المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والزّوزني في شرح المنظومة وقاضي خان والزاهدي والنسفي في الكافي - مجموعة رسائل العلامة قاسم بن قطلوبغا

[ابن قطلوبغا]

فهرس الكتاب

- ‌مَدخَل

- ‌الكِتَاب

- ‌وَصفُ المَخْطُوطِ

- ‌صِحَّةُ نِسْبَةِ المَجمُوع

- ‌مَصَادِر المَجْمُوع

- ‌عَمَلُنَا فِي المَجْمُوعِ

- ‌تَرْجَمَةُ العلَّامة قَاسِم بن قُطْلُوبغَا

- ‌ اسمه ونسبه:

- ‌ مولده:

- ‌ صفته:

- ‌ العلوم التي برع فيها:

- ‌ مذهبه:

- ‌ المناصب التي وليها:

- ‌ رحلاته العلمية:

- ‌ شيوخه:

- ‌ تلاميذه:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ مصنفاته:

- ‌ القرآن وعلومه:

- ‌ التخريج:

- ‌ الرجال وعلومه:

- ‌ الحديث وعلومه:

- ‌ الفقه وعلومه:

- ‌ أصول الفقه:

- ‌ السيرة:

- ‌ النقد:

- ‌ اللغة العربية:

- ‌ علم الكلام:

- ‌ مرضه ووفاته:

- ‌ مصادر الترجمة:

- ‌تَرْجَمَةُ شَمْس الدِّين ابن أَمِيْر حَاج الحَلَبِيِّ

- ‌ اسمه:

- ‌ أولاده:

- ‌ صفته:

- ‌ المناصب التي تولاها:

- ‌ تصانيفه:

- ‌ وفاته:

- ‌ مصادر ترجمته:

- ‌[1]رَفْعُ الاشْتِبَاهِ عَنْ مَسَائِلِ المِيَاهِ

- ‌ لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُفْتِي بِقَوْلنَا مَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ

- ‌ سئلت عن مسائل وأجوبتها منقولة فلا بأس نذكرها تتميماً:

- ‌[2]رِسَالَةٌ فِيهَا أَجْوِبَةٌ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلَ وَقَعَتْ

- ‌ إذا أصابوا في البئر فأرة متفسخة، وكانوا قبل ذلك قد طبخوا أو عجنوا من مائها، هل يؤكل

- ‌ رجل يمسح على خرقة على جراحةٍ بيده

- ‌ رجلٍ صلّى الظهر، فشكّ وهو في الصلاة أنه على وضوءٍ أم لا، ما الفعلُ

- ‌ إذا تعمَّد ترك الواجب أو تأخيره، لم يجب عليه سجود السهو

- ‌ المسبوق إذا سلَّم مَعَ الإمام ساهيًا، هل تبطل صلاته

- ‌ رجلٌ أجَّرَ دارًا

- ‌ رجلٌ له ثلاث مئة قد حال عليها الحول، فخلطها بخمس مئة، ثم ضاع من المال كله خمس مئة

- ‌ في رجلٍ صائم قال له آخر: امرأته طالق إن لم يفطر

- ‌ التقبيل الفاحش

- ‌[3]النَّجَدَات بِبَيَانِ السَّهْوِ في السَّجْدَاتِ

- ‌[4]أَحْكَامُ الفَأْرَة إِذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيتِ وَنَحْوِه

- ‌ تنجّس الدهن:

- ‌[5]أَحْكَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي المَسْجِدِ

- ‌لو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد، ومعه صفٌّ والباقي في المسجد

- ‌[6][رِسَالَةٌ فِي] التَّرَاوِيحِ وَالوِتْرِ

- ‌وَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا

- ‌فصلٌالانتظار من كل ترويحتين قدر الترويحة

- ‌فصل وقدر القراءة في التراويح

- ‌فصلٌإذا صلّى الإمام التراويح قاعدًا لعذرٍ أو لغير عذرٍ والقوم قيام

- ‌فصلٌ وإذا صلَّى التراويح قاعدًا من غير عذرٍ

- ‌فصلٌ إذا صلّى التراويح مقتديًا بمن يصلي المكتوبة، أو وترًا، أو نافلة غير التراويح

- ‌فَصْلٌ إذا صلَّى ترويحةً واحدةً بتسليمةٍ واحدةٍ، وقد قعد في الثّانية قدر التشهد

- ‌[7]الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ

- ‌ صورة ما كتبه المرحوم الشيخ العلامة يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي

- ‌[8]أَحْكَامُ القَهْقَهةِ

- ‌ تتمة:

- ‌ فائدة:في التوكيل في النكاح

- ‌[9]الأَصْلُ فِي بَيَانِ الفَصْلِ والوَصْلِ

- ‌[10]الأُسُوس في كَيْفَّيةِ الجُلُوسِ

- ‌[11]تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِن شَوَّال

- ‌ فائدة:

- ‌[12]رِسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي

- ‌[13][رِسَالَةٌ فِي] العِدَّةِ

- ‌كتب على هذه بعض مشايخ العصر ما صورته:

- ‌[فَتْوَى عَنِ القَصْرِ وَالإتْمَامِ]

- ‌[14]مَسْأَلَةٌ فِي حَطِّ الثَّمَنِ وَالإِبْرَاءِ مِنْهُ وَصَحَّةِ ذَلكَ

- ‌[15]مِن مَسَائِلِ الشُّيُوع

- ‌سئلتُ عن بيع حصّةٍ شائعةٍ من عقارٍ

- ‌[الفصل] الأوّل:

- ‌ أقسام الشيوع

- ‌ الفصل الثاني:

- ‌ الفصل الثالث:

- ‌ أجرُ الشّائع

- ‌قرض المشاع

- ‌ وهب الشائع

- ‌ الشيوع الطارئ:

- ‌ وقف الشائع:

- ‌ رهنَ الشائع

- ‌ الفصل الرابع:

- ‌ إجارة المشاع:

- ‌ الإعارة في الشائع:

- ‌ الرهن

- ‌ الصّدقة:

- ‌ الوقف:

- ‌[16]أَحْكَامُ التَّزْكِيَةِ وَالشَّهَادَةِ

- ‌سئلتُ عن رجل شهدَ عليه عند قاضٍ مالكي المذهب:

- ‌صورة التزكية

- ‌ العدالة

- ‌البلوغ

- ‌ البصر:

- ‌ العدد في الشهادة:

- ‌مَسَائِلُ التَّزْكِيَة

- ‌[17]القَوْلُ القَائِم في بَيَانِ تَأْثِيرِ حُكْمِ الحَاكِمِ

- ‌[18][رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ

- ‌[19]تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في مَسْأَلَةِ الاسْتِبْدَالِ

- ‌[20]مَسْأَلَةٌ فِي الوَقْفِ وَاشْتِرَاطِ النَّظَرِ لِلأَرْشَدِ فَالأَرْشَدِ

- ‌وسئلت عن واقفٍ شرط أن يكون النظر للأرشد فالأرشد

- ‌ صورة سؤال ورد على الشيخ رحمه الله من دمشق:

- ‌ مسألةٌ مهمّةٌ

- ‌ مسألة أخرى:

- ‌[21]صُورَةُ سُؤَالَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ عَنْهَا

- ‌ورد على الشيخ - رحمه الله تعالى - من دمشقٍ:

- ‌ باب العول:

- ‌ باب الرّدّ

- ‌ فائدة:

- ‌[22]مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلَاق بِالنِّكاحِ

- ‌هل تكون الخلوة إجازةً

- ‌هل للفضولي فسخ العقد قبل الإجازة

- ‌صورة السجل:

- ‌ تتميم:

- ‌[23]مَسْأَلَةٌ في طَلَاقِ المَرِيضِ زَوْجَتهُ

- ‌ فائدة:

- ‌ فائدة أخرى:

- ‌ نكتة:

- ‌سئلت عن رجلٍ طلّق امرأته طلقتين وراجعها من الثانية

- ‌سئل عن رجلٍ حلف بالطلاق من زوجته

- ‌ سئل - رحمه الله تعالى -: عن امرأةٍ

- ‌سئل رحمه الله: عمّن باع داراً بيع التقاضي وقبض بعض الثمن، ثم أقبض الباقي بعد هذه

- ‌ مسألة:

- ‌سئل عن رجل باع عن رجلٍ

- ‌سئل عن رجلٍ باع ثوباً

- ‌سئل عن رجلٍ باع ديناراً

- ‌سئل عن رجلٍ اشترى من صيّادِ سمكةً ودفع ثمنها

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ اقترض من رجلٍ مالاً على تركةِ فلان

- ‌[24][رِسَالَةٌ في] حَفْرِ المُرَبَّعَاتِ

- ‌ سئل - رحمه الله تعالى - عن رجلٍ استأجر أُجراء يحفرون له مربعة

- ‌سئل عن رجلٍ استأجرَ جميع بستانين

- ‌سئل الشيخ من مدينة غزّة:

- ‌سئل - رحمه الله تعالى - عمّن عليه دَينٌ مستغرق

- ‌سئل رحمه الله عن رجل عليه دُيونٌ

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ طلّق زوجته البالغة طلاقًا بائنًا

- ‌[25]حُكْمُ الخُلْعِ وَحُكْمُ الحَنْبَلي فِيهِ

- ‌سئل رحمه الله عن زوجين اختصما بعد الفرقة في صغيرةٍ بينهما

- ‌سئل رحمه الله: ما تقول في قول الخلاصة وغيره: إنّ الشّاهدين إذا شهدا أنّ القاضي قضى لفلانٍ على فلانٍ بكذا

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ وقف شيئًا معيّنًا من ماله على نفسه

- ‌سئل رحمه الله: في قول السّادة الحنفية، فيمن استأجر عبدًا للخدمة

- ‌سئلتُ عن واقفٍ وَقَفَ وقفًا وشرطَ لنفسهِ التبديل والتغيير، فغيّر الوقف لزوجته

- ‌مُلْحَق المَجْمُوعِ تَعْرِيفُ المُسْتَرْشِد في حُكْمِ الغِراسِ في المَسْجِدِ

- ‌ تنبيه:

- ‌ تذييل:

الفصل: والزّوزني في شرح المنظومة وقاضي خان والزاهدي والنسفي في الكافي

والزّوزني في شرح المنظومة وقاضي خان والزاهدي والنسفي في الكافي وصاحب الهداية فيها وفي مختارات النوازل وبرهان الشريعة وصدر الشريعة وأبو الفضل الموصلي في الاختيار: الفتوى على قولهما في المسألة عن الشهود. طعن الخصم أو لم يطعن.

ثم إنّ هذا القاضي لا يعلم مسائل التزكية وهي من المهمّات التي كتب فيها الإمام محمد بن الحسن، وتكلّم عليها الصّدر حسام الدين فقال: يحتاج إلى معرفة كتاب سورة المزكي، و‌

‌صورة التزكية

، فصورة المزكي هو الضعيف في نفسه، أمين من أمناء البلدة بإمرة القاضي يتعرف حال من لا تعرف عدالته من الشهود.

وصورة التزكية: أنه إذا شهد الشهود بين يدي القاضي. فالقاضي يكتب أسماءهم وأنسابهم وأسماء آبائهم وأجدادهم وحليتهم ومحلاتهم ومصلاّهم. ويبعث ذلك مختوماً على يدٍ أمينةٍ إلى المزكي لينظر المزكي في حالهم، فإن وجدهم عدولاً كتب في آخر الكتاب أنّهم عدول عندي جائزي الشهادة، وإن وجدهم خلاف ذلك كتب: أنهم غير جائزي الشهادة.

ثم التزكية نوعان:

تزكية في السر.

وتزكية في العلانية.

فالتزكية في السّر: أن يسأل المزكي عن الشهود حال غيبتهم ويزكيهم بالكتاب إلى القاضي حال غيبتهم.

والتزكية في العلانية: أن يقول من يعرف حال الشهود للمزكي حال حضرته. هذا عدل؛ لأن المزكي إنما عرف الشاهد بالاسم والنسب والحلية.

ص: 450

وهذا لا يقطع التزكية من كل وجهٍ، فيجب أن يزكيه في العلانية بالإشارة حتى تنقطع التزكية من كل وجهٍ.

ثم المزكي بعد ذلك بين يدي القاضي يشير إلى الشهود فيقول: إنهم عدولٌ؛ لأنّ القاضي إنما عرف تزكية المزكي بالاسم والنسب والحلية. وهذا لا يقطع التزكية من كل وجهٍ.

فيعرف القاضي: أن المزكي إنما عدل أولئك الذين شهدوا عنده من كل وجهٍ، لكن لعدم التزكية في السّر على التزكية في العلانية؛ لأنّه أحوط؛ لأن المزكي إذا سأل عن حال الشاهد في العلانية ربما يكون الشّاهد فاسقًا، فلا يجد من يعرفه إمّا سترًا عليه، وإمّا خوفًا منه. وكذلك: إذا سأل القاضي المزكي عن حال الشهود (1) في العلانية. وللقاضي الخيار: إن شاء جمع بينهما؛ لأنّه أحوط؛ لأنه يزول الالتباس وتنقطع التزكية عنه عند المزكي والقاضي جميعًا من كل وجهٍ. وإن شاء اكتفى بالتزكية سرًا.

واليوم في ديارنا اختار القضاة الاكتفاء بالتزكية سرًّا لأحد الأمرين: إما لكيلا يعرف المزكي فلا يخدع لتغيير أحوال النَّاس ولكيلا يخاف المزكي من جرحٌ الشهود.

قال محمد رحمه الله في الكتاب: والتزكية في العلانية هي التزكية الأولى وهو حسنة جميلة يريد به أن المشروع في الابتداء: التزكية العلانية، وإنما أحد توابعه ذلك التزكية سرًا.

والدليل عليه: ما ذكر محمد في الكتاب قال: بلغنا أن شريحًا كان يقبل

(1) جاء في هامش المخطوط: (الشاهد).

ص: 451

التزكية في العلانية، ثم أحدث تزكية السر. فقيل له: يا أبا [أمية](1). أحدثت ما لم نكن نعرفه. فقال شريح: إنّ النَّاس أحدثوا فأحدثنا لهم.

وفي الكتاب ثلاث مسائل:

إحداها: أنه هل للقاضي أن يقضي بظاهر العدالة من غير سؤالٍ إذا كان هذا الشاهد مستور الحال، وقد قدّمت الشهادة على حق ثبت مع الشبهات.

الثانية: أن العدد في المزكي والمترجم هل هو شرط.

الثالثة: أن المدعى عليه متى أقام البينة على ما يبطل شهادة الشهود، فيما إذا تقبل، وفيما إذا لا تقبل. إذا عرفنا هذا جئنا إلى ما افتتح محمد رحمه الله الكتاب به.

* [المسالة الأولى]:

قال أبو حنيفة ومحمد: إذا تقدم بين يدي القاضي رجلان فادّعى أحدهما على صاحبه حقًا، وأنكر ذلك صاحبه، فأقام المدعي شاهدان على المدعى عليه وهما مستوران. فأراد القاضي أن يقضي بظاهر العدالة قبل أن يسأل عن حالهما.

قال أبو حنيفة: له أن يقضي بذلك إذا لم يطعن الخصم فيهم. والمشهود به حق ثبت مع الشبهات.

وقال أبو يوسف ومحمد: ليس له أن يقضي، وأجمعوا على أن المدعى به إذا كان حقًا لا يثبت مع الشبهات كالحدود والقصاص. ليس للقاضي

(1) ما بين معكوفتين: فراغ في المخطوط استدرك من المبسوط - كتاب أدب القاضي، ومن تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق.

ص: 452

أن يقضي. وأجمعوا على أنه إذا طعن الخصم في الشهود بأن جرحهم ليس له أن يقضي ما لم يسأل عنهم.

واختلف المشايخ:

منهم من قال: بأنّ هذا الاختلاف تفسير وزمانٌ، لا خلاف حجة وبرهان؛ وإن أبا حنيفة إنما قال ذلك في أوّل زمانه؛ وإن تعديل أهل زمانه إنما ثبت من جهة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في القرن الثالث. وقد أفتى النبي صلى الله عليه وسلم على القرن الثالث بالخيرية. فإنه قال:"خَيْرُ الْقُرُونِ الَّذِي أَناَ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونهمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونهمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ"(1). الحديث.

ومتى ثبت تعديل أهل زمانه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم استغنى القاضي عن تعديل المزكي، وأبو يوسف ومحمد إنّما قالا ذلك في أهل زمانهما؛ وإن تعديل أهل زمانهما لم يثبت من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، فاحتاج القاضي إلى تعديل المزكي. إِلَاّ أن هذا غير سديد.

والاعتراض عليه: أن في زمن أبي حنيفة إنما كان للقاضي أن يقضي بظاهر العدالة ما لم يطعن الخصم فيهم، فإذا طعن لم يكن له أن يقضي، وإن لم يطعن الخصم فيهم فيما لا يثبت مع الشبهات وهو الحدود والقصاص. ولو كان المعنى هذا، فإذا عدّلهم النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقضي، وإن طعن الخصم فيهم، وفيما ثبت مع الشبهات.

(1) رواه مسلم (2533) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ".

ص: 453

ومنهم من قال: لا، بل هذا الخلاف اختلاف حجة وبرهان. وهو الصحيح.

هما يقولان: إنّ العدالة ثابتة باستصحاب الحال. والثابت باستصحاب الحال يصلح حجّةً لإبقاء ما كان ثابتًا، ولا يصلح لإثبات ما لم يكن، وهو الأخذ بالشّفعة، والحق لم يكن ثابتًا كالملك الثابت بظاهر النّص يصلح للدفع إِيقاعًا ما كان ثابتًا، ولا يصلح لإثبات ما لم يكن. وهو الأخذ بالشفعة. والحق لم يكن ثابتًا على المشهور عليه قبل الشهادة. فلا يثبت بالعدالة الثابتة باستصحاب الحال.

وأبو حنيفة احتجّ بما روى محمد في أدب القاضي، عن عمر بن الخطاب أنّه قال: الْمُسْلِمُونَ عُدُلٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلَاّ مَجْلُودٌ حَدًّا، أَوْ مُجَرّباً عَلَيْهِ شَهَادَةً زُورًا، أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ (1).

فهذا القول نقل عنه، ولم ينقل عن غيره خلاف ذلك. فحلّ محلّ الإجماع.

والفقه فيه: أنّ العدالة ثابتة باستصحاب الحال. والثَّابت: باستصحابٍ يصلح حجّة لإثبات ما لم يكن ثابتًا حال عدم المنازعة كالملك الثابت بظاهرٍ إليه يصلح حجّة لاستحقاق الشفعة حال عدم منازعة المشتري. وهنا لم توجد

(1) رواه البيهقي في السنن (2/ 24) ومعرفة السنن والآثار (6146) أن عمر كتب به إلى أبي موسى الأشعري.

وانظره في فتح القدير لابن الهمام (17/ 61 و 114 و 22/ 146) وبدائع الصنائع للكاشاني (14/ 433) والعناية شرح الهداية (10/ 389 و 392) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (12/ 217 و 288).

ص: 454

المنازعة من الخصم؛ لأنّه لم يطعن، فصلح، فإن قيل: هذا إذا كان الخصم مختارًا في ترك المنازعة، وهنا هو مضطرٌّ؛ لأنّه إنما ترك الطعن.

إمّا احتشامًا من الشهود لا خوفًا منهم.

وإمّا تحرزًا عن هتك الستر عليهم، وإمّا جهلًا منهم أنّ الطّعن شرطٌ، وكان مضطرًا في ترك المنازعة بخلاف مسألة الشفيع.

فإنّ المشتري غير مضطر في ترك المنازعة، فإنه متى أنكر المشتري ملك الشفيع، لا يخاف منه، ولا يهتك ستره، فكان مختارًا.

والدليل عليه: الحدود والقصاص.

قيلَ له: الخصم هنا مختارًا في ترك المنازعة؛ لأنّه يمكنه أن يطعن في الشهود وبين يدي القاضي سرًّا متى خاف منهم، وتحرزًا عن هتك الستر، والجهل لا يكون عذرًا؛ لأنه في دار الإسلام بخلاف الحدود والقصاص؛ فإنهّا تندرئ بالشبهات. والنّصّ والظّاهر: أنّ حال ترك المنازعة، لا يخلو عن وقوع شبهةٍ واحتمال.

قلت: الإمام روى عن عمر بن الخطاب ما تقدم. وقد أفتى بخلاف ظاهر ما روي، فكانت العبرة لفتواه؛ لأنه أعلم بتأويله، إذ لا يترك إلَّا بعلمه بالحال لَا لرأيهِ بخلافه.

فقد روى الخصّاف، عن محمد بن أبي بكر الصديق قال: قالَ عمر: إِنَّك لَا تَقْبَلُ إِلَاّ العَدْلَ (1).

(1) لم أجده.

ص: 455

وروي عن حبيب بن أبي ثابت قال: سأل عمر رجلًا عن رجلٍ؟ فقال: لَا نَعْلَمُ إِلَاّ خَيْرًا. فقال عمر: حسبكَ (1).

وروي عن عمر بن الخطّاب أَنّه قَال: لَا تَجُوزُ شهادة العبدِ (2).

وروي عن عليٍّ: أَنَّهُ ردَّ شهادة الأعمى (3).

(1) رواه ابن أبي شيبة (21745) قال: حدثنا وكيع، عن مسعر، عن حبيب قال: سأل عمر رجلًا عن رجل؟ فقال: لا نعلم إلا خيرًا. فقال عمر: حسبك.

(2)

فيمن قال لا تجوز شهادة العبد: ابن عباس، كما في مصنف ابن أبي شيبة (20286). وعطاء (20287 و 20289). ومكحول (20288). وعامر (20291) وعبد الرزاق (15387). والشعبي (20292). وسفيان (20293).

وقال البيهقي في سننه (2/ 269): قال أبو يحيى السّاجي: روي عن عليّ والحسن والنخعي والزهري ومجاهدٍ وعطاءٍ: لا تجوز شهادة العبيد. وقال البخاري رحمه الله في الترجمة: قال أنسٌ: شهادة العبد جائزةٌ إذا كان عدلًا وأجازها شريحٌ وزرارة بن أوفى. وقال ابن سيرين: شهادته جائزةٌ إلَّا العبد لسيّده. وأجازها الحسن وإبراهيم في الشيء التافه. وقال شريحٌ: كلكم بنو عبيدٍ وإماءٍ.

وروى مالك في الموطأ (2667): أنّه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لا تجوز شهادة خصمٍ ولا ظنينٍ.

وروى عبد الرزاق (15383) عن شريح قال: لا تجوز شهادة العبد لسيده، ولا الأجير لمن استأجره، ولا الشريك. قال معمر في حديثه: وكان شريح يجيز شهادة العبد في الشيء القليل. و (15384) عن شريح قال: لا تجوز شهادة العبد لسيده، ولا الأجير لمن استأجره. و (15385) عن إبراهيم قال: لا تجوز شهادة السيد لعبده، ولا العبد لسيده، ولا شريك لشريكه في الشيء إذا كان بينهما، فأما فيما سوى ذلك فشهادته جائزة.

(3)

روى عبد الرزاق (15380) قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن أشياخهم: أن عليًا لم يجز شهادة أعمى في سرقة.=

ص: 456

وروي عن ابن عبّاسٍ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَقْلَفِ (1).

فلم يعمل السلف بعمومه فيما عدا المستثنى، فكان الحكم على الغالب حينئذٍ. والله أعلم.

فالحق: أنه اختلاف عصرٍ كما صرّح به الإمام أبو بكر الرّازيّ (2) - وهذا

= وقال البخاري في صحيحه (5/ 167): (باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره وما يعرف بالأصوات) وأجاز شهادته قاسمٌ، والحسن، وابن سيرين، والزّهريّ، وعطاءٌ. وقال الشعبيّ: تجوز شهادته إذا كان عاقلًا. وقال الحكم: ربِّ شيءٍ تجوز فيه.

(1)

رواه ابن أبي شيبة (23333 و 23334). وانظر: العناية شرح الهداية (14/ 135). وكذلك علي بن أبي طالب لم يجز شهادته كما في سنن البيهقي (2/ 96). والأقلف: هو من لم يختن.

وورد قبول شهادته كما في: فتح القدير (17/ 162) والاختيار لتعليل المختار (1/ 23) والجوهرة النيرة (5/ 467) والمحيط (9/ 182 و 579).

(2)

قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (2/ 221 - 247): باب الشهود: قوله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، قال أبو بكر: لما كان ابتداء الخطاب للمؤمنين في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ} [البقرة: 282]، ثم عطف عليه قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} دل ذلك على معنيين: أحدهما: أن يكون من صفة الشهود؛ لأن الخطاب توجه إليهم بصفة الإيمان، ولما قال في نسق الخطاب:{مِنْ رِجَالِكُمْ} كان كقوله: من رجال المؤمنين، فاقتضى ذاك كون الإيمان شرطًا في الشهادة على المسلمين، والمعنى الآخر الحرية، وذلك لما في فحوى الخطاب من الدلالة من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ، وذلك في الأحرار دون العبيد، والدليل عليه: أن العبد لا يملك عقود المداينات، وإذا أقرّ بشيء لم يجز إقراره إلا بإذن مولاه، والخطاب إنما توجه إلى من يملك ذلك على الإطلاق من غير إذن الغير،=

ص: 457

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فدل ذلك على أن من شرط هذه الشهادة الحرية، والمعنى الآخر من دلالة الخطاب قوله تعالى:{مِنْ رِجَالِكُمْ} ، فظاهر هذا اللفظ يقتضي الأحرار، كقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]؛ يعني: الأحرار، ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] فلم يدخل العبيد في قوله تعالى: {مِنْكُمْ} . وفي ذلك دليلٌ على أن من شرط هذه الشهادة: الإسلام، والحرية جميعًا، وأن شهادة العبد غير جائزة؛ لأن أوامر الله تعالى على الوجوب، وقد أمر باستشهاد الأحرار فلا يجوز غيرهم. وقد روى عن مجاهد في قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] قال: الأحرار.

فإن قيل: إن ما ذكرت إنما يدلّ على أن العبد غير داخل في الآية، ولا دلالة فيها على بطلان شهادته. قيل له: لما ثبت بفحوى خطاب الآية، أن المراد بها الأحرار، كان قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أمرًا مقتضيًا للإيجاب، وكان بمنزلة قوله تعالى: واستشهدوا رجلين من الأحرار، فغير جائز لأحد إسقاط شرط الحرية؛ لأنه لو جاز ذلك لجاز إسقاط العدد. وفي ذلك دليل على أن الآية قد تضمنت بطلان شهادة العبيد.

واختلف أهل العلم في شهادة العبيد: فروى قتادة، عن الحسن، عن علي قال: شهادة الصبي على الصبي، والعبد على العبد، جائزة.

وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن همام قال: سمعت قتادة يحدث أن عليًا رضي الله عنه كان يستثبت الصبيان في الشهادة. وهذا يوهن الحديث الأول.

وروى حفص بن غياث، عن المختار بن فلفل، عن أنس قال: ما أعلم أحدًا ردّ شهادة العبد.

وقال عثمان البتي: تجوز شهادة العبد لغير سيّده.

وذكر أن ابن شبرمة كان يراها جائزةً.

يأثر ذلك عن شريح.

وكان ابن أبي ليلى لا يقبل شهادة العبيد، وظهرت الخوارج على الكوفة، وهو يتولى=

ص: 458

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= القضاء بها، فأمروه بقبول شهادة العبيد، وبأشياء ذكروها له من آرائهم، كان على خلافها، فأجابهم إلى امتثالها، فأقرّوه على القضاء، فلما كان في الليل ركب راحلته، ولحق بمكة، ولما جاءت الدولة الهاشمية ردّوه إلى ما كان عليه من القضاء على أهل الكوفة.

وقال الزهريّ، عن سعيد بن المسيب قال: قضى عثمان بن عفان أن شهادة المملوك جائزة بعد العتق إذا لم تكن ردّت قبل ذلك.

وروى شعبة، عن المغيرة قال: كان إبراهيم يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه.

وروى شعبة أيضًا، عن يونس، عن الحسن مثله.

وروي عن الحسن: أنها لا تجوز.

وروي عن حفص، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا تجوز شهادة العبد.

وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، وابن شبرمة في إحدى الروايتين، ومالك، والحسن بن صالح، والشافعي: لا تقبل شهادة العبيد في شيء.

قال أبو بكر: وقد قدّمنا ذكر الدلالة من الآية على أن الشهادة المذكورة فيها مخصوصة بالأحرار دون العبيد، ومما يدلّ من الآية على نفي شهادة العبد، قوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، فقال بعضهم: إذا دعي فليشهد. وقال بعضهم: إذا كان قد أشهد. وقال بعضهم: هو واجب في الحالين، والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى وخدمته، وهو لا يملك الإجابة، فدلّ أنه غير مأمور بالشهادة، ألا ترى أنه ليس له أن يشتغل عن خدمة مولاه بقراءة الكتاب وإملائه والشهادة، ولما لم يدخل في خطاب الحج والجمعة لحق المولى، فكذلك الشهادة إذ كانت الشهادة غير متعينة على الشهداء، وإنما هي فرض كفاية، وفرض الجمعة والحج يتعين على كل أحدٍ في نفسه، فلما لم يلزمه فرض الحج والجمعة مع الإمكان لحق المولى، فهو أولى أن لا يكون من أهل الشهادة لحق المولى، ومما يدل على ذلك أيضًا، قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]. وقال أيضا: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] إلى قوله تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، فجعل الحاكم=

ص: 459

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= شاهدًا لله كما جعل سائر الشهود شهداء لله بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، فلما لم يجز أن يكون العبد حاكمًا لم يجز أن يكون شاهدًا، إذ كان كل واحد من الحاكم والشاهد به ينفذ الحكم ويثبت.

ومما يدل على بطلان شهادة العبد: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى} [النحل: 75]، وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به نفي القدرة؛ لأن الرّق والحرية لا تختلف بهما القدرة، فدل على أن مراده نفي حكم أقواله وعقوده وتصرفه وملكه، ألا ترى أنه جعل ذلك مثل للأصنام التي كانت تعبدها العرب على وجه المبالغة في نفي الملك والتصرف، وبطلان أحكام أقواله فيما يتعلق بحقوق العباد.

وقد روي عن ابن عباس: أنه استدل بهذه الآية على أن العبد لا يملك الطلاق. ولولا احتمال اللفظ لذلك لما تأوله ابن عباس عليه، فدل ذلك على: أن شهادة العبد كلا شهادة كعقده وإقراره وسائر تصرفاته التي هي من جهة القول، فلما كانت شهادة العبد قوله وجب أن ينتفي وجوب حكمه بظاهر الآية، ومما يدل على بطلان شهادة العبيد: أن الشهادة فرضٌ على الكفاية، كالجهاد، فلما لم يكن العبد من أهل الخطاب بالجهاد ولو حصره وقاتل لم يسهم له وجب أن لا يكون من أهل الخطاب بالشهادة، ومتى شهد لم تقبل شهادته، ولم يكن له حكم الشهود، كما لم يثبت له حكم، وإن شهد القتال في استحقاق السهم، ويدل عليه: أنه لو كان من أهل الشهادة لوجب أن لو شهد بها فحكم بشهادته، ثم رجع عنها، أنه يلزمه غرم ما شهد به؛ لأن ذلك من حكم الشهادة، كما أن نفاذ الحكم بها إذا أنفذها الحاكم من حكمها، فلما لم يجز أن يلزمه الغرم بالرجوع علمنا أنه ليس من أهلها، وإن الحكم بشهادته غير جائز، وأيضًا فإنا وجدنا ميراث الأنثى على النصف من ميراث الذكر، وجعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل، فكانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراثه، فوجب أن يكون العبد من حيث لم يكن من أهل الميراث رأسًا أن لا يكون من أهل الشهادة؛ لأنا وجدنا لنقصان الميراث تأثيرًا في نقصان الشهادة، فوجب أن يكون نفي الميراث موجبًا لنفي الشهادة.

وما روي عن علي بن أبي طالب في جواز شهادة العبد؛ فإنه لا يصح من طريق النقل،=

ص: 460

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ولو صحّ كان مخصوصًا في العبد إذا شهد على العبد، ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء: أن العبد والحر سواء فيما تجوز الشهادة فيه، فإن قيل: لما كان خبر العبد مقبولًا إذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن رقه مانعًا من قبول خبره، كذلك لا يمنع من قبول شهادته. قيل له: ليس الخبر أصلًا للشهادة، فلا يجوز اعتبارها به، ألا ترى أن خبر الواحد مقبول في الأحكام، ولا تجوز شهادة الواحد فيها، وأنه يقبل فيه فلان عن فلان، ولا يقبل في الشهادة إلا على جهة الشهادة على الشهادة، وأنه يجوز قبول خبره إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجوز شهادة الشاهد إلا أن يأتي بلفظ الشهادة والسماع والمعاينة لما يشهد به، فإن الرجل والمرأة متساويان في الأخبار، مختلفان في الشهادة؛ لأن شهادة امرأتين بشهادة رجل، وخبر الرجل والمرأة سواء، فلا يجوز الاستدلال بقبول خبر العبد على قبول شهادته.

قال أبو بكر: قال محمد بن الحسن: لو أن حاكمًا حكم بشهادة عبد، ثم رفع إلي، أبطلت حكمه؛ لأن ذلك مما أجمع الفقهاء على بطلانه.

وقد اختلف الفقهاء في شهادة الصبيان: فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر: لا تجوز شهاده الصبيان في شيء. وهو قول ابن شبرمة، والثوري، والشافعي.

وقال ابن أبي ليلى: تجوز شهادة بعضهم على بعض. وقال مالك: تجوز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح، ولا تجوز على غيرهم، وإنما تجوز بينهم في الجراح وحدها، قبل أن يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا، فإن افترقوا فلا شهادة لهم، إلا أن يكونوا قد أشهدوا على شهادتهم قبل أن يتفرقوا، وإنما تجوز شهادة الأحرار الذكور منهم، ولا تجوز شهادة الجواري من الصبيان والأحرار.

قال أبو بكر: روي عن ابن عباس، وعثمان، وابن الزبير، إبطال شهادة الصبيان. وروي عن علي إبطال شهادة بعضهم على بعض. وعن عطاء مثله.

وروى عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت قال: قيل للشعبي: إن إياس بن معاوية لا يرى بشهادة الصبيان بأسًا. فقال الشعبي: حدثني مسروق: أنه كان عند علي كرم الله وجهه إذ جاءه خمسة غلمة فقالوا: كنا ستة نتغاط في الماء فغرق منا غلام، فشهد الثلاثة على الإثنين: أنهما غرقاه، وشهد الإثنان أن الثلاثة غرقوه، فجعل على الإثنين ثلاثة =

ص: 461

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أخماس الدية، وعلى الثلاثة خمسي الدية. إلا أن عبد الله بن حبيب غير مقبول الحديث عند أهل العلم، ومع ذلك فإن معنى الحديث مستحيلٌ لا يصدّق مثله عن عليّ رضي الله عنه؛ لأن أولياء الغريق إن ادعوا على أحد الفريقين فقد أكذبوهم في شهادتهم على غيرهم، وإن ادّعوا عليهم كلهم فهم يكذبون الفريقين جميعًا. فهذا غير ثابت عن علي كرم الله وجهه.

ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان، قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] وذلك خطاب للرجال البالغين لأن الصبيان لا يملكون عقود المداينات وكذلك قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] لم يدخل فيه الصبي لأن إقراره لا يجوز وكذلك قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] لا يصح أن يكون خطابًا للصبي لأنه ليس من أهل التكليف فيلحقه الوعيد ثم قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وليس الصبيان من رجالنا ولما كان ابتداء الخطاب بذكر البالغين كان قوله من رجالكم عائدًا عليهم ثم قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] يمنع أيضًا جواز شهادة الصبي وكذلك قوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] هو نهي وللصبي أن يأبى من إقامة الشهادة وليس للمدعي إحضاره لها ثم قوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] غير جائز أن يكون خطابًا للصغار، فلا يلحقهم المأثم بكتمانها. ولما لم يجز أن يلحقه ضمان بالرجوع دل على أنه ليس من أهل الشهادة؛ لأن كل من صحت شهادته لزمه الضمان عند الرجوع. وأما إجازة شهادتهم في الجراح خاصة وقبل أن يتفرقوا ويجيئوا، فإنه تحكم بلا دلالة وتفرقة بين من لا فرق فيه في أثر ولانظر؛ لأن في الأصول أن كل من جازت شهادته في الجراح فهي جائزة في غيرها وأما اعتبار حالهم قبل أن يتفرقوا ويجيئوا فإنه لا معنى له لأنه جائز أن يكون هؤلاء الشهود هم الجناة ويكون الذي حملهم على الشهادة الخوف من أن يؤخذوا به. وهذا معلوم من عادة الصبيان إذا كان منهم جناية إحالته بها على غيره خوفاً من أن يؤخذ بها وأيضًا لما شرط الله في الشهادة العدالة وأوعد شاهد الزور ما أوعده به ومنع من قبول شهادة الفساق ومن لا يزع عن الكذب احتياطًا لأمر الشهادة فكيف تجوز شهادته من هو غير مأخوذ بكذبه. وليس له حاجز يحجزه =

ص: 462

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عن الكذب ولا حياء يردعه ولا مروءة تمنعه وقد يضرب الناس المثل بكذب الصبيان فيقولون: هذا أكذب من صبيٍّ. فكيف يجوز قبول شهادة من هذا حاله فإن كان إنما اعتبر حالهم قبل تفرقهم وقبل أن يعلمهم غيرهم؛ لأنه لا يتعمد الكذب دون تلقين غيره، فليس ذلك كما ظن، لأنهم يتعمدون الكذب من غير مانع يمنعهم، وهم يعرفون الكذب كما يعرفون الصدق إذا كانوا قد بلغوا الحد الذي يقومون بمعنى الشهادة والعبارة: عما شهدوا. وقد يتعمدون الكذب لأسبابٍ عارضة منها خوفهم من أن تنسب إليهم الجناية أو قصدًا للمشهود عليه بالمكروه. ومعانٍ غير ذلك معلومة من أحوالهم، فليس لأحدٍ أن يحكم لهم بصدق الشّهادة قبل أن يتفرقوا، كما لا يحكم لهم بذلك بعد التفرق، وعلى أنه لو كان كذلك، وكان العلم حاصلًا بأنهم لا يكذبون ولا يتعمدون لشهادة الزور فينبغي أن تقبل شهادة الإناث كما تقبل شهادة الذكور، وتقبل شهادة الواحد كما تقبل شهادة الجماعة، فإذا اعتبر العدد في ذلك وما يجب اعتباره في الشهادة من اختصاصها في الجراح بالذكور دون الإناث فواجب أن يستوفى لها سائر شروطها من البلوغ والعدالة، ومن حيث أجازوا شهادة بعضهم على بعضٍ فواجبٌ إجازتها على الرجال؛ لأن شهادة بعضهم على بعضٍ ليست بآكد منها على الرجال إذ هم في حكم المسلمين عند قائل هذا القول والله الموفق.

واختلف في شهادة الأعمى: فقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادة الأعمى بحالٍ. وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: لا تجوز شهادة الأعمى بحالٍ. وروي عن أشعث مثله إلا أنه قال: إلاّ أن تكون في شيءٍ رآه قبل أن يذهب بصره. وروى ابن لهيعة، عن أبي طعمة، عن سعيد بن جبير قال: لا تجوز شهادة الأعمى. وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثني حجاج بن جبير بن حازم، عن قتادة قال: شهد أعمى عند إياس بن معاوية على شهادةٍ فقال له إياس: لا نرد شهادتك، إلاّ أن لا تكون عدلًا ولكنك أعمى لا تبصر. قال: فلم يقبلها. وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى والشافعي: إذا علمه قبل العمى جازت، وما علمه في حال العمى لم تجز. وقال شريح والشعبي: شهادة الأعمى جائزة. وقال مالك والليث بن سعد: شهادة الأعمى جائزة وإن علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار =

ص: 463

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ونحوه، وإن شهد على زنا أو حد القذف لم تقبل شهادته. والدليل على بطلان شهادة الأعمى: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن ميمون البلخي الحافظ قال: حدثنا يحيى بن موسى يعرف بخت قال: حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول قال: حدثنا عبد الله بن سلمة بن وهرام، عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس قال: سئل صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: "ترى هذه الشمس فاشهد وإلّا فدع". فجعل من شرط صحة الشهادة: معاينة الشاهد لما شهد به، والأعمى لا يعاين المشهود عليه، فلا تجوز شهادته. ومن جهة أخرى: أن الأعمى يشهد بالاستدلال فلا تصح شهادته، ألا ترى: أن الصوت قد يشبه الصوت، وإن المتكلم قد يحاكي صوت غيره ونغمته حتى لا يغادر منها شيئًا، ولا يشك سامعه إذا كان بينه وبينه حجابٌ أنه المحكي صوته فغير جائزٍ قبول شهادته على الصوت، إذ لا يرجع منه إلى يقينٍ، وإنما يبنى أمره على غالب الظن. وأيضًا: فإن الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتي بلفظ الشهادة ولو عبر بلفظ غير لفظ الشهادة بأن يقول: أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته فعلمت أنها حين كانت مخصوصة بهذا اللفظ. وهذا اللفظ يقتضي مشاهدة المشهود به، ومعاينته. فلم تجز شهادة من خرج من هذا الحد وشهد عن غير معاينة، فإن قال قائلٌ: يجوز للأعمى إقدامه على وطء امرأته إذا عرف صوتها، فعلمنا: أنه يقينٌ ليس بشكٍّ إذ غير جائزِ لأحدٍ الأقدام على الوطء بالشك. قيل له: يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظّنّ بأن زفت إليه امرأة. وقيل له: هذه امرأتك، وهو لا يعرفها، يحل له وطؤها. وكذلك جائزٌ له قبول هدية جارية يقول الرسول، ويجوز له الإقدام على وطئها ولو أخبره مخبرٌ عن زيدٍ بإقرارٍ أو بيعٍ أو قذفٍ، لما جاز له إقامة الشّهادة على المخبر عنه؛ لأن سبيل الشهادة: اليقين والمشاهدة. وسائر الأشياء التي ذكرت، يجوز فيها استعمال غالب الظن، وقبول قول الواحد، فليس ذلك إذًا أصلًا للشّهادة. وأما إذا استشهد وهو بصيرٌ، ثم عمي فإنما لم نقبله من قبل أنا قد علمنا أن حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء. والدليل عليه: أنه غير جائزٍ أن يتحمل الشهادة وهو كافر أو عبد أو صبي، ثم يؤديها وهو حرٌّ مسلمٌّ بالغٌ تقبل شهادته ولو أداها وهو صبي أو عبد أو كافر لم =

ص: 464

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= تجز فعلمنا: أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل، فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة وكان العمى مانعًا من صحة التحمل وجب أن يمنع صحة الأداء. وأيضًا لو استشهده وبينه وبينه حائل لما صحت شهادته وكذلك لو أداها وبينهما حائل لم تجز شهادته، والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه فوجب أن لا تجوز. وفرق أبو يوسف بينهما بأن قال: يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته، ثم يشهد عليه وهو غائبٌ أو ميّت، فلا يمنع ذلك جوازها، فكذلك عمى الشاهد بمنزلة موت المشهود عليه أو غيبته، فلا يمنع قبول شهادته. والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أنه إنما يجب اعتبار الشاهد في نفسه فإن كان من أهل الشهادة قبلناها، وإن لم يكن من أهل الشهادة لم نقبلها. والأعمى قد خرج من أن يكون من أهل الشهادة بعماه، فلا اعتبار بغيره. وأما الغائب والميت، فإن شهادة الشاهد عليهما صحيحة إذ لم يعترض فيه ما يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة وغيبة المشهود عليه وموته لا تؤثر في شهادة الشاهد، فلذلك جازت شهادته. والوجه الآخر: أنا لا نجيز الشهادة على الميت والغائب إلا أن يحضر عنه خصم فتقع الشهادة عليه فيقوم حضوره مقام حضور الغائب والميت والأعمى في معنى من يشهد على غير خصم حاضر فلاتصح شهادته، فإن احتجوا بقوله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. والأعمى قد يكون مرضيًا وهو من رجالنا الأحرار، فظاهر ذلك يقتضي قبول شهادته. قيل له: ظاهر الآية يدل: على أن الأعمى غير مقبول الشهادة؛ لأنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا} . والأعمى لا يصح استشهاده؛ لأن الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه ومعاينته إياه وهو غير معاين ولا مشاهد لمن يحضره؛ لأن العمى حائل بينه وبين ذلك كحائطٍ لو كان بينهما، فيمنعه ذلك من مشاهدته، ولما كانت الشهادة إنما هي مأخوذة من مشاهدة المشهود عليه ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة إثبات الحق عليه وكان ذلك معدومًا في الأعمى، وجب أن تبطل شهادته فهذه الآية؛ لأن تكون دليلًا على بطلان شهادته أولى من أن تدل على إجازتها. وقال زفر: لا تجوز شهادة الأعمى إذا شهد بها قبل العمى أو بعده إلاّ في النسب أن يشهد =

ص: 465

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أن فلانًا ابن فلان. قال أبو بكر: يشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أن النسب قد تصح الشهادة عليه بالخبر المستفيض وإن لم يشاهده الشّاهد، فلذلك جائز إذا تواتر عند الأعمى الخبر بأنّ فلانًا ابن فلان أن يشهد به عند الحاكم، وتكون شهادته مقبولة. ويستدل على صحة ذلك: بأن الأعمى والبصير سواء فيما ثبت حكمه عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين من طريق المعاينة، وإنما يسمع أخبارهم فكذلك جائزٌ أن يثبت عنده علم صحة النسب من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين، فتجوز إقامة الشهادة به، وتكون شهادته مقبولة فيه، إذ ليس شرط هذه الشهادة معاينة المشهود به. واختلف في شهادة البدوي على القروي: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والأوزاعي والشافعي: هي جائزة إذا كان عدلاً. وروي نحوه عن الزهريّ. وروى ابن وهب، عن مالكٍ قال: لا تجوز شهادة بدوي على قروي إلَّا في الجراح. وقال ابن القاسم عنه: لا تجوز شهادة بدوي على قروي في الحضر إلاّ في وصية القروي في السفر أو في بيعٍ فتجوز إذا كانوا عدولاً. قال أبو بكرٍ: جميع ما ذكرنا من دلائل الآية على قبول شهادة الأحرار البالغين يوجب التسوية بين شهادة القروي والبدوي؛ لأن الخطاب توجه إليهم بذكر الإيمان بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] وهؤلاء من جملة المؤمنين. ثم قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]؛ يعني: من رجال المؤمنين الأحرار، وهذه صفة هؤلاء. ثم قال:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إذا كانوا عدولاً فهم مرضيون. وقال في آيةٍ أخرى في شأن الرجعة والفراق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وهذه الصفة شاملة للجميع إذا كانوا عدولاً. وفي تخصيص القروي بها دون البدوي: ترك العموم بغير دلالةٍ، ولم يختلفوا أنهم مرادون بقوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وبقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] أنهم يجيزون شهادة البدوي على بدويٍّ مثله على شرط الآية وإذا كانوا مرادين بالآية فقد اقتضت جواز شهادتهم على القروي من حيث اقتضت جواز شهادة بعضهم على بعضٍ، ومن حيث اقتضت جواز شهادة القروي على البدوي فإن احتجوا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: حدثنا ابن =

ص: 466

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وهب قال: حدثنا نافع بن يزيد بن الهادي، عن محمد بن عمرو، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". فإن مثل هذا الخبر لا يجوز الاعتراض به على ظاهر القرآن، مع أنه ليس فيه ذكر الفرق بين الجراح وفي غيرها، ولا بين أن يكون القروي في السفر أو في الحضر. فقد خالف المحتج به ما اقتضاه عمومه. وقد روى سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ قال: شهد أعرابيٌّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الهلال فأمر بلالاً ينادي في الناس فليصوموا غدًا. فقبل شهادته وأمر الناس بالصيام. وجائزٌ أن يكون حديث أبي هريرة في أعرابيٍّ شهد شهادةً عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم خلافها مما يبطل شهادته، فأخبر به. فنقله الراوي من غير ذكر السبب. وجائزٌ أن يكون قاله في الوقت الذي كان الشرك والنفاق غالبين على الأعراب كما قال صلى الله عليه وسلم:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98]. فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب. وقد وصف الله قومًا آخرين من الأعراب بعد هذه الصفة ومدحهم بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] الآية. فمن كانت هذه صفته فهو مرضي عند الله وعند المسلمين، مقبول الشهادة، ولا يخلو البدوي من أن يكون غير مقبول الشهادة على القروي إما لطعنٍ في دينه أو جهلٍ منه بأحكام الشهادات. وما يجوز أداؤها منها مما لا يجوز، فإن كان لطعنٍ في دينه فإن هذا غير مختلفٍ في بطلان شهادته، ولا يختلف فيه حكم البدوي والقروي. وإن كان لجهلٍ منه بأحكام الشهادات فواجب أن لا تقبل شهادته على بدويّ مثله، وأن لا تقبل شهادته في الجراح، ولا على القروي في السفر، كما لا تقبل شهادة القروي إذا كان بهذه الصفة. ويلزمه أن يقبل شهادة البدوي إذا كان عدلاً عالمًا بأحكام الشهادة على القروي وعلى غيره لزوال المعنى الذي من أجله امتنع من قبول شهادته، وأن لا يجعل لزوم سمة البدو إياه والنسبة إليه علة لرد شهادته كما لا تجعل نسبة القروي إلى القرية علة لجواز شهادته إذا كان مجانبًا للصفات المشروطة لجواز الشهادة قوله - عزوجل -:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]. فقال أبو بكر: أوجب اَبدويًا استشهاد شهيدين، وهما الشاهدان؛ لأن الشهيد والشاهد واحد =

ص: 467

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= كما أن عليم وعالم واحد، وقادر وقدير واحد، ثم عطف عليه قوله:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ} [البقرة: 282]؛ يعني: إن لم يكن الشهيدان رجلين {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]. فلا يخلو قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282] من أن يريد به: فإن لم يوجد رجلان فرجل وامرأتان. كقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء: 43]ـ. وكقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92] إلى قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]. وما جرى مجرى ذلك في الأبدال التي أقيمت مقام أصل الفرض عند عدمه أو أن يكون مراده فإن لم يكن الشهيدان رجلين فالشهيدان رجل وامرأتان. فأفادنا إثبات هذا الاسم للرجل والمرأتين حتى يعتبر عمومه في جواز شهادتهما مع الرجل في سائر الحقوق إلَّا ما قام دليله، فلما اتفق المسلمون على جواز شهادة رجلِ وامرأتين مقام رجلين عند عدم الرجلين فثبت الوجه الثاني وهو: أنه أراد تسمية الرجل والمرأتين شهيدين، فيكون ذلك اسمًا شرعيًا يجب اعتباره فيما أمرنا فيه باستشهاد شهيدين إلاّ موضعًا قام الدليل عليه، فيصح الاستدلال بعمومه في قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا نكاح إلا بولي وشاهدين". وإثبات النكاح والحكم بشهادة رجلٍ وامرأتين إذ قد لحقهم اسم شهيدين. وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم النكاح بشهادة شاهدين. وقد اختلف أهل العلم في شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود، ولا في القصاص. وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا يحيى بن عبادة قال: حدثنا شعبة، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء بن أبي رباح: أنّ عمر أجاز شهادة رجلٍ وامرأتين في نكاحٍ. وروى جرير بن حازم، عن الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد: أن عمر أجاز شهادة النساء في طلاق. وروى إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن محمد ابن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: تجوز شهادة النساء في العقد. وروى حجاج، عن عطاء: أن ابن عمر كان يجيز شهادة النساء مع الرجل في النكاح. وروي عن عطاء: أنه كان يجيز شهادة النساء في الطلاق. وروي عن عون، عن الشعبي، عن شريح: أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في عتقٍ وهو قول الشعبي في الطلاق. وروي عن =

ص: 468

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحسن والضحاك قالا: لا تجوز شهادتهن إلَّا في الدين والولد. وقال مالك: لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ولا في الطلاق ولا في النكاح ولا في الأنساب ولا في الولاء ولا الإحصان. وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق. وقال الثَّوريُّ: تجوز شهادتهن في كل شيءِ إلاّ الحدود. وروي عنه: أنها لا تجوز في القصاص أيضًا. وقال الحسن بن حي: لا تجوز شهادتهن في الحدود. وقال الأوزاعي: لا تجوز شهادة رجلِ وامرأتين في نكاح. وقال الليث: تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق، ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا الحدود ولا قتل العمد الذي يقاد منه. وقال الشافعي: لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال، ولا يجوز في الوصية إلا الرجل وتجوز في الوصية بالمال. قال أبو بكر: ظاهر هذه الآية يقتضي جواز شهادتهن مع الرجل في سائر عقود المداينات وهي كل عقدٍ واقعٍ على دينٍ سواء كان بدله مالًا أو بضعًا أو منفع أو دم عمدٍ؛ لأنه عقد فيه دين، إذ المعلوم: أنه ليس مراد الآية في قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] أن يكون المعقود عليهما من البدلين دينين لامتناع جواز ذلك إلى أجلٍ مسمى. فثبت: أن المراد وجود دين عن بدل أي دينٍ كان. فاقتضى ذلك: جواز شهادة النساء مع الرجل على عقد نكاح فيه مهر مؤجل إذا كان ذلك عقد مداينة، وكذلك الصلح من دم العمد، والخلع على مال، والإجارات فمن ادعى خروج شيء من هذه العقود من ظاهر الآية لم يسلم له ذلك إلَّا بدلالة إذ كان العموم مقتضيًا لجوازها في الجميع، ويدل على جواز شهادة النساء في غير الأموال، ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن القاسم الجوهري قال: حدثنا محمد بن إبراهيم أخو أبي معمر قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة. والولادة ليست بمالٍ. وأجاز شهادتها عليها. فدل ذلك: على أن شهادة النساء ليست مخصوصة بالأموال، ولا خلاف في جواز شهادة النساء على الولادة، وإنما الاختلاف في العدد. وأيضًا لما ثبت: أن اسم الشهيدين واقعٌ في الشرع على الرجل والمرأتين. وقد ثبت: أن اسم البينة يتناول الشهيدين وجب بعموم قوله: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ". القضاء بشهادة =

ص: 469

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الرجل والمرأتين في كل دعوى إذ قد شملهم اسم البينة. ألا ترى أنها بينة في الأموال، فلما وقع عليها الاسم وجب بحق العموم قبولها لكل مدّعٍ إلاّ أن تقوم الدلالة على تخصيص شيءٍ منه، وإنما خصصنا الحدود والقصاص، لما روى الزهريّ قال: مضت السَّنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده: أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في القصاص. وأيضًا: لما اتفق الجميع على قبول شهادتهن مع الرجل في الديون وجب قبولها في كل حق لا تسقطه الشبهة إذا كان الدين حقًا، لا يسقط بالشبهة. ومما يدل على جوازها في غير الأموال من الآية: أن الله تعالى قد أجازها في الأجل بقوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ثم قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فأجاز شهادتها مع الرجل على الأجل وليس بمالٍ كما أجازها في المال. فإن قيل: الأجل لا يجب إلاّ في المال قيل له: هذا خطأ؛ لأن الأجل قد يجب في الكفالة بالنفس وفي منافع الأحرار التي ليست بمالٍ. وقد يؤجله الحاكم في إقامة البينة على الدم وعلى دعوى العفو منه بمقدار ما يمكن التقدم إليه. فقولك: إن الأجل لا يجب إلا في المال خطأ ومع ذلك: فالبضع لا يستحق إلَّا بمال، ولا يقع النكاح إلا بمال. فينبغي أن تجيز فيه شهادة النساء قوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. قال أبو بكر: لما كانت معرفة ديانات الناس وأماناتهم وعدالتهم إنما هي من طريق الظاهر دون الحقيقة إذ لا يعلم ضمائرهم ولا خبايا أمورهم غير الله تعالى، ثم قال الله تعالى فيما أمرنا باعتباره من أمر الشهود:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] دل ذلك: على أن أمر تعديل الشهود موكولاً إلى اجتهاد رأينا، وما يغلب في ظنوننا من عدالتهم وصلاح طرائقهم. وجائزٌ أن يغلب في ظن بعض الناس عدالة شاهدٍ وأمانته فيكون عنه رضى ويغلب في ظن غيره أنه ليس يرضى فقوله:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] مبني على غالب الظن، وأكثر الرأي والذي بني عليه أمر الشهادة أشياء ثلاثة: أحدها: العدالة. والآخر: نفي التهمة وإن كان عدلاً. والثالث: التيقظ والحفظ وقلة الغفلة. أما العدالة: فأصلها الإيمان واجتناب الكبائر، ومراعاة حقوق الله عز وجل في الواجبات والمسنونات، وصدق اللهجة والأمانة. وأن لا يكون محدودًا في قذفٍ. وأما نفي التهمة فأن لا يكون المشهود له والدًا=

ص: 470

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ولا ولدًا أو زوجًا وزوجة، وأن لا يكون قد شهد بهذه الشهادة فردت لتهمة، فشهادة هؤلاء غير مقبولة لمن ذكرنا وإن كانوا عدولًا مرضيين. وأما التيقظ والحفظ وقلة الغفلة: فأن لا يكون غفولًا غير مجرب للأمور، فإن مثله ربما لقن الشيء فتلقنه، وربما جوز عليه التزوير فشهد به. قال ابن رستم عن محمد بن الحسن في رجل أعجميٍّ صوام قوام مغفل يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به قال: هذا أشر من الفاسق في شهادته. وحدثنا عبد الرحمن بن سيما المحبر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا ابن هلال، عن أشعث الحداني قال: قال رجلٌ للحسن: يا أبا سعيدٍ إن إياسًا رد شهادتي، فقام معه إليه فقال: يا ملكعان لم رددت شهادته أو ما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله". فقال: أيها الشيخ، أما سمعت الله يقول:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وإن صاحبك هذا ليس نرضاه. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا السري بن عاصم بإسنادٍ ذكره: أنه شهد عند إياس بن معاوية رجل من أصحاب الحسن فرد شهادته فبلغ الحسن وقال: قوموا بنا إليه. قال: فجاء إلى إياس فقال: يا لكع ترد شهادة رجل مسلم. فقال: نعم. قال الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وليس هو ممن أرضى. قال: فسكت الحسن. فقال خصم الشيخ: فمن شرط الرضا للشهادة أن يكون الشاهد متيقظًا حافظًا لما يسمعه، متقنًا لما يؤديه. وقد ذكر بشر ابن الوليد، عن أبي يوسف في صفة العدل أشياء: منها: أنه قال: من سلم من الفواحش التي تجب فيها الحدود وما يشبه ما تجب فيه من العظائم وكان يؤدي الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار قبلنا شهادته؛ لأنه لا يسلم عبدٌ من ذنبٍ وإن كانت ذنوبه أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته، ولا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج، يقامر عليها، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها، وكذلك من يكثر الحلف بالكذب لا تجوز شهادته. قال: وإذا ترك الرجل الصلوات الخمس في الجماعة استخفافًا بذلك أو مجانة أو فسقًا فلا تجوز شهادته وإن تركها على تأويلٍ، وكان عدلًا فيما سوى ذلك قبلت شهادته. قال: وإن داوم على ترك ركعتي الفجر لم تقبل شهادته وإن كان معروفًا =

ص: 471

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بالكذب الفاحش لم أقبل شهادته وإن كان لا يعرف بذلك، وربما ابتلي بشيء منه، والخير فيه أكثر من الشر قبلت شهادته، ليس يسلم أحدٌ من الذنوب. قال: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وابن أبي ليلى: شهادة أهل الأهواء جائزةٌ إذا كانوا عدولاً إلَّا صنفًا من الرافضة يقال لهم: الخطابية، فإنه بلغني أن بعضهم يصدق بعضًا فيما يدعي إذا حلف له، ويشهد بعضهم لبعضٍ، فلذلك أبطلت شهادتهم. وقال أبو يوسف: أيما رجلٍ أظهر شتيمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم أقبل شهادته؛ لأن رجلًا لو كان شتامًا للناس والجيران لم أقبل شهادته، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم حرمةً. وقال أبو يوسف: ألا ترى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا واقتتلوا. وشهادة الفريقين جائزة؛ لأنهم اقتتلوا على تأويلٍ فكذلك أهل الأهواء من المتأولين. قال أبو يوسف: ومن سألت عنه؟ فقالوا: إنا نتهمه بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أقبل هذا حتى يقولوا: سمعناه يشتم. قال: فإن قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره، فإني أقبل ذلك ولا أجيز شهادته. والفرق بينهما: إن الذين قالوا: نتهمه بالشتم. قد أثبتوا له الصلاح وقالوا: نتهمه بالشتم. فلا يقبل هذا إلا بسماعٍ. والذين قالوا: نتهمه بالفسق والفجور، ونظن ذلك به، ولم نره، فإني أقبل ذلك، ولا أجيز شهادته، أثبتوا له صلاحًا وعدالة. وذكر ابن رستم، عن محمدٍ أنه قال: لا أقبل شهادة الخوارج إذ كانوا قد خرجوا يقاتلون المسلمين وإن شهدوا. قال: قلت: ولم لا تجيز شهادتهم وأنت تجيز شهادة الحرورية. قال: لأنهم لا يستحلون أموالنا ما لم يخرجوا، فإذا خرجوا استحلوا أموالنا فتجوز شهادتهم ما لم يخرجوا. وحدثنا أبو بكر مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال: سمعت محمد بن سماعة يقول: سمعت أبا يوسف يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: لا يجب على الحكم أن يقبل شهادة بخيلٍ، فإن البخيل يحمله شدة بخله على التقصي، فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن. ومن كان كذلك لم يكن عدلاً. سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: سمعت إبراهيم يقول: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أيها الناس كونوا وسطاً لا تكونوا بخلاء ولا سفلة، فإن البخيل والسفلة الذين إن كان عليهم حقٌ لم يؤدوه، وإن كان لهم حقٌ استقصوه. قال: وقال: ما من طباع المؤمن التقصي ما استقصى كريم قط =

ص: 472

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]. وحدثنا مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس قال: سمعت الحماني يقول: سمعت ابن المبارك يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: من كان معه بخيل لم تجز شهادته يحمله البخل على التقصي، فمن شدة تقصيه يخاف الغبن فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن، فلا يكون هذا عدلاً. وقد روي نظير ذلك: عن إياس بن معاوية. ذكر ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمد ابن عبد الرحمن قال: قلت لإياس بن معاوية: أخبرت أنك لا تجيز شهادة الأشراف بالعراق، ولا البخلاء، ولا التجار الذين يركبون البحر قال: أجل. أما الذين يركبون إلى الهند حتى يغرروا بدينهم، ويكثروا عدوهم من أجل طمع الدنيا، فعرفت أن هؤلاء لو أعطي أحدهما درهمين في شهادة لم يتحرج بعد تغريره بدينه. وأما الذين يتجرون في قرى فارس فإنهم يطعمونهم الربا وهم يعلمون، فأبيت أن أجيز شهادة آكل الربا. وأما الأشراف: فإن الشريف بالعراق إذا نابت أحدًا منهم نائبة أتى إلى سيد قومه فيشهد له ويشفع فكنت أرسلت إلى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر: أن لا يأتيني بشهادةٍ. وقد روي عن السلف رد شهادة قومٍ ظهر منهم أمورٌ لا يقطع فيها بفسق فاعليها إلَّا أنها تدل على سخفٍ أو مجونٍ فرأوا رد شهادة أمثالهم منه. ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا محمود بن خداش قال: حدثنا زيد بن الحباب قال: أخبرني داود بن حاتم البصري: أن بلال بن أبي بردة وكان على البصرة كان لا يجيز شهادة من يأكل الطين، وينتف لحيته. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حماد بن محمد قال: حدثنا شريح قال: حدثنا يحيى ابن سليمان، عن ابن جريج: أن رجلًا كان من أهل مكة شهد عند عمر بن عبد العزيز وكان ينتف عنفقته ويحفي لحيته وحول شاربيه فقال: ما اسمك؟ قال: فلانٌ. قال: بل اسمك ناتف ورد شهادته. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن سعدٍ قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن الجعد بن ذكوان قال: دعا رجل شاهدًا له عند شريح اسمه ربيعة فقال: يا ربيعة يا ربيعة فلم يجب، فقال: يا ربيعة الكويفر. فأجاب فقال له: قم. وقال لصاحبه: هات غيره. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا إسماعيل=

ص: 473

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ابن إبراهيم قال: حدثنا سعيد بن أبي عروية، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباسٍ قال: الأقلف لا تجوز شهادته. وروى حماد بن أبي سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة: لا تجوز شهادة أصحاب الحمر - يعني: النخاسين -. وروي عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام. وروى مسعر: أن رجلًا شهد عند شريح وهو ضيق كم القبا فرد شهادته وقال: كيف يتوضأ وهو على هذه الحال. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا جرير بن حازم، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة قال: شهد رجلٌ عند شريح فقال: أشهد بشهادة الله فقال: شهدت بشهادة الله لا أجيز لك اليوم شهادة. قال أبو بكر: لما رآه تكلف من ذلك ما ليس عليه لم يره أهلًا لقبول شهادته، فهذه الأمور التي ذكرناها عن هؤلاء السلف من رد الشهادة مَنْ أجلها غير مقطوع فيها بفسق فاعليها ولا سقوط العدالة، وإنما دلهم ظاهرها على سخف من هذه حاله فردوا شهادتهم من أجلها؛ لأن كلًّا منهم تحرى موافقة ظاهر قوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] على حسب ما أداه إليه اجتهاده. فمن غلب في ظنه سخف من الشاهد أو مجونه أو استهانته بأمر الدين أسقط شهادته. قال محمد في كتاب آداب القاضي: من ظهرت منه مجانة لم أقبل شهادته. قال: ولا تجوز شهادة المخنث، ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرها. وقد حكي عن سفيان بن عيينة: أنّ رجلًا شهد عند ابن أبي ليلى فرد شهادته قال: فقلت لابن أبي ليلى مثل فلان. وحاله كذا وحال ابنه كذا ترد شهادته. فقال: أين يذهب بك؟ إنه فقيرٌ. فكان عنده: أن الفقر يمنع الشهادة إذ لا يؤمن به أن يحمله الفقر على الرغبة في المال، وأقام شهادة بما لا تجوز. وقال مالك بن أنس: لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير، وتجوز في الشيء التافه، إذا كانوا عدولًا. فشرط مالكٍ مع الفقر المسألة ولم يقبلها في الشيء الكثير للتهمة. وقبلها في اليسير لزوال التهمة. وقال المزني والربيع، عن الشافعي: إذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن الشافعي: إذا كان أكثر أمره الطاعة ولم يقدم على كبيرة فهو عدلٌ فأما شرط =

ص: 474

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= المروءة فإن أراد به التصاون والصمت والحسن وحفظ الحرمة وتجنب السخف والمجون فهو مصيبٌ وإن أراد به نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة والشارة الحسنة فقد أبعد. وقال غير الحق؛ لأن هذه الأمور ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين.

قال أبو بكر: جميع ما قدمنا من ذكر أقاويل السلف وفقهاء الأمصار واعتبار كل واحدِ منهم في الشهادة ما حكينا عنه يدل على: أن كلاّ منهم بنى قبول أمر الشهادة على ما غلب في اجتهاده واستولى على رأيه أنه ممن يرضى ويؤتمن عليها وقد اختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة، هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد، فروي عن عمر بن الخطاب في كتابه الذي كتبه إلى أبي موسى في القضاء: والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ أو مجربًا عليه شهادة زورٍ أو ظنينًا في ولاء أو قرابة. وقال منصور: قلت لإبراهيم: وما العدل في المسلمين؟ قال: من لم تظهر منه ريبة. وعن الحسن البصري والشعبي مثله. وذكر معمر، عن أبيه قال: لما ولي الحسن القضاء كان يجيز شهادة المسلمين، إلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد. وذكر هشيم قال: سمعت ابن شبرمة يقول: ثلاث لم يعمل بهن أحدٌ قبلي، ولن يتركهن أحدٌ بعدي.

المسألة عن الشهود وإثبات حجج الخصمين وتحلية الشهود في المسألة. وقال أبو حنيفة: لا أسأل عن الشهود إلَّا أن يطعن فيهم الخصم المشهود عليه، فإن طعن فيهم سألت عنهم في السر والعلانية وزكيتهم في العلانية إلَّا شهود الحدود والقصاص، فإني أسأل عنهم في السر وأزكيهم في العلانية. وقال محمد يسأل عنهم وإن لم يطعن فيهم. وروى يوسف بن موسى القطان، عن علي بن عاصم، عن ابن شبرمة قال: أول من سأل في السر أنا كان الرجل يأتي القوم إذا قيل له هات من يزكيك فيقول: قومي يزكونني فيستحي القوم فيزكونه، فلما رأيت ذلك سألت في السر، فإذا صحت شهادته قلت: هات من يزكيك في العلانية. وقال أبو يوسف ومحمد: يسأل عنهم في السر والعلانية، ويزكيهم في العلانية، وإن لم يطعن فيهم الخصم. وقال مالك ابن أنس: لا يقضي بشهادة الشهود حتى يسئل عنهم في السر. وقال الليث: أدركت =

ص: 475

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الناس، ولا تلتمس من الشاهدين تزكية، وإنما كان الوالي يقول للخصم: إن كان عندك من يجرح شهادتهم فأت به وإلا أجزنا شهادته عليك. وقال الشافعي: يسأل عنهم في السر، فإذا عدل سأل عن تعديله علانيةً، ليعلم أن المعدل هو هذا لا يوافق اسم اسمًا، ولا نسب نسبًا. قال أبو بكر: ومن قال من السلف بتعديل من ظهر إسلامه، فإنما بنى ذلك على ما كانت عليه أحوال الناس من ظهور العدالة في العامة، وقلة الفساق فيهم؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد بالخير والصلاح للقرن الأول والثاني والثالث. حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - ثلاث أو أربع -، ثم يجيء قومٌ سبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". قال: وكان أصحابنا يضريوننا على الشهادة والعهد، ونحن صبيان. وإنما حمل السلف ومن قال من فقهاء الأمصار مما وصفنا أمر المسلمين في عصرهم على العدالة وجواز الشهادة لظهور العدالة فيهم، وإن كان فيهم صاحب ريبةٍ وفسق كان يظهر النكير عليه، ويتبين أمره وأبو حنيفة كان في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخير والصلاح فتكلم على ما كانت الحال عليه. وأما لو شهد أحوال الناس بعد لقال يقول الآخرين في المسألة عن الشهود، ولما حكم لأحدٍ منهم بالعدالة إلَّا بعد المسألة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأعرابي الذي شهد على رؤية الهلال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: نعم. فأمر الناس بالصيام بخبره ولم يسأل عن عدالته بعد ظهور إسلامه لما وصفنا، مثبت بما وصفنا: أن أمر التعديل وتزكية الشهود وكونهم مرضيين مبنيٌّ على اجتهاد الرأي، وغالب الظن، لاستحالة إحاطة علومنا بغيب أمور الناس. وقد حذرنا الله الاغترار بظاهر حال الإنسان والركون إلى قوله: مما يدعيه لنفسه من الصلاح والأمانة. فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204] الآية. ثم أخبر عن مغيب أمره وحقيقة حاله فقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] الآية. فأعلمنا ذلك من حال بعض من يعجب ظاهر قوله. وقال أيضًا في صفة قومٍ آخرين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] الآية. فحذر=

ص: 476

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= نبيه صلى الله عليه وسلم الاغترار بظاهر حال الإنسان، وأمرنا بالاقتداء به. فقال: واتبعوه. وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فغير جائز إذا كان الأمر على ما وصفنا: الركون إلى ظاهر أمر الإنسان دون التثبت في شهادته، والبحث عن أمره حتى إذا غلب في ظنه عدالته قبلها، وقد وصف الله تعالى الشهود المقبولين بصفتين: إحداهما: العدالة في قوله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والأخرى: أن يكونوا مرضيين لقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والمرضيون: لا بد أن تكون من صفتهم: العدالة. وقد يكون عدلًا غير مرضيِّ في الشهادة، وهو: أن يكون غمرًا مغفلاً يجوز عليه التزوير والتمويه. فقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] قد انتظم الأمرين من العدالة والتيقظ وذكاء الفهم، وشدة الحفظ، وقد أطلق الله ذكر الشهادة في الزنا غير مقيد بذكر العدالة وهي من شرطها العدالة والرضى جميعًا. وذلك لقوله عز وجل:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وذلك عموم في إيجاب التثبت في سائر أخبار الفساق. والشهادة خبرٌ، فوجب التثبت فيها إذا كان الشاهد فاسقًا، فلما نص الله على التثبت في خبر الفاسق وأوجب علينا قبول شهادة العدول المرضيين وكان الفسق قد يعلم من جهة اليقين والعدالة لا تعلم من جهة اليقين دون ظاهر الحال، علمنا: أنها مبنية على غالب الظن وما يظهر من صلاح الشاهد وصدق لهجته وأمانته. وهذا وإن كان مبنيًا على أكثر الظن فهو ضربٌ من العلم. كما قال تعالى في المهاجرات: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وهذا هو علم الظاهر دون الحقيقة، فكذلك الحكم بعدالة الشاهد. طريقه: العلم الظاهر دون المغيب الذي لا يعلمه إلَّا الله تعالى. وهذا أصلٌ كبير في الدلالة على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث إذ كانت الشهادات من معالم أمور الدين والدنيا وقد عقد بها مصالح الخلق في وثائقهم وإثبات حقوقهم وأملاكهم وإثبات الأنساب والدماء والفروج وهي مبنية على غالب الظن وأكثر الرأي إذ لا يمكن أحدًا من الناس إمضاء حكمِ بشهادة شهودٍ من طريق حقيقة العلم بصحة المشهود به وهو يدل على بطلان القول بإمامٍ معصومٍ في كل زمانٍ واحتجاج من يحتج فيه بأن أمور الدين كلها ينبغي أن تكون مبنية على ما يوجب العلم الحقيقي دون غالب الظن.=

ص: 477

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأكثر الرأي: وأنه متى لم يكن إمام بهذه الصفة لم يؤمن الخطأ فيها؛ لأن الرأي يخطئ ويصيب؛ لأنه لو كان كما زعموا لوجب أن لا تقبل شهادة الشهود إلاّ أن يكونوا معصومين مأمونًا عليهم الخطأ والزلل، فلما أمر الله تعالى بقبول شهادة الشهود إذا كانوا مرضيين في ظاهر أحوالهم دون العلم بضيقة مغيب أمورهم مع جواز الكذب والغلط عليهم ثبت بطلان الأصل الذي بنوا عليه أمر النص، فإن قالوا: الإمام يعلم صدق الشهود من كذبهم قيل لهم فواجب أن لا يسمع شهادة الشهود غير الإمام وأن لا يكون لإمام قاض ولا أمين إلا أن يكون بمنزلته في العصمة وفي العلم بمغيب أمر الشهود. ويجب أن لا يكون أحد من أعوان الإمام إلَّا معصومًا مأمون الزلل والخطأ لما يتعلق به من أحكام الدين، فلما جاز أن يكون للإمام حكام وشهود وأعوانٌ بغير هذه الصفة ثبت بذلك جواز كثيرٍ من أمور الدين مبنيًا على اجتهاد الرأي وغالب الظن. وفيما ذكرناه مما تعبدنا الله به في هذه الآية من اعتبار أحوال الشهود بما يغلب في الظن من عدالتهم وصلاحهم دلالة على بطلان قول نفاة القياس والاجتهاد في الأحكام التي لا نصوص فيها ولا إجماع لأن الدماء والفروج والأموال والأنساب من الأمور التي قد عقد بهما مصالح الدين والدنيا، وقد أمر الله فيها يقول شهادة الشهود الذين لا نعلم مغيب أمورهم، وإنما نحكم بشهاداتهم بغالب الظن وظاهر أحوالهم مع تجويز الكذب والخطأ والزلل والسهو عليهم فثبت بذلك تجويز الاجتهاد واستعمال غلبة الرأي فيما لا نص فيه من أحكام الحوادث. ولا اتفاق. وفيه الدلالة على جواز قبول الأخبار المقصرة عن إيجاب العلم بمخبراتها من أمور الديانات عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن شهادة الشهود غير موجبة للعلم بصحة المشهود به. وقد أمرنا بالحكم بها مع تجويز أن يكون الأمر في المغيب بخلافه فبطل بذلك قول من قال: أنه غير جائز قبول خبر من لا يوجب العلم بخبره في أمور الدين. وقد دل أيضًا على بطلان قول من يستدل على رد أخبار الآحاد بأنا لو قبلناها لكنا قد جعلنا منزلة المخبر أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يجب في الأصل قبول خبر النبي صلى الله عليه وسلم إلَّا بعد ظهور المعجزات الدالة على صدقه؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بقبول شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة وإن لم يكن معها علم معجزة يدل على صدقهم. وأما ما ذكرنا من اعتبار نفي التهمة =

ص: 478

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عن الشهادة وإن كان الشاهد عدلاً، فإن الفقهاء متفقون على بعضها، ومختلفون في بعضها، فمما اتفق عليه فقهاء الأمصار: بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلاّ شيء يحكى عن عثمان البتي قال: تجوز شهادة الولد لوالديه، وشهادة الأب لابنه ولامرأته إذا كانوا عدولاً مهذبين معروفين بالفضل ولا يستوي الناس في ذلك ففرق بينهما لوالده وبينها للأجنبي. فأما أصحابنا ومالك والليث والشافعي والأوزاعي: فإنهم لا يجيزون شهادة واحدٍ منهما للآخر. فقد حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن شريح قال: لا تجوز شهادة الابن لأبيه، ولا الأب لابنه، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته. وروي عن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا خالد الحذاء، عن إياس ابن معاوية بذلك. والذي يدل على بطلان شهادته لابنه قوله عز وجل:{. . . حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] ولم يذكره بيوت الأبناء؛ لأن قوله تعالى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} قد انتظمها إذ كانت منسوبة إلى الآباء فاكتفى بذكر بيوتهم عن ذكر بيوت أبنائهم وقال صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك". فأضاف الملك إليه وقال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم". فلما أضاف ملك الابن إلى الأب، وأباح أكله له وسماه له كسبًا، كان المثبت لابنه حقًا بشهادته بمنزلة مثبته لنفسه. ومعلومٌ: بطلان شهادته لنفسه، فكذلك لابنه، وإذا ثبت ذلك في الابن كان ذلك حكم شهادة الابن لأبيه إذ لم يفرق أحد بينهما، فإن قيل: إذا كان الشاهد عدلاً فواجبٌ قبول شهادته لهؤلاء، كما نقبلها لأجنبي، وإن كانت شهادته لهؤلاء غير مقبولةٍ لأجل التهمة، فغير جائز قبولها للأجنبي؛ لأن من كان متهمًا في الشهادة لابنه، بما ليس يحق له فجائزة عليه مثل هذه التهمة للأجنبي. قيل له: ليست التهمة المانعة من قبول شهادته لابنه، ولأبيه تهمة فسق ولا كذب، وإنما التهمة فيه من قبل أنه يصير فيها بمعنى المدعي لنفسه. ألا ترى: أن أحدًا من الناس وإن ظهرت أمانته وصحت عدالته لا يجوز أن يكون =

ص: 479

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= مصدقًا فيما يدعيه لنفسه لا على جهة تكذيبه ولكن من جهة أن كل ماع لنفسه فدعواه غير ثابتة إلا ببينة تشهد له بها. فالشاهد لابنه بمنزلة المدعي لنفسه لما بينا وكذلك قال أصحابنا: إن كل شاهد يجر بشهادته إلى نفسه مغنمًا أو يدفع بها عن نفسه مغرمًا فغير مقبول الشهادة؛ لأنه حينئذٍ يقوم مقام المدعي. والمدعي لا يجوز أن يكون شاهدًا فيما يدعيه، ولا أحد من الناس أصدق من نبي الله صلى الله عليه وسلم إذ دلت الأعلام المعجزة على أنه لا يقول إلا حقًا، وإن الكذب غير جائز عليه مع وقوع العلم لنا بمغيب أمره وموافقة باطنه لظاهره، ولم يقتصر فيما ادعاه لنفسه على دعواه دون شهادة غيره حين طالبه الخصم بها وهو قصة خزيمة بن ثابت، حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب، عن الزهريّ قال: حدثنا عمارة بن خزيمة الأنصاري: أن عمّه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي وذكر القصة وقال: فطلّق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أني قد بايعتك. فقال خزيمة: أنا أشهد أنك بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمةً فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين، فلم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه على ما تقرر وثبت بالدلائل والأعلام أنه لا يقول إلَّا حقًّا ولم يقل للأعرالي حين قال: هلم شهيدًا، أنه لا بينة عليه، وكذلك سائر المدعين، فعليهم: إقامة بينة لا يَجُرُّ بها إلى نفسه مغنمًا، ولا يدفع بها عنها مغرمًا. وشهادة الوالد لولده يجز بها إلى نفسه أعظم المغنم كشهادته لنفسه. والله تعالى أعلم.

ومن هذا الباب أيضًا: شهادة أحد الزوجين للآخر.

وقد اختلف الفقهاء فيها: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والليث: لا تجوز شهادة واحدٍ منهما للآخر. وقال الثَّوريُّ: تجوز شهادة الرجل لامرأته. وقال الحسن بن صالح: لا تجوز شهادة المرأة لزوجها. وقال الشافعي: تجوز شهادة أحد الزوجين للآخر. قال أبو بكر: هذا نظير شهادة الوالد للولد والولد للوالد وذلك من وجوه: أحدها: أنه معلوم تبسط كل واحدٍ من الزوجين في مال الآخر في العادة، وأنه كالمباح الذي لا يحتاج فيه إلى الاستئذان، فما يثبته الزوج لامرأته =

ص: 480

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بمنزلة ما يثبته لنفسه، وكذلك ما تثبته المرأة لزوجها. ألا ترى: أنه لا فرق في المعتاد بين تبسطه في مال الزوج والزوجة وبينه في مال أبيه وابنه. ولما كان كذلك وكانت شهادته لوالده وولده غير جائزةٍ كان كذلك حكم شهادة الزوج والزوجة. وأيضًا: فإن شهادته لزوجته بمالٍ توجب زيادة قيمة البضع الذي في ملكه؛ لأن مهره مثلها يزيد بزيادة مالها، فكان شاهدًا لنفسه بزيادة قيمة ما هو ملكه. وقد روي عن عمر ابن الخطاب أنه قال لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي لما ذكر له أن عبده سرق مرة لامرأته: عبدكم سرق مالكم، لا قطع عليه. فجعل مال كل واحدٍ منهما مضافًا إليهما بالزوجية التي بينهما، فما يثبته كل واحدٍ لصاحبه، فكأنه يثبته لنفسه. ومن جهةٍ أخرى: أنه كما أكثر مال الزوج كانت النفقة التي تستحقها أكثر، فكأنها شاهدة إذ كانت مستحقة للنفقة بحق الزوجية في حالي الفقر والغنى. فإن قال قائل: فالأخت الفقيرة والأخ الزمن يستحقان للنفقة على أخيهما إذا كان غنيًا ولم يمنع ذلك جواز شهادتهما له. قيل له: ليست الأخوة موجبة للاستحقاق؛ لأن الغني لا يستحقها مع وجود النسب، والفقير لا تجب عليه مع وجود الأخوة، والزوجية سبب لاستحقاقها فقيرًا كان الزوج أو غنيًا، فكانت المرأة مثبتةً بشهادتها لنفسها زيادة النفقة مع وجود الزوجية الموجبة لها، والنسب ليس كذلك؛ لأنه غير موجب للنففة لوجوده بينهما فلذلك اختلفا.

ومن هذا الباب أيضًا: شهادة الأجير.

وقد ذكر الطحاوي، عن محمد بن سنان، عن عيسى، عن محمد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة: أن شهادة الأجير غير جائزةٍ لمستأجره في شيءِ وإن كان عدلاً لا استحسانًا.

قال أبو بكر: روى هشام وابن رستم، عن محمد: أن شهادة الأجير الخاص غير جائزة لمستأجره، وتجوز شهادة الأجير المشترك له، ولم يذكر خلافًا عن أحدٍ منهم. وهو قول: عبيد الله بن الحسن.

وقال مالك: لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلَّا أن يكون مبرزًا في العدالة، وإن كان الأجير في عياله، لم تجز شهادته له. وقال الأوزاعي: لا تجوز شهادة الأجير =

ص: 481

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لمستأجره. وقال الثَّوريُّ: شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجرّ إلى نفسه.

حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا أبو عمر الحوضي قال: حدثنا محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة، وشهادة ذي الغمر على أخيه، ورد القانع لأهل البيت، وأجازها على غيرهم.

وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا محمد بن راشد بإسناده مثله. إلا أنه قال: ورد شهادة القانع لأهل البيت.

قال أبو بكر: قوله: القانع لأهل البيت، يدخل فيه: الأجير الخاص؛ لأن معناه: التابع لهم، والأجير الخاص: هذه صفته. وأما الأجير المشترك: فهو وسائر الناس في ماله بمنزلة، فلا يمنع ذلك جواز شهادته.

وكذلك شريك العنان تجوز شهادته له في غير مال الشركة.

وقال أصحابنا: كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدًا مثل شهادة أحد الزوجين للآخر، إذا ردت لفسقه، ثم تاب وأصلح فشهد بتلك الشهادة لم تقبل أبدًا. ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر: إذا ردت ثم شهد بها بعد زوال الزوجية لم تقبل أبدًا. وقالوا: لو شهد عبد بشهادة، أو كافر، أو صبي، فردت، ثم أعتق العبد أو أسلم الكافر أو كبر الصبي أو عتق العبد وشهد بها لم تقبل أبدًا ولو لم تكن ردت قبل ذلك، فإنها جائزة.

وروي عن عثمان بن عفان مثل قول مالك، وإنما قال أصحابنا: أنها إذا ردت لتهمة لم تقبل أبدًا من قبل أن الحاكم قد حكم بإبطالها. وحكم الحاكم: لا يجوز فسخه إلاّ بحكمٍ، ولا يصح فسخه بما لا يثبت من جهة الحكم، فلما لم يصح الحكم بزوال التهمة التي من أجلها ردت الشهادة، كان حكم الحاكم بإبطال تلك الشهادة ماضيًا لا يجوز فسخه أبدًا. وأما الرق والكفر والصغر، فإن المعاني التي ردت من أجلها وحكم الحاكم بإبطالها محكومٌ بزوالها؛ لأن الحرية والإسلام والبلوغ كل ذلك مما يحكم به الحاكم. فلما صح حكم الحاكم بزوال المعاني التي من أجلها بطلت شهادتهم، وجب أن تقبل. ولما لم يصح أن يحكم الحاكم بزوال التهمة؛ لأن ذلك=

ص: 482

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= معنى لا تقوم به البينة، ولا يحكم به الحاكم، كان حكم الحاكم بإبطالها ماضيًا إذا كان ما ثبت من طريق الحكم لا ينفسخ إلاّ من جهة الحكم فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرناها من العدالة، ونفي التهمة، وقلة الغفلة هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فانظر إلى كثره هذه المعاني والفوائد والدلالات على الأحكام التي في ضمن قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته اختصاره، وظهور فوائده. وجميع ما ذكرنا من عند ذكرنا لمعنى هذا اللفظ من أقاويل السلف والخلف واستنباط كل واحدٍ منهم ما في مضمونه وتحريم موافقته مع احتماله لجميع ذلك يدل على أنه كلام الله. ومن عنده تعالى، وتقدس إذ ليس في وسع المخلوقين إيراد لفظٍ يتضمن من المعاني والدلالات والفوائد والأحكام ما تضمنه هذا القول مع اختصاره وقلة عدد حروفه. وعسى أن يكون ما لم يحط به علمنا من معانيه مما لو كتب لطال وكثر. والله نسأل التوفيق، لنعلم أحكامه ودلائل كتابه، وأن يجعل ذلك خالصًا لوجهه.

قوله تعالى عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] قرئ: فتذكر إحداهما الأخرى، بالتشديد. وقرئ: فتذكر إحداهما الأخرى، بالتخفيف. وقيل: إن معناهما قد يكون واحدًا. يقال: ذكَرْتُه وذكرْتُه. وروي ذلك: عن الربيع بن أنس، والسدي، والضحاك.

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو عبيد مؤمل الصيرفي قال: حدثنا أبو يعلى البصري قال: حدثنا الأصمعي، عن أبي عمرو قال: من قرأ: فتذكر. مخففة، أراد تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكرٍ. ومن قرأ: فتذكر. بالتشديد، أراد من جهة التذكير. وروي ذلك: عن سفيان بن عيينة.

قال أبو بكر: إذا كان محتملاً للأمرين، وجب حمل كل واحدةٍ من القراءتين على معنًى وفائدة محددة، فيكون قوله تعالى: فتذكر. بالتخفيف. تجعلهما جميعا بمنزلة رجلٍ واحدٍ في ضبط الشهادة، وحفظها، وإتقانها. وقوله تعالى:{فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] من التذكير عند النسيان. واستعمال كل واحدٍ منهما على موجب دلالتيهما أولى من الاقتصار بها على موجب دلالة أحدهما. ويدل على ذلك أيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم:=

ص: 483

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= "ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن". قيل: يا رسول الله! وما نقصان عقلهن؟ قال: "جعل شهادة امرأتين بشهادة رجلٍ ". فهذا موافق لمعنى من تأول: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] على أنهما تصيران في ضبط الشهادة وحفظها بمنزلة رجلٍ. وفي هذه الآية: دلالة على أنه غير جائزٍ لأحدٍ إقامة شهادة وإن عرف خطه إلاّ أن يكون ذاكرًا لها. ألا ترى: ذكر ذلك بعد الكتاب والإشهاد. ثم قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. فلم يقتصر بنا على الكتاب والخط دون ذكر الشهادة. وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]. فدل ذلك: على أن الكتاب إنما أمر به لتستذكر به كيفية الشهادة، وأنها لا تقام إلاّ بعد حفظها، وإتقانها. وفيها: الدلالة على أن الشاهد إذا قال: ليس عندي شهادة في هذا الحق. ثم قال: عندي شهادة فيه أنها مقبولة، لقوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فأجازها إذا ذكرها بعد نسيانها.

وذكر ابن رستم، عن محمد رحمه الله: في رجلٍ سئل عن شهادة في أمر كان يعلمه؟ فقال: ليس عندي شهادة، ثم أنه شهد بها في ذلك عند القاضي. قال: تقبل منه. إذا كان عدلاً؛ لأنه يقول: نسيتبها. ثم ذكرتها. ولأن الحق ليس له. فيجوز قوله عليه: وإنما الحق لغيره. فكذلك تقبل شهادته فيه. قال أبو بكر: يعني: أنه ليس هذا مثل أن يقول المدعي: ليس في عنده هذا الحق، ثم يدعيه، فلا تقبل دعواه له بعد إقراره؛ لأنه أبرأه من الحق وأقرّ على نفسه، فجاز إقراره، فلا تقبل دعواه بعد ذلك لذلك الحق لنفسه؛ لأنه قد أبطلها بإقراره. وأما الشهادة: فإنما هي حق للغير فلا يبطلها قوله: ليس عندي شهادة. وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] يدل على صحة هذا القول.

وقد اختلف الفقهاء في الشهادة على الخط: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يشهد بها حتى يذكرها، وهذا هو المشهور من قولهم.

وروى ابن رستم قال: قلت لمحمد: رجل يشهد على شهادة وكتبها بخطه، وختمها، أو لم يختم عليها وقد عرف خطه. قال: إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها، ختم عليه أو لم يختم. قال: فقلت: إن كان أميًا لا يقرأ. فكتب غيره له، قال: لا يشهد =

ص: 484

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حتى يحفظ ويذكرها. وقال أبو حنيفة: ما وجد القاضي في ديوانه لا يقضي به إلَّا أن يذكره. وقال أبو يوسف: يقضي به إذا كان في قمطره وتحت خاتمه؛ لأنه لو لم يفعله أضر بالناس، وهو قول محمد. ولا خلاف بينهم: أنه لا يمضي شيئًا منه إذا لم يكن تحت خاتمه، وأنه لا يمضي ما وجده في ديوانه غيره من القضاة إلا أن يشهد به الشهود على حكم الحاكم الذي قبله. وقال ابن أبي ليلى مثل قول أبي يوسف فيما يجده في ديوانه. وذكر أبو يوسف أيضًا: عن ابن أبي ليلى: إذا أقر عند القاضي لخصمه، فلم يثبته في ديوانه، ولم يقض به عليه، ثم سأله المقر له به أن يقضي له على خصمه، فإنه لا يقضي به عليه في قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يقضي به عليه إذا كان يذكره. وقال مالك فيمن عرف خطه ولم يذكر الشهادة: أنه لا يشهد على ما في الكتاب. ولكن يؤدي شهادته إلى الحكم كما علم، وليس للحاكم أن يجيزها، {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] شهادته على نفسه في ذكر الحق ومات الشهود، فأنكر، فشهد رجلان: أنه خط نفسه، فإنه يحكم عليه بالمال، ولا يستحلف ربِّ المال. وذكر أشهب عنه، فيمن عرف خطه ولا يذكر الشهادة: أنه يؤديها إلى السلطان، ويعلمه ليرى فيه رأيه. وقال الثَّوريُّ: إذا ذكر أنه شهد ولا يذكر عدد الدراهم، فإنه لا يشهد وإن كتبها عنده، ولم يذكر: إلَّا أنه يعرف الكتاب، فإنه إذا ذكر أنه شهد، وأنه قد كتبها، فأرى أن يشهد على الكتاب. وقال الليث: إذا عرف أنه خط يده، وكان ممن يعلم أنه لا يشهد إلَّا بحق فليشهد. وقال الشافعي: إذا ذكر إقرار المقرّ، حكم به عليه، أثبته في ديوانه أو لم يثبته؛ لأنه لا معنى للديوان إلَّا الذكر. وقال في كتاب المزني: أنه لا يشهد حتى يذكر. قال أبو بكر: قد ذكرنا دلالة قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. ودلالة قوله تعالى بعد ذكر الكتاب: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} . على أن من شرط جواز إقامة الشّهادة ذكر الشّاهد لها، وأنَّه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط، إذ الخط والكتاب مأمور به لتذكر به الشهادة. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} [الزخرف: 86]. فإذا لم يذكرها فهو غير عالمٍ بها. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. يدل على ذلك، ويدل عليه: حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:=

ص: 485

الْمصنف في غير هذه الكتب -، وقاضي خان في أوّل فتاويه، وغيره.

والجواب كما ذكر: أنّ الاعتراض المذكور لازمٌ عليه، فيما استدل به لأبي حنيفة، فإنهّم كانوا عدولًا بذاك الأثر كان له أن يقضي وإن طعنَ الخصم فيما لا يثبت مع الشبهات، ويختار لهما اختلاف استصحاب الحال الذي ذكره، وهو كما علمنا من أحوال الناس ما علمنا بأن أكثر من التزم الإسلام لم يجتنب محارمه. فلم يبقَ مجرّد التزام الإسلام مظّنة العدالة. وكان الظّاهر الثّابت بالغالب بلا معارضٍ. والله أعلم.

وعن هذا ذهب من ذكرنا: أنّ الفتوى على قولهما. قال هذا إذا سكت المدّعى عليه عن الطعن أو طعن، فأمّا إذاعة الشهود فقال: هم عدولٌ. فهذا على ثلاثة أنواعٍ:

أمَّا إذا قال: هم عدولٌ صدقوا.

أو قال: عدول: أخطأوا.

= "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع". وقد تقدم ذكر سنده. وأما الخط:

فقد يزور عليه، وقد يشتبه على الشاهد، فيظن: أنه خطه وليس بخطه، ولما كانت الشّهادة من مشاهدة الشيء، وحقيقة العلم به، فمن لا يذكر الشهادة فهو بخلاف هذه الصفة، فلا تجوز له إقامة الشهادة به. وقد أكّد أمر الشهادة حتّى صار، لا يقبل فيها إلاّ صريح لفظها، ولا يقبل ما يقوم مقامها من الألفاظ، فكيف يجوز العمل على الخط الذي يجوز عليه التزوير والتبديل. وقد روي عن أبي معاوية النخعي، عن الشعبي فيمن عرف الخط والخاتم: ولا يذكر الشهادة أنه لا يشهد به حتى يذكرها. وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] معناه: أن ينساها؛ لأن الضلال هو الذهاب عن الشيء، فلما كان الناسي ذاهبًا عمّا نسيه، جاز أن يقال: ضلّ عنه. بمعنى: أنه نسيه. وقد يقال أيضًا: ضلّت عنه الشهادة، وضل عنها. والمعنى واحد. والله تعالى أعلم.

ص: 486

أو قال: عدول وسكت.

ففي النوع الأوّل: يقضي من غير سؤالٍ؛ لأنه أقرّ. فيقضي بإقراره.

وفي النوع الثاني والثالث: المسألة على ثلاثة أوجهٍ:

أمّا إنْ كان المدعى عليه عدلًا ممن يسأل عنه الشهود. أو كان مستورًا أو فاسقًا.

ففي الوجه الأوّل: المسألة على قسمين:

إِمّا أن يسكت عن جحود دعوى المدّعي وإقراره، أو جحد.

ففي القسم الأول: قال أبو حنيفة وأبو يوسف: للقاضي أن يقضي بهذه الشهادة قبل السّؤال من المزكي سواء كان المدعى به حقًا يثبت مع الشبهات أو حقًا لا يثبت مع الشبهات.

وقال محمّد: لا يقضي ما لم يسأل عن المزكي آخر، بناءً على أن العدد في المزكي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ليس بشرط لإثبات العدالة. وعند محمّدٍ هو شرط.

وفي القسم الثاني: فكذلك. كذا ذكر في هذا الكتاب. فإنه ذكر في هذا الكتاب الخلاف مطلقًا ولم يفصل بين القسمين.

ونصّ في الجامع الصغير في باب القضاء: أنّه لا يقضي. فإنه قال في قول من رأى: أن يسأل عن الشهود يريد به أبا يوسف ومحمد: لا يقبل قول الخصم أنّه عدلٌ يريد به تعديله؛ لأنّ من زعم المدعي شهوده: أنّ المدعى عليه في الجحود كاذب، فكان في زعمه: أنّه فاسقٌ، فلا يصحّ تعديله.

وفي الوجه الثالث والثاني: لا يقضي؛ وإن تعديل المستور والفاسق

ص: 487

لا يكفي. فإن قيل: وجب أن يكفي؛ لأنه إقرارٌ على نفسه، وإقرار المستور والفاسق على نفسه صحيحٌ.

قيل له: هذا إقرارٌ على نفسه وعلى القاضي يوجب القضاء عليه. فإن صحّ إقراره على نفسه لا يصحّ إقراره على القاضي.

فإن قيل: هلاّ جعل قول المدعى عليه: هم عدولٌ. إقرارٌ منه بالحقّ على نفسه. فيقضي بالإقرار كما لو قال: إنهّم عدولٌ. صدقوا كما في النوع الأول.

قيل له: إقرار المدعي يكون الشاهد عدلاً لا يكون إقرارًا بوجوب الحق على نفسه لا محالة لجواز أن يكون عدلاً، إلاّ أنه أخطأ في شهادته بأن ظنّ. والأمر بخلاف ما ظن. ولهذا: لو شهد عليه واحدٌ بالحقّ فقال المشهود عليه: هو عدلٌ لا يقضى عليه، ولو كان التعديل إقرارًا. وجب أن يقضي كما لو قال لهذا الواحد قد صدق.

وذكر في الكتاب في القسم الثاني والثالث وهو ما إذا كان مستورًا أو فاسقًا. إذا لم يثبت العدالة في النوع الثالث وهو ما إذا قال: هم عدولٌ وسكت. فسأله القاضي: صدقوا أم كذبوا، فإن قال: صدّقوا يقضي عليه بإقراره.

وإن قال: كذبوا. لا يقضي.

وإن قال: قد أخطأوا وهو النوع الثاني. فالقاضي: لا يقضي.

* المسألة الثانية:

العدد في المزكي، وفي المترجم عن الشّاهد الأعجمي، وعن الخصم الأعجمي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ليس بشرط. والواحد يكفي.

ص: 488