المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[18][رسالة في] ما ينقض من القضاء - مجموعة رسائل العلامة قاسم بن قطلوبغا

[ابن قطلوبغا]

فهرس الكتاب

- ‌مَدخَل

- ‌الكِتَاب

- ‌وَصفُ المَخْطُوطِ

- ‌صِحَّةُ نِسْبَةِ المَجمُوع

- ‌مَصَادِر المَجْمُوع

- ‌عَمَلُنَا فِي المَجْمُوعِ

- ‌تَرْجَمَةُ العلَّامة قَاسِم بن قُطْلُوبغَا

- ‌ اسمه ونسبه:

- ‌ مولده:

- ‌ صفته:

- ‌ العلوم التي برع فيها:

- ‌ مذهبه:

- ‌ المناصب التي وليها:

- ‌ رحلاته العلمية:

- ‌ شيوخه:

- ‌ تلاميذه:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ مصنفاته:

- ‌ القرآن وعلومه:

- ‌ التخريج:

- ‌ الرجال وعلومه:

- ‌ الحديث وعلومه:

- ‌ الفقه وعلومه:

- ‌ أصول الفقه:

- ‌ السيرة:

- ‌ النقد:

- ‌ اللغة العربية:

- ‌ علم الكلام:

- ‌ مرضه ووفاته:

- ‌ مصادر الترجمة:

- ‌تَرْجَمَةُ شَمْس الدِّين ابن أَمِيْر حَاج الحَلَبِيِّ

- ‌ اسمه:

- ‌ أولاده:

- ‌ صفته:

- ‌ المناصب التي تولاها:

- ‌ تصانيفه:

- ‌ وفاته:

- ‌ مصادر ترجمته:

- ‌[1]رَفْعُ الاشْتِبَاهِ عَنْ مَسَائِلِ المِيَاهِ

- ‌ لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُفْتِي بِقَوْلنَا مَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ

- ‌ سئلت عن مسائل وأجوبتها منقولة فلا بأس نذكرها تتميماً:

- ‌[2]رِسَالَةٌ فِيهَا أَجْوِبَةٌ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلَ وَقَعَتْ

- ‌ إذا أصابوا في البئر فأرة متفسخة، وكانوا قبل ذلك قد طبخوا أو عجنوا من مائها، هل يؤكل

- ‌ رجل يمسح على خرقة على جراحةٍ بيده

- ‌ رجلٍ صلّى الظهر، فشكّ وهو في الصلاة أنه على وضوءٍ أم لا، ما الفعلُ

- ‌ إذا تعمَّد ترك الواجب أو تأخيره، لم يجب عليه سجود السهو

- ‌ المسبوق إذا سلَّم مَعَ الإمام ساهيًا، هل تبطل صلاته

- ‌ رجلٌ أجَّرَ دارًا

- ‌ رجلٌ له ثلاث مئة قد حال عليها الحول، فخلطها بخمس مئة، ثم ضاع من المال كله خمس مئة

- ‌ في رجلٍ صائم قال له آخر: امرأته طالق إن لم يفطر

- ‌ التقبيل الفاحش

- ‌[3]النَّجَدَات بِبَيَانِ السَّهْوِ في السَّجْدَاتِ

- ‌[4]أَحْكَامُ الفَأْرَة إِذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيتِ وَنَحْوِه

- ‌ تنجّس الدهن:

- ‌[5]أَحْكَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي المَسْجِدِ

- ‌لو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد، ومعه صفٌّ والباقي في المسجد

- ‌[6][رِسَالَةٌ فِي] التَّرَاوِيحِ وَالوِتْرِ

- ‌وَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا

- ‌فصلٌالانتظار من كل ترويحتين قدر الترويحة

- ‌فصل وقدر القراءة في التراويح

- ‌فصلٌإذا صلّى الإمام التراويح قاعدًا لعذرٍ أو لغير عذرٍ والقوم قيام

- ‌فصلٌ وإذا صلَّى التراويح قاعدًا من غير عذرٍ

- ‌فصلٌ إذا صلّى التراويح مقتديًا بمن يصلي المكتوبة، أو وترًا، أو نافلة غير التراويح

- ‌فَصْلٌ إذا صلَّى ترويحةً واحدةً بتسليمةٍ واحدةٍ، وقد قعد في الثّانية قدر التشهد

- ‌[7]الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ

- ‌ صورة ما كتبه المرحوم الشيخ العلامة يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي

- ‌[8]أَحْكَامُ القَهْقَهةِ

- ‌ تتمة:

- ‌ فائدة:في التوكيل في النكاح

- ‌[9]الأَصْلُ فِي بَيَانِ الفَصْلِ والوَصْلِ

- ‌[10]الأُسُوس في كَيْفَّيةِ الجُلُوسِ

- ‌[11]تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِن شَوَّال

- ‌ فائدة:

- ‌[12]رِسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي

- ‌[13][رِسَالَةٌ فِي] العِدَّةِ

- ‌كتب على هذه بعض مشايخ العصر ما صورته:

- ‌[فَتْوَى عَنِ القَصْرِ وَالإتْمَامِ]

- ‌[14]مَسْأَلَةٌ فِي حَطِّ الثَّمَنِ وَالإِبْرَاءِ مِنْهُ وَصَحَّةِ ذَلكَ

- ‌[15]مِن مَسَائِلِ الشُّيُوع

- ‌سئلتُ عن بيع حصّةٍ شائعةٍ من عقارٍ

- ‌[الفصل] الأوّل:

- ‌ أقسام الشيوع

- ‌ الفصل الثاني:

- ‌ الفصل الثالث:

- ‌ أجرُ الشّائع

- ‌قرض المشاع

- ‌ وهب الشائع

- ‌ الشيوع الطارئ:

- ‌ وقف الشائع:

- ‌ رهنَ الشائع

- ‌ الفصل الرابع:

- ‌ إجارة المشاع:

- ‌ الإعارة في الشائع:

- ‌ الرهن

- ‌ الصّدقة:

- ‌ الوقف:

- ‌[16]أَحْكَامُ التَّزْكِيَةِ وَالشَّهَادَةِ

- ‌سئلتُ عن رجل شهدَ عليه عند قاضٍ مالكي المذهب:

- ‌صورة التزكية

- ‌ العدالة

- ‌البلوغ

- ‌ البصر:

- ‌ العدد في الشهادة:

- ‌مَسَائِلُ التَّزْكِيَة

- ‌[17]القَوْلُ القَائِم في بَيَانِ تَأْثِيرِ حُكْمِ الحَاكِمِ

- ‌[18][رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ

- ‌[19]تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في مَسْأَلَةِ الاسْتِبْدَالِ

- ‌[20]مَسْأَلَةٌ فِي الوَقْفِ وَاشْتِرَاطِ النَّظَرِ لِلأَرْشَدِ فَالأَرْشَدِ

- ‌وسئلت عن واقفٍ شرط أن يكون النظر للأرشد فالأرشد

- ‌ صورة سؤال ورد على الشيخ رحمه الله من دمشق:

- ‌ مسألةٌ مهمّةٌ

- ‌ مسألة أخرى:

- ‌[21]صُورَةُ سُؤَالَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ عَنْهَا

- ‌ورد على الشيخ - رحمه الله تعالى - من دمشقٍ:

- ‌ باب العول:

- ‌ باب الرّدّ

- ‌ فائدة:

- ‌[22]مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلَاق بِالنِّكاحِ

- ‌هل تكون الخلوة إجازةً

- ‌هل للفضولي فسخ العقد قبل الإجازة

- ‌صورة السجل:

- ‌ تتميم:

- ‌[23]مَسْأَلَةٌ في طَلَاقِ المَرِيضِ زَوْجَتهُ

- ‌ فائدة:

- ‌ فائدة أخرى:

- ‌ نكتة:

- ‌سئلت عن رجلٍ طلّق امرأته طلقتين وراجعها من الثانية

- ‌سئل عن رجلٍ حلف بالطلاق من زوجته

- ‌ سئل - رحمه الله تعالى -: عن امرأةٍ

- ‌سئل رحمه الله: عمّن باع داراً بيع التقاضي وقبض بعض الثمن، ثم أقبض الباقي بعد هذه

- ‌ مسألة:

- ‌سئل عن رجل باع عن رجلٍ

- ‌سئل عن رجلٍ باع ثوباً

- ‌سئل عن رجلٍ باع ديناراً

- ‌سئل عن رجلٍ اشترى من صيّادِ سمكةً ودفع ثمنها

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ اقترض من رجلٍ مالاً على تركةِ فلان

- ‌[24][رِسَالَةٌ في] حَفْرِ المُرَبَّعَاتِ

- ‌ سئل - رحمه الله تعالى - عن رجلٍ استأجر أُجراء يحفرون له مربعة

- ‌سئل عن رجلٍ استأجرَ جميع بستانين

- ‌سئل الشيخ من مدينة غزّة:

- ‌سئل - رحمه الله تعالى - عمّن عليه دَينٌ مستغرق

- ‌سئل رحمه الله عن رجل عليه دُيونٌ

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ طلّق زوجته البالغة طلاقًا بائنًا

- ‌[25]حُكْمُ الخُلْعِ وَحُكْمُ الحَنْبَلي فِيهِ

- ‌سئل رحمه الله عن زوجين اختصما بعد الفرقة في صغيرةٍ بينهما

- ‌سئل رحمه الله: ما تقول في قول الخلاصة وغيره: إنّ الشّاهدين إذا شهدا أنّ القاضي قضى لفلانٍ على فلانٍ بكذا

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ وقف شيئًا معيّنًا من ماله على نفسه

- ‌سئل رحمه الله: في قول السّادة الحنفية، فيمن استأجر عبدًا للخدمة

- ‌سئلتُ عن واقفٍ وَقَفَ وقفًا وشرطَ لنفسهِ التبديل والتغيير، فغيّر الوقف لزوجته

- ‌مُلْحَق المَجْمُوعِ تَعْرِيفُ المُسْتَرْشِد في حُكْمِ الغِراسِ في المَسْجِدِ

- ‌ تنبيه:

- ‌ تذييل:

الفصل: ‌[18][رسالة في] ما ينقض من القضاء

مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا

[18]

[رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ

تَأْلِيفُ

العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي

المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

ص: 545

(18)

[رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمّدٍ، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن الفقير إلى رحمة ربه الغني قاسم الحنفي يقول:

قد أدّى نظر شيخنا العلامة كمال الدين فيما كتبته على الهداية إلى أنه لا ينقض حكم الحاكم لاقتضائه على ما اقتصر عليه البعض الكلام من المسائل ببسط الكلام يظهر المرام.

فأقول: قال في البدائع (1) في شروط القضاء:

منها: أن يكون بحقٍّ، وهو الثَّابت عند الله من حكم الحادثة:

إمَّا قطعًا، بأن قام عليه دليلٌ (2) قطعيٌّ، وهو النَّصّ المفسَّر من الكتاب [الكريم]، أو الخبر المتواتر أو المشهور أو الإجماعُ (3).

وإمَّا ظاهرًا، بأن قام عليه دليلٌ ظاهرٌ، يوجبُ علم غالب الرَّأي، وأكثر الظَّنِّ،. . . . . . . . . . . . .

(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (14/ 414). وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (17/ 303).

(2)

تحرف في المخطوط إلى: (دليلي).

(3)

في البدائع: (المشهور والمتواتر والإجماع).

ص: 547

من (1) ظواهر الكتاب [الكريم] والخبر المتواتر والمشهور، وبخبر الواحد، والقياس الشَّرعيِّ، وذلك في المسائل الاجتهاديَّة الَّتي اختلف فيها الفقهاء -[رحمهم الله]- (2) أو الَّتي لا رواية في جوابها عن السَّلف، بأن لم تكن واقعة. انتهى.

ولمّا كان هذا شأن عامّة الأحكام، وخلافه نادرٌ، أطلق الإمام أبو حنيفة القول بالإمضاء بناء على الأعمّ الأغلب.

فقال في رواية الجامع الصغير (3): محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة قال: ما اختلف فيه الفقهاء يقضي بها قاضٍ، ثم جاء قاضٍ آخر أمضاه. ويدل على أنّه أراد ما هو الحق في نظره، لا كل ما يقضي به القاضي.

قوله: في جميع كلام الإمام: وإذا رفع قضاء قاضي بعد موته أو عزله إلى قاضٍ آخر يرى خلاف رأيه، فإن كان يختلف فيه الفقهاء أمضاه، وإن كان خطأً لا يختلف فيه الفقهاء أبطله.

ثم جاء من جمع بين الأصل وما فيه الاستثناء وهو صاحب الهداية. فقال: وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكمٍ أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولًا لا دليلًا عليه.

وفي الجامع الصغير (4): وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي، ثم جاء قاضٍ آخر يرى غير ذلك أمضاه. انتهى.

(1) تحرف في المخطوط إلى: (وهو).

(2)

أقحم في المخطوط: (أو التي اختلف فيها الفقهاء).

(3)

(1/ 399).

(4)

الجامع الصغير (1/ 399).

ص: 548

قلت: لم يقع في رواية الجامع الصغير: يرى غير ذلك (1). وإنّما وقع هذا في روايتي لمختصر الحاكم بلفظ: يرى خلافه.

ووقع في بعض نسخ القدوري: أو يكون قولًا لا دليل عليه.

وقال في شرحه المسمّى بالجواهر: فإن قيل: لا فائدة فيه؛ لأنه يفهم من قوله: أو الإجماع. وأجاب بأنّ قوله: لا دليل عليه أعمّ. لأنه يمكن أن يكون القول ليس فيه نصٌّ. ويحكى عليه الإجماع، لكنه يدلّ عليه القياس الصحيح. ويكون هذا القول لا يدل القياس على صحته. فيكون مخالفًا للقاضي. كما قيل في المعتوه. رد خاطرٍ حين وقّت.

قلت: عربية في خاطرتي، هكذا كان.

وفي لغتهم: تقديم وتأخير.

فتقديره: كان هكذا في خاطري.

وهذا أراد أبو العباس بن إدريس في بيان سبب نقض الحكم بقوله: ومتى لم يكن هنا معارضٌ بل عدم بالكلية، بأن يكون الاجتهاد متوهمًا، وليس بواقعٍ في نفس الأمر. والله أعلم.

قال شيخنا (2): قالوا: إنَّما أعاده - يعني: لفظ الجامع -؛ لأنَّ في عبارة الجامع فائدتين ليستا في القدوريِّ:

(1) بل نقلها ابن الهمام في فتح القدير كما هي عن الجامع الصغير (16/ 415 و 416) وصاحب العناية شرح الهداية (10/ 276 و 277) وصاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (12/ 106) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (17/ 470 و 478) ورد المحتار (31/ 410).

(2)

يعني ابن الهمام في فتح القدير (16/ 416 - 417).

ص: 549

إحداهما: تقييده بالفقهاء، أفاد أنَّه لو لم يكن عالمًا بالخلاف لا ينفذ.

وقال شمس الأئمَّة: وهو ظاهر المذهب، لا ينفذ على قول الأكثر.

[والثانية: التَّقييد بكون القاضي يرى غير ذلك، فإنَّ القدوري لم يتعرَّض لهذا فيحتمل أن يكون مراده أنَّه إذا كان رأيُه في ذلك موافقًا لحكم الأوَّل أمضاه، وإن كان مخالفًا له لا يمضيه، فأبانت رواية الجامع أنَّ الإمضاء عامٌّ فيما سوى المستثنيات سواءٌ كان ذلك مخالفًا لرأيه أو موافقًا: يعني بالطَّريق الأولى](1)، ولا يخفى أنَّه لا دلالة في عبارة الجامع [على] كونه عالمًا بالخلاف، وإنَّما مفاده أنَّ ما اختلف فيه الفقهاء في نفس الأمر فقضى القاضِي بذلك الَّذي اختلف فيه عالمًا بأَنَّه مختلفٌ فيه، أو غير عالمٍ، فإنَّه أعمُّ من كونه عالمًا، ثم جاء قاضٍ [آخر] يرى خلاف ذلك الَّذي حكم به هذا أمضاه فربَّما يفيد أنَّ الثاني عالمٌ بالخلاف، وليس الكلام فيه فإنَّ هذا يرى اختلاف ذلك الذي حكم به، فإنّ هذا هو المنفِّذ، والكلام في القاضي الأوَّل الَّذي ينفِّذ هذا الآخر حكمه، وليس فيه دليلٌ على أنَّه كان عالمًا بالخلاف بطريقٍ [من طرق الدَّلالة.

نعم في الجامع التَّنصيص على أنَّه ينفِّذه وإن كان خلاف رأيه، وكلام القدوريِّ] (2) يفيده أيضًا، فإنَّه قال: إذا رفع إليه حكم الحاكم أمضاه، وهو أعمُّ ينتظم ما إذا كان موافقًا لرأيه أو مخالفًا، وإنَّما (3) في الجامع الصَّغير النُّصوصيَّة (4) عليه إذا كان مخالفًا. انتهى.

(1) ما بين معكوفتين: من فتح القدير.

(2)

ما بين معكوفتين: من فتح القدير.

(3)

تحرف في المخطوط إلى: (قائمًا).

(4)

في المخطوط: (المنصوص).

ص: 550

قلت: هذا صحيحٌ وهو بناء على ما وقع لصاحب الهداية من لفظ الجامع، لكن ما ذكر من الفائدة وهي أنّ القاضي إن لم يكن عالماً بالخلاف لا ينفذ قضاؤه. غير ظاهر الوجه. ومشكلٌ على الموجودين من قضاة العصر حتّى أدّى إلى كذب المسجلين، واستعمل ظاهره بعض القضاة في ما له فيه غرضٌ. فقال: قد قالوا: إنّ القاضي إذا قصد المتفق عليه فوافق قضاءه المختلف فيه لا ينفذ، وإذا شاء قال في رواية: ينفذ فقرأت في كتاب مشتري بستان بفم الجوز. كان قد وقفه زين الدين الأستادار (1) في حال أمر به، ثم صودر فأقر بدينٍ لبيت المال، وأراد بيعه، وشهد عليه فلانٌ القاضي أنه حال حكمه بالوقف كان يظن المتفق عليه. وهو: أنّ هذا وقف موسرٍ ليس عليه دينٌ، ثم تبيّن أنه وقع في المختلف، وهو: أنه وقف مديون فلم ينفذ حكمه. . . إلخ.

وعندما أراده أن يرجع ابنة محمد بن إينال إلى زوجها أحمد بن أزدمر (2)، وكان طلقها طلقتين صريحتين وخالعها مرّة. وحكم القاضي نور الدين البرقي بالحرمة الغليظة.

قالوا: ظنّ المتفق عليه، وهو: أنّه طلّقها ثلاثاً، ولم يعلم بالخلع. فوقع في المختلف، وهو: أن إحداهما خلع، وهو فسخٌ عند أحمد، وهم لذلك في خبط عشواء، لا يعلمون مبنى المسألة.

وسؤال الأصحاب: أن القاضي المجتهد إذا قضى في فصل مجتهدٍ فيه

(1) انظر المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي (1/ 316 و 37).

(2)

قال ابن حجر في إنباء الغمر بأبناء العمر (1/ 36): أحمد بن أزدمر الجمالي، أحد أمراء طرابلس، كان ذا كرم ومروءة، وهو ابن أخي العلائي، أسمعه عمّ أبيه صلاح الدين العلائي على فاطمة بنت العز مشيخة أبي مسهر، ومات في ذي القعدة.

ص: 551

في نفس الأمر ولكنه لم يعلم أنه مجتهد فيه، وإنما قصد على وجه الإجماع، فوافق قضاؤه خلاف رأيه المعروف. هل ينفذ قضاؤه ويكون هذا بمنزل تبدل رأيه حتى لا يبطله أم لا؟.

فدلّ فرع من فروع الكتاب على النفاذ، فجعل رواية.

ودلت فروعٌ أخر على عدم النفاذ. وهذا كما ترى ليس بما نحن فيه، فإنّ كلامنا في هذه القضايا في قضاء مقلّدٍ قضى يقول إمامه من غير علم بما حدث في المسألة، مما فيه خلافٌ. وهذا نافذٌ بالاتفاق. وجَعْلُه من ذلك الباب غلط فاحش، وإنما أتلو عليك عبارات العلماء لتعلم حقيقة ما قلت.

فأقول: قال الإمام ظهير الدين: وإن قضى القاضي في فصل مجتهدٍ فيه وهو لا يعلم أنه مجتهدٌ فيه، وإنمّا قصد القضاء على وجه الإجماع. هل ينفذ قضاؤه؟.

ذكر في كتاب الإكراه: أنه ينفذ. وذكر في الرجوع عن الشهادات: أنه لو قضى بشهادة المحدودين في قذفٍ وهو لا يعلم أنهّما محدودانٍ في قذفٍ، ثم علمَ، يردّ القضاء، ويأخذ المال من المقضي له.

وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح الرجوع عن الشهادات (1): أنه إنما ينفذ إذا صدر عن اجتهادٍ. وأمّا إذا لم يكن عن اجتهادٍ فلا ينفذ.

وذكر الخصّاف: أنه ينفذ على كلّ حالٍ. انتهى فيما ذكره في الإكراه.

وهو قوله في باب اللعان: يقضي به القاضي، ثم تبين أنه كان باطلاً. وإذا ادّعت امرأة على زوجها قذفًا، وجحده الزوج، فأقامت البينّةَ عليه بذلك.

(1) المبسوط (6/ 390).

ص: 552

وذكرا في السر والعلانية وأمر القاضي الزوج أن يلاعنها، فأبى أن يفعل وقال: لم أقذفها وشهدوا عليه بالزور. فإنّ القاضي يجبره على اللعان ويحبسه حتى يلاعن أو يهدده بالحبس حتى يلاعن. فقال: أشهد بالله أني لمن الصّادقين فيما رميتها به من الزنا، ثم شهدت المرأة أيضاً كما عليها. وفرّق القاضي بينهما، ثم اطّلع القاضي على الشهود عبيداً أو محدودين في القذف، أو بطلت شهادتهم بوجهٍ من الوجوه. فإنّ القاضي يبطل اللعان الذي بينهما ويردّ المرأة إليه؛ لأنّ إقراره عليها بالزنا في اللعان كان بإكراهٍ من القاضي. ولو لم يحبسه القاضي حتى يلاعنَ ولم يهدده بحبسٍ. ولكن قال له: قد شهدوا عليك بالقذف فقضيت عليك باللعان فالتَعِن (1) ولم يزده على ذلك، والْتَعَنَ كما وصفته. وفرّق القاضي بينهما، ثم تبين: أنّ الشهود كانوا عبيداً، فأبطل شهادتهم، فإنه يمضي اللعان والفرقة بينهما؛ لأنّه أقر بالقذف بغير إكراهٍ. انتهى.

قلت: قال شمس الأئمة: الفتوى على عدم النفاذ. وأشار إلى أنّ هذا غير ظاهر المذهب. والله أعلم.

وما ذكره في الرّجوع عن الشهادة ذاك هو قوله في آخر أبوابها:

وإذا شهد محدودان في قذف (2) شهادةً ولم يعلم بذلك القاضي حتى [قضى] بشهادتهما، ثم علمَ بذلك وليس من رأيه إمضاؤه، فإنه يرد القضاء ويرتجع (3) المال من المقضي له.

(1) في المخطوط: فالتعنت.

(2)

في المبسوط: (بقذف).

(3)

في المبسوط: (ويأخذ).

ص: 553

وكذلك لو علم أنهما عبدان أو كافران [أو أعميان] ردّ القضاء وأخذ المال من المقضي له في ذلك كله (1).

قلت: قال شمس الأئمة السرخسي: إن هذا هو ظاهر المذهب، والفتوى عليه. والله أعلم.

وقال الصّدر حسام الدين في فتاواه: إذا قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو لا يعلم بذلك، لا ينفذ؛ فإنَّه ذكر في السِّير الكبير: رجلٌ مات وله مدبَّرون حتَّى عتقُوا، ثم جاء رجلٌ وأثبت ديناً على الميت، فباعهم القاضي على ظنِّ أنَّهم عبيدٌ، وقضى بجوازه، ثم ظهر أنَّهم مدبَّرون، كان قضاؤه بذلك باطلاً (2).

قال (3): والاستدلال بمسألة السير لا يستقيم؛ لأنّ عدم النفاذ ما كان لعدم العلم بكون الفصل مجتهداً [فيه]، وإنما كان؛ لأن البيع صادفَ الأحرار؛ لأنّهم عتقوا بموته، أكثر ما في الباب أنه يجب عليهم السعاية، لكن ذلك لا يمنع وقوع العتق.

قال مولانا: وفي الطعن كلامٌ، فإنّ المذكور في باب من العبد الذي يرجع إلى أهله في السير الكبير (4): من مات وله رقيق، وعليه دين كثير، فباع القاضي رقيقه، وقضى دينه، ثم قامت البينة لبعضهم: أنَّ مولاه كان دبَّره، فإنَّ بيع القاضي فيه يكون باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره، واجتهد وأبطل تدبيره

(1) المبسوط (6/ 390).

(2)

مرّ في هذا المجموع.

(3)

أي: حسام الدين الشهيد.

(4)

مرّ في هذا المجموع.

ص: 554

لكونه (1) وصيّةً وباعهُ في الدَّين، ثم ولِّي قاضٍ آخر يرى ذلك خطأ، فإنَّه ينفذ قضاءُ الأوَّل. وإن كان الثاني لا يعلم: أنّ الأوّل فعله عن اجتهادٍ، أو لأنه لم يعلم حقيقة الحال، فإنه ينفذ قضاؤه أيضاً؛ لأنّ تحسين الظّن بالقاضي واجبٌ، وقضاؤهُ محمولٌ على الصّحة ما أمكنَ، فيحمل على أنّه قضى بعد العلم عن اجتهاد، فقد نصّ على: أنّ امتناع النفاذ بعد العلم وبعد القضاء عند العلم أو احتمال العلم، دلّ على أنّ الاستدلال صحيح. والله أعلم.

قلت: فعن هذا قال شمس الأئمة: إنهّ إنما ينفّذ إذا صدر عن اجتهادٍ، أمّا إذا لم يكن يصدر عن اجتهادٍ لا ينفذ، كما قدمته عنه. والله أعلم.

ومن الغباوة: جعل هذا في نواب الحكم في هذا الزمان.

رجعنا إلى ما في شرح الهداية.

قال شيخنا (2): قوله: إلَّا أن يخالف. . . إلخ. حاصله: بيان شرط جواز الاجتهاد، ومنه يعلم كون المحلِّ مجتهداً فيه حتَّى تجوز (3) مخالفته أو لا، فشرطُ (4) حلِّ الاجتهاد: أن لا يكون مخالفاً للكتاب أو السُّنَّة - يعني: المشهورة - مثل: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدعي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"(5).

(1) في المخطوط: (لأنه).

(2)

يعني: ابن الهمام في فتح القدير (16/ 417).

(3)

في المخطوط: (يجوز).

(4)

في المخطوط: (شرط).

(5)

رواه الترمذي (1341) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وقال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال، ومحمد بن عبيد الله العرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه، ضعفه ابن المبارك وغيره.

ص: 555

قلت: لم يذكر. وإنَّما ذكر لبيان سبب بعض الحكم ومحلّه. فاللائق الحمل على هذا.

ولهذا: قال الإمام الخصّاف: قالوا: سعى للقاضي أن ينفذ قضايا القضاة التي ترفع إليه، ويحكم بها، إلَّا أن تكون القضية جوازاً أو يكون على خلاف الكتاب أو السنة أو خلاف إجماع الأمة، فإن كان هذا فلا ينفذها، ولا يحكم بها، وكذلك إن كان القاضي الذي قضى بهذه القضية فاسقاً في نفسه أو محدوداً في قذفٍ أو من لا يجوز شهادته لو شهد. فإنّ قضية هذا إذا رفعت إلى هذا القاضي لا ينبغي له أن ينفذها ولا يحكم بها.

وقال في آخر الباب: وكل ما قضى به قاضٍ مما يخالف فيه الكتاب والسنة فرفع إلى قاضٍ آخر يرى خلاف ذلك، فإنه ينفذه ويحكم به، وإن كان خلاف الكتاب والسنة أبطله. ليس ينفذ قضاء قاضٍ خالف الكتاب والسنة بحديثٍ شاذ أو خاصٍّ حتى يأتي به العامة، فإذا كان معروفاً في أيدي العامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ناسخٌ يقول الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]. وإن يرى بعده شيء. فالتنزيل ناسخٌ. فالآخر من هذين الأمرين ناسخٌ للأول. انتهى.

فاستفدنا منه: أنّ ما فيه معارضٌ ظاهر رجَحانه. فالمرجوح ينقض. وإليه أشار أبو العباس بن إدريس في سبب النقض فقال: أو يكون ثم معارضٌ مرجوح في حديث مضطرب الإسناد ونحوه، فإنه لا يفند به، وينقض ذلك الحكم لوقوعه على خلاف العارض الراجح. انتهى.

قلت: وقوله: وكذلك إذا كان القاضي فاسقاً، هو اختياره واختيار الطحاوي أيضاً؛ لأنّ عندهما: الفاسق لا يصير قاضياً، فَلَا ينفذ قضاؤه، وعامّة

ص: 556

المشايخ: على أنّ الفاسق يصلح أن يكون قاضياً، فإذا قضى ينفذ قضاؤه، لكن لقاضٍ آخر أن يبطله إذا رأى ذلك حسناً. ولو أبطله قاضٍ آخرَ ثم رفع إلى ثالثٍ ليس للثالث أن ينفذه.

قال شيخنا (1): فلو قضى بشاهدٍ ويمينٍ لا ينفذ، ويتوقَّف على إمضاء قاضٍ آخر. ذكره في أقضية الجامع، وفي بعض المواضع ينفذ مطلقاً.

قلت: قال الخصّاف: ولو أنّ قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، فإنّ هذا مما لا ينبغي لهذا القاضي أن ينفذه من قبل أن الشاهد واليمين خلاف القرآن.

وقال في الينابيع: قال محمّد: أفسخ (2) حكم الحاكم بشاهدٍ ويمينٍ.

وقال أبو يوسف: لا أفسخ ذلك.

وقول محمد أظهر. انتهى.

قال شيخنا (3): ثم يراد بالكتاب المجمع على مراده، أو ما يكون مدلولٌ لفظه ولم (4) يثبت نسخه ولا تأويله بدليلٍ مجمعٍ عليه.

فالأوَّل: مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية، حتَّى لو قضى قاضٍ بحلِّ أمّ امرأته كان باطلاً لا ينفذ.

والثاني: مثل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فلا ينفذ الحكم بحلّ متروك التسمية عمداً، وهذا لا ينضبطُ، فإنَّ النَّصَّ قد يكون

(1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 417).

(2)

في المخطوط: (الفسخ).

(3)

ابن الهمام في فتح القدير (16/ 417 - 418).

(4)

في المخطوط: (لم).

ص: 557

مؤوَّلاً فيخرج عن ظاهره، فإذا منعناه يجاب بأنَّه مؤوَّلٌ بالمذبوح للأصنام (1) أيَّام الجاهليَّة، فيقع الخلاف في أنَّه مؤوَّلٌ أو ليس بمؤوَّلٍ (2)، فلا يكون حكم أحد المتناظرين بأنَّه غير مؤوَّلٍ قاضياً على غيره بمنع (3) الاجتهاد فيه.

نعم، قد يترجَّح أحد القولين على الآخر بثبوت دليل التَّأويل، فيقع الاجتهاد في بعض أفراد هذا القسم أنَّه ممَّا يسوغ فيه الاجتهاد أو لا، ولذا نمنعُ نحن (4) نفاذ القضاء ببعض (5) الأشياء، ويجيزونه وبالعكس (6).

ولقد نقل الخلاف [في الحلِّ] عندنا أيضاً، وإن كان كثير لم يحكوا الخلاف.

ففي الخلاصة في رابع جنسٍ من الفصل الرَّابع من أدب القاضي [قال]: وأمَّا القضاء بحل متروك التَّسمية عمدًا فجائزٌ عندنا (7)، وعند أبي يوسف لا يجوز. انتهى.

قلت: إما جاء عدم الانضباط من تغيره المراد بالكتاب. والذي يدل عليه عبارات الأصحاب: أنّه النّصُّ المفسر.

فالظّاهر كما قدّمته في دليل الحق، وفي البدائع أيضاً. حتى لو قضى

(1) في فتح القدير: (للأنصاب).

(2)

في المخطوط: (مؤول).

(3)

في المخطوط: (يمنع).

(4)

في المخطوط: (وكذا يمنع عن).

(5)

في فتح القدير: (في بعض).

(6)

في المخطوط: (ويجزؤنه بالعكس).

(7)

في فتح القدير: (عندهما).

ص: 558

بما قال الدليل القطعي على خلافه لم يجز؛ لأنه قضى بالباطل قطعاً، وكذا لو قضى بالاجتهاد فيما فيه نصٌّ ظاهرٌّ بخلافه من الكتاب أو السنة، لم يجز قضاؤه؛ لأنّ القياس في مقابلة النص باطل سواء كان النص قاطعاً أو ظاهراً، ولم لا يقولون: إنّ كل ما فيه خلاف لظاهر نصٌّ يكون محلاًّ للاجتهاد فيما فيه نص بخلافه، إذ لولاه سوّغ فيه الاجتهاد، وإنما يقولون ذلك فيما لم يختلف فيه الصحابة ومن معهم؛ لأنهم يروه مخالفاً للإجماع، وما عداه. فيقال فيه: ما استفيد من عبارة الخصّاف.

وصرّح ابن إدريس: من أنه معارضٌ مرجوح، فلا يعتد به.

هذا حاصل معاني عباراتي. والله أعلم.

وما نقل في الخلاصة: منقولٌ في غيرها، لكن اعتمد في شرح المختلف قول أبي يوسف. وجزم به في الينابيع. والله أعلم.

قال شيخنا (1): ثم (2) قال المصنِّف: المعتبرُ الاختلاف في الصَّدر الأوَّل - يعني: أن يكون المحلُّ محلَّ اجتهادٍ - يتحقَّق الخلاف فيه بين (3) الصَّحابة. وقد يحتمل بعض العبارات ضمَّ التَّابعين. انتهى.

قلت: الظّاهر: أنه عين في المعتبر هذا في كونه غير مخالفٍ للإجماع كما سيأتي. وهذا إذا لم يبرهن على ذلك، وغير المخالف للإجماع، وإن كان في محل الاجتهاد، ولكنه لم يذكروه لذلك. وبتقدير ما ذكر الشيخ - رحمه

(1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 419).

(2)

في المخطوط: (لم).

(3)

في المخطوط: (من).

ص: 559

الله -: فالمراد: محل فيه ظاهر نص لا المحل مطلقاً، فإنه قد تقدم منه بيانه بقوله: ثم المجتهد فيه أن لا يكون مخالفاً لما ذكره. يعني: الكتاب والسنة والإجماع. ألا ترى إلى قول الخصاف: ولو أنّ قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، أو يقبل بقسامةٍ أو بيعِ أمّ ولدٍ، ثم رجع إلى قاضٍ آخرَ، فإن هذا مما لا ينبغي لهذا القاضي أن ينفذه من قبل الشاهد واليمين، خلف المقر (1) وأم الولد ترك بيعها بما عليه جماعة من المسلمين.

وأمّا القسامة: فإنما هو قضاء بقوله: لم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.

وقول الإمام أبي المعالي في شرح أدب القاضي: أنها الأوّل، فلأنّ القضاء مخالفٌ الكتاب وهو قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية.

شرع فصل القضاء بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فكان الفصل من القضاء بشاهدٍ ويمينٍ مخالفاً للكتاب. والحديث قيس شاذّ، لا يجوز العمل به على مخالفة كتاب الله تعالى، فلم يعتبر الخلاف فيه بيننا وبين الشافعي، وإنما اعتبر الخلاف بين المتقدمين، والمراد من المتقدمين الصحابة ومن تبعهم، وليس يقضي أحدٌ من المتقدمين بشاهدٍ ويمين الآخر. والثاني: الحكم وفعله مما لا يوجد به، فلا يكون هذا مجتهداً فيه.

وأمّا الثاني: وهو القتل بالقسامة. يريد به: أن القتيل إذا وجد في محلّةٍ وبينه وبين أحدٍ من أهل المحلّة عداوةٌ ظاهرةٌ والعهد قريب من حين

(1) في المخطوط: (المقران).

ص: 560

دخوله في المحلّة إلى أن وجد قتيلاً، فعين ولي القتيل من المحلّة رجلين، أنّهما قتلاه، ويحلف على ذلك.

وعند مالك والشافعي في القديم: يقضي القاضي له بالقود.

وعندنا: لا. فإذا قضى به، ثم يرفع إلى آخر ينقضه؛ لأنّ هذا يخالف الإجماع لهما، أنّ مالكاً لم يكن موجوداً في الصّحابة، فلا يكون قوله معتبراً.

والدليل عليه: أنّ أوّل من قضى بالقود في القسامة معاوية، فلم يكن مختلفا بين الصّحابة، وكان القضاء مخالفًا لإجماع الأصحاب، فكان للثاني أن ينقضه.

وقول صاحب المحيط (1): قضايا القضاة التي ترفع إلى القاضي على أربعة أوجهٍ:

أمّا إن كان مخالفاً للكتاب أو السنة أو الإجماع.

أو كان في محل الاجتهاد.

(1) قال صاحب رد المحتار (18/ 169): مطلبٌ قضايا القضاة على ثلائة أقسامٍ قال في جامع الفصولين: قضايا القضاة على ثلاثة أقسامٍ:

الأوّل: حكمه بخلاف نصٍّ وإجماعٍ وهذا باطل، فلكلّ من القضاة نقضه إذا رفع إليه، وليس لأحدٍ أن يجيزه.

الثّاني: حكمه فيما اختلف فيه وهو ينفذ وليس لأحدٍ نقضه.

والثّالث: حكمه لشيءٍ يتعيّن فيه الخلاف بعد الحكم فيه.؛ أي: يكون الخلاف في نفس الحكم، فقيل: نفذ. وقيل: توقف على إمضاءٍ آخر، فلو أمضاه يصير كالقاضي الثّاني إذا حكم في مختلفٍ فيه فليس للثّاني نقضه، فلو أبطله الثّاني بطل، وليس لأحدٍ أن يجيزه. اهـ.

ص: 561

أو كان في محلٍّ فيه قول مجهولٍ.

أو كان نفس القضية مختلفاً فيها، بأن كان مخالفاً للكتاب أو السنة أو الإجماع.

فالقاضي المرفوع إليه ينقضها، ولا ينفذها؛ لأنه متى خالف النص أو الإجماع كان باطلاً وضلالاً.

مثاله: ما لو أن قاضياً قضى بشاهدٍ ويمينٍ، أو بقتل بقسامة، ثم ساق مثله سواء. وكذا في الذخيرة وغيرها، فلم يذكر الأصحاب اعتبار اختلاف الصّدر الأوّل إلا في هذا المحل. والله أعلم.

قال شيخنا (1): وبناءً على اشتراط كون الخلاف في الصَّدر الأوَّل من (2) كون المحلِّ اجتهاديًّا.

قال بعضهم: إنَّ للقاضي أن يبطل ما قضى به القاضي المالكيُّ والشَّافعيُّ برأيه، يعني: إنَّما يلزم إذا كان قولُ مالكٍ أو الشَّافعيِّ وافق قول بعض الصَّحابة أو التَّابعين المُختلفين، فلا ينقض باعتبار أنَّه مختلفٌ بين الصَّدر الأوَّل لا باعتبار أنَّه قول مالكٍ والشَّافعيِّ، فلو لم يكن فيها قول الصَّدر الأوَّل بل الخلاف مقتضبٌ فيها بين الإمامين للقاضي أن يبطله إذا خالف رأيهُ.

[وعندي]: أنَّ هذا لا يعوَّل عليه، فإن صحَّ أنَّ مالكاً والشَّافعيَّ وأبا حنيفة مجتهدون، فلا شكَّ في كون المحلّ اجتهاديَّا، وإلَاّ فلا، ولا شكَّ أنَّهم أهلُ اجتهادٍ ورفعةٍ. انتهى.

(1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 419 - 420).

(2)

في فتح القدير: (في).

ص: 562

قلت: يعني برأيه في مخالفة ظاهر نصٍّ لا مطلقاً كما بينته، وكما سيأتي عن بيان المراد في قول هذا البعض المشار إليه. يعني: إنما يلزم إلخ.

قلت: ظاهر صنيعهم خلاف هذا. وهو: أنه إذا اختلفوا، فمال اجتهاد مجتهدٍ بعدهم (1) إلى قول أحدهم، فقضى القاضي بذلك، ثم رفع قضاؤه إلى قاضٍ آخر يرى خلافه، ينفذه، كان أفاد الشارح حكماً، ولم يختلفوا فيه، ثم اختلف من بعدهم، فمن مالَ بظاهرٍ اعتبر قوله. ومن خالف لا يكون خلافه معتبراً إلى آخر التقدير. وهذا وإن كان مخالفاً للنص، ولكنهم يريدون أن يكون مخالفاً للإجماع أيضاً. كما صرّح به في المحيط.

قال شيخنا: فلو لم يكن فيها قولُ الصَّدرِ الأوَّل، بل الخلافُ مُقتضبٌ فيها بين الإمامين للقاضي (2) أن يبطلهُ.

قلنا: هذا التزاماً منه لظاهر العبارة، لا أنّ أحداً صرّح به كذلك. والله أعلم.

وقول القائل الذي أشار إليه شيخنا رحمه الله لم يكن تأويله إلاّ ما قال من قبله، وإن كان ظاهره ما قال شيخنا رحمه الله بيان أنه قال قوله. والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول، يريد به الاختلاف الواقع في قرن الصّحابة.

ينتفي به اختلاف مالكٍ والشافعي: أنه ليس لمعتبرٍ؛ لأنهّما لم يكونا في زمن الصّحابة، وقد مرّ زيغانه قبل هذا. انتهى.

فإذا حمل على اختلافهما فيما فيه ظاهر نصٍّ بخلافه، ولم يختلف فيه

(1) تحرف في المخطوط إلى (بعضهم).

(2)

في المخطوط: (بالقاضي).

ص: 563

أهل الصّدر الأوّل رجع إلى ما قلنا. ويريد: أن هذا مراده قوله: وقد مرّ بيانه قبل هذا. والذي مرّ بيانه نحو ما قلنا عنه. والله أعلم.

قال شيخنا (1): ولقد نرى في أثناء المسائل جعل المسألة اجتهاديَّةً، بخلافي بين المشايخ حتَّى ينفُذ القضاء بأحد القولين.

قلت: لأن ما اختلفوا فيه من مجال الاجتهاد لا أنه لا يحلّ إلا هو كما بينّاه مكرراً.

قال (2): وفي حيض - من منهاج الشَّريعة عن مالكٍ - فيمن طلَّقها فمرَّ عليها ستَّة أشهرٍ لم تر دماً فإنَّها تعتدُّ بعده (3) بثلاثة أشهرٍ، فإذا قضى بذلك قاضٍ ينبغي أن ينفِّذ؛ لأنَّه مجتهدٌ فيه، إلَّا أنَّه نقل مثله عن ابن عمر.

قلت: هذا غلطٌ على مالكٍ وابن عمر فيما قالا: تتربص بعد الطلاق تسعة أشهرٍ، ثم تعتد بثلاثة أشهرٍ.

والمسألة في المنظومة: لو طلّقت من طهرها، ممتد. فالأشهر التسعة مكث بعد. وبالمشهور بعدها تعتد.

وفي مجمع البحرين: وأمروا ممتدة الطهر بالأقراء لا بثلاثة أشهر، تعد التسعة، فلو قضى القاضي بما في منهاج الشريعة لم ينفذ، فإن رفع إلى قاضٍ آخر، لم يبطله؛ لأنه خارج عن أقوال العلماء. والله أعلم.

قال شيخنا (4): ثم ذكر في المنتقى: أنَّ العبرة في كون المحلِّ مجتهداً

(1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 420).

(2)

ابن الهمام في فتح القدير (16/ 420).

(3)

تحرف في المخطوط إلى: (لم تلد ما فاتها بعده تعتد).

(4)

ابن الهمام في فتح القدير (16/ 420 - 421).

ص: 564

فيه اشتباه الدَّليل لا حقيقة الخلاف.

ألا ترى أنَّ القاضي إذا قضى بإبطال طلاق المكره نفذ؛ لأنَّه مجتهدٌ فيه، لأنَّه موضع اشتباه الدَّليل إذ اعتبار (1) الطَّلاق بسائر تصرُّفاته ينفي حكمه، وكذا لو قضى في حدٍّ أو قصاصٍ بشهادة رجلٍ وامرأتين، ثم رفع بعد ذلك إلى قاضٍ آخر يرى خلف ذلك ينفِّذه، وليس طريق القضاء الأوَّل كونه في مختلفٍ فيه، لأنه لا اختلاف فيه، وإنَّما طريقه أنَّ القضاء الأوَّل حصل في موضع اشتباه الدَّليل؛ لأَنَّ المرأة من أهل الشَّهادة، بظاهر (2) قوله تعالى:{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، [يدكُ على] جواز شهادتهنَّ مع الرِّجال مطلقاً، وإنْ وردت في المداينة؛ لأنَّ العبرة لعموم اللَّفظ، ولم يرد نصُّ قاطع في إبطال شهادة النِّساء في هذه الصُّورة؛ ولو قضى بجواز نكاحٍ بلا شهودٍ نفذ؛ لأنَّ المسألة مختلفٌ فيها، فمالكٌ وعثمان البتِّيُّ (3) يشترطان الإعلان لا الشُّهود، وقد اعتبر خلافهما؛ لأنَّ الموضع موضع اشتباه الدَّليل، إذ اعتبار النكاح بسائر التَّصرُّفات يقتضي أن لا تشترط (4) الشَّهادة. انتهى.

قلت: حاصل هذا: أن سبب كون المحل مجتهداً فيه اشتباه الدليل القائم فيه، لا مجرد الاختلاف؛ لأنه يكون مجتهداً فيه مع الاختلاف وعدمه. فلما ثبت مع عدمه دلّ على أنّه ليس نفس السبب وهو ظاهرٌ وليس فيه ما يدل على ما قررنا به معنى قولهم. والمعتبر: الاختلاف في الصّدر الأوّل، ولا على

(1) في المخطوط: (اعتبر). والمثبت من فتح القدير.

(2)

في فتح القدير: (إذ ظاهر).

(3)

تحرف في المخطوط إلى: (التيمي).

(4)

في المخطوط: (يشترط).

ص: 565

ما قرره هو؛ لأنه يكون على قوله شرطاً بمعنى العلامة، لا بمعنى العلّة. والله أعلم.

قال شيخنا (1): ولا يخفى أنَّه إذا كانت معارضة المعنى للدَّليل (2) السَّمعيِّ النَّصَّ، توجب (3) اشتباه الدَّليل، فيصير المحلُّ محلَّ اجتهادٍ ينفذ القضاء فيه، فكلُّ خلافٍ بين الشَّافعيِّ ومالكٍ أو بيننا وبينهما أو أحدهم، محلُّ اشتباه الدَّليل، حينئذٍ إذ لا يخلو عن مثل ذلك، فلا يجوز نقضه من غير توقُّفٍ على كونه بين الصَّدر الأوَّل. انتهى.

قلت: معارضَةُ المعنى وحده للدَّليل السَّمعيِّ النصَّ في هذه المسألة ممنوعة؛ لأنّ فيها ظواهر نصوص. وهي قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. من غير اشتراط شهادة. وفيها عمل صحابي، وهو ما روي عن ابن عمر: أنّه زوّج بغير شهودٍ، ثم خرج فأعلم.

وفيها: قول تابعيٍّ كبير.

وهو ما روي عن الحسن البصري، مثل ابن عمر. ولو كان المعنى وحده، لكان من المتفق على أنه يجب إبطاله كما تقدم مكرهاً من أنّ محلّ الاجتهاد ما لم يخالف السنة.

وقوله: القياس في مقابلة النّص باطل إلخ. فتبين: أن هذا المصنف اقتصر على ما به يظهر محل الاشتباه لإتمام ما في المسألة وحينئذٍ ذهب على ما رتب

(1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 421).

(2)

في المخطوط: (الدليل).

(3)

في المخطوط: (يوجب).

ص: 566

على هذا الاشتباه، وأن ليس كل خلافٍ كذلك. والله أعلم.

قال شيخنا رحمه الله (1): ولا [بأس] بذكر مواضع نصَّ فيها أهل المذهب بعينها إذا قضى [القاضي] بالقصاص يحلف (2)[المدَّعي]: أنَّ فلاناً قتله. وهناك لوثٌ من عداوة ظاهرة كقول مالكٍ ألا ينفذ، لمخالفة السّنَّة المشهورة:"الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، مع (3) أنَّ معه ظاهرًا في (4) حديث محيِّصَةُ وحُوَيِّصَةَ (5).

قلت: تقدم عن صاحب المحيط وغيره: أنه مخالفٌ الإجماع أيضاً. ولو قضى بحل المطلقة ثلاثاً لمجرد عقد الثاني بلا دخول لقول سعيد بن المسيب: لا ينفذ بذلك أيضاً. وهو حديث العسيلة (6).

وفي السِّير من الجامع الكبير (7): إذا قضى أنَّ الكفَّار لا يملكون ما استولوا

(1) ابن الهمام في فتح القدير (16/ 421).

(2)

في المخطوط: (بحلف).

(3)

في المخطوط: (من).

(4)

في المخطوط: (ظاهر من).

(5)

وهما ابنا مسعود بن زيد. رواه مالك (1630 و 1631) والدارمي (2353) وعبد الرزاق (18258) والبخاري (3002 و 6769) ومسلم (1669) وأبو داود (4520 و 4521 و 4523) والترمذي (1422) وابن ماجه (2677) والنسائي في الكبرى (5988 و 6008 و 6009 و 6010 و 6913 و 6915 و 6916 و 6917 و 6918 و 6919 و 6920 و 6921) وابن حبان (6009) وابن الجارود (798 و 799 و 800).

(6)

رواه البخاري (4961) ومسلم (1433) والنسائي في الكبرى (5600 و 5605) وغيرهم عن عائشة رضي الله عنهما.

(7)

ذكره ابن الهمام في فتح القدير (16/ 421 - 422).

ص: 567

عليه لا ينفذ، لأنَّه لم يثبت في [ذلك] اختلاف الصَّحابة، ولو قضى بنصف الجهاز فيمن طلّقت قبل الدخول، وقد قبضت المهر وتجهّزت به، لا ينفذ خلاف الجمهور.

قلت: قال أبو المعالي: ومعادلة الكتاب وقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، الله تعالى أوجب نصفَ المفروض بالطلاق قبل الدخول، والمفروض هو المسمّى في العقد والجهاز ما كان مسمّى في العقد، ولا يتنصّف، فإذا قضى القاضي بذلك بطل قضاؤه، ولو رفع إلى قاضٍ آخر كانَ له أن يبطله، ويقضي عليها بنصف المفروض انتهى.

قال: ولو قضى بعدم جواز الزوجية عن دم العبد بناءً على قول البعض: إنَّه لاحقّ لها في القصاص، لا ينفذ.

قلت: قال أبو المعالي؛ لأن هذا لا يجوز. مخالفٌ لقول الجمهور ومخالفٌ للكتاب.

قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] الآية.

أثبت لها الحق في ربع المتروك من غير فصل، فكان القضاء باطلاً. فكان للثاني أن يبطله.

قال: وحكى في الفصول فيما إذا زنى بامرأة، ثم تزوج بنتها، فقضى بجوازه.

فعند أبي يوسف: لا ينفّذ للنّص عليه.

وعند الجمهور: يجوز.

قلت التي قال فيها: للنّص عليه غير هذه الصورة.

ص: 568

فلفظه: ولو قضى بجواز نكاح مزنية الأب ومزنية الابن لا ينفذ عند أبي يوسف؛ لأنّ الحادثة منصوص عليها في الكتاب.

وعند محمّد: ينفذ.

وما روي عن ابن عبَّاسٍ موقوفاً ومرفوعاً أنه قال: "الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الحَلَالَ"(1).

يؤيد قول محمد، فكان مجتهداً فيه، فينفذ حكمه. كذا ذكره في المحيط (2).

ورأيت في بعض الفوائد: القاضي إذا قضى بجواز نكاح التي زني بأمّها أو بنتها نفذ عند محمد. وعند أبي يوسف: لا ينفذ.

وذكر في المحيط (3): إذا زنى رجلٌ بأمّ امرأته، ولم يدخل بها، فرأى القاضي أنه لا يحرمها عليه، فأقرّها معه وقضى بذلك، فنفذ قضاؤه؛ لأنه قضاء في محلّ مجتهدٍ فيه. انتهى.

قلت: وليس هذه من غرضي في هذا المقام، وإنمّا ذكرتها لتحرير العبارة. والله أعلم.

ولو عقد مؤقتاً بلفظ المتعة، نحو: متعيني نفسك عشرة أيام. لا ينفذ.

(1) لم أجده مسنداً. وانظره في المبسوط للسرخسي (4/ 41) وفتح القدير لابن الهمام (6/ 373) والعناية شرح الهداية (6/ 2) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (5/ 245) ورد المحتار (18/ 178) والمحيط (8/ 519).

(2)

المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (8/ 519).

(3)

المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (8/ 519).

ص: 569

قلت: قال في المحيط (1): لأن هذا القضاء مخالفٌ للإجماع، فإنّ الصحابة أجمعت على فساده، وصحّ رجوع ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما عنه.

وروي عن عائشة: أنّها منسوخة. نسختها آية الطلاق، والعمل بالمنسوخ حرامٌ.

وروي عن أبي يوسف: أنّ القضاء بالمتعة نافذٌ، لكن هو شاذٌّ لا يعمل به. انتهى.

قال: ولو قضى بسقوط المهر بالتَّقادم بلا إقرارٍ ولا بيِّنةٍ، لم ينفذ. وكذا إذا قضى أن لا يؤجَّل العِنِّينُ (2). انتهى.

قلت: وقال في الخصّاف: ولو أن قاضياً قضى بمال القسامة، لم يكن للقاضي أن ينفذ ذلك، بل يبطله، ولا ينفذه.

قال أبو المعالي: يريد به: أنه مال الإنسان إذا تلفَ في محلّه فقضى قاضٍ بوجوب ضمان المال بالقسامة، وقاسه على النفس. فهذا القضاء باطلٌ؛ لأنه مخالفٌ للكتاب.

قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7].

وهذا القياسٌ فاسدٌ؛ لأنّ المال يتبدّل، والنفس لا تستبدل. فكان هذا القضاء مخالفاً للإجماع. فكان للثاني أن ينقضه.

(1) المحيط البرهاني لبرهان الدين مازه (8/ 534). وانظر المبسوط (4/ 83) وبدائع الصنائع (5/ 462).

(2)

فتح القدير لابن الهمام (16/ 423). وانظر رد المحتار (18/ 163).

ص: 570

قال: ولو أنّ رجلاً عتق نصف عبده أو نصف أَمَتِهِ أو كانت أمةً بين اثنين فأعتقها أحدهما وهو معدمٌ، فقضى القاضي ببيع نصفه فباعه، ثم اختصما إلى قاضٍ لا يرى ذلك؛ فإنه يبطل البيع، ويبطل القضاء، لأن هذا القضاء مخالفٌ لإجماع الصحابة. فإنّ الصحابة رجعوا.

لا يجوز استدامة الرق فيه، لكن اختلفوا.

قال بعضهم: يخرج العتق بالسعاية. وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله.

وقال بعضهم: يعتق كله. وإليه ذهب أبو يوسف رحمه الله.

وحينئذٍ: فكان هذا القضاء مخالفاً للإجماع، فكان باطلاً. فعلى القاضي الثاني أن ينقضه.

وفي الظهيرية: أن شمس الأئمة قال عن المشايخ: إن هذا قول الخصاف، وليس فيه عن الأئمّة شيءٌ. ولولا قوله لقلنا: ينفذ قضاؤه؛ لأنه مجتهدٌ فيه.

قال الخصّاف: ولو أنّ قاضياً قضى بخلاص دارٍ استحقّت، فأخذه القاضي بدارٍ وحكم بذلك عليه، فإن هذا إذا رفع إلى قاضٍ آخر أبطله ولم ينفذه.

قلت: قال أبو المعالي: يرد، أن الإنسان يبيع داره من إنسانٍ ويضمن له الخلاص أو غير البائع يضمن له الخلاص.

وتفسيره: أنه لو جاء مستحقٌّ فاستحقها، فهو ضامنٌ للخلاص، فيخلص الدار من يد المستحق إمّا بشراءٍ أو هبةٍ، أو بوجهٍ من الوجوه.

فإذا ضمن الخلاص بهذه الصيغة، ثم ظهر الاستحقاق فرفع إلى قاضٍ

ص: 571

آخر يرى ذلك الضمان صحيحاً، فإنه يبطله، فإنّ هذا الضمان باطلٌ، فإنَّه شرطٌ لا يقدر على الوفاء به. فلا يصحّ. فإذا قضى بصحته، كان قضاءً بصحّة الباطل، لم يكن نافذاً. وهذا الذي ذكرنا من تفسير ضمان الخلاص قول أبي حنيفة وهو اختيار صاحب الكتاب.

أمّا عند أبي يوسف ومحمد: تفسير ضمان الخلاص والدرك والعهد واحدٌ. وهو الرجوع بالثمن على البائع عند الاستحقاق.

وعند أبي حنيفة تفسير ضمان الخلاص ما بينّا.

وتفسير ضمان العهدة وضمان الصّك القديم الذي عند البائع.

قال: وكذلك قاضٍ قضى بإبطال حقّ رجلٍ في دارٍ. وذلك أنه أقام سنين لم يبطله حقه، فأبطل القاضي حقّه من أجل ذلك، ثم رفع إلى قاضٍ آخر، فإنه يبطل قضاء القاضي بذلك، ويخلص الرجل على حقه في الدّار. ولو أنّ قاضيا قضى بردّه أمةً أو عبداً اشتراه مشترٍ وقبضه، ونقد الثمن فأصاب عنده عيب. فرد القاضي على البائع بذلك بغير إقرارٍ من البائع ولا بيّنةٍ شهدت عليه، ثم رفع إلى قاضٍ آخر أبطل ذلك ولم ينفذه ليس فيها أثرٌ يحتج به. وهذا اختلاف الآثار.

وقال أبو المعالي: وخلاف الإجماع. وكذلك امرأة قد بلغت ولها زوجٌ فأعتقت رقيقاً لها أو أقرّت بذلك أو أوصت بوصايا بغير رضا زوجها. فأبى ذلك زوجها ورفعه إلى قاضٍ فأبطل فعلها، ثم ارتفعوا إلى قاضٍ آخر، فإنه ييطل حكم ذلك القاضي. وينفذ ما صنعت المرأة من ذلك كما ينفذ على الرجل.

ألا ترى إلى قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].

ص: 572

فهذا حكمٌ يخالف التنزيل، فهو مردودٌ على من حكم به.

وكذلك قاضٍ قضى بشهادة رجلٍ يشهد على حط أبيه. فهذا باطلٌ لا ينفذ حكم القاضي بذلك.

قال أبو المعالي: هذا قولٌ لا يعتبر بمقالةٍ قول الجمهور من العلماء والكتاب وهو قوله تعالى: {الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. هذا لا يعلم. فإذا قضى القاضي بذلك كان القضاء باطلاً، فإذا رفع إلى قاضٍ آخر كان له أن يبطله.

وكذلك رجلٌ طلّق امرأته ثلاثاً أو حائضاً أو قبل أن يدخل بها فقضى قاضٍ بإبطال ذلك أو أبطل بعضه أو رفع إلى قاضٍ آخر لا يرى ذلك؛ فإنه يبطل قضاء القاضي بذلك، وينفذ على الرجل ما كان منه.

وقال في المحيط: بدل قوله: أو بعضه أو بوقوع واحدٍ؛ فإنه لا ينفذ؛ لأنه إن كان على قول أهل الزيغ إذ أوقع الثلاث في حالة الحيض أو في طهرٍ جامعها فيه، لا يقع أصلاً.

وعلى قول الحسن البصري: إذا وقعَ الثلاث يقع واحدة.

لكن كلا القولين باطلٌ؛ لأنه مخالفٌ لكتاب الله تعالى، وهو قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230].

فإنّ المراد منه: المطلقة الثلاثة.

وفي المنتقى: ولو طلّق امرأته ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ أو في طُهرٍ جامعها فيه.

وقال في الينابيع: ومثال ما خالف الإجماع ما إذا حكم بجواز نكاح الجدة أو بنكاح امرأة الجدّ أو بنكاح الغافلة.

ص: 573

وكذلك لو أخرج الحرّ من العبيد بالقرعة، فرفع إلى قاضٍ يرى بطلان القرعة، ولو حكم بجواز نكاح ابنته من الزنا، فللثاني أن يبطل نكاحها.

وفي الظهيرية: لوقوف القاضي بين الزوجين بشهادة امرأةٍ بالرّضاع. يرد قضاؤه.

والقاضي إذا قضى لولده على أجنبيٍّ بشهادة الأجانب. لا يجوز. فإن رفع قضاؤه إلى قاضٍ آخر أبطله الثاني.

ولو قضى بشهادة ولده لأجنبيٍّ في القذف وهو يرى ذلك فرفع ذلك إلى قاضٍ آخر لا يرى جوازه لا يبطله الثاني.

وذكر شيخ الإسلام المعروف بِخُواهر زَاذَهْ (1): هذا إذا كان القاضي الثاني يعرف أنّ الأوّل يرى جوازه بأن قال الأوّل: لا. حينئذٍ لي ذلك.

أما إذا علم أنّ الأوّل لا يرى جوازه. كان للثاني أن يبطله. وكذا وقع في أقضية الجامع. والله أعلم.

قلت: فعلمَ من هذا: أن القضاء إذا أخطأ مذهبه لغيره أن يبطل قضاءه، وإن لم يكن من مقلدي إمامه كما قاله أبو عمرو ابن الصلاح الشافعي في فتاواه (2).

الأول: ولو كان هو المحدود في القذف فيرفع حكمه إلى قاضٍ لا يرى جوازه أبطله.

الثاني: لأن القضاء نفسه مختلفٌ فيه، وكذلك لو قضى لامرأته

(1) تحرف في المخطوط إلى: (زاده). مرّت ترجمته.

(2)

(2/ 60).

ص: 574

بشهادة رجلين: لا يجوز.

وإذا قضى الأعمى في حادثةٍ، ثم رفع قضاؤه إلى من لا يرى قضاءه، فإنه يبطل قضاءه.

وفي الفصول: إذا كان الزوج غائباً فرفعت الامرأة الأمر إلى القاضي وأقامت البينة: أنّ زوجها الغائب محاجز عن النفقة، وطلبت من القاضي أن يفرق بينهما، ففرّق بينهما.

قال مشايخ سمرقند: جاز تفريقه.

قال صاحب الذخيرة: الصحيحُ: أنه لا يصحُّ قضاؤه؛ لأن العجز لا يعرف حالة الغيبة، فإن رفع هذا القضاء إلى قاضٍ آخرَ فأجاز قضاءه. والصحيح: أنه لا ينفذ؛ لأنّ هذا القضاء ليس في فصل مجتهدٍ فيه لِما ذكرنا: أنّ العجزَ لم يثبت.

قلت: فيؤخذ من هذا: أن للقاضي أن يبطل ما يقضي به بشهادة المحدودين. والله أعلم.

وذكو فيها أيضاً: إذا تزوج امرأةً عشرة أيام، فأجاز قاضٍ من القضاة جازَ؛ لأنّ عند زفرٍ: إذا تزوج امرأة إلى شهر يصحُّ ويبطل ذكر الوقت.

وفي فتاوى رشيد الدين: الثاني إذا طلّقها بعد، ثم تزوجها ثانياً وهي في العدة، ثم طلقها قبل فتزوجها الأول قبل انقضاء العدة، وحكم الحاكم بصحة هذا النكاح ينفذ؛ لأن للاجتهاد فيه مساغاً، وهو صريحٌ في النّص، وهو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [إِذَا] نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية.

ص: 575

وهو أيضاً مذهب زفر.

قلت: لا يصح هذا من القاضي الحنفي؛ لأن الإمام إنّما ولاّه الحكم بمذهب أبي حنيفة وما نقل الأصحاب من أمثال هذا فهو فيما إذا ولّى الإمام القاضي المجتهد ولايةً مطلقةً مثل ما كان لأبي يوسف ونحوه. والله أعلم (1).

ولو قضى بشهادة الابن لأبيه، وبشهادة الأب لابنه؛ لا ينفذ عند محمّدٍ خلافاً لأبي يوسف.

قلت: الرجحان لقول محمّدٍ؛ لأن هذا قضاء مخالفٌ للسنة وهو حديث عائشة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَجُوزُ (2) شَهادَةُ الْوَالِدِ لِوَلدهِ، وَلَا الْوَلَدُ لِوَالِده"(3).

(1) جاء في هامش المخطوط: (أقول: في هذا الكلام بحثٌ؛ لأنه إذا أراد مذهب أبي حنيفة فقط. فقد رجّح المشايخ قولهما بل أقول: أحدهما. بل قول زفرِ وأفتوا بها وحكموا. والتقيد بالمجتهد أيضًا فيه كلامٌ، فلو ولى الإمام غير المجتهد وأذن له في الحكم بمثل هذا ينبغي أن يجوزاه).

(2)

في المخطوط: (يجوز).

(3)

قال ابن الهمام في فتح القدير (17/ 120): لكن الخصّاف وهو أبو بكرِ الرَّازيّ الذي شهد له أكابر المشايخ أنّه كبير في العلم رواه بسنده إلى عائشة رضي الله عنهما: حدثنا صالح بن زريقٍ - وكان ثقةً -، حدثنا مروان بن معاوية الفزاريّ، عن يزيد بن زيادٍ الشاميّ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"لا تجوز شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا السيد لعبده، ولا الشريك لشريكه، ولا الأجير لمن استأجره". وانظر بدائع الصنائع (14/ 334).

وروى عبد الرزاق (15471) قال: أخبرنا ابن أبي سبرة، عن أبي الزناد، عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال: قال عمر: تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده،=

ص: 576

وهو نحو حديث: "لَا نِكَاحَ إِلَاّ بِشُهُودٍ"(1). والله أعلم.

ولو قضى القاضي بجواز بيع الدرهم بالدّرهمين، فلمّا آخَرَ أن يبطله.

ولو قضى بجواز بيع الشرب وحده ليس لغيره أن ينقضه. وإن نقض ليس لغيره أن يجيزه.

وفي القضاء بجواز بيع أم الولد. روايات أظهرها: أنه لا ينفذ.

وفي الخانية: إذا راجع الرجل امرأته بغير رضاها، ورفع الأمر إلى قاضٍ يرى أن رضا المرأة شرطٌ وأبطل الرجعة.

قيل: ينبغي أن لا ينفذ قضاؤه. وأصحابنا يدّعون الإجماع في أنّ رضا المرأة ليس بشرطٍ بصحة الرّجعة. ويمنع أصحاب الشافعي. وهذا لا يُصَيِّر المحل مجتهداً فيه، فلا ينفذ قضاؤه.

رجلان يشهدا على إقرار امرأة بأنّ زوجها بريء من كل شيءٍ كان لها عليه، فطلّقها. فقضى القاضي بأن الطلاقَ بائنٌ. قال: لا ينفذ. وهذا الحاكم جاهلٌ.

وفي قضاء الجامع: أنه يتوقف على إمضاء قاضٍ آخر إن أمضى ذلك القاضي نفذ، كان أبطل بطل. وهذا أوجه الأقاويل، وإن كان أبرأ القاضي وصي

= والأخ لأخيه إذا كانوا عدولًا، لم يقل الله حين قال: ممن ترضون من الشهداء، إلا أن يكون والداً أو ولداً أو أخاً.

(1)

انظر ما قاله الترمذي في سننه عقب رقم (1104).

وروى ابن حبان (4075) من حديث عائشة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له".

ص: 577

اليتيم لم يجز قضاؤه له في أمر اليتيم؛ لأنّ حقّ القبض فيما يقضي به لليتيم يثبت للوصي، فيكون بمنزلة قضائه لابنه، ولو وَكَّلَ (1) رجل القاضي وقال له: ما صنعت من شيءٍ فهو جائز، فوكل القاضي وكيلاً يخاصم إليه، جاز التوكل؛ لأن الموكل أجاز صنعه على العموم، ولكن لا يجوز قضاءه للوكيل؛ لأنه يكون ذلك كقضائه لنفسه من وجهٍ؛ لأنه وكيله. وكذلك لو كان وكيل ابنه بعض من لا يجوّز شهادة له.

ولو أنّ رجلاً أوصى للقاضي بثلث ماله أو أوصى إلى رجلٍ لم يجز قضاء القاضي لذلك الميت بشيءٍ من الأشياء؛ لأنّ له نصيباً فيما يقضي به للميت. وكذلك إذا كان القاضي أحد الورثة للميت؛ لأنه قضاء لنفسه. وكما لا يجوز أن يقضي عند دعوى القاضي، وكذلك عند دعوى الوكيل من الوصي. وكذلك إذا كان الموصى لابن القاضي أو امرأته.

ألا ترى: أنه لا يصح (2) للشهادة فيما يدّعي للميت، فكذلك لا يصلح القضاء.

وكذلك إذا كان للقاضي على الميت دينٌ؛ لأنّ بهذا القضاء يمهد محل حقّه.

وفي الجامع الكبير: رجلٌ ماتَ وله على القاضي دَينٌ أو امرأته أو بعض أقاربه ممن لا يقبل شهادة القاضي له دينٌ وله وصيُّ فدفع مَنْ عليه الدين للوصي، ثم ادّعى الوصي الوصاية، وشهد رجلانٍ: أنّ الميت أوصى إليه فقضى

(1) في المخطوط: (كان) وهو خطأ والصواب ما أثبت.

(2)

في المبسوط للسرخسي (ج 19/ 25): لا يصلح.

ص: 578

بالوصاية. لا ينفذ، ولا يبرأ.

فلو مات القاضي أو عُزلَ فجحدت الورثة الوصاية، فقامت البينة على القضاء بها، أبطل الثاني القضاء الأوَّل، وأخذ المال من القاضي أو ابنه.

قال في التحرير (1): سوّى محمّد في الجامع في الجواب بين القاضي وبين امرأته وابنه.

وقال مشايخنا: يجب أن يكون الجواب في امرأته وابنه خلاف الجواب في نفسه؛ لأن قضاء القاضي لنفسه باطلٌ بالإجماع، فلا يتوقف نفاذه على قضاء قاضٍ آخرَ.

وأمّا قضاؤه لابنه وامرأته فمختلفٌ فيه، فمتوقفٌ على قضاء قاضٍ آخَرَ.

ولو ادّعى رجلٌ: أنه ابن الميت ووارثه، لا وارث له غيره، فأمضى القاضي الدين، ثم قضى بالنسب بعد ذلك، لم يجز.

ولو أمضى هذا القضاء قاضٍ آخرَ، لا ينفذ؛ لأنه قضى لنفسه والأمة مجمعة على بطلانه. وكذا لو كان الوارث غائبًا، ولم يدع وصياً، فدفع القاضي الدين للرجل، ثم نصبه وصياً.

ولو غاب رب الدين وادّعى رجلٌ: أنه وكّله بقبض ديونه التي له بالكوفة. أو قال: يقبض ديونه التي له على القاضي أو على أحدٍ من قرابته وأقام البينة. وقضى القاضي بالوكالة، لم ينفذ قضاؤه، ولم يبرأ من الدين إذا دفع إليه.

ولو مات أو عزل، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر، أبطل ذلك.

(1) لعله: التحرير في أصول الفقه، للعلامة كمال الدين ابن همام الحنفي.

ص: 579

فلو قضى بالوكالة، ثم دفع الدين، ثم رفع الأمر إلى قاضٍ آخر، فأمضاه وجؤزه، ثم رفع إلى قاضٍ آخر ثالث يرى القضاء الأوّل باطلاً، فإنه يجيز ما أمضاه القاضي الثاني، وليس له أن يبطله.

علل في الكتاب فقال: لأنه أمضى فعلاً مختلفاً فيه.

أشار بذلك إلى أن من الفقهاء من يجيز القضاء بالوكالة، كما يجيز بالوصاية؛ لأنّ الوصيّ كالوكيل بعد الوفاة. والوكيل قبل الوفاة وبعد الوفاة سواء، فإذا أمضى الثاني فقد أجاز قضاءً مختلفاً فيه بعد قضائه، فإذا رفع إلى ثالثٍ ليس له أن يبطله كان لم يكن مختلفاً فيه، فهو في محلّ الاجتهاد ليس بخلافه نصٌّ، ولا إجماعٌ، فينفذ على الكل، ولو كان القاضي الثاني أبطل القضاء الأول، لا يكون لغيره أن يجيزه بعد ذلك؛ لأنه أبطل فصلاً مجتهداً فيه، فينفذ على الكل.

ولو أنه قضى الدين أوّلاً، ثم قضى بالوكالةِ، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر وأمضاه ورآه جائزاً، ثم رفع إلى قاضٍ ثالثٍ يرى ذلك باطلاً، فإنه يبطل ذلك كله ويرده؛ لأنّ الثاني أجاز قضاءً باطلاً؛ لأنّ القاضي قضى لنفسه من كلّ وجهٍ، فإنه مجتهدٌ فيه، وأنَّه باطل بالإجماع، فلم يصحّ إمضاؤه.

فأمّا في الفصل الأوّل: لم يكن القضاء لنفسه من كل وجهٍ، فإنه مجتهدٌ فيه كالثاني أمضى قضاءً مجتهداً فيه. انتهى بتحرير التحرير على الجامع الكبير.

وفي الخانية: القاضي إذا قضى بأقضيةٍ يختلف فيها الناس، أو قضى لرجلٍ على رجلٍ بحقٍّ وأشهد على قضائه شهوداً ولم يبين بأيّ وجهٍ قضى، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ آخر فقال: اشهدوا أني قد أبطلت ما قضى فلان بن فلانٍ القاضي على فلانٍ بن فلان، ونقضت قضاءه للأمر. تحقق عندي إبطاله وقال:

ص: 580

اشهدوا أني قد أبطلت ما قضى فلانٌ على فلانٍ ولم يدل على ذلك شيءٌ، ثم رفع ذلك إلى قاضٍ ثالث، فإن الثالث ينقض الثاني، ويبطل ما أبطله الثاني.

قال محمّد: والاثنان في ذلك سواء.

وفي الينابيع: قاله أبو يوسف.

وفي نوادر هشام: إذا كان الجور من القاضي غالباً ردت قضاياه وشهادته، وإن كان الغالب منه الخير، لم أرد.

وقال أبو حنيفة: لو قضى القاضي زماناً بين الناس وأنفذ قضايا كثيرة، ثم علم أنه كان فاسقاً مرتشياً لم يرد ذلك منذ ولي القضاء.

ينبغي للقاضي الذي يختصمون إليه أن يبطل كل قضية قضى بها.

وفي التتارخانية (1)، عن التتمة (2): القاضي المقلّد إذا قضى على خلاف مذهبه لا ينفذ قضاؤه.

(1) قال صاحب كشف الظنون (1/ 268): تاتار خانية في الفتاوى للإمام الفقيه عالم ابن علاء الحنفي، وهو كتاب عظيم في مجلدات، جمع فيه: مسائل المحيط البرهاني والذخيرة والخانية والظهيرية، وجعل الميم علامة للمحيط، وذكر اسم الباقي، وقدّم باباً في ذكر العلم، ثم رتّب على أبواب الهداية. وذكر أنه: أشار إلى جمعه الختان الأعظم: تاتار خان، ولم يسمّ، ولذلك اشتهر به. وقيل: إنه سماه: (زاد المسافر)، ثم إن الإمام: إبراهيم بن محمد العلي المتوفى سنة ست وخمسين وتسع مئة، لخصه في مجلد، وانتخب منه ما هو غرب أو كثير الوقوع وليس في الكتب المتداولة، والتزم بتصريح أسامي الكتب. وقال: متى أطلق الخلاصة فالمراد بها: شرح التهذيب، وأما المشهورة فتقيّد بالفتاوى.

(2)

تتمة الفتاوى للإمام برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز الحنفي صاحب المحيط، المتوفى سنهّ 616 هـ. تقدّم الكلام عنه.

ص: 581

ولله الحمد على ما أنعم وأولى في الآخرة والأولى.

وصلى الله على سيدنا محمّد خاتم النبيين والمرسلين وآله وصحبه أجمعين.

تمت عن خط من نسخة من نسخة الموفق (1) - رحمه الله تعالى -.

(1) لعلها تحريف عن: المؤلف.

ص: 582