الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذا لما نظر عبد الله بن عمر يوما، وهو في المسجد إلى رجل يسحب ثيابه في ناحية من المسجد- قال: انظروا من هذا؟ فقال له إنسان: أما تعرف هذا يا أبا عبد الرحمن؟ هذا محمد بن أسامة بن زيد. قال: عبد الله بن دينار رحمه الله وهو راوي الخبر -: فطأطأ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رأسه، ثم قال: لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه (أخرجه البخاري)(1).
ولذا نرى كثيرا من كتب الحديث والسير تهتم بأخباره رضي الله عنه ومناقبه، كما اهتمت بأخبار ومناقب أبيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، الذي أنزل حكما شرعيا، اقترن باسمه وزواجه من زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنهما (2)، نسخ بموجبه ما كان سائدا عند العرب من اعتبار الولد بالتبني، أو بإلحاق النسب، قائما مقام النسب الحقيقي؛ حيث قطع الله هذه النسبة، وجاء هذا الحكم لئلا يبقى حرج على المؤمنين، في تزويج مطلقات الأدعياء.
(1) 7: 70، باب ذكر أسامة بن زيد رضي الله عنهما، .. في فضائل الصحابة.
(2)
انظر تفسير سورة الأحزاب الآية 37 عند ابن كثير رحمه الله 3: 490 - 492.
مولده ونشأته:
لم تذكر كثير من الكتب تحديدا ثابتا لولادة أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، لكن ابن سعد ذكر في طبقاته أنه كان يكنى بأبي محمد، وأمه أم أيمن، واسمها بركة حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته، وكان زيد بن حارثة - في رواية بعض أهل العلم - أول الناس إسلاما، ولم يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه بأم أيمن، وولدت له أسامة بمكة، ونشأ حتى أدرك، ولم يعرف إلا الإسلام لله تعالى، ولم يدر بغيره، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديد، وكان عنده كبعض أهله (1).
أما ابن الأثير فقد ذكر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: استعمله أميرا على بعث الشام، وكان عمره ثمان عشرة سنة (2)» ، وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أن ولادته
(1) طبقات ابن سعد 4: 61.
(2)
أسد الغابة 1: 80.
كانت في العام الرابع من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم (1)، بمكة، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهز هذا البعث الذي أسند إمرته إلى أسامة بن زيد، رضي الله عنهما، في المرض الذي توفي فيه، عليه الصلاة والسلام، وكان هذا في السنة العاشرة من الهجرة، فإنه يترجح لدينا أن ولادته رضي الله عنه كانت في السنة الثامنة قبل الهجرة، وليست في السنة السابعة، كما ذكر الزركلي عند مروره باسمه في تراجمه (2)؛ إذ يلزم من ذلك أن يكون عمره رضي الله عنه عندما أسندت إليه هذه الإمارة، في آخر شهر صفر من عام 10 هـ بعد حجة الوداع، كما ذكر ابن هشام في سيرته (3) سبعة عشر عاما، ولا تكون أيضا في الرابع من البعثة، كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية المشار إليه آنفا، فكانت نشأته في مكة؛ حيث عاش في بيت النبوة ثمان سنوات، ترعاه أمومة حانية هي الحضن الذي حنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مثل سن أسامة، فكان هذا موطن اعتزاز وشرف، ثم لما وعت أحاسيسه لما يدور من حوله، تأدب بأخلاق النبوة، توجيها وعناية وحنوا وعطفا، فكان يلقى من رسول الله أكثر مما يجد من أبيه الذي هو من صلبه حبا وشفقة، ثم هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بمصاحبة والديه الملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفتحت مواهبه على توجيهات ورعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأخذ من كل موقف درسا، ومن كل حادثة تمر عليه عبرة وعظة، فمن ذلك:
1 -
أنه عسكر بجيشه الذي أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف، وهو موضع قرب المدينة على ثلاثة أميال منها، به كانت أموال عمر رضي الله عنه، وهو الموضع الذي استعرض فيه أبو بكر رضي الله عنه القبائل، حتى مر ببني فزارة (4)؛ حتى تتام الناس إليه فخرجوا، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام والناس معه، لينظروا ما الله قاض في رسوله. . فلما توفي رسول الله،
(1) دائرة المعارف الإسلامية 3: 229.
(2)
الأعلام 1: 281.
(3)
السيرة النبوية لابن هشام 4: 253.
(4)
تاج العروس 6: 56.
واستخلف أبو بكر رضي الله عنه جاء إليه يستأذنه، فأذن له وقال: والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
لم يشهد مع علي رضي الله عنه من حروبه شيئا، وقال له: لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها، ولكنك قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إله إلا الله، وحكاية ذلك، كما ذكر ابن الأثير بسنده: «أن أسامة قال: أدركته، يعني كافرا، كان قتل في المسلمين في غزاة لهم، قال: أدركته أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السلاح- قال: أشهد أن لا إلا الله، فلم نبرح عنه حتى قتلناه.
فلما قدمنا على رسول الله أخبرناه خبره، فقال: يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله؟ فقلت: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا من القتل، فقال: من لك يا أسامة بلا إله إلا الله؟ فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها علي، حتى وددت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذ، فقلت: أعطي الله عهدا أن لا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله (1)». . فكان هذا تبريرا أوضحه لعلي رضي الله عنه؛ لكي لا يكود معه ولا ضده، حيث روي أنه ممن اعتزل ما حصل بين الصحابة بعد فتنة عثمان رضي الله عنه؛ ولذا قال لعلي رضي الله عنه في موقف آخر، ضمن رسالة شفوية بعث بها مولاه حرملة. فقال له: أقرئه السلام، وقل له: إنك لو كنت في شدق الأسد- لأحببت أن أدخل معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره (2).
3 -
ولما «أهم قريشا أمر المرأة المخزومية التي سرقت. فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالوا: ومن يجترئ عليه، إلا أسامة بن زيد حب رسول الله؟، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تشفع في حد من حدود الله؟.
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ابن سعد بسنده من حديث عائشة رضي الله
(1) أسد الغابة1: 80.
(2)
طبقات ابن سعد 4: 71.
عنها، فاختطب، فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (1)»، فكان هذا درسا، تأدب به أسامة رضي الله عنه، بعدم الشفاعة في حد من حدود الله، ولم يرو عنه شيء من ذلك بعد ذلك، بل توقف عن الشفاعة، وكان ابن سعد قد ذكر «أن أسامة كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء فيشفعه فيه، فأتاه مرة في حد، فقال: يا أسامة، لا تشفع في حد من حدود الله (2)» .
فما كان رضي الله عنه لينهى عن شيء ويأتيه، وهو الذي يدرك جيدا دلالة قول الله جل وعلا:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3)، كما أنه قد ذكر عائشة بالخير- عندما خاض الناس في حديث الإفك (4) 4 - كان بارا بوالدته رضي الله عنهما: أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرص على إجابة كل مطلب ترغبه منه، وفي عهد عثمان رضي الله عنه، بلغت النخلة ألف درهم، قال محمد بن سيرين: فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فنقرها، وأخرج جمارها فأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على ذلك، وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتنيه، ولا تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتها (5).
وهذه مكانة رفيعة في حسن الأدب مع الوالدين، والحرص على برهما؛ امتثالا لأمر الله جل وعلا، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في الحرص على الوفاء للوالدين بحقهما، والاهتمام ببرهما، وأداء ما يجب نحوهما؛ لأن رضاهما من رضا الله، وطاعتها بالمعروف من طاعة الله.
(1) طبقات ابن سعد 4: 70.
(2)
الطبقات 4: 69.
(3)
سورة الحشر الآية 7
(4)
دائرة المعارف الإسلامية 3: 229.
(5)
طبقات ابن سعد 4: 71.
5 -
كان يترسم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات، ويتأسى به في القربات، ويهتم بتطبيق توجيهاته في اعتزال الفتن إذا برز رأسها؛ مخافة الوقوع فيها؛ ولذا نراه رضي الله عنه في آخر أيامه يتنقل ما بين وادي القرى؛ لأن له به مالا، وبين الجرف حيث استوطن إلى أن قبضه الله إليه.
فقد روى أحد مواليه أنه كان يركب إلى مال له بوادي القرى، فيصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، فقال له: أتصوم في السفر وقد كبرت ورفعت؟ (1). قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: إن الأعمال تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس (2)» ؛ فكان يسمع ليطبق، ويعرف ليتأسى؛ حيث ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم، رحمهما الله، له 128 حديثا (3).
كان رده في كثير من المواقف يتصف بالأدب الرفيع الذي تلقاه من مدرسة النبوة، ويحرص على التواضع في أعماله؛ فقد روي عن عبيد الله بن عبد الله أنه قال: " رأيت أسامة بن زيد يصلي في مكان بارز بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعي مروان إلى جنازة ليصلي عليها، فصلى عليها ثم رجع، وأسامة يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مروان: إنما أردت أن يرى مكانك، فعل الله بك وفعل، وقال قولا قبيحا، ثم أدبر، فانصرف أسامة، وقال: يا مروان، إنك آذيتني، وإنك فاحش متفحش، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الله يبغض الفاحش المتفحش (4)» .
وما ذلك إلا أن الصفوة الأولى من هذه الأمة، حيث يعتبر أسامة بن زيد واحدا من رجالات الطبقة الثانية من المهاجرين والأنصار، حسب تقسيمات ابن سعد في طبقاته؛ لأنه اعتبر البدريين هم الطبقة الأولى، ومن لم يشهد بدرا، ولهم إسلام قديم، وهاجر عامتهم إلى أرض الحبشة، وشهدوا أحدا وما
(1) أي نحفت؛ لأنه قد روي عنه رضي الله عنه أنه كان ذا بطن.
(2)
سنن النسائي الصيام (2358)، سنن أبو داود الصوم (2436)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 205)، سنن الدارمي الصوم (1750).
(3)
الأعلام للزركلي1: 282.
(4)
أسد الغابة 1: 81.