الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تتفرع من ولايته على نفسه. والولاية على نفسه لا تثبت إلاّ بالبلوغ عن عقل، والحرية.
وأمّا
البصر:
فلأنّ القدرة على التمييز تثبت به. دلَّ أنّ اشتراط هذه الشرائط في الشهادة موافقٌ للقياس، فيشرط فيما هو في معناها قياسًا عليها.
وأمّا
العدد في الشهادة:
فهو شرط مخالف للقياس. ولهذا لا يشترط في سائر الإخبارات فيقتصر عليها إذا ثبتت هذه المسألة. فيبتني عليها مسائل منها: إذا زكاهم واحد وجرحهم واحد. فعند أبي حنيفة وأبي يوسف: الجرح أولى؛ وإن عندهما الجرح والتعديل يثبت يقول الواحد، فكان الجواب عندهما كالجواب عندهم فيما إذا عدله اثنان وجرحه اثنان.
وعند محمّد: الشهادة موقوفة على حالها لا ترد، ولا تجاب حتّى يجرحه آخر ويعدّله آخر؛ وإن عنده الجرح والتعديل سواء في أن لا يثبت يقول الواحد. فإن جرحه آخر ثبت الجرح فيرد، فإن لم يجرحه آخر وعدّله آخر ثبتت العدالة، فيجاب، فإن جرحه واحد وعدّله اثنان فالتعديل أولى بالإجماع.
أمّا عند محمد، فلأن الجرح لم يثبت.
وأمّا عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلأن العدالة تثبت بما هو حجة في الأحكام كلها. فإن قول الاثنين حجّة في أمور الدين، وليس بحجة في حقوق العيان.
فإن قيل: ترجح التعديل من هذا الوجه، وترجح الجرح من وجهٍ آخر؛ لأنّ الجارح فيما جرح يعتمد ما يمكن الوقوف عليه من حيث العيان. فإنّ أسباب الجرح: ارتكاب كبيرة هي محظور دينه. وهذا مما يمكن الوقوف عليه
من حيث العيان. والمعدّل فيما عدّل يعتمد ما لا يمكن الوقوف عليه إلا من حيث الظّاهر؛ وإن العدالة لا تثبت إلاّ بالأثر. جاز عن جميع المحظورات وهذا مما لا يوقف عليه إلَّا من حيث الظّاهر فاستوى الخبران من هذا الوجه. ولهذا: لو عدَّله اثنان وجرحه اثنان كان الجرح أولى.
قيل له: الواجب من وجهين:
أحدهما: أنه إذا وقعت المعارضة بين الخبرين يتساقطان بحكم المعارضة. فيبقى ما كان على ما كان. والأصل: هو العدالة؛ إلَّا أن هذا غير سديد لأنه حينئذٍ يكون قضاءً بغير العدالة، فيجب أن يختصن به أبو حنيفة ويختص الجواب بحقٍّ يثبت مع الشبهات. وليس كذلك الثاني وهو الصحيح: أن الجارح وإن اعتمد ما يمكن الوقوف عليه من حيث العيان؛ إلاّ أنه لم يجعل خبره حجّة في جميع الأحكام، وإن كان يعتمد ما لا يمكن الوقوف عليه من حيث العيان. عُلِمَ أنه لا يساوي بين هذين المعنيين حيث ترجح هذا في حقوق العباد مع وجود هذا المعنى. فترجّح هذا ضرورةً، وإن جرّحه اثنان وعدّله عشرة. فالجرح أولى؛ لأن الزيادة في العدد على اثنين مما لا يترجح بها ما كان شهادة حقيقةً.
ومعنى فلانٌ لا يترجح بها، ما كان خبرًا أو شهادة معنى كان أولى وإن عدّله وهو محدود في القذف لا يصح؛ وإن عدم كونه محدود في القذف شرط وإن عدّله وهو أعمى لا يصح؛ لأن كونه غير أعمى شرطٌ. وإن كان بصيرًا، ثم أعمى، ثم عدل. فعلى الاختلاف الذي عرفَ في الشهادة.
قال أبو حنيفة: إن شهد الشهود على رجلٍ بمالٍ أو دمٍ فسمع القاضي شهادتهم، فطعن فيهم الخصم. فإنّ القاضي لا يقضي بشهادتهم حتى يسأل
عن حالهم. فإن سأل عن حالهم وزكوا في السر والعلانية فأراد القاضي أن يقضي. فقال المشهود: أنا أجرحهم وأقيم البينة على ذلك. هل يقبل ذلك منهم؟ وتبطل شهادة شهود المدعي. فهذا على وجهين:
أمّا إن أقام البينة على جرح مفردٍ لا يدخل تحت حكم الحاكم. نحو إن قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أنهم فسقة أو زناة أو على إقرارهم: أنّ المدعي استأجرهم على هذه الشهادة أو على إقرارهم أنهم قالوا: لا شهادة عندنا للمدعي على المدّعى عليه في هذه الحادثة أو على إقرارهم أنهم قالوا: إن المدعي مبطل في هذه الدعوى، أو على إقرارهم أنهم قالوا: إنهّم شهدوا بالزور. أو على إقرارهم أنهم قالوا: لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر أو أقام البينة على جرحٍ يدخل تحت حكم الحاكم بأن قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة على أن الشهود زنوا ووضعوا ذلك أو على أن الشهود شربوا الخمر أو على أن الشهود سرقوا مني كذا أو على أن الشهود شركاء في المشهود به. أو على أنّ الشهود صالحوه على كذا درهمًا على أن لا يشهدوا عليَّ. ودفعت لهم ذلك أو على أنهم عبيدٌ أو محدودون في قذفٍ أو على أن المدعي أقرّ أن الشهود شهدوا بالزور أو على أن المدعي أقر أنّه استأجره على هذه الشهادة أو على إقرارهم أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان هذا الأمر فيه.
ففي الوجه الأول: وهو الجرح المجرّد الذي لا يدخل تحت حكم الحاكم لا تقبل هذه البينة عند علمائنا.
وقال ابن أبي ليلى وهو مذهب الشافعي: تقبل.
وفي الوجه الثاني: تقبل بالاتفاق.
وذكر الخصّاف: أن الشهادة على الجرح المفرد تقبل. وقد ذكرنا شيئًا
من ذلك في شرح الجامع الصغير. وتمام ذلك في شرح أدب القاضي المنسوب إلى الخصّاف، في باب: القاضي يَرِدُ عليه كتاب من قاض آخر.
هما يقولان هذه البينة قامت على الجرح. والمدّعى عليه يحتاج إلى إثباته لتندفع عنه خصومة المدعي. فوجب أن يقبل قياسًا على الوجه الثاني.
ولعلمائنا في المسألة ثلاث طرق، أشار إلى جميع ذلك محمد في الكتاب: الأول: أن يقول: إن هذه شهادة قامت لا على خصم؛ لأنه لم يدع على الشاهد شيئًا يقضي القاضي بذلك على الشاهد حتى يصير الشاهد خصمًا له.
الدليل عليه: أن المدعي قبله إذا قال: لا بينة في على ما ادّعيت. وطلب منه القاضي أن يستحلف الشهود على ذلك. فإنّ القاضي لا يستحلفهم على ذلك؛ إلاّ أن هذه الطريق غير سديدة. فإن المدّعى عليه لو أقام البينة على أنهم محدودون في قذفٍ يقبل. وهذه شهادة قامت لا على الخصم؛ فإنه لا يدعي عليهم حقًّا. يقضي القاضي بذلك على الشهود حتى يصير الشاهد خصمًا. ألا ترى أنه إذا لم يكن له بينة على ما ادّعى، فأراد أن يستحلفَ الشهود لم يكن له ذلك. فكذلك لو أقام البينة على إقرار المدعي أنّهم فسقة. وما شاكل ذلك تقبل. وقد قامت لا على خصمٍ. فَعُلِمَ: أن هذا الطريق غير سديد. والثاني: أنه لو قبلت شهادة المدعي قبله على أن شهود المدعي فسقة أو زناة كان للمدعي أن يقيم بينته: أن شهود المدعى عليه شهود فسقة أو زناة أيضًا ثم. وثم. فيؤدي إلى التهاتر، إلاّ أن هذا الطريق غير سديد. فإنّ المدعي قبله لو أقام البينة على أنهم محدودون في قذفٍ. تقبل. وكذا لو أقام البينة
على أنهم محدودون في قذفٍ تقبل. كذا لو أقام البينة على أنهم زنوا أو وضعوا أو سرقوا مني. تقبل مع ما يؤدي إلى التهاتر.
فَعُلِمَ: أن هذا الطريق غير سديدٍ.
والثالث وهو السديد: وهو الذي اختاره القاضي الإمام صاعد (1) وهو: أن الشّاهد بالشهادة على الجرح المفرد صار فاسقًا؛ لأنه ارتكب كبيرةً ألحق بفاعله الوعيد في الدنيا والآخرة بنصّ القرآن المعظّم؛ لأنه أظهر الفاحشة من غير ضرورة. وإظهار الفاحشة من غير ضرورةٍ حرامٌ بنصّ القرآن.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] الآية.
فعلمَ: أن الشاهد صار فاسقًا. والمشهود به لا يثبت بشهادة الفاسق. فإن قيل في إظهار الفاحشة ضرورة رفع الخصومة عن المدعى عليه. وصار كما لو أقام البينة على جرحٍ يدخل تحت حكم الحاكم.
قيل له: لا ضرورة منها؛ وإن الضرورة تندفع بأن يقول سرًّا للمدعي
(1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 10): صاعد بن محمد بن أحمد بن عبد الله، أبو العلاء، عماد الإسلام، قاضي نيسابور الاستواي، تفقه على أبي نصر بن سهل، واختلف في الأدب إلى أبي بكر الخوازمي، له: كتاب الاعتقاد، ذكر فيه عبد الملك ابن أبي الوارث أنه أشار إلى قصرهم العتيق بالبصرة، وقال: وقد خرج من هذه الدار سبعون قاضيًا على مذهب أبي حنيفة، كلهم كانوا يرون إثبات القدر، وأن الله تعالى خلق الخير والشرّ، ويروون ذلك عن أبي حنفية وأبي يوسف ومحمد وزفر وأصحابهم. قال الخطيب: بلغنا أنه مات سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة. وقيل: سنة إحدى وثلاثين. وقال السمعاني: ولد في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة.
أو للقاضي، ولا يظهر ذلك في مجلس الحكم بخلاف أنّهم ما إذا شهدوا أنهم زنوا ووضعوا أو شربوا الخمر أو سرقوا مني؛ وإن في إظهار الفاحشة ثمّة ضرورة وهي إقامة الحدّ على الشهود بخلاف ما إذا شهدوا على أنهم شركاء في المشهود به؛ لأنّه ليس في ذلك إظهار الفاحشة من جهة الشاهد. وإنما حكى إظهار الفاحشة عن غيره. وهو شهود القذف إذ القاضي أو الحاكم لإظهار الفاحشة من غيره لا يكون مظهرًا للفاحشة. فلم يكن فاسقًا فيثبت المشهود به بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدعي أنهم فسقة وما شاكل ذلك؛ لأنه ما شهد بإظهار الفاحشة وإنما حكى إظهار الفاحشة من غيره وهو المدعي فلم يصر فاسقًا فيثبت المشهود به.
أمَّا إذا أقام البينة: أنّي صافحتهم على ذلك. فإنّ القاضي يسأل المدعى عليه. فإن قال: أعطيتهم المال قبلت البينة. وإن كان فيه إظهار الفاحشة؛ ولأن فيه ضرورة ليصل إلى المال.
وإن قال: لم أعطهم لم يقبل؛ وإن فيه إظهار الفاحشة من غير ضرورة. فدل على أن هذه الطريق غير سديد.
وقد جمع محمد بين الطرق الثلاث، وإن كان البعض سديدًا والبعض غير سديد ليتميز السديد من غير السديد بالتأمّل والتفكر. فلهذا جمع ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *