الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على قضائه بهذه الصّفة. وعلى هذا فيبعد وقوع التنفيذ المصطلح عليه الآن في مثل هذه الصّورة؛ لأنّه يكون بعد شهادة الشّهود على ما نسبَ إلى القاضي في أسجاله. والله أعلم.
* * *
* و
سئل رحمه الله: عن رجلٍ وقف شيئًا معيّنًا من ماله على نفسه
، ثم من بعده على جهة معيّنة ولم يتصل بحاكمٍ شرعيٍّ، ثم من بعد ذلك وقف ذلك الشيء بعينه على نفسه، ثم من بعده على جهةٍ أخرى غير الجهة الأولى، وحكم بصحّة هذا الوقف الثاني ولزومه لدى حاكمٍ حنفيّ في وجه الواقف في ساعة الوقف، ولم يتّصل الوقف الأوّل بحاكمٍ أصلًا، ثم بعد موت الواقف وإيصال العين الموقوفة إلى الجهة الثانية حكم حاكم حنفي بصحّة الوقف الأوّل لعدم علمه بالوقف الثاني والحكم به. فأيّ الوقفين هو الصحيح المقول به؟. أفتوا مأجورين.
فأجاب:
الوقف الأول هو الصّحيح لاتفاق المشايخ على أنّ الفتوى على قولهما بلزوم الوقف، وحيث كان لازمًا فلا يصحّ تغييره بلا شرطٍ منه، ولا يضر في لزومه عدم اتّصاله بحاكم؛ لأن الحاكم ممنوع شرعًا أن يحكم بخلاف ما عليه الفتوى. والله أعلمُ.
* * *
* و
سئل رحمه الله: في قول السّادة الحنفية، فيمن استأجر عبدًا للخدمة
فسافر به بغير إذن مولاه، ثم ردّه إلى مولاه سالمًا لا أجر له عندنا.
هل المراد: لا أجر له قياسًا واستحسانًا أو قياسًا لا استحسانًا، كما هو الحكم فيمن استأجر حانوتًا فأسكن فيه حدّادًا بغير إذن مالكه، ثم ردّه إليه غير منهدمٍ؛ لأنه لا يلزم الأجر قياسًا. ويلزمه استحسانًا، كما صرّح به في معراج الدّراية وغيرها، على أنّهم قاسوا مسألة المسافرة بالعبد على مسألة إسكان الحداد، فهل سكتوا في مسألة المسافرة عن القياس والاستحسان اعتمادًا على ما قد مرّ في مسألة الحداد وبين المسألتين فرق في وجوب الأجر وعدمه، فإن كان بينهما فرق فبيّنوه للسائلين رضي الله عنكم؟.
فأجاب:
الحمدُ لله ربّ العالمين.
اعلم: أن القياس والاستحسان إنما يجريان في بعض المسائل كمسألة الدّار دون مسألة بعض كمسألة العبد. فلا يقال له فيها: لا أجر له قياسًا واستحسانًا، ولا قياسًا فقط؛ لأنّهما مما لا يتأتّى فيها ذلك، ولم يقس علماؤنا مسألة المسافرة بالعبد على مسألة إسكان الحداد، وإنما وقع لبعض المصنفين تشبيهها بها في أنه لا يجوز ما لم يسأله الإطلاق إلّا بالشرط. وإنّما افترق الجوابان؛ لأنّ المعقود عليه في مسألة الدّار السُّكنى، وفي الحدادة السّكنى وزيادة، فقد استوفى المعقود عليه وزيادة، وسَلِمت العين من الزيادة، فوجب الأجر وسقط الضمان، وخدمة الحضر والسفر في حكم جنسين مختلفين فقد استوفى خلاف ما وقع عليه العقد، فلا أجر. وقد سلّمت العين بما استوفى، فسقط الضّمان. والله تعالى أعلم.
قال - رحمه الله تعالى -:
قد وقفت في خلاصة الفتاوى (1) على قوله:
قال الإمام أبو حفص السفكردي في فوائده: لا ينبغي للحنفي أن يزوّج بنته من شفعوي المذهب.
وهكذا قال بعض مشايخنا، وإلى جانب هذا حاشية: إنّما لا ينبغي العكس، فإن الحنفية يستحسنون، ومن استحسن شرع.
وذكر لي بعض خلفاء الحكم العزيز، وبعض الطّلبة: أنّ هذه الحاشية بخط البقاعي، وأنّه يحتج بذلك.
فقلت: قد فضح نفسه وشهد عليها بالجهل المركّب، واستوجب التعزير الشديد والحبس المديد إلى أن يظهر توبته من القدح في أئمة الدين، ويذهب شيطان رأسه؛ لأن ما قاله الإمام أبو بكر بن الفضل والإمام السفكردي فقد صرّح به الإمام فخر الدين عن السّادة الشّافعية حيث قال: أمّا المقام الأوّل: فتقريره عند الإمام الشّافعي: أنّ الإيمان عندهُ عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، ولا شكّ أن كون الإنسان آتيًا بالأعمال الصّالحة مشكوكٌ فيها، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشّك في حصول تلك الماهية، فالإنسان وإن كان جازمًا بحصول الاعتقاد والإقرار، إلّا أنّه لما كان شاكًّا في حصول العمل، فإنّ هذا القدر يوجب كونه شاكًّا في حصول الإيمان.
(1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 10): طاهر بن محمد بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري، له: كتاب الواقعات، وكتاب النصاب، وكتاب خلاصة الفتاوى. ولد سنة 482 هـ ومات سنة 542 هـ. انظر الأعلام للزركلي (3/ 220) ومعجم المؤلفين (5/ 33) والجواهر المضيئة للقرشي (1/ 265).
وأمّا عند الحنفية فلما كان الإيمان اسمًا للاعتقاد والقول، وكان العمل خارجًا عن مسمّى الإيمان، لم يلزم حصول الشّك في العمل حصول الشّك في الإيمان، فثبت: أنّ من كان قوله: أنّ الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزم وقوع الشّك في الإيمان.
ومن قال: العمل خارجٌ عن مسمّى الإيمان يلزمه نفي الشّك عن الإيمان. انتهى بحروفه.
فظهر على هذا: عدم كفاءة الشّافعي لابنة الحنفي. والله أعلم.
ولمّا لم يتعرض المتعرّض لدفع هذا ولا لتأويل الاستثناء في الإيمان كان قوله: وإنّما لا ينبغي العكس من قبيل فساد الوضع.
وقوله: فإنّ الحنفية يستحسنون كذب وجهالة.
أمّا كونه كذاب، فلأنه أخبر عن المنتسبين إلى مذهب أبي حنيفة وهم لم يفعلوا ذلك؛ لأنّه من حيث المجتهد، لا من صنيع الاتباع.
وأمّا كونه جهالة، فإن المسألة في الاتباع فلم يوافق الدليل الدّعوى، ثم قصره على الحنفية جهالة بمذاهب العلماء أيضًا.
وقوله: وعن استحسن فقد شرع. كذب وجهالة، وقدح في أئمة الدين؛ لأنّ الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم قد ذهبوا إلى الاستحسان وحاشاهم أن يشرعوا في الدّين ما لم يأذن به الله.
وبيان ذلك: أن الاستحسان كما قال الكرخي: قطع المسألة عن نظائرها، لما هو أقوى. وذلك الأقوى هو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه أفهام المجتهدين نصًا كان أو إجماعًا أو قياسًا خفيًّا، وهذا مما ذهب إليه جميع الأئمة
حتّى قال ابن الحاجب: لا يتحقق استحسان مختلفٌ فيه، وقد أطلقه الشافعي فقال في المتعة: أستحسن أن يكون ثلاثين درهمًا، وثبوت الشفعة في ثلاثة أيّام، وترك شيءٍ من الكتابةِ له، وأن لا يقطع يمين سارق أخرجَ يده اليسرى فقطعت.
وقالوا في الشّركة: التشريك استحسان. وذهب إليه الشَّافعي.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في روايةٍ الميموني: أستحسن أن يتيمم لكلّ صلاةٍ.
والقياس: أنّه بمنزلة الماء حتى يحدث أو يجد الماء.
وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضًا فزرعها الزرع لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا بشيءٍ يوافق القياس، ولكن أستحسن أن يدفع إليه نفقته.
وقال في رواية صالح في المضارب: إذا خالف واشترى غير ما أمر به صاحب المال. ولهذا أجرُ مثله، إلّا أن يكون الرّبح يحيط بأجر مثله، فيذهبُ، وكنتُ أذهب إلى أن الرّبح لصاحب المال، ثم استحسن إلى آخره.
وقال الإمام نجم الدين بن عبد القوي: وكتب أصحابه يسمّونه بالاستحسان.
قال القاضي عبد الوهّاب: لم ينصّ عليه مالك.
وكتب أصحابنا مملوءةً منه كابن القاسم، وأشهب وغيرهما.
وقال ابن الحاجب: ولم يتحقق استحسان مختلف فيه، وقد تقدّم هذا في مختصره.
وقال الإمام جمال الدين عبد الرحيم: اتّفقت الأمّة على امتناع القول
في الدين بالتشهي. فالاستحسان هو القول بأقوى الدليلين وذلك بترجيح أحد الدليلين على الآخر.
ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن. وإنّما يكون في حسنين. وإنّما يوصف القول بالحسن إذا جاز العملُ به لو لم يعارض. ويؤيده قوله تعالى:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18].
إذ هو يستدعي مقولًا حسنًا وأحسن. وذلك يستدعي دليلًا غير أحدهما، وليس إلّا الترجيح بدليلٍ. انتهى.
فلما كانت الأحكام المستحسنة ثابتة بالسنة والإجماع والضرورة لدفع الحرج والقياس، لم يكن شرعًا جديدًا، كما زعمه الجاهل المتعولم. وكان المستنبط لها مأجورًا بالنّص لَا مُعابًا، فمن جعله مُعابًا وتنَزّه بذلك استوجب ما ذكرنا. والجاهلون لأهل العلم أعداء.
وقد أخبرني علّامة زمانه كمال الدين ابن الهمام، عن شيخ الكل في الكل عزّ الدين ابن جماعة أنّه قال: النُّصرة بحسب القُدرة. وهذا ما أقدرني الله عليه الآن. وهو حسبي ونعم الوكيل.
ولما ذكر لي بعض (1) طلبة العلم: أنّ هذا الطّاعن في أئمتنا من أخصّ النّاس لسيدنا ومولانا قاضي القضاة الحنفية.
قلت: يقال له: إنّ الذي شرفت من أجله يزعمُ بهذا أنّه غائبٌ. ثم بلغني: أنّه بلغ القادح في أئمة الدين شيءٌ مما قلته. فقال: إنّ هذا الكلام قاله الإمام الشّافعي. فقلت: وهذا الكلام من هذا القائل من الجهل المركّب حيث
(1) في المخطوط: (بعد). ولعله المثبت (بعض).
تصوّر كلام الإمام على خلاف ما هو به، ونزّله على ما لا يطابقه؛ لأنّ عاقلًا لا يقول بإرادة الإمام عموم المستحسنين للأشياء. وحيث لم يكن العموم مرادًا عقلًا لا يصحّ استدلاله عقلًا وما لا يصح عقلًا فهو من الجهل.
فقيل لي: فما مراد الإمام؟.
قلت: مرادهُ: من استحسن أمرًا من الدّين بلا دليلٍ فقد شرع ذلك الأمر، فلا يكون من مشروع الشّارع؛ لأنّ المشروع ما كان عن نصٍّ شرعي أو إجماعٍ أو قياس جَلِيٍّ أو خفيٍّ.
أشار إلى ذلك علماء الشّافعية في شروح المنهاج. وعلماء الحنفية في أصولهم.
قيل: فهل يحفظ شيئًا من نصوص أبي حنيفة وأصحابه في ذلك؟.
فقلت: نعم.
قال في الأهلاني: بئر وجدَ فيها دجاجة ميمة منتفخة على من توضّأ من ذلك الماء وصلّى أن يعيد الوضوء ويعيد صلاته ثلاثة أيّام ولياليهنّ. قلت: وهو لا يعلم متى وقعت؟ قال: أستحسن ذلك وآخذ بالثّقة لأنهّا صلاة. وأن يصلّي الرجل شيئًا قد صلاّه، وفرغَ منه أحبّ إليّ من أن يترك شيئًا واجبًا عليه.
قلت: أرأيت قولك في الدّم إذا كان أكثر من قدر الدّرهم، أعاد الصّلاة لم قلته؟ قال: لأنّه بلغني عن إبراهيم النخعي أنّه قال: قدر الدّرهم، والدّرهم قد يكون أكثر من الدراهم، فوضعناه على أكبر ما يكون منها. أستحسن ذلك.
قلت: فلمَ استحسنتَ في النوم إذا كان قاعدًا أو ساجدًا أو قائمًا أو راكعًا؟.
قال: جاء في ذلك أثر، وأخذتُ به، وأخذت في ذهاب العقل بالقياس؛ لأن ذهاب العقل أشدّ من الحدث.
رجلٌ مكثَ في الصّلاة يتفكّر حتى شغله ذلك عن ركعةٍ أو سجدةٍ أو كان راكعًا أو ساجدًا فأطال الرّكوع والسّجود، ويتفكّر، ثم ظنّ أنّها الظّهر. هل يجب عليه في ذلك سجدتا الشهو؟.
قال: إذا تغيّر عن حاله فتفكر، استحسنت أن أجعل عليه سجدتي السّهو.
قلت: أرأيت مسافرًا افتتح الظّهر وصلّى ركعةً، ثم أحدثَ فانصرف ليتوضأ، فلم يجد الماء فتيمم بالصّعيد، ثم وجد الماء قبل أن يعود إلى مقامه، وبدأ المقام. قال: يتوضأ ويبني على صلاته ويكمل أربع ركعات. ورؤيته الماء في مقامه وقبل أن يقوم في مقامه أو في غير مقامه سواء في القياس غير أني استحسنت ذلك وآمُرُهُ أن يتوضأ ويبني على صلاته ما لم يرها بعدما يقوم في مقامه أو في غير مقامه.
قلت: أرأيت إمامًا صلّى بقومٍ ركعة أو ركعتين، ثم أحدث، فلم يعلم أحدًا حتى خرج من المسجد. قال: صلاة القوم فاسدة وعليهم أن يستقبلوا الصلاة.
قلت: لِم؟ قال: أستحسن ذلك. وأرى له فسخًا أن يكون قومٌ في الصّلاة في المسجد وإمامهم في أهله.
قلت: أرأيت رجلًا دخل مع الإمام في الصّلاة وقد سبقه بركعةٍ، والرّجل أُمّي، فلما فرغَ الإمام من صلاته قامَ الرّجل ليقضي، أيجب عليه أن يقرأ فيما بقيَ؟ قال: نعم.
قلت: فإذا لم يحسن أن يقرأ.
قال: أمّا في القياس: فإنّ صلاته فاسدة، ولكن أدع القياس وأستحسن أن يجزئه.
قلت: لِمَ؟ قال: أرأيتَ لو كان: أخرس فسبقه الإمام بركعة فقام يقضي، أمَا كانَ تُجزئه صلاتهُ؟!.
قلت: بلى. قال: هذا وذلك سواء.
قلت: أرأيت رجلًا افتتح التطوع فصلّى أربع ركعاتٍ ولم يقعد في الثانية. قال: يجزئه. وعليه سجدتا السّهو إن كان فعل ذلك ناسيًا.
قلت له: أليسَ قد أفسدت الأوليين حيث لم يقعد فيها.
قال: أمّا في القياس فقد أفسدتهما، ولكن أدعُ القياس وأستحسن، فأجعلهما بمنزلة الفريضة ألَا ترى لو أنّ رجُلًا صلّى الطهر أربعًا، ولم يقعد في الثّانية وقعد في الرّابعة، وتشهّد أنّ صلاته تامّة، وعليه سجدتا السهو. فكذلك هذا.
قلت: فإن كانت السجدة في وسط الصّلاة كيف يصنع لها؟ قال: يسجد لها، ثم يقوم فيقرأ ما بقيَ أو ما بدا له منها، ثم يركع.
قلت: فإذا أراد الرّكوع بالسّجدة بعينها. هل يجزئه ذلك؟.
قال: أمّا في القياس فالرّكعة في ذلك والسجدة سواء لأنّ كل ذلك صلاة.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24].
وتفسيرها: خرّ ساجدًا. فالرّكعة والسجدة سواء في القياس.