الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
أن هذا الشرك قد يعظم حتى يؤول بصاحبه إلى الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، فصاحبه على خطر عظيم من أن يؤدي به الوقوع في الشرك الأصغر إلى الخروج من دين الإسلام.
3 -
أنه إذا صاحب العمل الصالح أبطل ثوابه، كما في الرياء وإرادة الإنسان الدنيا وحدها بعمله الصالح، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا:«أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (1)» رواه مسلم.
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2985)، سنن ابن ماجه الزهد (4202)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 301).
المبحث الثاني: أنواع الشرك الأصغر:
للشرك الأصغر أنواع كثيرة، أشهرها:
النوع الأول: الشرك الأصغر في العبادات القلبية:
ومن أمثلة هذا النوع: المثال الأول: الرياء: الرياء في اللغة: مشتق من الرؤية، وهي: النظر، يقال: رائيته، مراءات، ورياء، إذا أريته على خلاف ما أنا عليه. وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم.
فمن أراد وجه الله والرياء معا فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلا سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة.
والرياء له صور عديدة، منها:
1 -
الرياء بالعمل، كمراءاة المصلي بطول الركوع والسجود.
2 -
المراءاة بالقول، كسرد الأدلة إظهارا لغزارة العلم، ليقال: عالم.
3 -
المراءاة بالهيئة والزي، كإبقاء أثر السجود على الجبهة رياء ".
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعظم عقوبة فاعله، وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه.
، منها: حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه مرفوعا: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك
الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله- عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاء (1)»، وحديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الآخر، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس، إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر (2)» .
وحديث أبي هريرة في خبر الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وهم:«رجل قاتل في الجهاد حتى قتل، ليقال: جريء، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ليقال: عالم وقارئ، ورجل تصدق ليقال: جواد (3)» . راوه مسلم.
ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه،
(1) راوه أحمد 5/ 428، 429، والبغوي (4135) بإسناد حسن. وقال المنذري في الترغيب 1/ 82، 83: " رواه أحمد بإسناد جيد، وقد رواه الطبراني بإسناد جيد عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج، وقيل: إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع بن خديج فيه
(2)
رواه ابن أبي شيبة2/ 481، وابن خزيمة (937) بإسناد حسن
(3)
صحيح مسلم: الإمارة باب: من قاتل للرياء والسمعة (1905)، ورواه الترمذي (2383)، وابن خزيمة (2482)، وابن حبان (408) مطولا بإسناد صحيح
وهناك أمور تعين على البعد عنه، أهمها:
1 -
تقوية الإيمان في القلب، ليعظم رجاء العبد لربه؛ ويعرض عن من سواه، ولأن قوة الإيمان في القلب من أعظم الأسباب التي يعصم الله بها العبد من وساوس الشيطان، ومن الانقياد لشهوات النفس.
2 -
التزود من العلم الشرعي، وبالأخص علم العقيدة الإسلامية، ليكون ذلك حرزا له بإذن الله من فتن الشبهات، وليعرف عظمة ربه جل وعلا، وضعف المخلوقين وفقرهم، فيحمله ذلك كله على مقت الرياء واحتقاره والبعد عنه، وليعرف أيضا مداخل الشيطان ووساوسه، فيحذرها.
3 -
الإكثار من الالتجاء إلى الله تعالى ودعائه أنه يعيذه من شر نفسه ومن شرور الشيطان ووساوسه، وأن يرزقه الإخلاص فيما يأتي وما يذر، والإكثار من الأذكار الشرعية التي هي حصن من شرور النفس والشيطان.
4 -
تذكر العقوبات الأخروية العظيمة التي تحصل للمرائي، ومن أعظمها أنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
5 -
التفكر في حقارة المرائي وأنه من السفهاء ومن السفلة؛ لأنه يضيع ثواب عمله الذي هو سبب لفوزه بالجنة ونجاته من عذاب القبر وشدة القيامة وعذاب النار من أجل مدح الناس والحصول على
منزلة عند المخلوقين، فهو يبحث عن رضا المخلوق بمعصية الخالق، ولهذا سئل الإمام مالك رحمه الله من السفلة؟ قال:"من أكل بدينه".
6 -
الحرص على كل ما هو سبب في عدم الوقوع في الرياء، وذلك بالحرص على إخفاء العبادات المستحبة، وبمدافعة الرياء عندما يخطر بالقلب، وبالبعد عن مجالسة المداحين وأهل الرياء، ونحو ذلك.
وفي ختام الكلام على مسألة الرياء يحسن التنبيه إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يرمي مسلما آخر بالرياء، فإن الرياء من أعمال القلوب ولا يعلمه إلا علام الغيوب، واتهام المسلمين بالرياء هو من أعمال المنافقين.
والأصل في المسلم السلامة، وأنه إنما أراد وجه الله، وأيضا فإن المسلم يندب له في بعض المواضع أن يظهر عمله للناس، إذا أمن على نفسه من الرياء، كما إذا أراد أن يقتدى به في الخير، فليس كل من حرص على إظهار عمله للناس يعتبر مرائيا (1).
(1) ينظر: الرعاية ص 315 - 324، الإحياء 3/ 334 - 336، مختصر منهاج القاصدين ص 287
المثال الثاني: من أمثلة الشرك الأصغر في العبادات القلبية: إرادة الإنسان بعبادته الدنيا: المراد بهذا النوع: أن يعمل الإنسان العبادة المحضة ليحصل على مصلحة دنيوية مباشرة.
وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ينقسم من حيث الأصل إلى أقسام كثيرة، أهمها:
1 -
أن لا يريد بالعبادة إلا الدنيا وحدها، كمن يحج ليأخذ المال، وكمن يغزو من أجل الغنيمة وحدها، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الشهادة والوظيفة ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى، وهذا القسم محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وهو من الشرك الأصغر (1)، ويبطل العمل الذي يصاحبه.
ومن الأدلة على تحريم هذا القسم وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه:
أ- قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (2){أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3)[هود: 15، 16].
ب- حديث عمر رضي الله عنه مرفوعا: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (4)» . رواه البخاري ومسلم.
(1) وقد سبق عند ذكر حكم الرياء قول بعض العلماء: إن هذا النوع من الشرك الأكبر، ولعل الأقرب أنه من الأصغر
(2)
سورة هود الآية 15
(3)
سورة هود الآية 16
(4)
صحيح البخاري (1)، ومسلم (1907)
ج- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة (1)» . يعني ريحها.
2 -
أن يريد بالعبادة وجه الله والدنيا معا، كمن يحج لوجه الله وللتجارة، وكمن يقاتل ابتغاء وجه الله وللدنيا، وكمن يصوم لوجه الله وللعلاج، وكمن يتوضأ للصلاة وللتبرد، وكمن يطلب العلم لوجه الله وللوظيفة، فهذا الأقرب أنه مباح؛ لأن الوعيد إنما ورد في حق من طلب بالعبادة الدنيا وحدها، ولأن الله رتب على كثير من العبادات منافع دنيوية عاجلة، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2){وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3)[الطلاق:2، 3)، وكما في قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (4) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (5) {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (6) [نوح:10 - 12]، والنصوص في هذا
(1) رواه أحمد 2/ 338، وأبو داود (3664)، وابن حبان (78) بإسناد حسن إن شاء الله، رجاله رجال الصحيحين، وله شواهد بنحوه هو بها صحيح، وقد ذكرتها في رسالة النية في تخريج هذا الحديث تحت رقم (33)، وله شواهد أخرى كثيرة في تحريم طلب الدنيا بالعمل الصالح، ذكرتها في المرجع نفسه برقم (31، 32، 35، 42). وتفسير العرف بالريح هو من تفسير بعض رواة الحديث، وفي حديث عبد الله بن عمرو في صحيح البخاري (6914):((وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما))
(2)
سورة الطلاق الآية 2
(3)
سورة الطلاق الآية 3
(4)
سورة نوح الآية 10
(5)
سورة نوح الآية 11
(6)
سورة نوح الآية 12
المعنى كثيرة، فهذه النصوص تدل على جواز إرادة وجه الله وهذه المنافع الدنيوية معا بالعبادة.
لأن هذه المنافع الدنيوية
ذكرت على سبيل الترغيب في هذه العبادات.
وهذا القسم لا يبطل العلم الذي يصاحبه، ولكن أجر هذه العبادة ينقص منه بقدر ما خالط نيته الصالحة من إرادة الدنيا.
المثال الثالث من أمثلة الشرك الأصغر في الأعمال القلبية: الاعتماد على الأسباب:
السبب لغة: الحبل، ويطلق على" كل شيء يتوصل به إلى غيره" استعير من الحبل الذي يتوصل به إلى الماء.
وفي الاصطلاح هو: الأمور المحسوسة التي يفعلها الإنسان ليحصل له ما يريده من مطلوب، أو يندفع عنه ما يخشاه من مرهوب في الدنيا أو في الآخرة.
فمن الأسباب في أمور الدنيا: البيع والشراء أو العمل في وظيفة ليحصل على المال، ومنها: أن يطلب من سلطان أو غني مالا؛ لينفق منه على نفسه وعلى أولاده، ومنها: أن يستشفع بذي جاه عند السلطان ليسلم من عقوبة دنيوية، أو ليدفع عنه ظلما، أو لتحصل له منفعة دنيوية، كوظيفة أو مال أو غيرهما، ومنها: أن يذهب إلى طبيب ليعالجه من مرض، ونحو ذلك.
ومن الأسباب في أمور الآخرة: فعل العبادات رجاء ثواب الله تعالى والنجاة من عذابه (1).، ومنها: أن يطلب من غيره أن يدعو الله له بالفوز بالجنة والنجاة من النار، ونحو ذلك.
والذي ينبغي للمسلم في هذا الباب هو أن يستعمل الأسباب
(1) مجموع الفتاوى 8/ 175، 176
المشروعة التي ثبت نفعها بالشرع أو بالتجربة الصحيحة.
مع توكله على الله تعالى.
وأنه لا أثر له إلا مشيئة الله تعالى، إن شاء نفع بهذا السبب، وإن شاء أبطل أثره.
أما إن اعتمد الإنسان على السبب فقد وقع في الشرك، لكن إن اعتمد عليه اعتمادا كليا، مع اعتقاد أنه ينفعه من دون الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن اعتمد على السبب مع اعتقاده أن الله هو النافع الضار فقد وقع في الشرك الأصغر، فالمؤمن مأمور بفعل السبب مع التوكل على مسبب الأسباب جل وعلا.
وعليه فإن ترك الأسباب واعتقاد أن الشرع أمر بتركها، وأنها لا نفع فيها كذب على الشرع، ومخالفة لما أمر الله به وأجمع عليه أهل العلم، ومخالفة لمقتضى العقل، ولهذا قال بعض أهل العلم: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع (1).
ومن الشرك في الأسباب: أن يجعل ما ليس بسبب سببا، فإن اعتقد أن هذا السبب يستقل بالتأثير بدون مشيئة الله فهو شرك أكبر، كحال عباد الأصنام وعباد القبور الذين يعتقدون أنها تنفع وتضر استقلالا، وإن اعتقد أن الله جعله سببا، مع أن الله لم يجعله
(1) مجموع الفتاوى 8/ 169، وينظر آخر مدارج السالكين 3/ 521، وشرح الطحاوية: الدعاء ص 679
سببا فهو شرك أصغر؛ لأنه شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بالسببية مع أن الله لم يجعله سببا. .
المثال الرابع من أمثلة الشرك الأصغر في الأعمال القبلية: التطير: التطير لغة: مصدر (تطير)، ويسمى (الطيرة)، و (الطير) ينظر: الصحاح، والقاموس المحيط، والنهاية (مادة: طير)، إكمال المعلم 7/ 141، جامع الأصول 7/ 628. .
وفي الاصطلاح: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو غيرهما.
ومعنى ذلك أن يكون الإنسان قد عزم على أمر ما، فيرى أو يسمع أمرا لا يعجبه فيحمله ذلك على ترك ما يريد فعله، ويلحق به في الحكم: عكسه، بأن يرى أو يسمع أمرا يسر به، فيحمله على فعل أمر لم يكن عازما على فعله.
ومن أمثلة التطير: ما كان يفعله أهل الجاهلية من أن أحدهم إذا أراد سفرا زجر أو أثار طيرا، فإن اتجه ذات اليمين تفاءل، فعزم على السفر، وإن اتجه ذات الشمال تشاءم، وترك هذا السفر، وقد كثر استعمال أهل الجاهلية للطيور في هذا الأمر حتى قيل لكل من تشاءم (تطير)، ومن أمثلة التشاؤم أيضا: التشاؤم بسماع كلمة لا تعجبه كـ (يا هالك)، أو بملاقاة الأعور أو العجوز الشمطاء، أو برؤية الغراب، أو البوم، أو صاحب عاهة في أول سفره، أو في أول نهاره فيترك هذا السفر، أو يترك البيع والشراء في هذا اليوم، ومن أمثلته: التشاؤم ببعض الأشهر كصفر، والتشاؤم ببعض الأرقام كثلاثة عشر، كما يفعله كثير من أصحاب الفنادق والعمارات وغيرهم في هذا العصر، فتجد بعضهم لا يضع هذا الرقم في أدوار العمارة أو في المصعد أو في مقاعد الطائرات، ونحو ذلك تشاؤما.
والتطير محرم، وشرك أصغر. ومثله: الفعل الذي يقدم
عليه العبد أو يعزم عليه لرؤيته أو سماعه ما يسر به -كما سبق- ويستثنى منه الفأل الحسن، وهو: أن يكون الإنسان قد عزم على أمر معين فيرى أو يسمع أمرا حسنا من غير قصد له، فيسر به ويستبشر به، ويزيده ذلك اطمئنانا بأن ما كان قد عزم على فعله سيكون فيه خير وبركة بمشيئة الله تعالى، ويعظم رجاؤه في الله تعالى في تحقيق هذا الأمر، من غير اعتماد على هذا الفأل، فهذا حسن، فالفأل حسن ظن بالله تعالى، ورجاء له، وباعث على الاستعانة به، والتوكل عليه، وعلى سرور النفس، وانشراح الصدر، وهو مسكن
للخوف، باعث للآمال، والطيرة على النقيض من ذلك: فهي سوء ظن بالله، وتوكل على غيره، وقطع للرجاء، وتوقع للبلاء، وقنوط للنفس من الخير، وهو مذموم وباطل شرعا وعقلاء.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على بطلان التطير،.، وتحريمه ومن ذلك ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك (1)»
(1) رواه الإمام أحمد (3687 تحقيق شاكر)، وابن أبي شيبة (6442)، وأبو داود (3910)، والترمذي (1614)، وابن حبان (6122)، والحاكم 1/ 17، 18. وإسناده صحيح. وقد صححه الترمذي، والحاكم، وصححه أيضا الذهبي والعراقي كما في فيض القدير 4/ 294، وابن العربي في عارضة الأحوذي 7/ 116، وتمامه:((وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل))، وهذه التتمة من قول ابن مسعود رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، والمعنى: وما منا أحد إلا وقد يعتريه التطير. وهذا يدل على أن ما يقع في القلب من التطير من غير قصد من العبد ولم يستقر في القلب معفو عنه، لكن إن ترتب عليه إقدام أو إحجام فهو محرم، ويؤيد هذا حديث معاوية بن الحكم عند مسلم (537): قال قلت: ومنا رجال يتطيرون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم)). وفي رواية: ((فلا يصدنكم)).
ومما يدل على تحريم الطيرة أيضا وإباحة الفأل: ما رواه عروة بن عامر، قال:«ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأت بالحسنات إلا أنت (2)» ، وقوله صلى الله عليه
(1) رواه أبو داود في الطب (3919)، وابن أبي شيبة في الأدب (6443)، وابن السني (293)، والبيهقي في كتابه ((الدعوات)) (500). وإسناده صحيح إن ثبت سماع حبيب من عروة، والأقرب أن عروة صحابي، فقد أثبت صحبته جماعة، ونفاها آخرون، والمثبت مقدم على النافي. ينظر الإصابة 2/ 469، تهذيب التهذيب 2/ 185، وقد صحح هذا الحديث النووي في رياض الصالحين (1686). وله شاهد من مرسل الشعبي رواه عبد الرزاق في الجامع لشيخه معمر باب الطيرة (19512). وسنده صحيح، ومراسيل الشعبي قوية، وله شاهد آخر من مرسل عبد الرحمن بن سابط، رواه أبو داود في المراسيل (59)، وإسناده حسن، فحديث عروة حسن لغيره بهذين الشاهدين في أقل أحواله
(2)
(1)، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك
وسلم: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الحسن، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم (1)» رواه البخاري ومسلم. .
قال الحافظ ابن رجب بعد ذكره أن التشاؤم باطل شرعا وعقلا، قال: (وفي الجملة فلا شؤم إلا المعاصي والذنوب فإنها تسخط الله عز وجل فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا والآخرة، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله، واليمن هو طاعة الله وتقواه كما قيل:
إن رأيا دعا إلى طاعة الله
…
لرأي مبارك ميمون
والعدوى التي تهلك من قاربها هي المعاصي، فمن قاربها وخالطها وأصر عليها هلك، وكذلك مخالطة أهل المعاصي، ومن يحسن المعصية ويزينها ويدعو إليها من شياطين الإنس، وهم أضر من
(1) صحيح البخاري (5754)، وصحيح مسلم (2223) من حديث أبي هريرة
شياطين الجن، قال بعض السلف: شيطان الجن تستعيذ بالله منه فينصرف، وشيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية، وفي الحديث:«المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل (1)» ، وفي حديث آخر:«لا تصحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي (2)» ، فالعاصي مشؤوم على نفسه وعلى غيره فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس خصوصا من لم ينكر عليه عمله، فالبعد عنه متعين، فإذا كثر الخبث هلك الناس عموما) (3).
(1) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وسنده حسن.
(2)
رواه أحمد 3/ 38، وأبو داود (4832)، والترمذي (2395)، وابن حبان (554)، وسنده حسن
(3)
ينظر: لطائف المعارف: وظيفة شهر صفر ص 77
النوع الثاني من أنواع الشرك الأصغر: الشرك في الأفعال: ومن أمثلة هذا النوع: المثال الأول: الرقى الشركية. .
الرقى في اللغة: جمع رقية، والاسم منه (رقيا)، يقال: رقيته، أرقيه، رقيا، والمرة (رقية)(1).
وفي الاصطلاح: الأذكار التي يعوذ بها لرفع البلاء أو دفعه.
والرقية الشرعية هي الأذكار من القرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في السنة أو الأدعية الأخرى المشروعة التي يقرأها الإنسان على نفسه أو يقرأها عليه غيره ليعيذه الله من الشرور بأنواعها، من الأمراض وشرور جميع مخلوقات الله الأخرى من السباع والهوام والجن والإنس وغيرها، فيعيذه منها بدفعها قبل وقوعها، بأن لا تصيبه، أو يعيذه منها بعد وقوعها بأن يرفعها ويزيلها عنه، وغالبا يصحب قراءة هذه الأذكار نفث من الراقي، وقد تكون الرقية
(1) النهاية، والمصباح، (مادة: رقى)
بالقراءة والنفث على بدن المرقي أو في يديه ويمسح بهما جسده ومواضع الألم إن وجدت، وقد تكون بالقراءة في ماء ثم يشربه المرقي أو يصب على بدنه، وبعضهم يقوم بكتابة الأذكار
بزعفران أو غيره على ورق أو في إناء، ثم يغسله بماء، تم يسقيه المريض.
والرقى التي يفعلها الناس تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الرقى الشرعية، وهي الرقى التي سبق ذكرها، وقد أجمع أهل العلم على جوازها في الجملة.
ويشترط في الرقية أيضا أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها، وأن لا يعتمد عليها المرقي بقلبه، وأن يعتقد أن النفع إنما هو من الله تعالى، وأن هذه الرقية إنما هي سبب من الأسباب المشروعة، ويشترط أن لا تكون هذه الرقية من ساحر أو متهم بالسحر، وحكم هذه الرقية أنها مستحبة، وهي من أعظم أسباب الشفاء من الأمراض بإذن الله تعالى.
والدليل على استحباب الرقية في حق المرقي: ما رواه
البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ: قل هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. .
والدليل على استحبابها في حق الراقي: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب؟ فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (1)» . .
(1) صحيح مسلم، كتاب السلام باب استحباب الرقية رقم (2199)
النوع الثاني: الرقى المحرمة:
ومنها: الرقى الشركية، وهي الرقى التي يعتمد فيها الراقي أو المرقي على الرقية، فإن اعتمد عليها مع اعتقاده أنها سبب من الأسباب، وأنها لا تستقل بالتأثير فهذا شرك أصغر.، وإن اعتمد عليها اعتمادا كليا حتى اعتقد أنها تنفع من دون الله، أو تضمنت صرف شيء من العبادة لغير الله، كالدعاء، أو الاستعاذة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
والدليل على تحريم جميع الرقى الشركية: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة (2)» ، وما روى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: «كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم،
(1) رواه الإمام أحمد 1/ 381، وأبو داود (3883)، وابن ماجه (3530)، والطبراني (8863)، وابن حبان (6090)، والحاكم 4/ 217 من طرق عن ابن مسعود. وهو صحيح بمجموع طرقه.
(2)
(1). شرك
لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيها شرك (1)» رواه مسلم.
ومن الرقى المحرمة: أن تكون الرقية فيها طلاسم، أو ألفاظ غير مفهومة، والغالب أنها رقى شركية، وبالأخص إذا كانت من شخص غير معروف بالصلاح والاستقامة على دين الله تعالى، أو كانت من كافر كتابي أو غيره.
(1) صحيح مسلم: السلام (2200).
المثال الثاني من أمثلة الشرك الأصغر في الأفعال: التمائم الشركية:
التمائم في اللغة: جمع تميمة، وهي في الأصل خرزة كانت تعلق
على الأطفال يتقون بها من العين ونحوها (1)، وكأن العرب سموها بهذا الاسم لأنهم يريدون أنها تمام الدواء والشفاء المطلوب (2).
وفي الاصطلاح: هي كل ما يعلق على المرضى أو الأطفال أو البهائم أو غيرها من تعاويذ لدفع البلاء أو رفعه.
ومن أنواع التمائم: الحجب والرقى التي يكتبها بعض المشعوذين ويكتبون فيها طلاسم وكتابات لا يفهم معناها، وغالبها شرك، واستغاثات بالشياطين، وتعلق على الأطفال أو على البهائم، أو على بعض السلع أو أبواب البيوت يزعمون أنها سبب لدفع العين أو أنها سبب لشفاء المرضى من بني الإنسان أو من الحيوان، ومنها: الخلاخيل التي يجعلها بعض الجهال على أولادهم يعتقدون أنها سبب لحفظهم من الموت، ومنها: لبس حلقة الفضة للبركة أو للبواسير،
(1) ينظر: تأويل مختلف الحديث ص 226، والصحاح، والنهاية، والقاموس، ولسان العرب (مادة: تمم).
(2)
كما قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (مادة: تم)، وكما قال ابن الأثير في النهاية (مادة: تمم).
ولبس خواتم لها فصوص معينة يعتقدون أنها تحفظ من الجن، ولبس أو تعليق خيوط عقد فيها شخص له اسم معين كـ "محمد" عقدا
للعلاج من بعض الأمراض، ومنها الحروز وجلود الحيوانات والخيوط وغيرها مما يعلق على الأطفال أو على أبواب البيوت ونحو ذلك، والتي يزعمون أنها تدفع العين أو المرض أو الجن أو أنها سبب للشفاء من الأمراض، وهذه كلها محرمة، وهي من الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن الرقى والتمائم والتولة شرك (1)» ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«من علق تميمة فقد أشرك (2)» ، فهي من الشرك؛ لأنهم ظنوا أن لغير الله تأثيرا في الشفاء (3)، وطلبوا دفع الأذى من غيره تعالى مع أنه لا يدفعه أحد سواه جل وعلا (4)، لكن
(1) سنن أبو داود الطب (3883)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 381).
(2)
رواه الإمام أحمد 4/ 156، والحاكم 4/ 219 بإسناد حسن من حديث عقبة بن عامر، وأول الحديث: أن عقبة رضي الله عنه جاء في ركب عشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبايع تسعة، وأمسك عن بيعة رجل منهم، فقالوا: ما شأن هذا الرجل لا تبايعه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن في عضده تميمة"، فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:"من علق تميمة فقد أشرك". وله شاهد بنحوه رواه ابن وهب في الجامع (666) من حديث رجل من صداء من الصحابة، وسنده حسن. وله شاهد ثالث رواه الإمام أحمد 4/ 445، وابن حبان (6085) عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة، فقال:"ويحك، ما هذه؟ " قال: من الواهنة. قال: "أما إنها لا تزيدك إلا وهنا، أنبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا" وسنده حسن.
(3)
التمهيد 17/ 163، الدر النضيد للشوكاني ص 9.
(4)
النهاية لابن الأثير (مادة: تمم)، حاشية ابن عابدين: أول البيع 5/ 233.
إن اعتقد متخذها أنها تنفع بذاتها من دون الله فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أن الله هو النافع وحده، لكن تعلق قلبه بها في دفع الضر، فهو شرك أصغر؛ لاعتماده على الأسباب؛ ولأنه جعل ما ليس بسبب سببا، فهذه التمائم السابق ذكرها كلها ليس فيها نفع بوجه من الوجوه، وهي من خرافات الجاهلية التي ينشرها السحرة والمشعوذون، ويدجلون بها على السذج والجهلة من الناس.
ويدخل في التمائم أن تكتب آيات من القرآن أو بعض الأذكار الشرعية (الرقى) في ورقة ثم توضع في جلد أو غيره ثم تعلق على الأطفال أو على بعض المرضى، وقد اختلف في جواز تعليقها، ولعل
الأحوط المنع من هذه التمائم، لعدة أمور، أهمها:
1 -
أن الأحاديث جاءت عامة في النهي عن التمائم، ولم يأت حديث واحد في استثناء شيء منها.
2 -
أن تعليق التمائم من القرآن والأدعية والأذكار المشروعة نوع من الاستعاذة والدعاء، فهي على هذا عبادة من العبادات، وهي بهذه الصفة لم ترد في القرآن ولا في السنة، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز إحداث عبادة لا دليل عليها (1).
(1) هذا التعليل لم أقف على من ذكره، ولكنه فيما ظهر لي تعليل صحيح.
3 -
أن في تعليقها تعريضا للقرآن وكلام الله تعالى وعموم الأذكار الشرعية للإهانة، إذ قد يدخل بالتميمة أماكن الخلاء، وقد ينام عليها الأطفال أو غيرهم، وقد تصيبها بعض النجاسات، وفي منع تعليقها صيانة للقرآن ولذكر الله تعالى عن الإهانة.
4 -
سد الذريعة؛ لأن تعليق هذه التمائم يؤدي إلى تعلق القلوب بها من دون الله، ويؤدي إلى تعليق التمائم الشركية، كما هو الواقع عند كثير من المسلمين.