الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَجْمُوعَةُ رَسَائِل العَلَّامَة قَاسِم بن قُطْلُوبُغَا
[12]
رِسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي
تَأْلِيفُ
العَلَّامَة قَاسِم بْنِ قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي
المولود سَنَة 802 هـ والمتوفى سَنة 879 هـ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
(12)
رَسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي
قال رحمه الله:
قد سئلت عن قاضٍ مالكي قال: ثبت عندي: أنّ ذمّة فلانٍ كانت مشغولةً بالديون المستغرقة حال وقفه للأماكن المذكورة.
وسألت الحاكم الحنفي الذي حكم بصحّة الوقف، ولزومه ونفوذه، هل من مذهبكم الشريف أنّ أحكامكم بصحّه الأوقاف مانعة عن الحكم بمقتضى مذهب من يرى: أنّ وقفَ المديون المشغولة ذمّته بالديون المستغرقة، لا يصحّ.
فأجابَ: بأنّ الأحكام المذكورة غير نافذة؛ لأني قصدت المتفق عليه، فحصل حكمي في محلٍّ مختلفٍ فيه، وهو وقف المديون، فلم تبعد، وحيمئذ: فلا مانع للحاكم الذي يرى عدم صحّة الوقف أن يحكم بما يراه، فهل ما ذكره الحاكم الحنفي صحيحٌ معتبرٌ أم لا؟.
فكتبتُ:
الحمد لله، ربِّ زدني علماً.
ليس ما زعمه الحاكم الحنفي من عدم إحكام نفاذه بصحيح، وما علّل به من أنه قصد المتّفق عليه، فحصل حكمه في محلٍّ مختلفٍ فيه، فلم ينفذ زلة عالمٍ خرق بها إجماع المسلمين، واستبيح بها الفروج المحرّمة، والأموال
المحترمة، وقطع بها حقوق الأنام والفقراء وطلبة العلم والعلماء، وعمل بها في هذا بالتشهي الحرام الخارق لإجماع أمّة محمّدٍ خير الأنامِ عليه أفضل الصّلاة والسّلام.
أعاذنا الله من ذلك بحوله وقوته، إنهّ هو العلي العظيم.
وبيان ذلك: أن وضع المسألة في قضاء القاضي المجتهد في حادثةٍ له فيها رأيٌ مقدّرٌ قبل قضائه في تلك الحالة التي قصد فيها المتفق عليها، فحصل حكمه في المحل المختلف فيه، وهو لا يعلم، وهي القضاء بصحّة وقف المديون، ثم بان أنّ قضاءه هذا على خلف رأي المقر. وقبل هذه الحادثة.
والجواب حينئذٍ فيها: أنّه لم ينعقد قضاؤه.
وهذا ضابطٌ أخذ من فرع وقع فيه القضاء على خلاف رأيه السابق، وصرّح به في الفصول. فقال القاضي: إذا قضى في محل الاجتهاد، وهو يرى خلافَ ذلك.
ذكر في بعض المواضع: أنه لا ينفذ. الخ.
وقد أغفلوا وهو يرى خلف ذلك في يمعمر من المواضع، وهو مرادٌ بدليل تعليلهم بالفرع الذي أخذ منه هذا كما سيأتي هذا.
وأمّا أنّه إذا وافق قضاؤه رأيه في المسألة وهو لا يعلم حالة قضائه في أنّ المسألة خلافٌ. فالقول: بأنه لم ينفذ قضاؤه كما زعم هذا القاضي، لم يصرّح به أحدٌ من علماء الإسلام، ولم ينظر في شيء من كتب المسلمين فيما نعلم. واللهُ أعلمُ.
ولا يعقلُ له معنى؛ لأنه إنّما نصّ على العلم أو عدمه فيما إذا قضى على
خلاف رأيه السّابق؛ لأنَّه إذا كان عالماً بالخلاف، وقضى على خلف رأيه المقرر.
وقيل: حمل على أنه تبدّل اجتهاده فينفذ. وإذا لم يعلم عمل على بقائه على الاجتهاد السّابق، فلم ينفذ.
وقوله في الفصول: ينبغي أن يكون عالماً بمواضع الخلاف. إلخ.
فهذا الذي ذكرنا لا للعلم.
وبيان هذا بالنّصوص الصّريحة في ذلك.
منها: قول الإمام حسام الدين الشهيد في الفتاوى الصغرى: إذا قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو لا يعلمُ بذلك، لا ينفّذ؛ لأنَّه ذكر في السِّير الكبير: رجلٌ مات وله مدبَّرون حتَّى عتقُوا، ثم جاء رجلٌ وأثبت (1) ديناً على الميت، فباعهم القاضي على ظنّ أنَّهم عبيدٌ، وقضى بجوازه، ثم ظهر أنَّهم مدبَّرون، كان قضاؤه بذلك باطلاً، وإن قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو: جواز بيع المدبَّرِ، لكن لما لم يعلم بذلك كان باطلاً. انتهى (2).
(1) تحرف في المخطوط إلى: (وأبت).
(2)
نسب صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق (17/ 488 - 489) هذا الكلام لصاحب كتاب منية المفتي.
وقال صاحب رد المحتار (21/ 395): مطلب: ما ينفذ من القضاء وما لا ينفذ.
(قوله: إذ حكم نفسه قبل ذلك)؛ أي: قبل الرّفع إليه كذلك، أي: كحكم قاضٍ آخر في أنّه ينفذه إذا رفع إليه ويكون هذا رافعاً للخلاف فيه، ولا يحتاج في نفوذه على المخالف إلى قاضٍ آخر، لكن ذكر ذلك ابن الغرس سؤالاً وأجاب عنه بأنّه لا يصحّ؛ لأنّه غير ممكنٍ شرعاً، إذ القاضي لا يفضي لنفسه بالإجماع، والحكم به حكمٌ بصحة فعل نفسه فيلغو. اهـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: هذا ظاهرٌ بالنسبة إلى رفع الخلاف، أمّا بالنسبة إلى منع الخصم وإلزامه به فلا تأمُّل.
(قوله: نفّذه)؛ أي: يجب عليه تنفيذه.
(قوله: لو مجتهداً فيه) بنصب مجتهداً خبراً لكان المقدّرة بعد لو واسمها ضميرٌ عائدٌ إلى حكم العائد إليه ضمير نفّذه.
ثمّ اعلم أنّهم قسّموا الحكم ثلاثة أقسامٍ، قسمٌ يردّ بكل حالٍ وهو ما خالف النصن أو الإجماع كما يأتي، وقسَّم يمضي بكلّ حالٍ، وهو الحكم في محلّ الاجتهاد، بأن يكون الخلاف في المسألة وسبب القضاء، وأمثلته كثيرةٌ منها لو قضى بشهادة المحدودين بالقذف بعد التوبة، وكان يراه كشافعى، فإذا رفع إلى قاض آخر لا يراه كحنفيٍّ يمضيه ولا يبطله، وكذا لو قضى لامرأةٍ بشهادة زوجها وآخر أجنبي، فرفع لمن لا يجيز هذه الشهادة أمضاه؛ لأنّ الأوَّل قضى بمجتهدٍ فيه فينفذ؛ لأنّ المجتهد فيه سبب القضاء، وهو أن شهادة هؤلاء هل تصير حجّةً للحكم أم لا فالخلاف في المسألة وسبب الحكم لا في نفس الحكم، وكذا لو سمع البينة على الغائب بلا وكيلٍ عنه، وقضى بها ينفذ؛ لأن المجتهد فيه سبب القضاء، وهو أنّ النبينة هل تكون حجّة بلا خصمٍ حاضر، فإذا رآه صحّ، وسيأتي اختلاف الترجيح في الأخيرة.
وقسمٌ اختلفوا فيه: وهو الحكم المجتهد فيه وهو ما يقع الخلاف فيه بعد وجود الحكم فقيل: ينفذ، وقيل: يتوقّف على إمضاء قاضٍ آخر، وهو الصحيح كما في الزيلعي وغيره، وبه جزم في الخانية، وحكى ابن الشّحنة في رسالته المؤلّفة في الشهادة على الخطّ عن جذه ترجيح الأوّل، فإذا رفع إلى الثّاني فأمضاه يصير كأن القاضي الثاني حكم في فصلٍ مجتهدٍ فيه فليس للثالث نقضه ولو أبطله الثاني وبطل، وليس لأحدٍ أن يجيزه كما لو قضى لولده على أجنبى أو لامرأته أو كان القاضي محدوداً في قذفٍ؛ لأن نفس القضاء مختلفٌ فيه وسيشير الشَّارح إلى القسم الأخير وتمام الكلام على ذلك في رسالة ابن الشحنة المذكورة والبرازية وسيأتي له مزيد تحقيقٍ.
(قوله: عالماً) حالٌ من قول المصنّف قاضٍ آخر، وساغ مجيء الحال منه وهو نكرةٌ لتخضصها بالوصف، وهو آخر ولا يصحّ كونه خبراً بعد خبر لكان المقدّرة بعد لو في قوله لو مجتهداً فيه؛ لأنَّ الضمير المستتر فيها عائدٌ إلى الحكم كما علمت،=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فيلزم أن يكون الضَّمير المستتر في عالماً عائداً إلى الحكم أيضاً ولا يصحّ مطلبٌ مهما في قولهم يشترط كون القاضي عالماً باختلاف الفقهاء.
(قوله: عالماً باختلاف الفقهاء فيه. . . إلخ) أقول: ذكر ذلك أيضاً في البحر، فذكر أنّ هذا شرط نفاذ القضاء في ظاهر المذهب ثمّ ذكر عبارة الخلاصة ثمّ قال: والتحقيق المعتمد أن علمه بكون ما حكم به مجتهداً فيه شرط، وأمّا علمه بكون المسألة اجتهاديةً، فلا، ويدل عليه ما في الفتاوى الضغرى. اهـ. ثمّ ذكر مسألة قضاء القاضي مخالفاً لرأيه، وأطال الكلام عليها.
وسيذكرها المصنف في قول (قضى في مجتهدِ فيه بخلاف رأيه. . . إلخ) ويأتي الكلام عليها، وهذه غير مسألة اشتراط العلم التي نحن فيها ولم يوفها صاحب البحر حقها، حتى اشتبهت على بعض المحشّين فتكلم عليها بما قالوه في المسألة الثانية الآتية، مع أنهما مسألتان متغايرتان فافهم، ومسألة اشتراط العلم وقع فيها نزاعٌ، وقد ألف فيها العلامة المحقّق الشّيخ قاسمٌ رسالةً: حاصلها: أن وضع المسألة المذكورة في قضاء القاضي المجتهد في حادثةٍ له فيها رأيٌ مقررٌ قبل قضائه في تلك الحادثة التي قصد فيها المتفق عليه، فحصل حكمه في المحل المختلف فيه، وهو لا يعلم ثمّ بأن أن قضاءه هذا على خلف رأيه المقرر قبل هذه الحادثة، فحينئذ لا ينفذ قضاؤه.
وأمّا إذا وافق قضاؤه رأيه في المسألة ولم يعلم حال قضائه أن فيها خلافاً، فلم يقل أحد من علماء الإسلام بانة لا ينفذ قضاؤه، خلافًا لمن زعم ذلك، وبيان ذلك بالنصوص الصريحة منها قول الإمام حسام الذين الشهيد في الفتاوى الصّغرى: إذا قضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو لا يعلم بذلك لا ينفذ، فإنّه ذكر في السير الكبير: رجل مات وله مدبّرون حتى عتقوا، ثمّ جاء رجلٌ وأثبت دينًا على الميت، فباعهم القاضي على ظن أنفم عبيا وقضى بجوازه، ثمّ ظهر أنهم مدبرون كان قضاؤه بذلك باطلاً، وإن مضى في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو جواز بيع المدبّر، لكن لمّا لم يعلم بذلك كان باطلاً. اهـ.
فعلم أن الضابط أخذ من فرعٍ وقع فيه القضاء على خلف رأيه السابق، وهو أن المدبّر لا يباع؛ فلذا كان قضاؤه باطلاً وعدم العلم دليل بقاء رأيه السابق، وأمّا لو كان عالماً =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقضى على خلاف رأيه السّابق حمل على تبدّل اجتهاده، بدليل ما في السّير الكبير في باب الفداء الذي يرجع إلى أهله حيث قال: مات وله رقيق، وعليه دينٌ كثيرٌ فباع القاضي رقيقه، وقضى دينه ثمّ قامت البينّة لبعضهم: أن مولاه كان دبره، فإنّ بيع القاضي فيه يكون باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره واجتهد وأبطل تدبيره لكونه وصيّة وباعه في الذين، ثمّ ولي قاضٍ آخر يرى ذلك خطاً، فإنّه ينفذ قضاء الأوّل. . . إلخ، فعلم أن عدم الأخذ ليس هو لعدم العلم بل لكونه بيع الحرّ.
وقال الحسام أيضاً قال في كتاب الرّجوع عن الشهادة: إذا قضى القاضي بشهادة محدودين في قذف، وهو لا يعلم بذلك ثمّ ظهر لا ينفذ قضاؤه، وهو محمولٌ على محدودين شهدا بعد التّوبة كما في قضاء شرح الجامع، ومن المعلوم: أن قضاء هذا على خلاف رأيه المقرّر قبل ذلك فلذا لم ينفذ، فعدم النفاذ لعدم صحة الشهادة لا لعدم العلم، فإذا ظهر أنّ هذا في قضاء القاضي المجتهد، وأن اعتبار العلم وعدمه إنّما هو للدّلالة على البقاء على الاجتهاد الأول أو تبدّله، وأنَّه لو كان على وفق رأيه نفذ وإن لم يعلم بالخلاف ظهر لك أنّ اعتبار هذا في القاضي المقلّد جهالةٌ فاحشةٌ، وخرقٌ لما أجمعت عليه الأمّة في أنّ المقلّد إذا قضى يقول إمامه مستوفياً للشّروط نفذ قضاؤه، سواءٌ علم أنّ في المسألة خلافاً أو لا، وصار المختلف فيه بقاؤه متفقاً عليه كما صرّحت به نصوص المختصرات والمطوّلات وامتنع نقضه بالإجماع. هذا خلاصة ما في تلك الرّسالة.
وحاصله: أن اشتراط كون القاضي المجتهد عالماً بالخلاف، إنَّما هو لبيان أنّ الموضع المختلف فيه الّذي لم يقصد الحكم به لعدم علمه به كصحّة بيع المدبّر، وقبول شهادة المحدود لا يصير محكوماً به في ضمن الحكم الّذي قصده وهو بيع عبد المديون لقضاء دينه، وقبول شهادة العدل في الصورتين السابقتين ونحوهما، إذ لا وجه لصيرورته محكوماً به مع عدم علمه به وقصدٍ له، ومع كونه مخالفاً لرأيه، بخلاف ما إذا كان عالماً به، وقصد الحكم به، فإنّه كان خالف رأيه يصحّ حكمه به، ويكون ذلك رجوعًا عن رأيه السّابق لتغيّر اجتهاده فينفذ وإذا رفع إلى قاضٍ آخر أمضاه، وهذا كلامٌ في غاية التّحقيق، وحيث كان هذا هو ظاهر الرّواية فلا يعدل عنه =
فعلم أنَّ الضَّابط أخذَ من فرعٍ وقع فيه القضاءُ على خلاف رأي القاضي المقرر قبل هذه الحادثة، وهو: أنَّ المدبَّر لا (1) يباعُ وهو حرٌّ من الثلث، فإن
= وكأنّ صاحب الخلاصة فهم أنّ المراد اشتراط علمه بالخلاف فيما قصد الحكم به أو لم يقصد فلذا قال: ويفتى بخلافه ولا سيّما إن كان فهم أيضاً أنّه شرط في المجتهد وغيره إذ لا شكّ في عسر ذلك ولا سيّما على قضاة زماننا فافهم. والله سبحانه أعلم.
(قوله: بعد دعوى صحيحةٍ. . . إلخ) الظّرف متعلّق بحكمٍ في قوله: حكم قاضٍ أو بمحذوفٍ خبر أيضاً لكان المقدّرة بعد لو في قوله لو مجتهداً فيه.
قال في البحر أوّل كتاب القضاء: فإن فقد هذا الشرط لم يكن حكمًا، وإنّما هو إفتاءٌ صرّح به الإمام السّرخسيّ، وبأنّه شرط لنفاد القضاء في المجتهدات.
ونقل الشّيخ قاسمٌ في فتاواه الإجماع عليه، ثمّ قال هنا في البحر: فالحاصل: أنّ الحكم المرفوع لا بدّ أن يكون في حادثةٍ وخصومةٍ صحيحةٍ كما صرّح به العماديّ والبرازيّ وقالا حتّى لو فات هذا الشّرط لا ينفذ القضاء؛ لأنهّ فتوى فلو رفع إلى حنفي قضاء مالكي بلا دعوى، لم يلتفت إليه ويحكم بمقتضى مذهبه، ولا بدّ في إمضاء الثّاني لحكم الأوّل من الدّعوى أيضًا كما سمعت. اهـ. أي: لا بدّ في حكم الثّاني إذا رفع إليه حكم الأوّل، من أن يكون أيضاً بعد دعوى صحيحةٍ كما نقله عن البزّازيّة، وهذه الدّعوى والخصومة تسمّى الحادثة لحدوثها عند القاضي ليحكم بها، بخلاف ما كان من لوازم تلك الحادثة فإنّه لم يحدث بدون الخصومة فيه، فلذا لم يصحّ حكمه به قبلها كما يأتي بيانه في الموجب قريباً، ثمّ اعلم أن اشتراط تقدّم الدّعوى إنّما هو في القضاء القصديّ القوليّ دون الضّمنيّ والفعليّ كما سنحقّقه فى الفروع، وكذا ما تسمع فيه الدّعوى حسبةً ومنه الوقف كما يأتي قريباً.
(قوله: وإلَّا لا)؛ أي: وإن لم يكن حكم الأوّل بعد دعوى صحيحةٍ لم يكن قضاءً صحيحاً، بل كان إفتاءً؛ أي: بياناً لحكم الحادثة، وإذا كان إفتاء لم يلزم القاضي الثّاني تنفيذه بل يحكم بمقتضى مذهبه وافق حكم الأوّل أو خالفه فافهم. . .
(1)
أقحم في المخطوط: (لا).
لم يكن للسيد مال لزمته السعاية، فلهذا: كان جواب المسألة:
أنّ قضاءه باطلٌ، وكان عدم العلم دليل بقاء رَأْيِهِ السَّابِقِ حتى قال: إنّ البيع صادف الأحرار؛ لأنهم عُتِقُوا بموته.
أمّا لو كان عالماً، وقضى على خلاف رأيه السابق، حمل على تبدّل الاجتهاد بدليل تمام الكلام في هذه المسألة.
فإنه قال فِي السِّير الكبير في باب الفداء الَّذي يرجعُ إلى أهله:
مات وله رقيقٌ، وعليهِ دينٌ كثيرٌ فباعَ القاضي رقيقه، وقضى دينهُ، ثم قامت البيِّنة لبعضهم: أنَّ مولاه كان دبره (1)، فإنَّ بيع القاضي فيه يكونُ باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره، واجتهد وأبطل تدبيرهُ لكونهِ (2) وصيّة وباعه في الدَّين، ثم ولّي قاضٍ آخر يرى أنَّ ذلك خطأ، فإنَّه ينفذ قضاء الأوَّل. . . إلخ.
فعلم: أنَّ عدم النَّفاذ ليس هو لعدم العلم، بل لكونه بيع الحرِّ.
ولهذا قال الشهيد: والاستدلال بمسألة السير لا يستقيم؛ لأنّ عدم النفاد ما كان لعدم العلم بكون الفصل مجتهداً فيه، وإنّما كان؛ لأنّ البيع صادفَ الأحرار لأنهم عتقوا بموته. أكثر ما في الباب: أنه يجب عليهم السعاية، لكن ذلك لا يمنع وقوع العتق. انتهى.
فترك القاضي ذلك وأخذ بقوله، وهو لا يعلم بذلك. لا ينفذ. فشهد على نفسه بالجهالة. والله أعلم.
(1) في المخطوط: (دبر).
(2)
في المخطوط: (لأنه).
وقال الحسام أيضاً: قال في كتاب الرُّجوع عن الشَّهادة: إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين محدودين في قذفٍ، وهو لا يعلم بذلك، ثم ظهر، لا ينفذ قضاؤه، وعليه أن يرد قضاءه، ويأخذ من المال المقضي له، وهو محمولٌ على محدودين شهدا بعد التَّوبة، فإنَّه ذكر في أوَّل قضاء شرح الجامع: إذا قضى القاضي بشهادة محدودين في قذف قد تابا. . . إلخ.
ومن المعلوم: أنَّ قضاءه هذا على خلاف رأيه (1) المقرَّر قبل ذلك فلهذا كان الجواب: أنّه لا ينفذ، فعدم النَّفاذ لعدم صحَّة الشَّهادة، لا لعدم العلم.
وقال الحسام الشهيد أيضاً: إذا قضى القاضي في فصلٍ مجتهدٍ فيه، وهو يقصد المتفق، فوافق قضاؤه المحلّ المختلف، نفذ قضاؤه.
وذكر محمّد في كتاب الإكراه: لو شهد شاهدان على رجلٍ أنّه قذفَ امرأته فلانة. فلاعنَ الزوج امرأته من غير إكراهِ القاضي وحبسه، وفرّق القاضي بينهما، ثم تبيّن: أن الشهود عبيدٌ، فإن قضاء القاضي بالتفريق صحيحٌ؛ لأنّ باللعان في المرّة الأولى لما قال: أشهد بالله إني لصادقٌ فيما رميتها من الزنا، صارَ مقراً بالقذف.
قلت: تبيَّن أن قذف الزوج كان لم يثبت بشهادة الشهود، يثبت بإقراره طائعاً.
قال: فإذا لاعنَ بعد ذلك ثلاث مرّات. وفرّق القاضي بينهما.
فقد قضى في التفريق في محلّ يسوغّ الاجتهاد فيه. وهو التفريق بعد اللعان ثلاث مرّات.
(1) في المخطوط: (رأي).
قال الولوالجي (1): لأنهّ أقام أكثر مقام الكل، وأكثر الشيء أقيم مقام الكل في كثيرٍ من المواضع والأحكام، فهذا إذا أقام كان اجتهاداً في محّله، فينفذ قضاؤه حتى لو التعن مرتين، ففرّق القاضي بينهما، فتفريقه باطلٌ؛ لأنه قضى بالاجتهاد في غير محلّه، فإنَّه أقام الأقل مقام الكل، وهذا مما لا نظير له في الأصول. انتهى.
قلت: فنفاد قضائه ليس لعدم العلم، وإنما هو لرأيٍ صحيحٍ حصل له في المسألة.
فلهذا قال الولوالجي هنا: فدلّت المسألة على أن القاضي متى قضى في محلَّ سوغّ فيه الاجتهاد كان لم يعلم هو أنه قضى في محل الاجتهاد وقصده المتفق عليه في هذه المسألة هو: أنّ الشهادة شهادة الأحرار.
وقوله: فوافقَ قضاؤه. المحل المختلف ليس هو محل قصده المتفق عليه، وهو الاتفاق والاختلاف في شهادة العبيد، وإنما هو محل اختلاف من جهةٍ أخرى. وليس للمجتهد قول في عين المسألة قبل هذا الحكم، فلم يكن ضده مقابلة المسألة الأولى. وفي هذه كلامٌ، وهو: أنّ محل الاجتهاد هل يشترط أن يكون وقع فيه خلاف أو أنّه قابل للخلاف. فقال في الأحكام: بما
(1) قال المصنف في تاج التراجم (ص 12): عبد الرشيد بن أبي حنفية بن عبد الرزاق بن عبد الله الولوالجي، أبو الفتح، من ولوالج [تحرف في المطبوع إلى: والوالج]، بلدة من طخارستان، سكن سمرقند، إمام فاضل، حسن السيرة، وتفقه على جماعة، وكتب الأمالي، وولد في جمادى الأول سنة سبع وستين وأربع مئة، ومات بعد الأربعين وخمس مئة. قلت [أي: ابن قطلوبغا]: وذكره الذهبي في هذه الطبقة من الذين لم تعرف وفاتهم.
هي مقابله لا ينقض، وإن حكم في السكوت عنه بما هو خلاف القواعد ينقض، ولا فرق في عدم النقض بين المسكوت عنه وبين ما وقع الخلاف فيه. انتهى.
ولما تبين أنّ هذا في قضاء القاضي المجتهد، وأنّ اعتبار العلم وعدمه إنما هو للدلالة على البقاء على الاجتهاد الأوّل أو تبدله، وأنهّ لو كان وفق رأيه نفذ، وإن لم يعلم بالخلاف بالنقل، وبدلالة الإجماع الذي حكاه في كتاب الأحكام، ظهر أنّ اعتبار هذا في قضاء القاضي المقلّد زلة عالمٍ وجهالةٌ فاحشةٌ بالمسألة، وخرق لما اجتمعت عليه علماء الأمّة في أنّ القاضي المقلّد إذا قضى يقول إمامه الذي لا يخالف نص كتابه، ولا سنّةً مشهورةً، ولا إجماعاً مستوفي الشروط بعد قضائه. عُلِمَ: أنّ في المسألة خلافاً أو لم يعلم، وصار المختلف فيه بقضائه متفقاً عليه، كما صرّحت به نصوص المختصرات والمطوّلات، وامتنع نقضه بإجماع المسلمين، نصّ على الإجماع الشيخ الإمام أبو العباس في كتاب الأحكام وقال: إنّ في مسائل الخلاف إذا حكم فيها الحاكم ما تعين من النقض بالإجماع، وما هو في معنى النّص الخاص الوارد في تلك الواقعة.
قال: وتقرير هذا: أن الله جعل للحاكم أن يحكم في مسائل الاجتهاد بأحد القولين، فإذا حكموا بأحدهما كان ذلك حكماً من الله عز وجل في تلك الواقعة.
وإخبار الحاكم: أنه يحكم فيها كنصٍّ من الله تعالى ورد خاصاً بتلك الواقعة. انتهى.
وأمّا أنه استبيح بها الفروج المحرّمة، فقد قالوا في ابنه محمد بن أينال زوج فرجٍ بن أزومر وقد خلعها من عصمته مدّةً. ولم يحكم في الخلع بشيءٍ،
ثم تزوج، ثم طلّقها طلقةً صريحة راجعها، ثم طلَّقها، ثم رفع إلى القاضي نور الدين بن البرقي وادّعى عنده: أنّه طلَّقها آخر الطلقات، وحكم بوقوع الحرمة الغليظة، وأن لا تعود إليه حتى تنكحَ زوجاً غيره.
إن هذا القاضي قصد المتفق عليه ظناً منه: أنّ الثلاث صرائح، ولم يعلم بالخلع، فحصل حكمه في محل مختلفٍ فيه، وهو الخلع الأوّل، فلم ينفذ قضاؤه في الحرمة الغليظة. فذهب إلى حاكمٍ حنبليٍّ فيحكم بأن الخلع فسخٌ لا ينقص العدد، وتعود إلى زوجها من غير محلّلٍ، وتبقى معه بما بقي من الطّلقات. هذا ما اطّلعت. والله أعلم بما لم يبلغني.
وأمّا أنه استبيح به الأموال المحرّمة فأعاد الأوقاف التي أبينت بهذه الطريق الباطل.
وأمّا أنّه قطع بها حقوق الأيتام والفقراء والطلبة والعلماء فله خروج الأوقاف بهذه الطريقة الباطلة.
وأمّا أنّه عمل فيها على زعمهم بالتشهي الحرام، فلأنه قال في الفتاوى الولوالجية: إن القاضي إذا قضى في محلٍّ يسوغ فيه الاجتهاد وينفذ قضاؤه وإن لم يعلوه أنه قضى في محلّ الاجتهاد، فعملهم بالأوَّل دون هذا عملٌ بالتشهي؛ لأنهّم ليسوا من أهل الاجتهاد، ولا الترجيح.
وقد قال في كتاب الأحكام: وليس للقاضي أن ينشئ حكماً بالهوى واتباع الشهوات، بل لا بد أن يكون ذلك القول الذي حكم به، قال به إمامٌ معتبرٌ بدليلٍ معتبرٍ.
وأمّا اتباع الهوى في الحكم فحرامٌ إجماعاً.
وأمّا أنه خارقٌ لإجماع أمّة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو عَمرو الشهرزوري (1) في كتاب أدب القاضي والفتوى (2): واعلم أنّ من يكتفي أن يكون فتواه وعمله موافقاً لقولٍ أو وجهٍ في المسألةِ، ويعمل بما شاء من الأقوال أو الوجوه من غير نظرٍ في الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع. انتهى.
فهذا قوله فيمن عمل بقولٍ، ووجهٍ في المسألة. وما نحن فيه، وهو قضاء القاضي المقلّد مستوفياً للشروط، موافقاً لقول إمامه: ليس فيه قولان ولا وجهان ولا ما يصلح بسمته.
وقول الموثق مع العلم بخلاف عملٍ الآن، لَا ما كانَ. إذا عرف هذا.
فنقُولُ الحاكم الحنفي الحاكم بالوقف: أنّ قضاءه لم ينفذ لعدم العلم به باطلٌ. والبيع النَّاشئُ عن قوله هذا باطل، والحكم به باطل، والوقف وقفٌ على حاله، ولكلّ حكمٍ من حكّام الشريعة المطهّرة اتصل به هذا رفعُه. والحاكم باستمرار الوقف الأوّل دفعاً للفساد من بين العباد. والله سبحانه وتعالى أعلمُ.
(1) تحرف في المخطوط إلى: (أبو عمر الشهروردي). وهو الإمام، الحافظ، العلامة، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبو عمرو عثمان ابن المفتي صلاح الدين عبد الرحمان ابن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي، صاحب علوم الحديث. سير أعلام النبلاء للذهبي (23/ 140).
(2)
مطبوع باسم: أدب المفتي والمستفتي، حققه د. محيي الدين هلال السرحان.