كم، وهو العلا وما حولها، وأن إقامة أسامة لم تكن مستمرة، وذلك أن الروايات عند ابن عساكر وابن سعد وابن الأثير وغيرهم، وعنهم أخذ الزركلي في الإعلام، قد اتفقت على أن وفاته كانت في الجرف قرب المدينة، وأنه نقل إلى المدينة حيث دفن رضي الله عنه.
وعن الجرف يقول ياقوت الحموي: الجرف، بالضم والسكون، موضع على ثلاثة أميال من المدينة، نحو الشام، به كانت أموال لعمر بن الخطاب، ولأهل المدينة، وفيه بئر جشم، وبئر جمل، قالوا سمي الجرف، فقال هذا جرف الأرض، وكان يسمى الأرض، وفيه قال كعب بن مالك:
إذا ما هبطنا العرض قال سراتنا
…
علام إذا لم تمنع العرض نزرع (2)
وعن وفاته، يذكر ابن الأثير في ترجمة حياته أنه رضي الله عنه توفي آخر أيام معاوية، سنة ثمان أو تسع أو خمسين، وقيل توفي سنة أربع وخمسين، قال أبو عمر: وهو عندي أصح، وحمل إلى المدينة، وقيل توفي بعد قتل عثمان بالجرف، وحمل إلى المدينة روى عنه أبو عثمان النهدي، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة وغيرهما (3).
ومعلوم أن عثمان رضي الله عنه ثالث الخلفاء الراشدين قد توفي عام 35 هـ، ولعل الخلاف في تاريخ الوفاة جاء من اعتزاله رضي الله عنه وتفرغه للعبادة، حيث كانت الفتنة التي عصفت بالمسلمين، ونتج عنها قتل عثمان، ثم ما وقر بأسماع الصحابة عن الفتن، والأمر بالبعد عنها، من أسباب
(1) معجم البلدان 5: 345.
(2)
معجم البلدان 2: 128.
(3)
أسد الغابة 1:81 لعل الصواب: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة