الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا
[7]
الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ
تَأْلِيفُ
العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي
المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
(7)
الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ
قال - رحمه الله تعالى - بعد البسملة والحمدلة:
أمّا بعد:
فقد قال في كتاب الوقاية (1) فيمن اشتبهت عليه القبلة:
وإن شرعَ بلا تحري لم تجز وإن أصاب (2).
وقال في شرحها: لأنَّ قبلتهُ جهةُ تحرِّيه (3)،. . . . . . . . . . . . . . . .
(1) وقاية الرِّواية في مسائل الهداية للإمام برهان الشّريعة محمود بْن صدر الشّريعة أحمد ابن عبيد الله جمال الدين العبادي المحبوبي البخاريّ، أخو تاج الشّريعة، صنّفه لأجل ابن بنته صدر الشّريعة. انظر كشف الظنون (2/ 2020).
(2)
جاء في هامش المخطوط: (تحري بل مصيب. لم يتحر. وقال صاحب الهداية في كتابه: مختارات. صح).
(3)
قال شمس الأئمة أبو بكر السرخسي في المبسوط (6/ 144): اعلم بأن التّحرِّي لغة، هو: الطلب والابتغاء، كقول القائل لغيره: أتحرى مسرتك، أي: أطلب مرضاتك. قال تعالى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]، وهو والتَّوَخي سواء، إِلَّا أن لفظ التَّوَخي يستعمل في المعاملات، والتحري في العبادات. قال صلى الله عليه وسلم للرجلين الذين اختصما في المواريث إليه:"إذهبا وتوخيا واستهما وليحلل كلّ واحد منكما صاحبه". وقال صلى الله عليه وسلم في العبادات: "إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحر الصواب".
وفي الشّريعة: عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته، وقد منع بعض النَّاس العمل بالتحري؛ لأنه نوع ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولا ينتفي الشكّ به من كلّ وجه، ومع الشك لا يجوز العمل، ولكنا نقول: التّحرِّي غير الشك والظن، فالشك أن يستوي طرف العلم بالشيء والجهل به، والظن أن يترجح أحدهما بغير دليل، والتحري: أن يترجح أحدهما بغالب الرأي، وهو دليلٌ يتوصل به إلى طرف العلم، وإن كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم، ولأجله سمّي تحريًّا، فالحر: اسم لجبل على طرف المفاوز، والدّليل على ما قلنا الكتاب والسُّنَّة، أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، وذلك بالتحري وغالب الرأي، فقد أطلق عليه العلم. والسُّنَّة: قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمّن ينظر بنور الله". وقال صلى الله عليه وسلم: "فراسة المؤمّن لا تخطيء". وقال صلى الله عليه وسلم لوابصة: "ضع يدك على صدرك، فالإثم ما حاك في قلبك، وإن أفتاك النَّاس". وشيء من المعقول يدلُّ عليه، فإن الاجتهاد في الأحكام الشرعية جائر للعمل به، وذلك عمل بغالب الرأي، ثمّ جعل مدركًا من مدارك أحكام الشّرع، وإن كان لا يثبت به ابتداء، فكذلك التّحرِّي مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات، وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداء، والدّليل عليه أمر الحروب، فإنه يجوز العمل فيها بغالب الرأي مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك.
فإن قيل ذلك من حقوق العباد، وتتحقق الضّرورة لهم في ذلك، كما في قيم المتلفات ونحوها، ونحن إنّما أنكرنا هذا في العبادات الّتي هي حق الله تعالى.
قلنا في هذا أيضًا: معنى حق العبد، وهو التوصل إلى إسقاط ما لزمه أداؤه، وكذلك في أمر القبلة، فإن التّحرِّي لمعرفة حدود الأقاليم، وذلك من حق العبد، وفي الزَّكاة التّحرِّي لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى، فيجوز أن يكون غالب الرأي طريقًا للوصول إليه، إذا عرفنا هذا، فنقول بدأ الكتاب بمسائل الزَّكاة، وكان الأولى أن يبدأ بمسائل الصّلاة؛ لأنها مبتدأة في القرآن، وكأنه إنّما فعل ذلك لأنّ معنى حق العبد في الصَّدقة أكثر، فإنه يحصل بها سدّ خلّة المحتاج، أو لأنه وجد في باب الصَّدقة نصًا، وهو حديث يزيد السلمي على ما بينه، فبدأ بما وجد فيه النص، ثمّ عطف عليه ما كان مجتهدًا فيه، ومسألة الزَّكاة على أربعة أوجه:
أحدها: أن يعطي زكاة ماله رجلًا من غير شك ولا تحر ولا سؤال فهذا يجزيه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ما لم يتبين أنه غني لأنّ مطلق فعل المسلم محمول على ما يصح شرعًا وعلى ما يصحَّ فيه تحصيل مقصوده وعلى ما هو المستحق عليه حتّى يتبين خلافه فإن الفقر في القابض أصل فإن الإنسان يولد ولا شيء له والتمسك بالأصل حتّى يظهر خلافه جائز شرعا فالمعطى في الإعطاء يعتمد دليلًا شرعيًا فيقع المؤدى موقعه ما لم يعلم أنه غنى فإذا علم ذلك فعليه الإعادة لأنّ الجواز كان باعتبار الظّاهر ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الأمر بخلافه، فإن شُكَّ في أمره بأن كان عليه هيئة الأغنياء أو كان في أكبر رأيه أنه غني ومع ذلك دفع إليه فإنّه لا يجزيه ما لم يعلم أنه فقير؛ لأنّ بعد الشك لزمه التّحرِّي.
و [الثّاني]: فإذا ترك التّحرِّي بعد ما لزمه لم يقع المؤدى موقع الجواز إِلَّا أن يعلم أنه فقير فحينئذٍ يجوز لأنّ التّحرِّي كان لمقصود وقد حصل ذلك المقصود بدونه، فسقط وجوب التّحرِّي كالسعي إلى الجمعة واجب لمقصود وهو أداء الجمعة فإذا توصل إلى ذلك بأن حمل إلى الجامع مكرهًا سقط عنه فرض السعي.
والثّالث: أنه يتحرى بعد الشك ويقع في أكبر رأيه أنه غني فدفع إليه مع ذلك فهذا لا يشكل أنه لا يجزيه ما لم يعلم بفقره، فإذا علم فهو جائز وهو الصّحيح، وقد زعم بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - أن عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه لا يجزيه على قياس ما نبينه في الصّلاة، والأصح هو الفرق فإن الصّلاة لغير القبلة مع العلم لا تكون طاعة فإذا كان عنده أن فعله معصية لا يمكن إسقاط الواجب عنه، فأمَّا التصدق على الغني صحيح ليس فيه معنى المعصية فيمكن إسقاط الواجب بفعله، هذا إذا تبين وصول الحق إلى متسحقه بظهور فقر القابض.
والفصل الرّابع: أن يتحرى ويقع في أكبر رأيه أنه فقير فدفع إليه فإذا ظهر أنه فقير أو لم يظهر من حاله شيء جاز بالاتفاق، وإن ظهر أنه كان غنيا فكذلك في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - الأوّل، وفي قوله الآخر تلزمه الإعادة وهو قول الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - وكذلك لو كان جالسًا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء أو سأله فأعطاه فهذه الأسباب بمنزلة التّحرِّي، وجه قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه تبين له الخطأ في اجتهاده بيقين فسقط اعتبار اجتهاده كمن توضأ بماء وصلّى ثمّ تبين له أنه كان نجسًا، أو صلّى في ثوب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ثمّ علم أنه كان نجسًا، أو القاضي قضى في حادثة بالاجتهاد ثمّ ظهر نصّ بخلافه، وبيانه أن صفة الفقر والغنى يوقف عليهما حقيقة فإن الشّرع علّق بهما أحكامًا من النفقة وضمان العتق وغير ذلك، وإنّما تتعلّق الأحكام الشرعية بما يوقف عليه، وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المقصود ليس هو عين الاجتهاد بل المقصود إيصال الحق إلى المستحق، فإذا تبين أنه لم يوصله إلى مستحقه صار اجتهاده وجودًا وعدمًا بمنزلة؛ لأنّ غالب الرأي معتبر شرعًا في حقه ولكن لا يسقط به الحق المستحق عليه لغيره، والزكاة صلة مستحقة للمحاويج على الأغنياء فلا يسقط ذلك بعذر في جانبه إذا لم يوصل الحق إلى مستحقه، وبه فارق الصّلاة على أصل أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لأنّ فريضة التوجه إلى القبلة لحق الشّرع وهو معذور عند الاشتباه، فيمكن إقامة الاجتهاد مقام ما هو المستحق عليه في حق الشّرع، وحجة أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه مؤد لما كلف فيسقط به الواجب كما لو لم يظهر شيء من حال المصروف إليه، وبيانه أنه مأمور بالأداء إلى من هو فقير عنده لا إلى من هو فقير حقيقة؛ لأنه لا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة، فالإنسان قد لا يعرف من نفسه حقيقة الفقر والغنى فكيف يعرفه من غيره، والتكليف يثبت بحسب الوسع والذي في وسعه الاستدلال على فقره بدليل ظاهر من سؤال أو هيئة عليه أو جلوس في صف الفقراء، وعند انعدام ذلك كله المصير إلى غالب الرأي وقد أتى بذلك، وإنما يكتفي بهذا القدر لمعنى الضّرورة ولا يرتفع ذلك بظهور حاله بعد الأداء؛ لأنه ليس له أن يسترد المقبوض من القابض ولا أن يضمنه بالاتفاق، فلو لم يُجْزِ عنه ضاع ماله فلبقاء الضّرورة قلنا يجعل المؤدي مجزيًا عنه.
ولأنه لا يعلم حقيقة غناه وإنّما يعرف ذلك بالاجتهاد وما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله، وتعلّق الأحكام الشرعية بالغنى لا يدلُّ على أنه يعرف صفة الغني حقيقة؛ لأنّ الأحكام تنبني على ما يظهر لنا كما ينبني الحكم على صدق الشهود وإن كان لا يعلم حقيقة، وبه فارق النص لأنه يوقف عليه حقيقة فكان المجتهد مطالبًا بالوصول إليه، وإن كان قد تعذر إذا كان يلحقه الحرج في طلبه فإذا ظهر بطل حكم الاجتهاد، وكذلك نجاسة الماء ونجاسة الثّوب يعرف حقيقة فيبطل بظهور النّجاسة حكم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الاجتهاد في الطّهارة، ولا نقول في الزَّكاة حق الفقراء بل هي محض حق الله تعالى، والفقير مصرف لا مستحق كالكعبة لأداء الصّلاة جهة تستقبل عند أدائها والصلاة تقع لله تعالى ثمّ هناك يسقط عنه الواجب إذا أتى بما في وسعه، ولا معتبر بالتبين بعد ذلك بخلافه فكذلك هنا، ولو تبين أن المدفوع إليه كان أبا الدافع أو ابنه فهو على هذا الاختلاف أيضًا، وذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أنه لا يجزئه هنا كما هو قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أما طريق أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه من لا يكون مصرفًا للصدقة مع العلم بحاله لا يكون مصرفًا عند الجهل بحاله إذا تبين الأمر بخلافه. وجه رواية ابن شجاع أن النسب ممّا يعرف حقيقة ولهذا لو قال لغيره لستَ لأبيك لا يلزم الحدّ، والحد يدرأ بالشبهة فكان ظهور النسب بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد. وجه ظاهر الرِّواية ما احتج به في الكتاب فإنّه روى عن إسرائيل عن أبي الجويرية عن معن بْن يزيد السلمي قال: خاصمت أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه، وذلك أن أبي أعطى صدقته لرجل في المسجد وأمره بأن يتصدق بها فأتيته فأعطانيها، ثمّ أتيت أبي فعلم بها، فقال: والله يا بني! ما إياك أردت بها، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت" ولا معنى لحمله على التطوع لأنّ ترك الاستفسار من رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن الحكم في الكل واحد مع أن مطلق الصَّدقة ينصرف إلى الواجب، وفي بعض الروايات قال صدقة ماله وهو تنصيص على الواجب.
وكان المعنى فيه: أن الواجب فعل هو قربة في محل يجري فيه الشح والضن وهو المال باعتبار مصرف ليس بينهما ولاد ثمّ عند الاشتباه والحاجة أقام الشّرع أكثر هذه الأوصاف مقام الكل في حكم الجواز والحاجة ماسة لتعذر استرداد المقبوض من القابض وبهذا يستدل في المسألةُ الأولى أيضًا فإن الصَّدقة على الغني فيها معنى القربة كالتصدق على الولد ولهذا لا رجوع فيه فيقام أكثر الأوصاف مقام الكل في حق الجواز ثمّ طريق معرفة البنوة الاجتهاد ألَّا ترى أنه لما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} . قال عبد الله بْن سلام رضي الله عنه: والله إنِّي بنبوته أعرف مني بولدي فإني أعرفه نبيًّا حقًّا ولا أدري ماذا أحدث النِّساء بعدي وإذا كان طريق المعرفة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الاجتهاد كان هذا والأول سواء من حيث أنه لا ينتقض الاجتهاد باجتهاد مثله فإن تبين أنه هاشمي فكذلك الجواب في ظاهر الراوية لأنّ المنع من جواز صرف الواجب إليه باعتبار النسب مع أن التصدق عليه قربة فهو وفصل الأب سواء، وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أنه يلزمه الإعادة لأنّ كونه من بني هاشم ممّا يوقف عليه في الجملة ويصير كالمعلوم حقيقة، فكان هذا بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد، ودليله أنه لو قال لهاشمي لست بهاشمي فإنّه يحد أو يعزر على حسب ما اختلفوا فيه، ولو تبين أن المدفوع إليه ذمي فهو على هذا الخلاف أيضًا. وفي الأمالي روى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أنه لا يجزئه لأنّ الكفر ممّا يوقف عليه، ولهذا لو ظهر أن الشهود كفار بطل قضاء القاضي، وفي ظاهر الرِّواية قال: ما يكون في الاعتقاد فطريق معرفته الاجتهاد، والتصدق على أهل الذِّمَّة قربة فهو وما سبق سواء، وفي الكتاب قال: أعطى ذميًّا أخبره أنه مسلم أو كان عليه سيما المسلمين، وفي هذا دليل أنه يجوز تحكيم السيما في هذا الباب قال تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]. وقال تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]. وفيه دليل: أن الذمي إذا قال أنا مسلم لا يصير مسلمًا؛ لأنه قال أخبره أنه مسلم ثمّ علم أنه ذمي وهذا لأنّ قوله أنا مسلم؛ أي: منقاد للحق مستسلم وكل أحد يدير ذلك فيما يعتقده، وقد قال بعض المتأخرين المجوسي إذا قال أنا مسلم يحكم بإسلامه لأنهم يتشاءمون بهذا اللّفظ ويتبرؤن منه بخلاف أهل الكتاب.
وإن تبين أن المدفوع إليه مستأمن حربي فهو جائز على ما ذكر في كتاب الزَّكاة، وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - الفرق بين الذمي والحربي المستأمن فقال: قد نهينا عن البرّ مع من يقاتلنا في ديننا فلا يكون فعله في ذلك، قربة وبدون فعل القربة لا يتأدى الواجب، ولم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا قال تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} فيكون فعله في حق الذمي قربة يتأدى به الواجب عند الاشتباه، ولو تبين أنه المدفوع إليه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لقصور فعله؛ فإن الواجب عليه بالنص الإيتاء وذلك لا يكون إِلَّا بإخراجه عن ملكه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وجعله لله تعالى خالصًا، وكسب العبد مملوك له وله في كسب المكاتب حق الملك فبقاء حقه يمنع جعله لله تعالى خالصًا، وهذا بخلاف ما لو تبين أن المدفوع إليه عبد الغني أو مكاتب له فإنه يجزئه، وفي حق المكاتب مع العلم أيضًا ولا ينظر إلى حال المولى لأنّ إخراجه من ملكه وبقاء حقه يمنعه أن يصير لله تعالى خالصا فلهذا لا يسقط به الواجب، والأصل في فريضة التوجه إلى الكعبة للصلاة قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يصلّي إلى بيت المقدس ويجعل البيت بينه وبين بيت المقدس، وكان يحب أن تكون الكعبة قبلته كما كانت قبلة إبراهيم - صلوات الله عليه - فسأل جبريل عليه السلام أن يسأل الله له في ذلك، وكان يديم النظر إلى السَّماء رجاء أن يأتيه جبريل عليه السلام بذلك فانزل الله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} الآية، ثمّ لا خلاف في حق من هو بمكة أن عليه التوجه إلى عين الكعبة، فأمَّا من كان خارجًا من مكّة فقد كان أبو عبد الله الجرجاني يقول: الواجب عليه التوجه إلى عين الكعبة أيضًا لظاهر الآية؛ ولأن وجوب ذلك لإظهار تعظيم البقعة فلا يختلف بالقرب منه والبعد. وغيره من مشايخنا - رحمهم الله تعالى - يقول الواجب في حق من هو خارج عن مكّة التوجه إلى الجهة؛ لأنّ ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ومعرفة الجهة إمّا بدليل يدلُّ عليه أو بالتحري عند انقطاع الأدلة، فمن الدّليل المحاريب المنصوبة في كلّ موضع لأنّ ذلك كان باتِّفاق من الصّحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم فإن الصّحابة رضي الله عنهم فتحوا العراق وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب ثمّ فتحوا خراسان وجعلوا قبلة أهلها ما بين المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف، فكانوا يصلون إليها ولما ماتوا جعلت قبورهم إليها أيضًا من غير نكير منكر من أحد منهم، وكفى بإجماعهم حجة وقد كانت عنايتهم في أمر الدين أظهر من عناية من كان بعدهم فيلزمنا اتباعهم في ذلك.
ومن الدّليل السؤال في كلّ موضع ممّن هو من أهل ذلك الموضع لأنّ أهل كلّ موضع أعرف بقبلتهم من غيرهم عادة، وقال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. ومن الدّليل النجوم أيضًا على ما حُكِيَ عن عبد الله بْن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المبارك رضي الله عنه أنه قال أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة، ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى وكان الشّيخ أبو منصور الماتريدي - رحمه الله تعالى - يقول السبيل في معرفة الجهة أن ينظر إلى مغرب الصيف في أطول أيّام السنة فيعينه ثمّ ينظر إلى مغرب الشّمس في أقصر أيّام الشتاء فيعينه ثمّ يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره فيكون مستقبلًا للجهة إذا واجه ذلك الموضع، ولا معنى للإنحراف إلى جانب الشمال بعد هذا لأنه إذا مال بوجهه يكون إلى حد غروب الشّمس في أقصر أيّام السنة أو يجاوز ذلك فلا يكون مستقبلًا للقبلة ولا للحرم أيضًا على ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوني - رحمه الله تعالى - أن الحرم من جانب الشمال ستة أميال ومن الجانب الآخر اثنى عشر ميلا ومن الجانب الآخر ثمانية عشر ميلًا ومن الجانب الآخر أربعة وعشرون ميلًا، وقيل: قبلة أهل الشّام الركن الشامي وقبلة أهل المدينة موضع الحطيم والميزاب من جدار البيت، وقبلة أهل اليمن الركن اليماني، وما بين الركن اليماني إلى الحجر قبلة أهل الهند وما يتصل بها، وقبلة أهل خراسان والمشرق الباب ومقام إبراهيم عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسلام، فإذا انحرف بعد هذا وإن قل انحرافه يصير غير مستقبل للقبلة، وعند انقطاع الأدلة فرضه التّحرِّي، وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله أن الجهة الّتي يؤدِّيه إليها تحريه تكون قبلة حقيقة في حقه؛ لأنه أتى بما في وسعه والتكليف بحسب الوسع، وهذا غير مرضي ففيه قول بأن كلّ مجتهد مصيب ولكنه مؤد لما كلف وإنّما كلف طلب الجهة على رجاء الإصابة والمقصود ليس عين الجهة إنّما المقصود وجه الله تعالى كما قال:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
ولا جهة لوجه الله تعالى إِلَّا أنا لو قلنا يتوجه إلى جانب شاء انعدم الابتلاء، وإنّما يتحقق معنى العبادة إذا كان فيه معنى الابتلاء فإنّما نوجب عليه التّحرِّي لرجاء الإصابة لتحقيق الابتلاء، وإذا فعل ذلك كان مؤديًا لما عليه وإن لم يكن مصيبًا للجهة حقيقة، والدّليل على أن الصّحيح هذا ما بيَّنَّا في كتاب الصّلاة أن المصلّين بالتحري إذا أمهم أحدهم فصلاة من يعلم أنه مخالف للإمام في الجهة فاسدة، ولو انتصب ما ظن الإمام إليه قبلة حقيقة يصح اقتداء هذا الرَّجل به وإن خالفه في الجهة، كما إذا صلوا في جوف الكعبة. إذا عرفنا هذا نقول من اشتبه عليه القبلة في السَّفر في ليلة مظلمة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= واحتاج إلى أداء الصّلاة فعليه التّحرِّي، ثمّ المسألة على أربعة أوجه: فإما أن يصلّي إلى جهة من غير شك ولا تحر، أو يثك ثمّ يصلّى إلى جهة من غير تحر، أو يتحرى فيصلّى إلى جهة التّحرِّي، أو يرض عن الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده فيصلّى إلى جهة أخرى.
فأمَّا بيان الفصل الأوّل: أنه إذا صلّى من غير شك ولا تحر فإن تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شيء بأن ذهب من ذلك الموضع فصلاته جائزة لأنّ فعل المسلم محمول على الصِّحَّة ما أمكن فكل من قام لأداء الصّلاة يجعل مستقبلًا للقبلة في أدائها باعتبار الظّاهر، وحمل أمره على الصِّحَّة حتّى يتبين خلافه وإن تبين أنه أخطأ القبلة فعليه إعادة الصّلاة لأنّ الظّاهر يسقط اعتباره إذا تبين الحال بخلافه؛ لأنّ الحكم بجواز الصّلاة هنا لانعدام الدّليل المفسد لا للعلّم بالدّليل المجوز فإذا ظهر الدّليل المفسد وجب الإعادة، وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه أخطأ فعليه الإعادة لأنّ أكبر الرأي كاليقين خصوصًا فيما يبني على الاحتياط.
وأما إذا شك ولم يتحر ولكن صلّى إلى جهة فإن تبين أنه أخطأ القبلة، أو أكبر رأيه أنه أخطأ، أو لم يتبين من حاله شيء فعليه الإعادة؛ لأنه لمَّا شك فقد لزمه التّحرِّي لأجل هذه الصّلاة، وصار التّحرِّي فرضًا من فرائض صلاته، فإذا ترك هذا الفرض لا تجزيه صلاته بخلاف الأوّل؛ لأنّ التّحرِّي إنّما يفترض عليه إذا شك ولم يشكّ في الفصل الأوّل، فأمّا إذا تبين أنه أصاب القبلة جازت صلاته لأنّ فريضة التّحرِّي لمقصود وقد توصل إلى ذلك المقصود بدونه فسقطت فريضة التّحرِّي عنه، وإن كان أكبر رأيه أنه أصاب فكان الشّيخ الإمام الزاهد أبو بكر محمّد بْن حامد - رحمهم الله تعالى - يفتي بالجواز هنا أيضًا؛ لأنّ أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما لا يتوصل إلى معرفته حقيقة والأصح أنه لا يجزيه لأنّ فرض التّحرِّي لزمه يقين فلا يسقط اعتباره إِلَّا بمثله ولأن غالب الرأي يجعل كاليقين احتياطًا والاحتياط هنا في الإعادة.
فأمَّا إذا شك وتحرى وصلّى إلى الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده فإن تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شيء فصلاته جائزة بالاتفاق، وكذلك إن تبين أنه أخطأ فصلاته جائزة عندنا، وقال الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - إن تبين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أنه تيامن أو تياسر فكذلك الجواب، وإن تبين أنه استدبر الكعبة فصلاته فاسدة وعليه الإعادة في أحد القولين؛ لأنه تبين الخطأ في اجتهاده فيسقط اعتبار اجتهاده كالقاضي فيما يقضي باجتهاده إذا ظهر النص بخلافه، والمتوضئ بماء إذا علم بنجاسته بخلاف ما إذا تيامن أو تياسر لأنّ هناك لا يتيقن بالخطأ فإن وجه المرء مقوس فإن عند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانب وجهه إلى القبلة وأما عند الاستدبار لا يكون شيء من وجهه إلى الكعبة فيتيقن بالخطأ به.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115]، الآية وفي سبب نزولها حديثان: أحدهما ما روي عن عبد الله بْن عامر - رحمه الله تعالى - قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة طحياء مظلمة فاشتبهت علينا القبلة فتحرى كلّ واحد منا وخط بين يديه خطًّا، فلما أصبحنا إذا الخطوط على غير القبلة فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك فنزلت الآية فقال صلى الله عليه وسلم:"أجزأتكم صلاتكم". وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: كنا في سفر في يوم ذي ضباب فاشتبهت علينا القبلة فتحرى وصلّى كلّ واحد منا إلى جهة فلما انكشف الضباب فمنا من أصاب ومنا من أخطأ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت الآية ولم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الصّلاة.
وقال علي رضي الله عنه قبلة المتحري جهة قصده معناه تجوز صلاته إذا توجه إلى جهة قصده والمعنى فيه أنه مؤد لما كلف فيسقط عنه الفرض مطلقًا كما لو تيامن أو تياسر، وبيان الوصف ما قررناه فيما سبق أن المقصود من طلب الجهة ليست عين الجهة إنّما المقصود وجه الله تعالى إِلَّا أنه يؤمر بطلب الجهة لتحقيق معنى الابتلاء وما هو المقصود وهو الابتلاء، قد تم بتحريه فيسقط عنه ما لزمه من الفرض، ألَّا ترى أن في التيامن والتياسر على وجه لا يجوز مع العلم يحكم بجواز صلاته عند التّحرِّي للمعنى الّذي قلنا فكذلك في الاستدبار، وإيضاح ما قلنا فيما نقل عن بعض العارفين قال: قبلة البشر الكعبة وقبلة أهل السَّماء البيت المعمور وقبلة الكروبين الكرسي، وقبلة حملة العرش العرش، ومطلوب الكل وجه الله تعالى وهذا بخلاف ما إذا ظهرت النّجاسة في الثّوب أو في الماء لما قلنا أن ذلك ممّا يمكن الوقوف على حقيقته؛ ولأن التوضؤ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بالماء النجس ليس بقربة فلا يمكن أداء الواجب به بحال، فأمَّا الصّلاة إلى غير القبلة قربة ألَّا ترى أن الراكب يتطوع على دابته حيث ما توجهت به اختيارًا.
ويؤدِّي الفرض كذلك عند العذر أيضًا، وبنحو هذا فرق في الزَّكاة أيضًا أن التصدق على الأب وعلى الغني قربة ولهذا لا يثبت له حق الاسترداد كما قررنا، فأمَّا إذا أعرض عن الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده وصلّى إلى جهة أخرى ثمّ تبين أنه أصاب القبلة فعليه إعادة الصّلاة في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقد روي عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: أخشى عليه الكفر لإعراضه عن القبلة عنده. وروي عنه أيضًا أنه قال: أما يكفيه أن لا يحكم بكفره. وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - تجوز صلاته لأنّ لزوم التّحرِّي كان لمقصود وقد أصاب ذلك المقصود بغيره فكان هذا وما لو أصابه بالتحري سواء، وهذا على أصله مستقيم لأنه يسقط اعتبار التّحرِّي إذا تبين الأمر بخلافه كما قال في الزَّكاة، وإذا سقط اعتبار التّحرِّي فكأنه صلّى إلى هذه الجهة من غير تحر وقد تبين أنه أصاب فتجوز صلاته. وجه قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى -: أنه اعتقد فساد صلاته لأنّ عنده أنه صلّى إلى غير القبلة فلا يجوز الحكم بجواز صلاته مع اعتقاده الفساد فيه كما لو اقتدى بالإمام وهو يصلّي إلى غير جهته لم تجز صلاته إذا علم لاعتقاده أن إمامه على الخطأ، يوضحه أن الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده صارت بمنزلة القبلة في حقه عملًا حتّى لو صلّى إليها جازت صلاته، وإن تبين الأمر بخلافه فصار هو في الإعراض عنها بمنزلة ما لو كان معاينًا الكعبة فأعرض عنها وصلّى إلى جهة أخرى فتكون صلاته فاسدة ولهذا لا يحكم بكفره لأنّ تلك الجهة ما انتصبت قبلة حقيقة في حق العلم وإن انتصبت قبلة في حق العمل، فإن كان تبين الحال له في خلال الصّلاة فنقول: أما في هذا الفصل فعليه استقبال الصّلاة لأنه لو تبين له بعد الفراغ لزمه الإعادة، فإذا تبين في خلال الصّلاة أولى، ولم يرو عن أبي يوسف رضي الله عنه خلاف هذا وينبغي أن يكون هذا مذهبه أيضًا؛ لأنه قد يقول قوي حاله بالتيقن بالإصابة في خلال الصّلاة ولا ينبني القوي على الضعيف كالمومئ إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصّلاة، فأمَّا إذا كان مصلّيا إلى الجهة الّتي أدى إليها اجتهاده فتبين أنه أخطأ فعليه أن يتحول إلى جهة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الكعبة ويبني على صلاته؛ لأنه لو تبين له بعد الفراغ لم يلزمه الإعادة فكذلك إذا تبين له في خلال الصّلاة.
وهذا لأنّ افتتاحه إلى جهة تلك الجهة قبلة في حقه عملًا فيكون حاله كحال أهل قباء حين كانوا يصلون إلى بيت المقدس فأتاهم آت وأخبرهم أن القبلة حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم وهم ركوع ثمّ جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم، وعلى هذا قالوا لو صلّى بعض الصّلاة إلى جهة بالتحري ثمّ تحول رأيه إلى جهة أخرى يستقبل تلك الجهة ويتم صلاته؛ لأنّ الاجتهاد لا ينقض بمثله. ولكن في المستقبل يبني على ما أدى إليه اجتهاده حتّى روي عن محمّد أنه قال: لو صلّى أربع ركعات إلى أربع جهات بهذه الصِّفَة يجوز. واختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الأولى فمنهم من يقول يستقبل تلك الجهة أيضًا فتتم صلاته جريًا على طريقة القياس. ومنهم من يستقبح هذا ويقول إذا آل الأمر إلى هذا فعليه استقبال الصّلاة؛ لأنه كان أعرض عن هذه الجهة في هذه الصّلاة فليس له أن يستقبلها في هذه الصّلاة أيضًا، فأمَّا إذا افتتح الصّلاة مع الشك من غير تحر ثمّ تبين له في خلال الصّلاة أنه أصاب القبلة أو أكبر رأيه أنه أصاب فعليه الاستقبال لأنّ افتتاحه كان ضعيفًا حتّى لا يحكم بجواز صلاته ما لم يعلم بالإصابة، فإذا علم في خلال الصّلاة فقد تقوى حاله وبناء القوي على الضعيف لا يجوز فيلزمه الاستقبال بخلاف ما إذا علم بعد الفراغ فإنّه لا يحتاج إلى البناء، ونظيره في المومئ والمتيمم وصاحب الجرح السائل يزول ما بهم من العذر، وإذا كان بعد الفراغ لا يلزمهم الإعادة وإن كان في خلال الصّلاة يلزمهم الاستقبال، فأمَّا إذا كان افتتحها من غير شك وتحر فإن تبين في خلال الصّلاة أنه أخطأ فعليه الاستقبال وإن تبين أنه أصاب فهذا الفصل غير مذكور في الكتاب.
وكان الشّيخ أبو بكر محمّد بْن الفضل - رحمهم الله تعالى - يقول: يلزمه الاستقبال أيضًا لأنّ افتتاحه كان ضعيفًا، ألَّا ترى أنه إذا تبين الخطأ تلزمه الإعادة، فإذا تبين الصواب في خلال الصّلاة فقد تقوى حاله فيلزمه الاستقبال. وكان الشّيخ الإمام أبو بكر محمّد بْن حامد - رحمه الله تعالى - يقول: لا يلزمه الاستقبال وهو الأصح؛ لأنّ صلاته هنا في الابتداء كانت صحيحة لانعدام الدّليل المفسد فبالتبين لا تزداد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= القوة حكمًا فلا يلزمه الانتقال بخلاف ما بعد الشك لأنّ هناك صلاته ليست بصحيحة إِلَّا بالتيقن بالإصابة، فإذا تبين أنه أصاب فقد تقوى حاله حكمًا فلهذا لزم مع الاستقبال.
رجل دخل مسجدًا لا محراب فيه وقبلته مشكلة، وفيه قوم من أهله، فتحرى القبلة وصلّى، ثمّ علم أنه أخطأ القبلة فعليه أن يعيد الصّلاة؛ لأنّ التّحرِّي حصل في غير أوانه، فإن أوان التّحرِّي ما بعد انقطاع الأدلة، وقد بقي هنا دليل له وهو السؤال، فكان وجود التّحرِّي كعدمه فيصير كأنه صلّى بعد الشك من غير التّحرِّي، فلا تجزيه صلاته إِلَّا إذا تبين أنه أصاب، فكذا هذا عليه الإعادة لما تبين أنه أخطأ، فإن تبين أنه أصاب فصلاته جائزة، واستشهد لهذا بمن أتى ماء من المياه أو حيًّا من الأحياء، وطلب الماء فلم يجده فتيمم وصلّى ثمّ وجده، فإن كان في الحي قوم من أهله ولم يسألهم حتّى تيمم وصلّى ثمّ سألهم فأخبروه لم تجز صلاته، وإن سألهم فلم يخبروه أو لم يكن بحضرته من يسأله أجزأته صلاته، وكذلك لو افتتح الصّلاة بالتيمُّم ثمّ رأى إنسانًا فظن أن عنده خبر الماء يتم صلاته ثمّ يسأله فإن أخبره أن الماء قريب منه يعيد الصّلاة، فإن لم يعلم من خبر الماء شيئًا فليس عليه إعادة الصّلاة. وقد بيَّنَّا في كتاب الصّلاة هذه الفصول والفرق بينها وبين ما إذا سأله في الابتداء فلم يخبره حتّى صلّى بالتيمُّم ثمّ أخبره فليس عليه إعادة الصّلاة، فأمر القبلة كذلك. ولم يذكر في الكتاب أن هذا الاشتباه لو كان له بمكة ولم يكن بحضرته من يسأله فصلّى بالتحري ثمّ تبين أنه أخطأ هل يلزمه الإعادة، فقد ذكر ابن رستم عن محمّد - رحمهما الله تعالى - أنه لا إعادة عليه. وهذا هو الأقيس لأنه لما كان محبوسًا في بيت وقد انقطعت عنه الأدلة ففرضه التّحرِّي، ويحكم بجواز صلاته بالتحري فلا تلزمه الإعادة كما لو كان خارج مكّة، وكان أبو بكر الرَّازيُّ - رحمه الله تعالى - يقول هنا تلزمه الإعادة لأنه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة.
قال: (وكذلك إذا كان بالمدينة) لأنّ القبلة بالمدينة مقطوع بها فإنّه إنّما نصبها رسول اللُّه صلى الله عليه وسلم بالوحي بخلاف سائر البقاع؛ ولأن الاشتباه بمكة يندر والحكم لا ينبني على النادر فلا يندر تحريه للحكم بالجواز هنا، بخلاف سائر البقاع فإن الاشتباه يكثر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فيها والأصل في المسائل بعد هذا أن الحكم للغالب؛ لأنّ المغلوب يصير مستهلكًا في مقابلة الغالب، والمستهلك في حكم المعدوم، ألَّا ترى أن الاسم للغالب فإن الحنطة لا تخلو من حبات الشعير ثمّ يطلق على الكل اسم الحنطة، وعلى هذا قالوا في قرية عامة أهلها المجوس: لا يحل لأحد أن يشتري لحمًا ما لم يعلم أنه ذبيحة مسلم، وفي القرية الّتي عامة أهلها مسلمون يحل ذلك بناء للحكم على الغالب، ويباح لكل أحد الرمي في دار الحرب إلى كلّ من يراه من بعد ما لم يعلم أنه مسلم أو ذمي، ولا يحل له ذلك في دار الإسلام ما لم يعلم أنه حربي، ولو أن أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذِّمَّة لم يجز استرقاق واحد منهم إِلَّا من يعلم بعينه أنه حربي؛ لأنّ الغالب في هذه المواضع أهل الذِّمَّة ولو دخل قوم من أهل الذِّمَّة قرية من قرى أهل الحرب جاز للمسلمين استرقاق أهل تلك القرية إِلَّا من يعلم أنه ذمي. ثمّ المسائل نوعان: مختلط منفصل الأجزاء ومختلط متصل الأجزاء، فمن المختلط الّذي هو منفصل الأجزاء مسألة المساليخ، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إمّا أن تكون الغلبة للحلال، أو للحرام، أو كانا متساويين، وفيه حالتان: حالة الضّرورة بأن كان لا يجد غيرها، وحالة الاختيار ففي حالة الضّرورة يجوز له التّحرِّي في الفصول كلها لأنّ تناول الميِّتة عند الضّرورة جائز له شرعًا فلأن يجوز له التّحرِّي عند الضّرورة وإصابة الحلال بتحريه مأمول كأن أولى، وأما في حالة الاختيار فإن كانت الغلبة للحلال بأن كانت المساليخ ثلاثة: أحدها ميتة جاز له التّحرِّي أيضًا، لأنّ الحلال هو الغالب والحكم للغالب فإذا الطريق جاز له التناول. منها إِلَّا ما يعلم أنه ميتة فالسبيل أن يوقع تحريه على أحدها أما ميتة فيتجنبها ويتناول ما سوى ذلك لا بالتحري بل بغلبة الحلال وكون الحكم له، وإن كان الحرام غالبًا فليس له أن يتحرى عندنا وله ذلك عند الشّافعيّ لأنه يتيقن بوجود الحلال فيها ويرجو إصابته بالتحري فله أن يتحرى كما في الفصل الأوّل، وهذا لأنّ الحرمة في الميِّتة محض حق الشرع والعمل بغالب الرأي جائز في مثله كما في استقبال القبلة فإن جهات الخطأ هناك تغلب على جهات الصواب ولم يمنعه ذلك من العمل بالتحري فهذا مثله. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وحجتنا في ذلك: أن الحكم للغالب وإذا كان الغالب هو الحرام كان الكل حرامًا في وجوب الاجتناب عنها في حالة الاختيار؛ وهذا لأنه لو تناول شيئًا منها إنّما يتناول بغالب الرأي وجواز العمل بغالب الرأي للضرورة، ولا ضرورة في حالة الاختيار بخلاف ما إذا كان الغالب الحلال فإن حل التناول هناك ليس بغالب الرأي كما قررنا، وهذا بخلاف أمر القبلة لأنّ الضّرورة هناك قد تقررت عند انقطاع الأدلة عنده، فوزانه أن لو تحققت الضّرورة هنا بأن لم يجد غيرها جهة الكعبة قربة جائزة في حالة الاختيار وهو التطوع على الدابة، وتناول الميِّتة لا يجوز مع الاختيار بحال ولهذا لا يجوز له العمل بغالب الرأي هنا في حالة الاختيار. وكذلك إن كانا متساويين لأنّ عند المساواة يغلب الحرام شرعًا، قال صلى الله عليه وسلم:"ما اجتمع الحرام والحلال في شيء إِلَّا غلب الحرام الحلال". ولأن التحرز عن تناول الحرام فرض وهو مخير في تناول الحلال إن شاء أصاب من هذا وإن شاء أصاب من هذا كان شاء أصاب من غيره، ولا يتحقق المعارضة بين الفرض والمباح فيترجح جانب الفرض وهو الاجتناب عن الحرام ما لم يعلم الحلال بعينه أو بعلامة يستدل بها عليه، ومن العلّامة أن الميِّتة إذا ألقيت في الماء تطفوا لما بقى من الدِّم فيها، والذكية ترسب وقد يعرف النَّاس ذلك بكثرة النشيش وشرعة الفساد إليها، ولكن هذا كله ينعدم إذا كان الحرام ذبيحة المجوسي أو ذبيحة مسلم ترك التّسمية عمدًا.
ومن المختلط الّذي هو متصل الأجزاء: مسألة الدهن إذا اختلط به ودك الميِّتة أو شحم الخنزير، وهي تنقسم ثلاثة أقسام: فإن كان الغالب ودك الميِّتة لم يجز الانتفاع بشيء منه لا بكل ولا بغيره من وجوه الانتفاع لأنّ الحكم للغالب، وباعتبار الغالب هذا محرم العين غير منتفع به فكان الكل ودك الميِّتة، واستدل عليه بحديث جابر رضي الله عنه قال: جاء نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن لنا سفينة في البحر وقد احتاجت إلى الدهن فوجدنا ناقة كثيرة الشحم ميتة افندهنها بشحمها فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفعوا من الميِّتة بشيء". وكذلك إن كانا متساويين لأنّ عند المساواة يغلب الحرام فكان هذا كالأول، فأمَّا إذا كان الغالب هو الزيت فليس له أن يتناول شيئًا منه في حالة الاختيار لأنّ ودك الميِّتة وإن كان مغلوبّا مستهلكًا حكمًا فهو موجود في هذا المحل حقيقة، وقد تعذر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تمييز الحلال من الحرام ولا يمكنه أن يتناول جزءًا من الحلال إِلَّا بتناول جزء من الحرام، وهو ممنوع شرعًا من تناول الحرام ويجوز له أن يتتفع بها من حيث الاستصباح ودبغ الجلود بها.
فإن الغالب هو الحلال فالانتفاع إنّما يلاقي الحلال مقصودًا وقد روينا في كتاب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن علي رضي الله تعالى عنه: جواز الانتفاع بالدهن النجس لأنه قال: وإن كان مائعًا فانتفعوا به دون الأكل. وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا، ولا يجوز عند الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - لأنه نجس العين كالخمر ولكنا نقول النّجاسة للجار لا لعين الزيت فهو كالثوب النجس يجوز بيعه وإن كان لا تجوز الصّلاة فيه؛ وهذا لأنّ إلى العباد أحداث المجاورة بين الأشياء لا تقليب الأعيان، وإن كان التنجس يحصل بفعل العباد عرفنا أن عين الطّاهر لا يصير نجسًا، وقد قررنا هذا الفصل. في كتاب الصّلاة فإن باعه ولم يبين عيبه فالمشتري بالخيار إذا علم به لتمكن الخلل في مقصوده حين ظهر أنه محرم الأكل وإن دبغ به الجلد فعليه أن يغسله ليزول بالغسل ما على الجلد من أثر النّجاسة، وما يشرب فيه فهو عفو.
ومن المختلط الّذي هو منفصل الأجزاء مسألة الموتى إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وهي تنقسم ثلاثة أقسام أيضًا: فإن كانت الغلبة لموتى المسلمين فإنّه يصلّي عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين؛ لأنّ الحكم للغالب والغالب موتى المسلمين إِلَّا أنه ينبغي لمن يصلّي عليهم أن ينوي بصلاته المسلمين خاصّة؛ لأنه لو قدر على التمييز فعلًا كان عليه أن يخص المسلمين بالصلاة عليهم، فإذا عجز عن ذلك كان له أن يخص المسلمين بالنية؛ لأنّ ذلك في وسعه، والتكليف بحسب الوسع. ونظيره ما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم، وإن كان الغالب موتى الكفار لا يصلّي على أحد منهم إِلَّا من يعلم أنه مسلم بالعلّامة لأنّ الحكم للغالب والغلبة للكفار هنا، وإن كانا متساويين فكذلك الجواب لأنّ الصّلاة على الكافر لا تجوز بحال قال الله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]. ويجوز ترك الصّلاة على بعض المسلمين كأهل البغي وقطاع الطريق، فعند المساواة يغلب ما هو الأوجب وهو =
ولم يوجد (1).
= الامتناع عن الصّلاة على الكفار، ولا يجوز المصير إلى التّحرِّي هنا عندنا لما بيَّنَّا أن العمل بغالب الرأي في موضع الضّرورة ولا تتحقق الضّرورة هنا. وذكر في ظاهر الرِّواية أنهم يدفنون في مقابر المشركين؛ لأنّ في حكم ترك الصّلاة عليه جعل كأنّهم كفار كلهم فكذلك في حكم الدفن.
هذا قول محمّد - رحمه الله تعالى - فأمَّا على قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن يدفنوا في مقابر المسلمين مراعاة لحرمة المسلم منهم، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى، ودفن المسلم في مقابر المشركين لا يجوز بحال، وقيل: بل يتخذ لهم مقبرة على حدة لا من مقابر المسلمين ولا من مقابر المشركين فيدفنون فيها. وأصل هذا الخلاف بين الصّحابة رضي الله عنهم في نظير هذه المسألةُ وهو أن النصرانية إذا كانت تحت مسلم فماتت وهي حبلى فإنه لا يصلّي عليها لكفرها. ثمّ تدفن في مقابر المشركين عند علي وابن مسعود رضي الله عنهما. ومنهم من يقول تدفن في مقابر المسلمين لأنّ الولد الّذي في بطنها مسلم، ومنهم من يقول يتخذ لها مقبرة على حدة فهذا مثله، وهذا كله إذا تعذر تمييز المسلم بالعلّامة فإن أمكن ذلك وجب التمييز، ومن العلّامة للمسلمين الختان والخضاب ولبس السواد، فأمَّا الختان فلأنه من الفطرة كما قال صلى الله عليه وسلم:"عشر من الفطرة وذكر من جملتها الختان". إِلَّا أن من أهل الكتاب من يختتن فإنّما يمكن التمييز بهذه العلّامة إذا اختلط المسلمون بقوم من المشركين يعلم أنهم لا يختتنون، وأما الخضاب فهو من علامات المسلمين قال صلى الله عليه وسلم:"غيرو الشيب ولا تتشبهوا باليهود". وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يختضب بالحناء والكتم حتّى قال الراوي: رأيت ابن أبي قحافة رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته كأنّها ضرام عرفج. واختلفت الرِّواية في أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم هل فعل ذلك في عمره والأصح أنه لم يفعل، ولا خلاف أنه لا بأس للغازي أن يختضب في دار الحرب ليكون أهيب في عين قرنه، وأما من اختضب لأجل التزين للنساء والجواري فقد منع من ذلك بعض العلماء - رحمهم الله تعالى -.
(1)
قال محمّد بْن فرامرز بْن عليّ في درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 272 - 274): (ومنها)؛ أي: من الشّروط (استقبال عين الكعبة للمكّيّ) إجماعًا حتّى لو صلّى في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بيته يجب أن يصلّي بحيث لو أزيل الجدران وقع الاستقبال على عين الكعبة. (و) استقبال (جهتها لغيره) وهو الآفاقيّ فإنّ الموانع لو أزيلت لم يجب أن يقع الاستقبال على عينها بل على جهتها في الصّحيح إذ ليس التكليف إِلَّا بحسب الوسع، وقيل: يجب على الآفاقيّ أيضًا استقبال عينها. قالوا: فائدة الخلاف تظهر في اشتراط نيّة عين الكعبة، فعنده يشترط، وعند غيره لا، وجهتها أن يصل الخطّ الخارج من جبين المصلّي إلى الخطّ المارّ بالكعبة على استقامةٍ بحيث يحصل قائمتان، أو نقول: هو أن تقع الكعبة فيما بين خطّين يلتقيان في الدّماغ فيخرجان إلى العينين كساقي مثلّثٍ. كذا قال النِّحرير التَّفتازانيّ في شرح الكشاف، فيعلم منه أنّه لو انحرف عن العين انحرافًا لا يزول به المقابلة بالكفية جاز، يؤيده ما قال في الظّهيريّة: إذا تيامن أو تياسر يجوز؛ لأنّ وجه الإنسان مقوّسٌ فعند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانبه إلى القبلة. وعن بعض العارفين أنّه قال: قبلة البشر الكعبة، وقبلة أهل السّماء البيت المعمور، وقبلة الكروبيّين الكرسيّ، وقبلة حملة العرش العرش، ومطلوب الكل وجه الله تعالى. كذا في الظّهيريّة (وقبلة العاجز) عن التّوجيه إلى القبلة مع علمه بجهتها بأن خاف من عدوٍّ أو سبعٍ أو مرضٍ ولا يجد من يحوّله إليها أو كان على خشب في البحر (جهة قدرته)؛ أي: يصلّي إلى أيّ جهةٍ قدر عليها (ويتحرّى المصلّي) التّحرّي: بذل المجهود لنيل المقصود (للاشتباه)؛ أي: اشتباه القبلة عليه بانطماس الأعلام أو تراكم الظّلام أو تطامّ الغمام (وعدم المخبر بها) فإنّ الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين تحرّوا وصلّوا، ولم ينكر عليهم الرّسول صلى الله عليه وسلم، والتقرير دليل الجواز (ولم يعد) الصّلاة (إن أخطأ)؛ لأنّ التكليف بحسب الوسع ولا وسع في إصابة الجهة حقيقةً فصارت جهة التّحرِّي هنا كجهة الكعبة للغائب عنها، وقد قيل قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}؛ أي: قبلة اللُّه، نزلت في الصّلاة حال الاشتباه (وفسدت إن شرع) فيها (بلا تحرٍّ)؛ لأنّ قبلته جهة تحرّيه ولم يوجد (وإن علم فيها)؛ أي: في الصّلاة (إصابته)؛ لأنّ بناء القويّ على الضّعيف فاسدٌ، وحاله بعد العلم أقوى من حاله قبله (ولو علم) إصابته (بعدها)؛ أي: بعد الصّلاة (صحّت) صلاته لحصول المقصود؛ لأنّ ما وجب لغيره لا يعتبر حصوله بل حصول الغير كالسّعي إلى الجمعة (ولو علم =
وقال في البداية مختصر الوقاية: ولم يعد مخطئ النوازل لو صلّى بلا تحري، لا يجوز لتركه الواجب عليه. وهو التّحرِّي وإن أصاب. وفيه خلافُ أبي يوسف. انتهى بالحروف من كلٍّ منهما.
قلتُ: المفهوم من هذه العبارات: ما هو الظّاهر منها. وهو: أنّ من اشتبهت عليه القبلة فصلّى بغير تحرّي، ثمّ علمَ بعد الفراغ أنّه أصاب القبلة، لم تجز صلاته، وعليه الإعادة.
قيل: هذه العبارات إنّما هي فيما إذا شرع بلا تحرٍّ علم في أثناء صلاته: أنّه أصابَ؛ لأنّ صاحب الوقاية قال: قيلَ ذلكَ، فإنّه جهلها وعدم من يساله تحرّ، ولم يعد أن أخطأ وإن علم به مصليًّا أو تحول رأيه إلى أخرى استدار.
= خطأه فيها)؛ أي: في الصّلاة (أو تحوّل رأيه) بعد الشّروع بالتّحرِّي (استدار) في الأوّل إلى جهة الصّواب وفي الثّاني إلى جهة تحوّل رأيه إليها (تحرّى كلٌّ) من المصلّين (جهةً)؛ يعني: أن رجلًا أمّ قومًا في ليلةٍ مظلمةٍ فتحرّى وصلّى إلى جهةٍ، وتحرى القوم وصلّى كلّ واحدٍ منهم إلى جهةٍ (إن لم يعلم) المقتدي (مخالفة إمامه ولم يتقدّمه)؛ أي: المقتدي الإمام في الواقع (جاز) فعل كلّ واحدٍ؛ لأنّ قبلتهم جهات تحرّيهم ولم تضرّه المخالفة كجوف الكعبة (وإلَّا)؛ أي: وإن علم أنّه مخالفٌ لإمامه أو تقدّم عليه في الواقع (فلا) يجوز فعله أمّا الأوّل فلأنّه اعتقد إمامه على الخطأ بخلاف جوف الكعبة؛ لأنّ الكلّ قبلةٌ.
وأما الثّاني: فلتركه فرض المقام كما إذا وقع في جوف الكعبة، والظّاهر: أنّ مراد صاحب الوقاية بقوله: وهم خلفه، بيان كونهم خلفه في الواقع لا أنّهم يعلمون أنّهم خلفه فيحمل قوله على التّساهل كما حمله صدر الشّريعة عليه، نعم في قوله: لا لمن علم تساهلٌ؛ لأنّ علمه بحاله لا يفيد عدم الجواز بل لا بدّ أن يعلم مخالفته للإمام ولهذا غيّرت العبارة إلى ما ترى.
وإن شرعَ بلا تحرٍّ إلخ؛ لأنه قال في الكافي: وإن شرع بلا تحرٍّ، علم أنّه أصاب.
قال أبو يوسف: يمضي فيها. وقالا؛ يستأنف.
وقال في الاختيار (1) وكثيرٌ من المصنّفات: من صلّى بغير اجتهادٍ، ثمّ علمَ (2) بعد الفراغ: أنّه أصاب، فلا إعادةَ لوجود التوجه إلى القبلة، إذ التّحرِّي فرضٌ. هو وسيلة. فإذا حصل المقصود به، فلا يضر عدمه كالسعي إلى الجمعةٍ.
قلتُ: ليس في عبارة الوقاية دلالةٌ على هذا المراد بوجهٍ من وجوهِ الدلالات.
ولو كان فرض هذه المسألةُ فيما علم بالإصابة والخطأ في أثناء الصّلاة، للزم التكرار في بعض نظر، حيث قال:
وإن علم به مصلّيًّا أو تحوّل رأيه إلى أخرى استدار وهو بعيدٌ من مثل برهان الشّريعة.
وإن قيل: إنّ قوله يصيب، لم يتحرّ مسألة برأسها. فليكن قوله: وإن شرع بلا تحرٍّ مسألة برأسها أيضًا. وإن كان تقدّم قوله:
وإن تحوّل رأيه استدار، دليلٌ على أنّه فيمن علمَ بحاله في أثناء صلاته، فليكن بآخره في عبارات النقاية دليلًا على خلافه.
وبالجملة: فليس هذا الاستدلال بظاهرٍ.
(1) انظر العناية شرح الهداية (3/ 213).
(2)
جاء في هامش المخطوط: (الّذي هو علمه. مجاله في أثناء الصّلاة).
وأمّا ما كان في الكافي فهي مسألةٌ أخرى لا دلالة على أن لا خلاف فيه عندنا، إِلاّ هي. وهي نفسها قد اختلف الوضع فيها فذكرها في المختصر كما في الكافي. وذكرها في الإيضاح كما في المجمع، وهي: أنّه لو تحرى وعدل عن جهة تحرّيه.
وقال صاحب المجمع: وما في الحصرِ فرعٌ على ما في الإيضاح؛ لأنّ هذه تستلزم تلك. وتلك لا تستلزم هذه. فلا بدّ أنّه ليس في المذهب غيرها.
وأما ما في الاختيار من التصريح بخلاف ما في الوقاية، وإن ذكر في كتب ظاهر الرِّواية، لكن دليله المذكور مشكلٌ بالنّظر إلى دليل قولهما.
وصورة الخلافية: ما إذا تحرّى وعدلَ عن جهة تحريه أو شرع بلا تحرٍّ وعَلِمَ في أثناء صلاته أنه أصاب.
قال أبو يوسف: يمضي. وقالا: يستأنف.
قال شارح المجمع: في هذه الصورة لأبي يوسف: أنه أتى بما وجب عليه وهو: استقبال القبلة. فأفاد هذا: أنّ المقصود هو الاستقبال، وقد وجد، وإذا حصل المقصود فلا يضر عدم ما هو وسيلة إليه.
واستدل لهما: أنّه مأمورٌ بالتحري لا بالإصابة؛ لأنها ليست في وسعه، فلم يأتِ بما أمر به، فلم يخرج عن العهدة.
ففي قوله: إنّه مأمورٌ بالتحري إلى آخره.
أفاده: أن المفروض في حالة الاشتباه: التّحرِّي ولم يأت به. ومن كان كذلك، لم يخرج عن العهدة، ومن لم يخرج عن العهدة تلزمه الإعادة للخروج عن العهدة.
وفي قوله: لا بالإصابة. أفاده: أنّه ما أتى به في هذه الحالة ليس هو المفروض عليه، فلا يكفيه في الخروج عن العهدة. وفيه: نفيٌ لقول أبي يوسف: أنّه أتى بما وجب عليه.
وهذا إطنابٌ مني في هذا المقام، وإلّا فلا يخفى هذا على مُحصّلٍ.
ونحو هذا: ما ذكره الزّوزني (1) في شرح بيت المنظومة حيث قال: ولهما أن شرط انعقاد ما أتى به جزءٌ لفرض الوقت قد فات فلا ينعقد جزاءً له، لاستحالة وجود المشروط بدون شرطه، فكيف يبني عليه ويتمه فرضًا. وهذا لأنّ التوجه إلى جهةٍ يقع إليها تحريه شرط وقوع ما أتى به جزء الفرض الوقت. لانعقاد الإجماع على وجوب التوجه إلى ما يقع تحريه إليه. انتهى.
فنقول في مسألتنا: شرط انعقاد ما أتى به فرض الوقت قد فات، فلا ينعقد ما أتى به فرضًا. إلخ. إن شرط جزء الصّلاة شرطُ كلّها، إِلَّا أنه إنّما ذكره في صورة ما إذا علمها لإصابةٍ في أثناء صلاته.
وقال شيخنا العلّامة كمال الدين في شرح الهداية فيما ذكر في الاختيار وغيره (2): إِنّهُ مشكلٌ على قولهما فيما إذا عَلِمَ بالإصابة في أثناءِ
(1) تحرف في المخطوط إلى: (الزوزلي). قال المصنِّف في تاج التراجم (ص 22): محمّد بْن محمود بْن محمّد تاج الدين أبو المفاخر بْن أبي القاسم السديدي الزوزني، شرح المنظومة وزاد عليها، وشرح الريادات وسماه: ملتقى البحار من منتقى الأخبار، تفقه على الإمام محمود المروزي، وتفقه عليه: ابن عبد العزيز. والله أعلم.
(2)
قال في فتح القدير (2/ 19 - 20): حكم المسألةُ: فلو صلّى من اشتبهت عليه القبلة بلا تحرٍّ، فعليه الإعادة إِلَّا إن علم بعد الفراغ أنّه أصاب، لأنّ ما افترض لغيره يشترط حصوله لا غير كالسّعي، وإن علم في الصّلاة أنّه أصاب يستقبل، وعند أبي يوسف يبني لما ذكرنا، ولأنَّه لو استقبل استقبل بهذه الجهة فلا فائدة. =
الصّلاة، حيث قالا: يستأنف؛ لأنّ تعليلهما في هذه الخلافية هو: أنّ القبلة في حقّه جهة التّحرِّي، وقد تركها. يقتضي الفساد مطلقًا في صورة ترك التّحرِّي؛ لأنّ ترك جهة التّحرِّي يصدق مع ترك التّحرِّي وتعليلهم في تلك، بأنّ ما فرض لغيره يشترط مجرّد حصوله كالسعي يقتضي الصحّة في هذه. انتهى.
=قلنا: حالته قوّيت بالعلّم، وبناء القويّ على الضّعيف لا يجوز فصار كالأميّ إذا تعلّم سورةً، والمومئ إذا قدر على الأركان فيها تفسد وبعدها تصحّ، أما لو تحرى وصلّى إلى غير جهة التّحري لا يجزئه وإن أصاب مطلقًا، خلافًا لأبي يوسف رحمه الله وهي مشكلةٌ على قولهما لأنّ تعليلهما في هذه، وهو أنّ القبلة في حقّه جهة التّحرِّي، وقد تركها يقتضي الفساد مطلقًا في صورة ترك التّحرِّي، لأنّ ترك جهة التّحري يصدق مع ترك التّحري، وتعليلهما في تلك بأن ما فرض لغيره يشترط مجرَّد حصوله كالسّعي يقتضي الصّحّة في هذه، وعلى هذا لو صلّى في ثوبٍ وعنده أنّه نجسٌ ثمّ ظهر أنّه طاهرٌ، أو صلّى وعنده أنّه محدثٌ فظهر أنّه متوضّئٌ، أو صلّى الفرض وعنده أنّ الوقت لم يدخل فظهر أنّه كان قد دخل لا يجزئه لأنّه لمّا حكم بفساد صلاته بناءً على دليلٍ شرعيٍّ وهو تحرّيه فلا ينقلب جائزًا إذا ظهر خلافه، وهذا التّعليل يجري في مسألة العدول عن جهة التّحرّي إذا ظهر صوابه.
وبه يندفع الإشكال الّذي أورده لأنّ الدّليل الشّرعيّ على الفساد هو التّحرّي أو اعتقاد الفساد عن التّحرِّي، فإذا حكم بالفساد دليلٌ شرعيٌّ لزم، وذلك منتفٍ في صورة ترك التّحرّي فكان ثبوت الفساد فيها قبل ظهور الصّواب إنّما هو لمجرّد اعتقاده الفساد مؤاخذةً باعتقاده الّذي هو ليس بدليلٍ إذ لم يكن عن تحرٍّ، والله أعلم.
وفي فتاوى العتّابيّ: تحرّى فلم يقع تحرِّيه على شيءٍ قيل يؤخّر، وقيل يصلّي إلى أربع جهاتٍ، وقيل يخيّر، هذا كلّه إذا اشتبه، فإن صلّى في الصّحراء إلى جهةٍ من غير شكٍّ ولا تحرٍّ، إن تبيّن أنه أصاب أو كان كبر رأيه أو لم يظهر من حاله شيءٌ حتّى ذهب عن الموضع فصلاته جائزةٌ، وإن تبيّن أنّه أخطأ أو كان أكبر رأيه فعليه الإعادة. وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق (3/ 137).
قلتُ: لكن الأقوى: دليل الخلافية للتصريح فيه، بأنّ الإصابة ليست بفرض حالة الاشتباه. . . إلخ.
وما يقالُ مِنْ أنّ [مَنْ](1) تحرّى وعَدَلَ عن جِهَةِ تحرّيه، ففي اعتقاده: أنَّهُ صلّى إلى غير القبلة. ومن كان كذلك لم تجز صلاته بخلاف من شك، ولم يتحرَّ وصلّى، فإنّه لم يجزم بأنه إلى غير القبلة، لكن لا يحكم بالجواز ابتداءً لاشتباه أمره على الشك، وإذا ظهر الخطأ أو الصّواب تيقّن ثبت حكمه، ويبطل حكم الشّك.
يقالُ عليه: إن الحكم إن كان تابعًا لما عنده فقط من غير أن يكون لظهور صوابه أثرٌ فيلزم: أن ما أدّاه بالشك لا يصحّ؛ لأنّ الفرض ثابتٌ في ذمّته بيقينٍ، فلا يسقط بالشّكّ على أن عبارتهم تقتضي تأثير ظهور صوابه وخطأه فيما إذا شرع بالشّك، وأتمّ، ثمّ ظهرَ صوابه حيث صرّح في الاختيار بأنّه لا إعادةً عليه لوجود التوجه ونحو ذلك.
وشرح في البدائع (2) أيضًا: أنّه لو ظهر خطؤهُ بعد الفراغ أعاد، وصرّحوا
(1) ما بين معكوفتين زيادة ليست في الأصل.
(2)
قال في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 479 - 487): (ومنها) استقبال القبلة لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يقبل الله صلاة امرئٍ حتّى يضع الطّهور مواضعه، وششقبل القبلة، ويقول: الله أكبر"، وعليه إجماع الأمّة، والأصل: أنّ استقبال القبلة للصّلاة شرطٌ زائدٌ لا يعقل معناه، بدليل أنّه لا يجب الاستقبال فيما هو رأس العبادات وهو الإيمان، وكذا في عامّة العبادات من الزّكاة والصّوم والحجّ، وإنمّا عرف شرطًا في باب الصّلاة شرعًا فيجب اعتباره بقدر ما ورد الشّرع به، وفيما وراءه يردّ إلى أصل القياس، ثمّ جملة الكلام في هذا الشرط أن المصلّي لا يخلو إمّا إن كان قادرًا على =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الاستقبال أو كان عاجزًا عنه فإن كان قادرًا يجب عليه التوجّه إلى القبلة إن كان في حال مشاهدة الكعبة فعلى عينها، أي: أن جهةٍ كانت من جهات الكعبة، حتّى لو كان منحرفًا عنها غير متوجّهٍ إلى شيءٍ منها لم يجز، لقوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وفي وسعه تولية الوجه إلى عينها فيجب ذلك، وإن كان نائيًا عن الكعبة غائبًا عنها يجب عليه التوجّه إلى جهتها، وهي المحاريب المنصوبة بالأمارات الدّالّة عليها لا إلى عينها، وتعتبر الجهة دون العين.
كذا ذكر الكرخيّ والرّازي، وهو قول عامّة مشايخنا بما وراء النّهر، وقال بعضهم: المفروض إصابة عين الكعبة بالاجتهاد والتّحرّي، وهو قول أبي عبد الله البَصْريُّ حتّى قالوا:(إنّ نيةّ الكعبة شرطٌ) وجه قول هؤلاء قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، من غير فصلٍ بين حال المشاهدة والغيبة؛ ولأنّ لزوم الاستقبال لحرمة البقعة، وهذا المعنى في العين لا في الجهة؛ ولأنّ قبلته لو كانت الجهة لكان ينبغي له إذا اجتهد فأخطأ الجهة يلزمه الإعادة لظهور خطئه في اجتهاده بيقينٍ، ومع ذلك لا تلزمه الإعادة بلا خلافٍ بين أصحابنا، فدلّ أنّ قبلته في هذه الحالة عين الكعبة بالاجتهاد والتّحرّي.
(وجه) قول الأوّلين أن المفروض هو المقدور عليه، وإصابة العين غير مقدورٍ عليها فلا تكون مفروضةً، ولأنّ قبلته لو كانت عين الكعبة في هنه الحالة بالتّحرّي والاجتهاد لتردّدت صلاته بين الجواز والفساد؛ لأنّه إن أصاب عين الكعبة بتحرّيه جازت صلاته، وإن لم يصب عين الكعبة لا تجوز صلاته؛ لأنة ظهر خطؤه بيقينٍ، إِلَّا أن يجعل كلّ مجتهدٍ مصيبًا وإنّه خلاف المذهب الحقّ.
وقد عرف بطلانه في أصول الفقه، أمّا إذا جعلت قبلته الجهة وهي المحاريب المنصوبة لا يتصوّر ظهور الخطأ، فنزلت الجهة في هذه الحالة منزلة عين الكعبة في حال المشاهدة، ولله تعالى أن يجعل أيّ جهةٍ شاء قبلةً لعباده على اختلاف الأحوال، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ؛ ولأنّهم جعلوا عين الكعبة قبلةً في هذه الحالة بالتّحرّي، وأنّه مبنيٌّ على تجرّد شهادة القلب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= من غير أمارةٍ، والجهة صارت قبلةً باجتهادهم المبنيّ على الأمارات الدّالّة عليها من النّجوم والشّمس والقمر وغير ذلك، فكان فوق الاجتهاد بالتّحرّي، ولهذا إنّ من دخل بلدةً وعاين المحاريب المنصوبة فيها يجب عليه التّوجّه إليها، ولا يجوز له التّحري، وكذا إذا دخل مسجدًا لا محراب له وبعضرته أهل المسجد - لا يجوز له التّحرِّي، بل يجب عليه السّؤال من أهل المسجد؛ لأنّ لهم علمًا بالجهة المبنيّة على الأمارات فكان فوق الثّابت بالتَّحرِّي، وكذا لو كان في المفازة، والسّماء مصحيةٌ، وله علمٌ بالاستدلال بالنّجوم على القبلة - لا يجوز له التّحرِّي؛ لأنّ ذلك فوق التّحرِّي.
وبه تبيّن أنّ نيّة الكعبة ليست بشرطٍ، بل الأفضل أن لا ينوي الكعبة لاحتمال أن لا تحاذي هذه الجهة الكعبة فلا تجوز صلاته ولا حجّة لهم في الآية لأنّها تناولت حالة القدرة، والقدرة حال مشاهدة الكعبة لا حال البعد عنها، وهو الجواب عن قولهم: إنّ الاستقبال لحرمة البقعة، أنّ ذلك حال القدرة على الاستقبال إليها دون حال العجز عنه. وأمّا إذا كان عاجزًا فلا يخلو إمّا أَنْ كان عاجزًا بسبب عذرٍ من الأعذار مع العلم بالقبلة.
وأمّا أن كان عجزه بسبب الاشتباه، فإن كان عاجزًا لعذرٍ مع العلم بالقبلة فله أن يصلّي إلى أن جهةٍ كانت ويسقط عنه الاستقبال، نحو أن يخاف على نفسه من العدوّ في صلاة الخوف، أو كان بحالٍ لو استقبل القبلة يثب عليه العدوِّ، أو قطّاع الطّريق، أو السّبع، أو كان على لوحٍ من السّفينة في البحر لو وجّهه إلى القبلة يغرق غالبًا، أو كان مريضًا لا يمكنه أن يتحوّل بنفسه إلى القبلة وليس بحضرته من يحوِّله إليها، ونحو ذلك؛ لأنّ هذا شرط زائدٌ فيسقط عند العجز وإن كان عاجزًا بسبب الاشتباه، وهو أن يكون في المفازة في ليلةٍ مظلمةٍ، أو لا علم له بالأمارات الدّالّة على القبلة، فإن كان بحضرته من يسأله عنها لا يجوز له التّحرّي لما قلنا، بل يجب عليه السُّؤال، فإن لم يسأل وتحرّى وصلّى فإن أصاب جاز، وإلَّا فلا.
فإن لم يكن بحضرته أحدٌ جاز له التّحرّي؛ لأنّ التلكليف بحسب الوسع والإمكان، وليس في وسعه إِلَّا التّحرِّي فتجوز له الصّلاة بالتّحري لقوله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروي أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرُّوا عند الاشتباه وصلّوا ولم ينكر عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدل على الجواز فإذا صلّى إلى جهةٍ من الجهات فلا يخلو إمّا أَنْ صلّى إلى الجهة بالتَّحرِّي أو بدون التّحري فإن صلّى بدون التَّحرِّي، فلا يخلو من أوجهٍ: أما إن كان لم يخطر بباله شيءٌ ولم يشكّ في جهة القبلة، أو خطر بباله وشكّ في جهة القبلة وصلّى من غير تحرٍّ، أو تحرّى ووقع تحرِّيه على جهةٍ فصلَّى إلى جهةٍ أخرى لم يقع عليها التحرِّي.
أما إذا لم يخطر بباله شيءٌ ولم يشكّ وصلَّى إلى جهةٍ من الجهات فالأصل هو الجواز؛ لأنّ مطلق الجهة قبلةٌ بشرط عدم دليلٍ يوضله إلى جهة الكعبة من السُّؤال أو التّحرِّي، ولم يوجد؛ لأنّ التّحرِّي لا يجب عليه إذا لم يكن شاكًّا، فإذا مضى على هذه الحالة ولم يخطر بباله شيءٌ صارت الجهة الّتي صلّى إليها قبلةً له ظاهرًا، فإن ظهر أنّها جهة الكعبة تقرّر الجواز، فأمّا إذا ظهر خطؤه بيقينٍ بأن انجلى الظّلام وتبين أنّه صلّى إلى غير جهة الكعبة، أو تحرّى ووقع تحرِّيه على غير الجهة الّتي صلّى إليها إن كان بعد الفراغ من الصّلاة يعيد، وإن كان في الصّلاة يستقبل؛ لأنّ ما جعل حجّةً بشرط عدم الأقوى يبطل عند وجوده، كالاجتهاد إذا ظهر نصٌّ بخلافه.
وأمّا إذا شكّ ولم يتحرَّ وصلّى إلى جهةٍ من الجهات فالأصل هو الفساد، فإذا ظهر أن الصّواب في غير الجهة الّتي صلّى إليها إمّا بيقينٍ أو بالتّحرِّي تقرّر الفساد، وإن ظهر أن الجهة الّتي صلّى إليها قبلةٌ إن كان بعد الفراغ من الصّلاة أجزأه ولا يعيد؛ لأنَّه إذا شكّ في جهة الكعبة وبنى صلاته على الشكّ احتمل أن تكون الجهة الّتي صلّى إليها قبلةً واحتمل أن لا تكون، فإن ظهر أنّها لم تكن قبلةً يظهر أنّه صلّى إلى غير القبلة، وإن ظهر أنّها كانت قبلةً يظهر أنّه صلّى إلى القبلة فلا يحكم بالجواز في الابتداء بالشكّ والاحتمال، بل يحكم بالفساد بناءً على الأصل وهو العدم بحكم استصحاب الحال، فإذا تبيّن أنّه صلّى إلى القبلة بطل الحكم باستصحاب الحال وثبت الجواز من الأصل.
وأما إذا ظهر في وسط الصّلاة روي عن أبي يوسف أنّه يبني على صلاته لما قلنا، وفي ظاهر الرّواية يستقبل؛ لأنّ شروعه في الصّلاة بناءً على الشّك، ومتى ظهرت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= القبلة إمّا بالتّحرِّي أو بالسّؤال من غيره صارت حالته هذه أقوى من الحالة الأولى، ولو ظهرت في الابتداء لا تجوز صلاته إِلَّا إلى هذه الجهة، فكذا إذا ظهرت في وسط الصّلاة وصار كالمومئ إذا قدر على القيام في وسط الصّلاة أنه يستقبل لما ذكرنا، كذا هذا.
وأما إذا تحرّى ووقع تحرّيه إلى جهةٍ فصلّى إلى جهةٍ أخرى من غير تحرِّ فإن أخطأ لا تجزيه بالإجماع، وإن أصاب فكذلك في ظاهر الرّواية.
وروي عن أبي يوسف: أنه يجوز. ووجهه: أن المقصود من التّحرِّي هو الإصابة وقد حصل هذا المقصود فيحكم بالجواز، كما إذا تحرّى في الأواني فتوضّأ بغير ما وقع عليه التَّحرِّي ثمَّ تبيّن أنه أصاب يجزيه، كذا هذا.
(وجه): ظاهر الرّواية أن القبلة حالة الاشتباه هي الجهة الّتي مال إليها المتحرّي، فإذا ترك الإقبال إليها فقد أعرض عمّا هو قبلته مع القدرة عليه فلا يجوز، كمن ترك التّوجّه إلى المحاريب المنصوبة مع القدرة عليه، بخلاف الأواني؛ لأنّ الشّرط هو التّوضّؤ بالماء الطّاهر حقيقةً وقد وجد. فأمّا إذا صلّى إلى جهةٍ من الجهات بالتحرّي ثمَّ ظهر خطؤه فإن كان قبل الفراغ من الصّلاة استدار إلى القبلة، وأتمّ الصّلاة، لما روي أن أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة إلى بيت المقدس استداروا كهيئتهم وأتمّوا صلاتهم، ولم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة؛ ولأنّ الصّلاة المؤدّاة إلى جهة التّحرِّي مؤدّاةٌ إلى القبلة؛ لأنها هي القبلة حال الاشتباه، فلا معنى لوجوب الاستقبال؛ ولأنّ تبدّل الرّأي في معنى انتساخ النّصّ، وذا لا يوجب بطلان العمل بالمنسوخ في زمان ما قبل النّسخ، كذا هذا. وإن كان بعد الفراغ من الصّلاة فإن ظهر أنه صلّى يمنةً أو يسرةً يجزيه ولا يلزمه الإعادة بلا خلافٍ، وإن ظهر أنه صلّى مستدبر الكعبة يجزيه عندنا، وعند الشّافعيّ لا يجزيه، وعلى هذا إذا اشتبهت القبلة على قومٍ فتحرّوا وصلّوا بجماعةٍ جازت صلاة الكل عندنا إِلَّا صلاة من تقدّم على إمامه أو علم بمخالفته إيّاه.
(وجه): قول الشّافعيّ أنه صلّى إلى القبلة بالاجتهاد. وقد ظهر خطؤه بيقينٍ فيبطل، كما إذا تحرّى وصلّى في ثوبٍ على ظنِّ أنه طاهرٌ ثمّ تبيّن أنه نجسٌ أنه لا يجزيه وتلزمه الإعادة، كذا هاهنا.
(ولنا): أن قبلته حال الاشتباه هي الجهة الّتي تحرّى إليها. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقد صلّى إليها فتجزيه كما إذا صلّى إلى المحاريب المنصوبة، والدّليل على أن قبلته هي جهة التّحرّي النّصّ والمعقول. أما النّصّ فقوله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، قيل في بعض وجوه التّأويل: ثمّة قبلة الله، وقيل: ثمّة رضاء الله، وقيل: ثمّة وجه الله الّذي وجّهكم إليه إذ لم يجيء منكم التّقصير في طلب القبلة، وأضاف التوجّه إلى نفسه؛ لأنّهم وقعوا في ذلك بفعل الله تعالى بغير تقصيرٍ كان منهم في الطّلب ونظيره قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن أكل ناسيًا لصومه تمّ على صومك:"فإنّما أطعمك الله وسقاك". وإن وجد الأكل من الصّائم حقيقةً لكن لمّا لم يكن قاصدًا فيه أضاف فعله إلى الله تعالى وصيّره معذورًا كأنّه لم يأكل، كذلك هاهنا إذا كان توجّهه إلى هذه الجهة من غير قصدٍ منه حيث أتى بجميع ما في وسعه وإمكانه، أضاف الرّبّ صلى الله عليه وسلم ذلك إلى ذاته وجعله معذورًا كأنّه توجّه إلى القبلة.
وأمّا المعقول: فما ذكرنا أنّه لا سبيل له إلى إصابة عين الكعبة ولا إلى إصابة جهتها في هذه الحالة لعدم الدّلائل الموصّلة إليها، والكلام فيه، والتكليف بالصّلاة متوجّهٌ، وتكليف ما لا يحتمله الوسع ممتنعٌ، وليس في وسعه إلا الصّلاة إلى جهة التّحري فتعيّنت هذه قبلةً له شرعًا في هذه الحالة، فنزلت هذه الجهة حالة العجز منزلة عين الكعبة، والمحراب حالة القدرة، وإنّما عرف التّحرّي شرطًا نصًّا بخلاف القياس لا لإصابة القبلة، وبه تبيّن أنّه ما أخطأ قبلته؛ لأن قبلته جهة التّحرّي وقد صلّى إليها، بخلاف مسألة الثّوب؛ لأنّ الشّرط هناك هو الصّلاة بالثّوب الطاهر حقيقةً لكنّه أمر بإصابته بالتّحرّي، فإذا لم يصب انعدم الشّرط فلم يجز، أنها هاهنا فالشّرط استقبال القبلة، وقبلته هذه في هذه الحالة.
وقد استقبلها، فهو الفرق والله أعلم ويخرج على ما ذكرنا الصّلاة بمكّة خارج الكعبة: أنّه إن كان في حال مشاهدة الكعبة لا تجوز صلاته إلا إلى عين الكعبة؛ لأن قبلته حالة المشاهدة عين الكعبة بالنّصّ، ويجوز إلى أيِّ الجهات من الكعبة شاء بعد أن كان مستقبلًا لجزءٍ منها لوجود تولية الوجه شطر الكعبة، فإن صلّى منحرفًا عن الكعبة غير مواجهِ لشيءٍ منها لم يجز؛ لأنهّ ترك التّوجّه إلى قبلته مع القدرة عليه، وشرائط الصّلاة لا تسقط من غير عذرٍ.
فيما إذا شرع بلا تحرٍّ، ثم ظهر في أثناء الصلاة: أنّه أصاب بلزوم الإعادة؛ لأنه قوّى حاله. ونبأ القوي على الضعيف لا يجوزُ، ولم يقتصروا في هذه المسائل على ما في خاطر المصلّي مع النّظرِ في عدم كونه مستقبلًا القبلة موجودةً في صورة الشّك، ولا يخلص إلاّ بادّعاءٍ: أنّ الحكم ما يتبع ما عنده، غير أنّه إن كان عن دليلٍ شرعي، فلا تأثير لظهور صوابه وخطئهِ فيما مضى مبنيًّا على ذلك، وإن لم يكن عن دليلٍ أثر. وها أنَا بأساطير الضَّراعةِ والمسكنةِ إلى أستاذي وإخواني الفضلاء في الوقوف على هذه الرُّقومِ، وتحريرها إسعافاَ إِلَيَّ، واغتنامَ أجرِ ودعاءٍ، وهو سبحانهُ حسبي ونعم الوكيل.
وهذه صورة ما كتبه الشيخ الإمام العالم العلامة كمال الدين ابن الهمام - تغمده الله برحمته -:
الحمدُ لله الفتاح العليم، وصلَّى الله على سيدنا محمَّدِ عبدهُ ورسولهُ، النَّبيّ الأمّيّ، وعلى آله وصحبه وسلم.
لا ريبَ في أن مؤدّى اللّفظ المنقول، من المواضع الثلاثة: لزوم الإعادة عند عدم التحري في الاشتباه بعد تبين الآية، أعمّ من كون ذلك في الصلاة أو بعدها. وفهم ذلك فهم مدلولِ اللفظ قطعًا، لا ينسبُ لفاهمه تقصيرٌ فلا يخطئه. وإنّما الذي ينسب إليهم التقصير إن لم يعن بهم المسطرون لهذا الحكم في الكتب، على أنّه المذهبُ، فإنّهم بصدد التضعيف في مذهب أبي حنيفة. فكلُّ ما أطلقوه من الأحكام ساكتين عن إفادة أنّها اختيار المشايخ على خلاف قول أهل المذهب - أعني: الثلاثة -، لم يفهم منه إلا أنّه بيانٌ لمذهبهم، ولا شكّ أنّ كلام أهل المذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد المنقول من لفظ محمّدٍ في هذه المسألة عدم الإعادة عند ظهور الإصابة بعد الفراغ، كما
هو المذكور في الأصل وغيره من غير حكاية الخلاف.
وقد عرف قول محمد لهم: إنّه ما لم يجد فيه خلافًا، فهو قولهم جميعًا.
قال الحاكم أَبو الفضل في الكافي الذي هو مجموع كلام محمد في جميع كتبه، على ما ذكره في أوّله، ولو كان حين انتهى إلى موضع الصلاة. شكَّ. فلم يدرِ أينَ القبلة، فلم يتحرّ حتّى صلّى إلى بعض تلك الوجوه بغير تحرٍّ ولا أكبرَ رأي. فعليه: أن يعيد صلاته إلاّ أن يعلم أنّه صلّى للقبلة، إلاّ أنّ ذلك إنّما كان بعد دخوله في صلاته، لم تجز تلك الصلاة حتى يستقبلها بتكبير مستقبلٍ؛ لأن الواجب كان عليه أن يتحرّى، ثم يفتتح. فهذا نصُّ محمّدٍ في الأصل الذي هو شرح المبسوط، عدم الإعادة من غير خلافٍ. فإطلاقُ بعض المصنفين: لزوم الإعادة، إفادة بغير ما يتم بصدده من إفادة مذهب أبي حنيفة وأصحابه، فأمرٌ دائرٌ بين أمورٍ، إمّا قصدهم يؤدي ظاهر عبارتهم، فيحكم عليهم بالخطأ، إذ ليس ذلك قول أهل المذهب المقتدى بهم. وَإِمَّا إرادتهم كان ذلك فيما إذا ظهر الخطأ في الصّلاة، فيحكمُ بخطئهم بالتعبير إذا كان لفظهم أعمّ من مرادهم، فيوقع في التجهيل لا التعليم.
وأمّا اطّلاعهم عن بعض رواياتٍ عنهم في ذلك، فيحكم عليهم بأخفّ من ذلك الخطأ، فإنّ إطلاق ذلك من غير بيانٍ: أنّها شذوذٌ من الروايات، اختاروها وتركوا المعروف عنهم. يعطي أنه المذهب المعروف، والفرض أنّ الظّاهر عنهم خلاف ذلك، فكان الواجبُ: بيان كون ذلك خلاف الظّاهر لا إرساله هكذا في مقام كتابة مذهب الأئمة. والله أعلمُ.
وأمّا بمقام الاستدلال على لزوم الإعادة في ظهور الخطأ في الصّلاة دون