الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله الآية، قالت عائشة: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما (1)».
(1) سورة البقرة الآية 158 (1){إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}
المبحث الثامن: تمسكهم بالسنة وتحذيرهم من الخلاف
كانت للصحابة رضي الله عنه وسلف الأمة -رحم الله الجميع- عناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، تطبيقا وامتثالا، إرشادا وتعليما، تبليغا ودلالة إليها، وحثا على التمسك بها والتحذير من مخالفتها، ومن ذلك هديه عليه الصلاة والسلام، وسنته في الحج، وقد كان لهم معه في حجته وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، مواقف محمودة، ودروس نيرة، حرصا على اتباع السنة واقتفاء الأثر، وترك الخلاف والشقاق، والبعد عن المنازعات والخصومات، وهو السبيل الحق والمنهج الصدق، ولهذا أمثلة كثيرة اشتملت على فوائد وأحكام هامة.
المثال الأول: ما رواه البخاري وغيره عن ابن شهاب سالم قال: (كتب عبد الملك إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في
الحج، فجاء ابن عمر رضي الله عنه وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس، فصاح عند سرادق الحجاج، فخرج وعليه ملحفة معصفرة، فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: الرواح إن كنت تريد السنة، فقال: هذه الساعة؟ قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج، فسار بيني وبين أبي، فقلت -القائل هو سالم - فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله، قال: صدق) (1).
اشتملت هذه الحادثة على الأحكام والفوائد التالية:
أولا: في أمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أميره الحجاج بن يوسف الثقفي أن يأخذ بقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في مناسك الحج وألا يخالفه، احترام العلماء من قبل العامة والخاصة، وتقديرهم وقبول قولهم في الأحكام، يقول الحافظ ابن حجر:(وأن الأمير يعمل في الدين بقول أهل العلم، ويصير إلى رأيهم)(2)، ثم إن الواجب على العلماء النصح والإرشاد، والصدق والإخلاص في ذلك قولا وعملا.
ثانيا: سنة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، أنه حين
(1) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الحج- باب التهجير بالرواح يوم عرفة 3/ 511 برقم 1660.
(2)
فتح الباري 3/ 512.
صلى الفجر بمنى، غدا إلى عرفة، حتى نزل نمرة، وهي موضع بقرب عرفات بين طرف الحرم وطرف عرفات، حتى إذا كان صلاة الظهر وزالت الشمس، راح صلى الله عليه وسلم مهجرا -أي مبكرا- فخطب، ثم جمع بين الظهر والعصر، فصلاهما جمع تقديم، ثم راح فوقف إلى غروب الشمس، والسنة أيضا كما قال سالم بن عبد الله وصدقه أبوه عبد الله بن عمر، أن يقصر الخطبة ويعجل الوقوف، استغلالا للموقف بما هو جدير به من التضرع والدعاء، والذكر والابتهال إلى الله عز وجل.
ثالثا: في قول عبد الله بن عمر وابنه سالم للحجاج: (إن كنت تريد السنة)، بيان لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وترغيب فيها وتشويق إليها، فإن المؤمن محب للرسول صلى الله عليه وسلم ولسنته، وبخاصة في تلك المشاعر المقدسة التي وفد إليها تاركا أهله وماله ووطنه، طالبا رضا ربه ومغفرة ذنوبه وتكفير سيئاته، فالحاج والحالة هذه حريص غاية الحرص على الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بها والعض عليها بالنواجذ.
رابعا: في حديث سالم بن عبد الله بين يدي والده أمام الحجاج بن يوسف، جواز فتوى طالب العلم بين يدي شيخه أمام السلطان وعامة الناس، وفي صنيع سالم ابتداء العالم بالفتوى قبل أن يسأل
عنها، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ثم إن الحجاج طلب علو الإسناد في العلم، حيث تشوف إلى سماع تصديق ما تحدث به سالم عن أبيه، فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله قال: صدق (1).
خامسا: جاء في رواية أخرى أن ابن شهاب قال لسالم بن عبد الله بن عمر: (أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سالم: وهل يتبعون بذلك إلا سنته)(2)، فيه حرص السلف على التثبت في الرواية والتأكد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان ذلك لهم من قبل شيوخهم، فالصحابة ومنهم عبد الله بن عمر كانوا من أشد الناس حرصا على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره وتعليمها للأمة وحثهم على العمل والأخذ بها.
سادسا: هذه الحادثة التي كانت بين عبد الله بن عمر وابنه سالم مع الحجاج بن يوسف الثقفي، الأمير من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، صورة واضحة على تطبيق الصحابة وسلف الأمة مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمور، واحترامهم وتقديرهم، ونصحهم وإرشادهم بإخلاص وصدق وحسن تعليم وإرشاد، يظهر هذا في احترام عبد الله بن عمر وابنه سالم أميرهم الحجاج بن يوسف،
(1) فتح الباري 3/ 512.
(2)
رواها البخاري في صحيحه -كتاب الحج- باب الجمع بين الصلاتين بعرفة - 3/ 513 برقم 1662.
حيث تأدبهم في مخاطبته وحديثهم معه، وذهابهم معه في الحج، ودخولهم تحت إمرته، وعدم افتياتهم أو خروجهم عليه وإثارة الخلاف والشقاق ضده، فما كان من ابن عمر وابنه إلا السمع والطاعة فرارا من الفتنة، ونبذا للشقاق والاضطراب، وتحقيقا للمصلحة العامة بطاعة ولاة الأمور، لما يكون في ذلك من النفع العام والخاص للبلاد والعباد.
فالسمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، أصل من أصول العقيدة السلفية، إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معا، وبالافتيات عليهم وشق عصا الطاعة وإثارة الشقاق والخلاف معهم، فساد الدين والدنيا، قال عمر رضي الله عنه:" لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة " رواه الدارمي، وقال الحسن بن علي البربهاري في كتاب السنة:" إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى، وإذ سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى، يقول الفضيل بن عياض: لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان "(1). إن ولاة الأمر لهم المكانة العلية والمنزلة الرفيعة في الإسلام،
(1) طبقات الحنابلة 2/ 36.
منحهم الشارع ذلك ليتناسب قدرهم مع علو وظيفتهم ورفيع منصبهم، وهذا هو عين الحكمة والمصلحة التي يرعاها الإسلام في تشريعاته وأحكامه، لذا فقد فرض الإسلام طاعتهم ولزوم جماعتهم، وحذر من مفارقتهم وشق عصا طاعتهم ومخالفة كلمتهم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (2)» ، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شبرا فمات، فميتة جاهلية (3)» الحديث، وروى أيضا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك (4)» .
(1) سورة النساء الآية 59
(2)
رواه البخاري في صحيحه - كتاب الأحكام - باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية 13/ 121 برقم 7144، ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 12/ 326 واللفظ له.
(3)
رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 12/ 240.
(4)
رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 12/ 224.
في هذه القصة مسائل:
(1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز تعليق الإحرام 8/ 198 - 200، ورواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم 3/ 416 برقم 1559 بأخصر من هذا.
الأولى: جواز تعليق الإحرام، فإذا قال أحرمت بإحرام كإحرام زيد، صح إحرامه وكان إحرامه كإحرام زيد، فإن كان زيد محرما بحج أو عمرة أو قارنا، كان المعلق مثله.
الثانية: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: " أحسنت " الثناء الجميل على من فعل فعلا حسنا، وأعظمه وأجله اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى الطواف ثم السعي بين الصفا والمروة ولم يذكر الحلق؛ لأنه كان مشهورا عندهم، فإذا فعل هذه الأمور الثلاثة، تحلل من عمرته فبقي حلالا حتى يوم التروية، فيحرم بالحج بعد ذلك، قال النووي رحمه الله:" فإن قيل قد علق علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما إحرامهما بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر عليا بالدوام على إحرامه قارنا، وأمر أبا موسى بفسخه إلى عمرة، فالجواب: أن عليا رضي الله عنه كان معه الهدي كما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم الهدي، فبقي على إحرامه كما بقي النبي صلى الله عليه وسلم على إحرامه، وكل من معه هدي، وأبو موسى لم يكن معه هدي، فتحلل بعمرة كمن لم يكن معه هدي، ولولا الهدي مع النبي صلى الله عليه وسلم لجعلها عمرة "(1).
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 10/ 199.
الرابعة: كان أبو موسى يفتي بما علم مما أرشده نبي الأمة ومعلم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ثم أخبر رضي الله عنه بأن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه آنذاك كان يفتي بعدم الإحلال بالعمرة، وأن يظل الواحد منهم على نسكه، فأمسك أبو موسى عن الفتيا وأمر المسلمين بمتابعة إمامهم، وعدم مخالفته فقال رضي الله عنه:" يا أيها الناس من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا ".
الخامسة: كل ما سبق دليل على أنه يجب على المسلم السمع والطاعة لولي الأمر، وعدم الافتيات عليه، أو الخروج عن جماعة المسلمين ومنازعتهم، ولا يعني هذا أن أبا موسى ترك الحق أو تهاون في هذه السنة، لكنه لما علم أن فتياه ستحدث شقاقا ومنازعة وخلافا وفرقة بين المسلمين، ترك ذلك رغبة في اجتماع كلمة المسلمين تحت إمامهم وولي أمرهم الذي لم يأت بأمر جديد، ولم يأمر ببدعة أو فجور، فالقران الذي دعا إليه عمر أحد أنساك الحج الثلاثة، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة: في قول أبي موسى: " فذكرت ذلك له - أي ما كان يفتي به الناس - فقال: إن نأخذ بكتاب الله، فإن كتاب الله يأمر
بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله "، في هذا أنه ينبغي مناقشة أهل العلم وسؤالهم عما يشكل بأدب تام وخلق جميل، وقد قيل: الأدب قبل الطلب، فأبو موسى لم يترك ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة عنه، بل ذهب يسأل من خالفه ويناقشه رغبة في الوصول إلى الحق، واتباع السنة، وجمع كلمة الناس على ذلك، وقد أجابه عمر رضي الله عنه بأن كتاب الله عز وجل أمر بإتمام العمرة في قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر هديه، فالكل صحيح وقد جاء به الدليل.
وقد جاء في رواية أخرى في صحيح مسلم أن عمر قال: " ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم "(2)، ومعنى كلامه: كرهت التمتع لأنه يقتضي التحلل ووطء النساء إلى حين دخولهم في نسك الحج.
السابعة: في هذه الحادثة وجوب التثبت في الأمور والتؤدة في إصدار الأحكام، وعدم التعجل في الآراء، ولو كان الأمر بخلاف ذلك، لكان الشقاق والخلاف، وافتراق الكلمة، وكثرة الخصومات والمنازعات، وكلها شر.
(1) سورة البقرة الآية 196
(2)
صحيح مسلم - كتاب الحج - باب جواز تعليق الإحرام 10/ 201.
المثال الثالث: ما رواه الشيخان عن سعيد بن المسيب قال: «اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه، فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى علي ذلك، أهل بهما جميعا (1)» .
قال النووي رحمه الله: " المختار أن المتعة التي نهى عنها عثمان هي التمتع المعروف في الحج، وكان عمر وعثمان ينهيان عنها نهي تنزيه لا تحريم، وإنما نهيا عنها؛ لأن الإفراد أفضل - أي في رأيهما - فكان عمر وعثمان يأمران بالإفراد لأنه أفضل، وينهيان عن التمتع نهي تنزيه؛ لأنه مأمور بصلاح رعيته، وكان يرى الأمر بالإفراد من جملة صلاحهم، والله أعلم "(2) ا. هـ.
ومن صلاحهم أن يكثر ترددهم على البيت فلا يبقى مهجورا، وينشئون سفرا آخر للعمرة، وبذلك يكثر زوار البيت، ويعظم الأجر لقاصديه لما بذلوه من جهد ومال ووقت من أجله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التمتع والقران والإفراد بالحج - 3/ 423 برقم 1569، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز التمتع - 8/ 202.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم 8/ 202.
إن ما قصده عمر وعثمان رضي الله عنهما من زيارة البيت الحرام عمرة وحجا، من أفضل الأعمال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه (1)» ، وفي الحث على المتابعة بين العمرة إلى العمرة، والحج إلى الحج وعدم الانقطاع عن البيت العتيق، يقول صلى الله عليه وسلم:«والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2)» ، ويقول عليه الصلاة والسلام:«تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة (3)» .
وفي قول عثمان لعلي: " دعنا منك "، ثم قول علي له:" إني لا أستطيع أن أدعك " إشاعة العلم وإظهاره وإحياء السنة والعمل بها بحكمة وأسلوب حسن، وحجة ناصعة ونية طيبة، بعدا عن الخلاف، وإثارة النزاع وشق عصا الطاعة (4)، وهذا كله ينبثق من قاعدة الإسلام العظيمة التي جاءت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «الدين
(1) صحيح البخاري الحج (1521)، صحيح مسلم الحج (1350)، سنن الترمذي الحج (811)، سنن النسائي مناسك الحج (2627)، سنن ابن ماجه المناسك (2889)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 229)، سنن الدارمي المناسك (1796).
(2)
صحيح البخاري الحج (1773)، صحيح مسلم الحج (1349)، سنن الترمذي الحج (933)، سنن النسائي مناسك الحج (2629)، سنن ابن ماجه المناسك (2888)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 246)، موطأ مالك الحج (776)، سنن الدارمي المناسك (1795).
(3)
رواه أحمد في المسند 1/ 25، 387، والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة 3/ 175 برقم 810، والنسائي في سننه - كتاب الحج - باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة 5/ 115، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 560 برقم 2901.
(4)
ينظر: فتع الباري 3/ 425.
النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1)»، وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال:«بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (2)» متفق عليه، وقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من واجب المسلم على أخيه المسلم في قوله:«وإذا استنصحك فانصح له (3)» ، يقول بعض السلف:" أد النصيحة على أكمل وجه، واقبلها على أي وجه، ومن وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظ أخاه علانية فقد فضحه وشانه ".
وهنا مسألتان تجب العناية بهما وامتثالهما:
إحداهما: أن على المسلم، وبخاصة طالب العلم، أن يكون حسن السمت والهدي الصالح، ودوام السكينة والوقار والتواضع، بعدا عن المنازعات والخصومات، واللغط ورفع الأصوات، طلب الحق والوصول إليه هدفه وغايته، وهكذا كان سلف الأمة من
(1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان أن الدين النصيحة - 2/ 37.
(2)
رواه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدين النصيحة 1/ 137 رقم 57، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان أن الدين النصيحة - 2/ 39.
(3)
جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه كتاب السلام - باب من حق المسلم على المسلم رد السلام 14/ 143
الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان - رحم الله الجميع -. قال محمد بن سيرين رحمه الله: " كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم "، فعلى طالب العلم الباحث عن الحق، أن يتحلى بالثبات والتأمل، فإن من تأمل أدرك، لا سيما في الملمات والمهمات، والأمور المشكلة التي قد تزل فيها أقدام الكثير، بسبب العجلة وعدم التؤدة، ولنا في نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم خير أسوة وأمثل قدوة، قال ابن القيم رحمه الله:" إذا جلست إلى عالم فسل تفقها لا تعنتا "، وقال أيضا:" للعلم ست مراتب، أولها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته، العمل به ومراعاة حدوده "(1).
وإياك - أخي المسلم - من المماراة في المحاورات والمناظرات، فإنها تحجج ورياء، ولغط وكبرياء عن الحق، كما أنها اختيال وشحناء، ومجاراة للسفهاء، فاحذرها تسلم من المآثم وهتك المحارم، وهكذا فالعلم النافع له علامات أهمها: العمل به، وكراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق، والهرب من حب الترأس والشهرة والدنيا، وقد كان عبد الله بن المبارك، أمير المؤمنين في الحديث، إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:
(1) مفتاح دار السعادة ص 184.
لا تعرضن بذكرهم في ذكرنا
…
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد (1)
المسألة الثانية: تبين مما سبق، عناية الصحابة بامتثال السمع والطاعة لولي أمر المسلمين، وحرصهم على تطبيق ذلك، وعدم منازعتهم والافتيات عليهم؛ لأن السمع والطاعة لولي الأمر، أصل من أصول العقيدة، له أهميته البالغة، إذ بالسمع والطاعة لولاة الأمر، تنتظم مصالح الدين والدنيا معا، وبالافتيات عليهم ومنازعتهم، قولا أو فعلا، فساد الدين والدنيا معا، واهتمام السلف رحمهم الله بهذا، تحمله صور كثيرة، وأمثلة متنوعة، وأقوال مسطرة، مما يدل على أنهم كانوا يولونه اهتماما خاصا، نظرا لما يترتب على الجهل به وإغفاله من الفساد العريض في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد، قال الحسن البصري في الأمراء:" هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم "(2).
(1) ينظر لما سبق: حلية طالب العلم 16، 17 - 49.
(2)
جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 117.
المثال الرابع: ما رواه البخاري في صحيحه، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: «صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع، ثم
قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان (1)».
لي مع هذا الحديث الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: بوب البخاري على هذا الحديث وغيره بـ " باب الصلاة بمنى "، ولم يذكر حكم المسألة لقوة الخلاف فيها، وخص منى بالذكر؛ لأنها المحل الذي وقع فيه الخلاف قديما، ومع ذلك فقد دلت السنة على أن الحاج يقصر الصلاة الرباعية بمنى ركعتين دون جمع، بل يصلي كل صلاة في وقتها.
الوقفة الثانية: اختلف أهل العلم في سبب إتمام عثمان صلاته بمنى، فقيل لكونه تأهل - أي تزوج - بمكة، فكان له بها أهل، واستدلوا بالحديث الذي رواه أحمد والبيهقي من حديث عثمان، «أنه لما صلى بمنى أربع ركعات، أنكر الناس عليه، فقال: إني تأهلت بمكة لما قدمت، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل ببلدة، فإنه يصلى صلاة مقيم (2)» ، لكن هذا الحديث لا يصح، وفي رواته
(1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الصلاة بمنى - 3 9 برقم 1657، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - 5/ 204.
(2)
رواه الإمام أحمد في مسنده 1/ 62، وفي سنده عكرمة الأزدي وهو ضعيف، ينظر فيمن حكم عليه بالضعف: مجمع الزوائد 2/ 156، نصب الراية 3/ 271 وقال:" رواه البيهقي في المعرفة في باب صلاة المسافر، ولم يصل سنده به، ثم قال: هذا حديث منقطع، وعكرمة الأزدي ضعيف ".
من لا يحتج به، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يسافر بزوجاته ويقصر.
القول الثاني: أن عثمان كان أمير المؤمنين، وكل موضع له دار، ورد هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك، ومع ذلك فإنه لم يتم بل كان يقصر.
القول الثالث: أنه عزم على الإقامة بمكة، ورد هذا بأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام، كما جاء ذلك في عدة أحاديث، ومن أقرب ما قيل في سبب إتمامه أقوال منها: أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان سائرا في الطريق، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، وقيل: إن عثمان كان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك لأمته، وقيل: روى أبو داود وغيره عن الزهري قال: " إنما صلى عثمان بمنى أربعا، لأن الأعراب قد كثروا في ذلك العام، فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع "(1)، ويؤيده هذا ما رواه البيهقي، «أن عثمان أتم بمنى ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طغام - أي جهال - فخفت أن يستنوا (2)»، وعن ابن جريج أن أعرابيا نادى عثمان في منى
(1) رواه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب الصلاة بمنى 2/ 200 برقم 1964.
(2)
رواه البيهقي في السنن الكبرى - كتاب الصلاة - باب من ترك القصر في السفر غير رغبة عن السنة - 3/ 144.
فقال: " يا أمير المؤمنين، ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول - أي لما كان يقصر - ركعتين "(1)، وبكل حال ففعل عثمان رضي الله عنه اجتهاد منه، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم القصر دون الجمع في منى، والإتمام جائز.
الوقفة الثالثة: في قول الراوي عن ابن مسعود، أنه استرجع - أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون -، ما ينبغي للمسلم إذا رأى أمرا غريبا أو مستنكرا، أن يسترجع أو يقول: سبحان الله، أو الله أكبر.
الوقفة الرابعة: في قول ابن مسعود رضي الله عنه: " فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان "، أنه كان يرى جواز الإتمام، وإلا لما كان له حظ من الأربع ولا من غيرها، فإنها تكون فاسدة كلها، ولذلك فقد أتم مع عثمان، قال ابن قدامة:" المشهور عن أحمد أنه على الاختيار - أي بين الإتمام والقصر - والقصر عنده أفضل، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين "(2).
الوقفة الخامسة: كان استرجاع ابن مسعود لما وقع عنده من مخالفة الأولى وهو القصر، ويؤيده ما رواه أبو داود والبيهقي " أن ابن مسعود صلى أربعا، فقيل له: عبت على عثمان، ثم صليت أربعا،
(1) ينظر لما سبق فتح الباري 2/ 564 - 565.
(2)
ينظر: شرح النووي 5/ 204، فتح الباري 2/ 565.
فقال: الخلاف شر "، وفي رواية البيهقي: " إني لأكره الخلاف " (1)، وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان " إذا صلى مع الإمام صلى أربعا - أي مع عثمان - وإذا صلاها وحده صلى ركعتين " (2)، وفي هذا كله طاعة ولي الأمر، وعدم شق عصا طاعته ومنابذته، وحرمة إثارة الناس عليه ومنازعته، فابن مسعود يعلم أن السنة القصر، والإتمام جائز، ومع ذلك لما رأى أمير المؤمنين عثمان بن عفان يتم أتم معه، ولم يعتزل الأمير، ولم يثر عليه الناس، بل دعا إلى الصلاة خلفه والإتمام به، لما يعلم من أضرار مخالفة ولي الأمر، وما يكون بعدها من الفساد العريض، وقال رضي الله عنه قولته التي تنم عن علم وبصيرة، وحكمة وروية: " الخلاف شر "، فهو يكره الخلاف والنزاع، ويبغض المشاقة ونزع يد الطاعة، وفي قوله وعمله دعوة لغيره كي يقتفوا أثره ويسيروا على نهجه، أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم:«من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني (3)» رواه الشيخان عن أبي
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى فيما سبق 3/ 144.
(2)
رواه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها 5/ 203.
(3)
صحيح البخاري الجهاد والسير (2957)، صحيح مسلم الإمارة (1835)، سنن النسائي الاستعاذة (5510)، سنن ابن ماجه الجهاد (2859)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 387).
هريرة رضي الله عنه.
هذه النصوص وغيرها كثير، دالة على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في غير معصية، فهذا الأصل من الأصول المقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة، وفي المقابل فقد حذر عليه الصلاة والسلام من الفرقة والخلاف، وإثارة الناس ونزع يد الطاعة، وتوعد من فعل ذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية (1)» رواه مسلم، وعلى السمع والطاعة كان عليه الصلاة والسلام يبايع أصحابه، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:«بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في السر والعلن، وعلى النفقة في العسر واليسر والأثرة، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن نرى كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان (2)» رواه الشيخان.
(1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 12/ 240.
(2)
رواه البخاري في صحيحه - كتاب الأحكام - باب كيف يبايع الإمام الناس 13/ 192 برقم 7199، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 12/ 228 واللفظ له.
المثال الخامس: ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى (1)» ، قال نافع:" فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ".
اشتمل هذا الحديث على الفوائد الآتية:
الأولى: جاء في حديث ابن عمر هنا، أنه عليه الصلاة والسلام أفاض يوم النحر، أي: طاف طواف الإفاضة، وهو أحد أركان الحج بإجماع العلماء، ويستحب فعله يوم النحر أول النهار، بعد الرمي والنحر والحلق، فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق، أجزأه ولا دم عليه بالإجماع، فإن أخره إلى ما بعد أيام التشريق، وأتى به بعدها أجزأه ولا شيء عليه عند أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة ومالك: إذا طال تأخيره لزمه معه دم.
الثانية: في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر يوم النحر بمنى، بعد ما فرغ من طواف الإفاضة، وجاء في حديث
(1) صحيح مسلم الحج (1308)، سنن أبو داود المناسك (1998)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 34).
جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حجته صلى الله عليه وسلم أنه أفاض عليه الصلاة والسلام يوم النحر، فصلى بمكة الظهر (1)، قال الإمام النووي:" ووجه الجمع بينهما، أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى، وهذا كما ثبت في الصحيحين في صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل أحد أنواع صلاة الخوف، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه الصلاة بكمالها وسلم بهم، ثم صلى بالطائفة الأخرى تلك الصلاة مرة أخرى، فكانت له صلاتان ولهم صلاة، وأما الحديث الوارد عن عائشة وغيرها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل، فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه، لا لطواف الإفاضة، ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث "(2).
الثالثة: في قول نافع: " فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله "، دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على اتباع سنة النبي - صلى
(1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8/ 194.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم 8/ 193.
الله عليه وسلم - واقتفاء أثره، ولهم في ذلك مواقف محمودة، تدل دلالة واضحة على صدق محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم من آثار ذلك اتباع سنته، واقتفاء أثره قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) ويقول جل وعلا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (2)
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2)
سورة النور الآية 54
المثال السادس: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، عن عبد العزيز بن رفيع قال:«سألت أنس بن مالك قلت: أخبرني بشيء عقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ قال: بمنى، قلت: فأين صلى العصر يوم النحر؟ قال: بالأبطح، ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك (1)» "، وفي رواية «انظر حيث يصلي أمراؤك فصل (2)» .
في هذا الحديث الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: ذكر الحافظ ابن حجر أن سبب تسمية يوم التروية بهذا الاسم، أن الناس كانوا يروون فيه إبلهم، ويتروون من
(1) صحيح البخاري الحج (1653)، صحيح مسلم الحج (1309)، سنن الترمذي الحج (964)، سنن النسائي مناسك الحج (2997)، سنن أبو داود المناسك (1912)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 100)، سنن الدارمي المناسك (1872).
(2)
رواه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب أين صلى الظهر يوم التروية 3/ 507 برقم 1653 - 1654، ورواه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر 9/ 58.
الماء؛ لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وقد قيل في سبب التسمية أقوال شاذة منها: أن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها، ومنها أن إبراهيم رأى ليلته أنه يذبح ابنه إسماعيل، فأصبح متفكرا يتروى، ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج، وقيل غير ذلك، وكلها أقوال شاذة لا تصح (1).
الوقفة الثانية: دل هذا الحديث وغيره على أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية وكذا العصر والمغرب والعشاء وفجر يوم التاسع بمنى، هذا مذهب الجمهور، وقد جاء في حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم:«فلما كان يوم التروية، توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر (2)» ، هذا هو السنة، لكن لو لم يصل هذه الصلوات بمنى يوم التروية فلا شيء عليه، لكنه خالف الأفضل والأولى، وقد روي عن بعض الصحابة أنهم كانوا لا يصلون الظهر يوم التروية بمنى، إنما يصلونها بمكة، روي هذا عن ابن الزبير وابن عباس وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، فعدم صلاتهم بمنى لضرورة أو لبيان الجواز، قال ابن المنذر: " إن من السنة أن يصلي الإمام الظهر
(1) فتح الباري3/ 507.
(2)
صحيح مسلم - كتاب الحج - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 8/ 180.
والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، قال به علماء الأمصار، قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئا " (1).
الوقفة الثالثة: في قول أنس: " افعل ما يفعل أمراؤك "، الأمر بطاعة ولي الأمر ومتابعته وعدم مخالفته، والالتزام بجماعة المسلمين وعدم الخروج عليهم، أو الافتيات على أمرائهم، قال الحافظ ابن حجر:" وفي الحديث أيضا الإشارة إلى متابعة أولي الأمر، والاحتراز عن مخالفة الجماعة "(2)، فقد أمر أنس السائل بأن يصلي مع الأمراء حيث يصلون، ولا يتخلف عن جماعة المسلمين، فالصلاة للحجاج في غير منى يوم التروية جائزة، وإن كان الأفضل الصلاة بها، لكن لا يكون هذا مدعاة إلى مخالفة ولي الأمر، وإثارة الفرقة والخلاف بين الناس، وزعزعة الصف واضطراب الأمور، عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا. . . (3)» الحديث، رواه أحمد والحاكم والطبراني، وروى
(1) ينظر: فتح الباري 3/ 509، شرح النووي على صحيح مسلم 8/ 180.
(2)
فتح الباري 3/ 509.
(3)
رواه أحمد في المسند 6/ 19، والطبراني في المعجم الكبير 18/ 306 برقم 788، والحاكم في المستدرك - كتاب العلم - 1/ 119 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 2/ 81 برقم 542.