الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منكم، قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة)، وقال أبو بكر المزني:(ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره)، قال بعض أهل العلم:(الذي وقر في صدره حب الله والنصيحة لخلقه)، وقال بعض السلف:(ما بلغ من بلغ عندنا بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بسخاوة النفوس وسلامة الصدور والنصح للأمة).
فعلى المسلم المبادرة إلى الطاعة والتزود من نوافل القربات والمسارعة في ميادين الصالحات وسؤال الله القبول بعد هذا كله، كما هي دعوة الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بعد أن عملا أفضل الأعمال وأشرفها، حيث رفعا الكعبة وبنياها، قالا:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1)
(1) سورة البقرة الآية 127
المبحث الثاني: قدسية البيت الحرام ومكانته:
جعل الله بيته الحرام ملتقى جموع المؤمنين وقبلة أهل الإسلام أجمعين، تتوجه إليه القلوب، وتفد إليه الوفود من كل فج عميق في كل وقت وحين، وما برح هذا البيت المعظم بحفظ الله ورعايته، يتطلع إليه المسلمون ويتنافس في بلوغ رحابه المتنافسون، يعيشون في أمنه وأمانه، وتوافر خيراته وأرزاقه، ينعمون في ظلاله ويتفيئون ما ينالهم
من بركاته، قال تعالى ممتنا على عباده بذلك ومذكرا بهذه النعم المترادفة والآلاء الجمة:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (2) وقال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (3)
لقد جمع الله لهذا البيت وأهله وقاصديه مزيتين بهما تحصل السعادة بتمامها، والطمأنينة بكمالها: سعة الرزق والأمان من الخوف، قال عز وجل:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (4){الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (5)
فمن خصائص هذا الحرم أنه حقيق بالتعظيم والإجلال والاحترام، وقد اتفقت قبائل العرب طرا على احترام هذا البيت وتعظيم، حتى إن الرجل يرى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمسه بسوء؛ لأنه في أمان أنه في الحرم، مضى على هذا عمل الجاهلية، مع ما بين أهلها من اختلاف المنازع وتباين الأهواء والمشارب، وتعدد الأوثان والمعبودات، وكثرة الضغائن والأحقاد.
(1) سورة القصص الآية 57
(2)
سورة العنكبوت الآية 67
(3)
سورة آل عمران الآية 97
(4)
سورة قريش الآية 3
(5)
سورة قريش الآية 4
وقد أقر الإسلام هذه الميزة لبيت الله الحرام، وأما ما كان من المسلمين يوم فتح مكة فكان لضرورة تطهيره من الشرك ولأجل أن يعبد الله وحده، ومع ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي (1)» الحديث.
على أن فتح مكة لم يؤثر على أمر الجرم وقدسيته شيئا، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي:«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن (2)» . وقد اتفق الفقهاء على أن من جنى في الحرم فهو مأخوذ بجنايته سواء كانت في النفس أم فيما دونها، واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ به ولجأ إليه، فقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يقتص منه ما دام فيه، لكن لا يجالس ولا
(1) رواه البخاري في صحيحه في مواضع، منها: - كتاب جزاء الصيد- باب لا يعضد شجر الحرم 4/ 41 برقم 1832، ومسلم في صحيحه- كتاب الحج- باب تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام 9/ 123 - 126
(2)
جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه- كتاب الجهاد- باب فتح مكة 12/ 133.
يعامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه فيقتص منه، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم، اقتص منه، وقال مالك والشافعي: يقتص منه في الحرم لذلك كله، وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعبيد الله بن عمير وسعيد بن جبير وطاوس والشعبي فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل، قال ابن عباس: ولكنه لا يجالس ولا يؤوى حتى يخرج من الحرم فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحد، وروى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه الحد، وكان يقول في قوله:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (1) كان هذا في الجاهلية، لو أن رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم، أما الإسلام فلم يزده إلا شدة، من أصاب الحد في غيره، ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد (2).
وإن ساكن البلد الحرام وقاصده يعيش هاتين المزيتين، ويشهدهما واقعا ملموسا، رغد في العيش، واستتباب في الأمن، وتوفر في المطاعم والمشارب، يجبى إليه ثمرات كل شيء، كل هذا يسهل عليه العيش في أجواء روحانية وأيام مباركة بجوار بيت الله العتيق، يرجو رحمة الله ويؤمل مغفرته، يتطلع إلى عمل مبرور وسعي مشكور، قد لاذ بربه، متذللا منكسرا بين يديه، يسأله العفو والصفح عما سلف وكان من الذنوب والعصيان.
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2)
ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم 9/ 124، جامع البيان 7/ 30 - 33
وقد استجاب الله دعاء خليليه ونبيه إبراهيم عليه السلام حين دعا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1) فما من مسلم في صقع من أصقاع الأرض نور الله قلبه بالإيمان وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا وقلبه يأمل زيارة البيت الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تزال هذه الأمنية تتلجلج في صدره وتختلج في فؤاده، وتكون معه دائما في كل حركاته وسكناته وخطراته (2).
إن المسجد الحرام هو أول بيت بني على الأرض لعبادة الله وحده، بناه إبراهيم الخليل وشاركه ابنه إسماعيل عليهما السلام، ونبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ثمرة دعوة صدرت من هذين النبيين الكريمين البانيين هذا البيت العتيق، قال تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3){رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4){رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5)
(1) سورة إبراهيم الآية 37
(2)
انظر كلاما لابن القيم في هذا. زاد المعاد 1/ 51 - 52
(3)
سورة البقرة الآية 127
(4)
سورة البقرة الآية 128
(5)
سورة البقرة الآية 129
لقد أقيم هذا البيت العتيق على قاعدة التوحيد ليبقى خالدا عامرا بإذن الله تعالى، قال عز وجل:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1) وكان -بفضل الله وإحسانه- القبلة الواحدة لهذه الأمة، به قيامها وإليه مثابتها، قال عز وجل:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (2) وقال سبحانه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (3)
ولما أقيم هذا البيت على قواعد التوحيد ومبادئ الحنيفية، والخلوص من الشرك وأهله، أمر الله خليله بالأذان للناس لحج هذا البيت وتعظيم حرمات الله وشعائره، مع ما يكون لهم من منافع في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (4) الآيات.
ومنذ ذلك النداء ووفود الرحمن تتوافد من كل فج، على الأقدام وركبانا على ما سخر الله لهم، وما فتئت النفوس المؤمنة تتطلع إلى رؤية هذا البيت والطواف حوله والصلاة في جنباته، وفي
(1) سورة الحج الآية 26
(2)
سورة المائدة الآية 97
(3)
سورة البقرة الآية 125
(4)
سورة الحج الآية 27
ذلك من الأنس والراحة والنعيم ما تعجز العبارة عن وصفه. يقول الشاعر:
أخي إن زرت بيت الله تبغي
…
رضا أو تشتكي هما وحزنا
ففي تلك الرياض نعيم أنس
…
لناء إن دعاه الشوق حنا
ولعل هذا من أسرار عظمة الحج وأثره في النفوس، وقد أبان ذلك الماوردي بقوله: "ثم فرض الحج، فكان آخر فروضه؛ لأنه يجمع عملا على بدن وحقا في مال، فجعل فرضه بعد استقرار فروض الأبدان وفروض الأموال، ليكون استئناسهم بكل واحد من النوعين ذريعة إلى تسهيل ما جمع بين النوعين، فكان في إيجابه تذكير ليوم الحشر بمفارقة المال والأهل، وخضوع العزيز والذليل في الوقوف بين يديه، واجتماع المطيع والعاصي في الرهبة منه والرغبة إليه، وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه، وندم المذنبين على ما أسلفوه، فقل من حج إلا وأحدث له الحج توبة من ذنب، وإقلاعا من معصية (1).
إن أسرار الحج وحكمه لا يحس بها ولا يعرفها حق المعرفة إلا من أدى حجه على الوجه الأكمل، فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قال أهل العلم: الحج المبرور هو الذي قام به صاحبه متحريا سنة النبي صلى الله عليه وسلم مع الإخلاص لله عز وجل، وعن جابر
(1) ينظر: أدب الدنيا والدين ص96