المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تنجس الدهن: - مجموعة رسائل العلامة قاسم بن قطلوبغا

[ابن قطلوبغا]

فهرس الكتاب

- ‌مَدخَل

- ‌الكِتَاب

- ‌وَصفُ المَخْطُوطِ

- ‌صِحَّةُ نِسْبَةِ المَجمُوع

- ‌مَصَادِر المَجْمُوع

- ‌عَمَلُنَا فِي المَجْمُوعِ

- ‌تَرْجَمَةُ العلَّامة قَاسِم بن قُطْلُوبغَا

- ‌ اسمه ونسبه:

- ‌ مولده:

- ‌ صفته:

- ‌ العلوم التي برع فيها:

- ‌ مذهبه:

- ‌ المناصب التي وليها:

- ‌ رحلاته العلمية:

- ‌ شيوخه:

- ‌ تلاميذه:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ مصنفاته:

- ‌ القرآن وعلومه:

- ‌ التخريج:

- ‌ الرجال وعلومه:

- ‌ الحديث وعلومه:

- ‌ الفقه وعلومه:

- ‌ أصول الفقه:

- ‌ السيرة:

- ‌ النقد:

- ‌ اللغة العربية:

- ‌ علم الكلام:

- ‌ مرضه ووفاته:

- ‌ مصادر الترجمة:

- ‌تَرْجَمَةُ شَمْس الدِّين ابن أَمِيْر حَاج الحَلَبِيِّ

- ‌ اسمه:

- ‌ أولاده:

- ‌ صفته:

- ‌ المناصب التي تولاها:

- ‌ تصانيفه:

- ‌ وفاته:

- ‌ مصادر ترجمته:

- ‌[1]رَفْعُ الاشْتِبَاهِ عَنْ مَسَائِلِ المِيَاهِ

- ‌ لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُفْتِي بِقَوْلنَا مَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ

- ‌ سئلت عن مسائل وأجوبتها منقولة فلا بأس نذكرها تتميماً:

- ‌[2]رِسَالَةٌ فِيهَا أَجْوِبَةٌ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلَ وَقَعَتْ

- ‌ إذا أصابوا في البئر فأرة متفسخة، وكانوا قبل ذلك قد طبخوا أو عجنوا من مائها، هل يؤكل

- ‌ رجل يمسح على خرقة على جراحةٍ بيده

- ‌ رجلٍ صلّى الظهر، فشكّ وهو في الصلاة أنه على وضوءٍ أم لا، ما الفعلُ

- ‌ إذا تعمَّد ترك الواجب أو تأخيره، لم يجب عليه سجود السهو

- ‌ المسبوق إذا سلَّم مَعَ الإمام ساهيًا، هل تبطل صلاته

- ‌ رجلٌ أجَّرَ دارًا

- ‌ رجلٌ له ثلاث مئة قد حال عليها الحول، فخلطها بخمس مئة، ثم ضاع من المال كله خمس مئة

- ‌ في رجلٍ صائم قال له آخر: امرأته طالق إن لم يفطر

- ‌ التقبيل الفاحش

- ‌[3]النَّجَدَات بِبَيَانِ السَّهْوِ في السَّجْدَاتِ

- ‌[4]أَحْكَامُ الفَأْرَة إِذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيتِ وَنَحْوِه

- ‌ تنجّس الدهن:

- ‌[5]أَحْكَامُ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ فِي المَسْجِدِ

- ‌لو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد، ومعه صفٌّ والباقي في المسجد

- ‌[6][رِسَالَةٌ فِي] التَّرَاوِيحِ وَالوِتْرِ

- ‌وَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا

- ‌فصلٌالانتظار من كل ترويحتين قدر الترويحة

- ‌فصل وقدر القراءة في التراويح

- ‌فصلٌإذا صلّى الإمام التراويح قاعدًا لعذرٍ أو لغير عذرٍ والقوم قيام

- ‌فصلٌ وإذا صلَّى التراويح قاعدًا من غير عذرٍ

- ‌فصلٌ إذا صلّى التراويح مقتديًا بمن يصلي المكتوبة، أو وترًا، أو نافلة غير التراويح

- ‌فَصْلٌ إذا صلَّى ترويحةً واحدةً بتسليمةٍ واحدةٍ، وقد قعد في الثّانية قدر التشهد

- ‌[7]الفَوَائِدُ الجُلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ القِبْلَةِ

- ‌ صورة ما كتبه المرحوم الشيخ العلامة يحيى بن محمد الأقصرائي الحنفي

- ‌[8]أَحْكَامُ القَهْقَهةِ

- ‌ تتمة:

- ‌ فائدة:في التوكيل في النكاح

- ‌[9]الأَصْلُ فِي بَيَانِ الفَصْلِ والوَصْلِ

- ‌[10]الأُسُوس في كَيْفَّيةِ الجُلُوسِ

- ‌[11]تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في صَوْمِ السِّتِّ مِن شَوَّال

- ‌ فائدة:

- ‌[12]رِسَالَةٌ في قَضَاءِ القَاضِي

- ‌[13][رِسَالَةٌ فِي] العِدَّةِ

- ‌كتب على هذه بعض مشايخ العصر ما صورته:

- ‌[فَتْوَى عَنِ القَصْرِ وَالإتْمَامِ]

- ‌[14]مَسْأَلَةٌ فِي حَطِّ الثَّمَنِ وَالإِبْرَاءِ مِنْهُ وَصَحَّةِ ذَلكَ

- ‌[15]مِن مَسَائِلِ الشُّيُوع

- ‌سئلتُ عن بيع حصّةٍ شائعةٍ من عقارٍ

- ‌[الفصل] الأوّل:

- ‌ أقسام الشيوع

- ‌ الفصل الثاني:

- ‌ الفصل الثالث:

- ‌ أجرُ الشّائع

- ‌قرض المشاع

- ‌ وهب الشائع

- ‌ الشيوع الطارئ:

- ‌ وقف الشائع:

- ‌ رهنَ الشائع

- ‌ الفصل الرابع:

- ‌ إجارة المشاع:

- ‌ الإعارة في الشائع:

- ‌ الرهن

- ‌ الصّدقة:

- ‌ الوقف:

- ‌[16]أَحْكَامُ التَّزْكِيَةِ وَالشَّهَادَةِ

- ‌سئلتُ عن رجل شهدَ عليه عند قاضٍ مالكي المذهب:

- ‌صورة التزكية

- ‌ العدالة

- ‌البلوغ

- ‌ البصر:

- ‌ العدد في الشهادة:

- ‌مَسَائِلُ التَّزْكِيَة

- ‌[17]القَوْلُ القَائِم في بَيَانِ تَأْثِيرِ حُكْمِ الحَاكِمِ

- ‌[18][رِسَالَةٌ في] مَا يُنقَضُ مِنَ القَضَاءِ

- ‌[19]تَحْرِيرُ الأَقْوَالِ في مَسْأَلَةِ الاسْتِبْدَالِ

- ‌[20]مَسْأَلَةٌ فِي الوَقْفِ وَاشْتِرَاطِ النَّظَرِ لِلأَرْشَدِ فَالأَرْشَدِ

- ‌وسئلت عن واقفٍ شرط أن يكون النظر للأرشد فالأرشد

- ‌ صورة سؤال ورد على الشيخ رحمه الله من دمشق:

- ‌ مسألةٌ مهمّةٌ

- ‌ مسألة أخرى:

- ‌[21]صُورَةُ سُؤَالَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ عَنْهَا

- ‌ورد على الشيخ - رحمه الله تعالى - من دمشقٍ:

- ‌ باب العول:

- ‌ باب الرّدّ

- ‌ فائدة:

- ‌[22]مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلَاق بِالنِّكاحِ

- ‌هل تكون الخلوة إجازةً

- ‌هل للفضولي فسخ العقد قبل الإجازة

- ‌صورة السجل:

- ‌ تتميم:

- ‌[23]مَسْأَلَةٌ في طَلَاقِ المَرِيضِ زَوْجَتهُ

- ‌ فائدة:

- ‌ فائدة أخرى:

- ‌ نكتة:

- ‌سئلت عن رجلٍ طلّق امرأته طلقتين وراجعها من الثانية

- ‌سئل عن رجلٍ حلف بالطلاق من زوجته

- ‌ سئل - رحمه الله تعالى -: عن امرأةٍ

- ‌سئل رحمه الله: عمّن باع داراً بيع التقاضي وقبض بعض الثمن، ثم أقبض الباقي بعد هذه

- ‌ مسألة:

- ‌سئل عن رجل باع عن رجلٍ

- ‌سئل عن رجلٍ باع ثوباً

- ‌سئل عن رجلٍ باع ديناراً

- ‌سئل عن رجلٍ اشترى من صيّادِ سمكةً ودفع ثمنها

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ اقترض من رجلٍ مالاً على تركةِ فلان

- ‌[24][رِسَالَةٌ في] حَفْرِ المُرَبَّعَاتِ

- ‌ سئل - رحمه الله تعالى - عن رجلٍ استأجر أُجراء يحفرون له مربعة

- ‌سئل عن رجلٍ استأجرَ جميع بستانين

- ‌سئل الشيخ من مدينة غزّة:

- ‌سئل - رحمه الله تعالى - عمّن عليه دَينٌ مستغرق

- ‌سئل رحمه الله عن رجل عليه دُيونٌ

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ طلّق زوجته البالغة طلاقًا بائنًا

- ‌[25]حُكْمُ الخُلْعِ وَحُكْمُ الحَنْبَلي فِيهِ

- ‌سئل رحمه الله عن زوجين اختصما بعد الفرقة في صغيرةٍ بينهما

- ‌سئل رحمه الله: ما تقول في قول الخلاصة وغيره: إنّ الشّاهدين إذا شهدا أنّ القاضي قضى لفلانٍ على فلانٍ بكذا

- ‌سئل رحمه الله: عن رجلٍ وقف شيئًا معيّنًا من ماله على نفسه

- ‌سئل رحمه الله: في قول السّادة الحنفية، فيمن استأجر عبدًا للخدمة

- ‌سئلتُ عن واقفٍ وَقَفَ وقفًا وشرطَ لنفسهِ التبديل والتغيير، فغيّر الوقف لزوجته

- ‌مُلْحَق المَجْمُوعِ تَعْرِيفُ المُسْتَرْشِد في حُكْمِ الغِراسِ في المَسْجِدِ

- ‌ تنبيه:

- ‌ تذييل:

الفصل: ‌ تنجس الدهن:

قال القدوري في التقريب: قال يعقوب: في المصانع يكون فيها الجيفة، وهي لا يتحرك طرفٌ منها بتحريك الآخر، جاز الوضوء منها، إلاّ أن يرى الجيفة، وكذا الماء الجاري.

وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن رمضان في كتابه المسمّى بالينابيع (1): قال أبو يوسف فِي ساقيةٍ صغيرةٍ فيها كلب ميِّتٌ قد سدَّ عرضها فتجرِي الماءُ فوقهُ، وتحتهُ أنَّه لا بأس بالوضوء من أسفل الكلبِ. انتهى.

وهذا اختيارٌ لصحّة دليله، وتوافق فروعه، بخلاف غيره. والله أعلم.

وإذا‌

‌ تنجّس الدهن:

روي عن أبي يوسف: أنه إذا جعل في إناءٍ ثُمَّ صُبَّ عليه الماء فإذا (2) علا الدهن، رُفِعَ بشيءٍ، ثم يفعل هكذا ثلاثًا، فيطهر. وبهذا يفتي، فلو تعسّر هذا أو لم يفعل جازَ الانتفاع به نجساً في غير الأكل، ولو بيع [22/ ب] جازَ البيع، فإن كان المشتري عالمًا بذلك فلا خيار له، وإلَاّ فله الخيار.

ولو اتخذ صابوناً كان الصّابون طاهراً على قياس قول محمد في طهارة النجس إذا استحال. وبه يفتي. وهذه عبارات علمائنا رحمهم الله في ذلك، أوردها تبركاً بها، وردًّا على من يستبعد ذلك، ممَّا لا علمَ له.

= النيرة (1/ 47) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 291).

(1)

انظر فتح القدير (1/ 138) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 321) والمحيط لبرهان الدين مازه (1/ 85).

(2)

تحرف في المطبوع إلى (فلا).

ص: 169

قال الشيخ الإمام العالم العلاّمة أبو الحسن عبيد الله بن الحسين (1) الكرخي في كتابه المسمّى بالمختصر: وما وقع في الماء الذي يكون في الأواني ممَّا له دمٌ سائلٌ وهو ممَّا لا يعيش في الماء، فماتَ فيها، فسبيله سبيل النجاسة المائية في تنجّس الماء، وغسل الماء ثلاثًا. فإن كان الذي مات فيه شيئًا غير الماء، فإن كان جامداً، ألقي وما حوله، وإن كان مائعاً، نجس وأريق كله، وغسل الإناء ثلاثًا، ولا بأس أن ينتفع بالجامد الملقى والمائع من ذلك في الاستصباح به، والانتفاع به من غير أن يأكل ذلك أو يأكل ما يقع فيه. انتهى.

وقال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن رمضان في كتابه المسمّى بالينابيع في معرفة الأصول والتفاريع: وروي عن أبي يوسف في دهنٍ أصابته النجاسة، بأنه يجعل في إناءٍ، فيصب عليه الماء، فيعلو الدهن على الماء، فيرفعه بشيءٍ، فإذا فعل ذلك ثلاث مرات يطهر في المرة الثالثة.

(1) تحرف في المخطوط إلى: (عبد الله بن الحسني). قال المصنف في تاج التراجم (ص 13): عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم، أبو الحسن الكرخي، من كرخ جدان، انتهت إليه رياسة الحنفية بعد أبي حازم وأبي سعبد البرعي، وانتشرت أصحابه، تفقه عليه: أبو بكر الرازي، وأبو عبد الله الدامغاني، وأبو عليّ الشاشي، وأبو القاسم التنوخي، وكان كثير الصوم والصلاة، صبوراً على الفقر والحاجة، واسع العلم والرواية، صنف المختصر والجامع الكبير والجامع الصغير، وأودعها الفقه والحديث والآثار المخرّجة بأسانيدها، أصابه الفالج في آخر عمره، فكتب أصحابه إلى سيف الدولة ابن حمدان، فلما علم الكرخي بذلك بكى، وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلَّا من حيث عودتني، فمات قبل أن تصل إليه صلة سيف الدولة، وكانت عشرة آلاف درهم، وكان من تولى القضاء من أصحابه هجره، مولده سنة ستين ومئتين، ووفاته ليلة النصف من شعبان سنة أربعين وثلاث مئة. وانظر الجامع الصغير (ص 46).

ص: 170

ولو أنّ فأرةً ماتت في السّمن، إن كان السَّمن جامداً، يقوّر (1) ما حوله، ويؤكل الباقي.

وإن كان مائعاً، لم يؤكل وينتفع به في غير أكل كالاستصباح، ودبغ الجلود وغيرها. وله أن يبيع ويبيِّن ما فيه من العيب، فإن لم يبيِّن ذلك، فالمشتري بالخيار: إن شاء ردّه على البائع، وإن شاء أمسكه.

والجامد ما إذا قدره بقي المقدّر على حاله، وإن لم يبقَ المقدر على حاله فهو مائعٌ.

ولو أنّ دناً من خمرٍ وقعت فيه فأرةٌ، وماتت، ثم أخرجت الفأرة، وصار الخمر خلاً.

قال بعضهم: يحل أكلهُ، وإن تفسخت لا يحل. وهذا القول أصحُّ.

وقال نصيرٌ: سألت شداد عن حوضٍ فيه عصيرٌ مقداره عشرة في عشرة، فبال إنسانٌ فيه. فقال: هو كالجاري يفسد [23 / أ] ما يفسد الماء (2).

وقال الشيخ الإمام شمس الدين القونوي في كتابه المسمّى بدرر البحار: ولا يطهر - يعني: أبا يوسف - ما استحال بالنار ونحوها وطهّره - يعني: محمد - فقوي معنى، وهو المفتى به.

(1) تحرف في المخطوط إلى: (يقوم).

(2)

قال الولوالجيّ رحمه الله كما في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (1/ 99): حوضٌ فيه عصير وقع فيه البول إن كان عشراً في عشرٍ لا يفسد؛ لأنّه لو كان ماءً لا يفسد فكذا إذا كان عصيرًا، ولو كان أقل من عشرٍ في عشرٍ يفسد فكذا في كلّ ما لو كان ماءً يفسد فإذا كان عصيراً يفسد. وانظر فتح القدير (1/ 389).

ص: 171

وقال الإمام القدوري في كتابه المسمّى بالتقريب: وذكر الطحاوي عن أصحابنا في النجاسة: إذا احترقت طهرت، ولم يحكِ خلافًا.

وذكر ابن رستم الخلاف قال: يطهر عند محمد (1).

وعند يعقوب لا يطهر.

وذكر ابن شجاع، عن أبي يوسف روايتين، وظاهر مذهب الإمام كقول محمّدٍ.

وعلي هذا الاختلاف: الخنزيرُ إذا وقع في الملَاّحةِ، فصار ملحاً.

والجلالة إذا دفنت فانقلبت وصارت أرضًا.

وقال في الحصر: احترق الروث فصار رماداً، أو وقعت العذرة في البئرِ فصارت عرور كعرور الرماد حمأة، أو الحمار في المملحة فصار بمضي الزمان

(1) قال صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/ 389): في المجتبى: جعل الدّهن النّجس في صابونٍ يفتى بطهارته؛ لأنّه تغيّر، والتغيير يطهّر عند محمّدٍ، ويفتى به للبلوى. وفي الظّهيريّة: ورماد السّرقين طاهر عند أبي يوسف خلافًا لمحمّدٍ، والفتوى على قول أبي يوسف، وهو عكس الخلاف المنقول، فإنَّه يقتضي أن الرّماد طاهر عند محمّدٍ، نجسٌ عند أبي يوسف، كما لا يخفى، وفيها أيضًا: العذرات إذا دفنت في موضعٍ حتَّى صارت تراباً، قيل: تطهر كالحمار الميّت إذا وقع في المملحة فصار ملحاً، يطهر عند محمّدٍ. وفي الخلاصة: فأرةٌ وقعت في دنّ خمرٍ فصار خلاً يطهر إذا رمى بالفأرة قبل التّخلّل، وإن تفسّخت الفأرة فيها لا يباح، ولو وقعت الفأرة في العصير ثمّ تخمّر العصير ثمّ تخلّل، وهو لا يكون بمنزلة ما لو وقعت في الخمر هو المختار، وكذا لو ولغ الكلب في العصير، ثمّ تخمّر، ثمّ تخلّل لا يطهر. اهـ. وانظر مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (1/ 147) ورد المحتار (2/ 465) وحاشية رد المحتار (1/ 341).

ص: 172

ملحاً، طهر عند محمد خلافًا ليعقوب (1).

وعلي قول محمَّدٍ فرَّعوا الحكم بطهارة صابونٍ صنع من زيتٍ نجسٍ (2).

وذكره شيخنا في شرح الهداية قال: وكثيرٌ من المشايخ اختاروا قول محمّدٍ، وهو المختار. انتهى.

قلتُ: وجعله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميّة أصحّ قول العلماء (3)، واختاره أبو محمد ابن حزم وانتصرَ لهُ. واللهُ الموفق.

(1) انظر فتح القدير (1/ 379) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/ 389) ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 146).

(2)

انظر بدائع الصنائع (1/ 368) والمحيط لبرهان الدين مازه (1/ 273) والمغني لابن قدامة (1/ 89).

(3)

سئل شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (21/ 488 - 518) عن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة مثل الفأرة ونحوها، وماتت فيه، هل ينجس أم لا؟ وإذا قيل: ينجس، فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتَّى يبلغ قلتين أم لا؟ وإذا قيل: تجوز المكاثرة، هل يجوز إلقاء الطاهر على النجس، أو بالعكس، أو لا فرق؟ وإذا لم تجز المكاثرة، وقيل بنجاسته، هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به أو غسله، إذا قيل يطهر بالغسل أم لا؟ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمكاثرة، هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا؟.

فأجاب: الحمد لله، أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة فهل تنجس، وإن كانت كثيرة فوق القلتين، أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقًا إلَّا بالتغير، أو لا ينجس الكثير إلَّا بالتغير، كما إذا بلغت قلتين، فيه عن أحمد ثلاث روايات: إحداهن: أنها تنجس ولو مع الكثرة، وهو قول الشافعي وغيره.

والثانية: أنها كالماء سواء كانت مائية أو غير مائية. وهو قول طائفة من السلف والخلف كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي ثور وغيرهم. وهو قول أبي ثور، نقله المروذي عن أبي ثور. ويحكى ذلك لأحمد فقال: إن أبا ثور شبهه بالماء. =

ص: 173

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ذكر ذلك الخلَّال في جامعه، عن المروذي. وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة: أن حكم المائعات عندهم حكم الماء، ومذهبهم في المائعات معروف فيه، فإذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر لم تنجس، كالماء عندهم، وأما أبو ثور فإنّه يقول بالعكس: بالقلتين كالشافعي. والقول أنها كالماء، يذكر قولًا في مذهب مالك. وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين، وروي عن أبي نافع من المالكية في الحباب التي بالشام للزيت، تموت فيه الفأرة: إن ذلك لا يضر الزيت، قال: وليس الزيت كالماء. وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره: تقع فيه الميتة ولم تغير أوصافه، وكان كثيرًا لم ينجس، بخلاف موتها فيه، ففرق بين موتها فيه ووقوعها فيه. ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر: أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلَّا السمن، إذا وقعت فيه فأرة، كما يقولون: أن الماء لا ينجس إلَّا إذا بال فيه بائل.

والثالثة: يفرق بين المائع المائي كخل الخمر، وغير المائي كخل العنب، فيلحق الأول بالماء دون الثاني. وفي الجملة للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كالماء.

والثاني: أنها أولى بعدم التنجس من الماء؛ لأنها طعام وإدام، فإتلافها فيه فساد، ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء، أو مباينة لها من الماء.

والثالث: أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور. وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرنا حجة من قال بالتنجيس، وأنهم احتجّوا يقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". رواه أبو داود وغيره؛ وبيَّنا ضعف هذا الحديث، وطعن البُخاريّ والترمذي وأبو حاتم الرازي والدارقطني وغيرهم فيه، وأنهم بيَّنوا أنه غلط فيه معمر على الزُّهريّ. قال أبو داود (باب في الفأرة تقع في السمن): حدّثنا مسدد، حدّثنا سفيان، حدّثنا الزُّهريّ، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن، فأخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:"ألقوها وما حولها، وكلوه". وقال: حدّثنا أحمد ابن صالح والحسين بن عليّ - واللفظ للحسين - قالا: حدّثنا عبد الرَّزاق =

ص: 174

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قال: أنبأنا معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". قال الحسن: قال عبد الرَّزاق: ربما حدّث به معمر، عن الزُّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قال عبد الرَّزاق قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مردويه، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب. وقال أبو عيسى التِّرمذيُّ في جامعه (باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن): حدّثنا سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار قالا: حدّثنا سفيان، عن الزُّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل عنها النَّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال:"ألقوها وما حولها وكلوه". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سئل، ولم يذكروا فيه عن ميمونة، وحديث ابن عباس عن ميمونة أصح. وروى معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوه، وهو حديث غير محفوظ. قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا خطأ. قال: والصحيح: حديث الزُّهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. قلت: وحديث معمر هذا الذي خطأه البُخاريّ، وقال التِّرمذيُّ: إنه غير محفوظ، هو الذي قال فيه:"إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه"، كما رواه أبو داود وغيره، وكذلك الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده وغيره، وقد ذكر عبد الرَّزاق: أن معمراً كان يرويه أحياناً من الوجه الآخر، فكان يضطرب في إسناده، كما اضطرب في متنه، وخالف فيه الحفَّاظ الثقات الذين رووه بغير اللفظ الذي رواه معمر. ومعمر كان معروفاً بالغلط، وأما الزُّهريّ فلا يعرف منه غلط، فلهذا بيّن البُخاريّ من كلام الزُّهريّ ما دل على خطأ معمر في هذا الحديث. قال البُخاريّ في صحيحه (باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب): حدّثنا الحميدي، حدّثنا سفيان، =

ص: 175

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حدّثنا الزُّهريّ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال:"ألقوها وما حولها وكلوه". قيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. قال: ما سمعت الزُّهريّ يقوله إلَّا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعته منه مراراً. حدّثنا عبدان، حدّثنا عبد الله - يعني: ابن المبارك -، عن يونس، عن الزُّهريّ: أنه سئل عن الدابة تموت في الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد - الفأرة أو غيرها - قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل" من حديث عبيد الله بن عبد الله، ثم رواه من طريق مالك، كما رواه من طريق ابن عيينة.

وهذا الحديث رواه النَّاس عن الزُّهريّ، كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه، وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارة عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وقال فيه:"وإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". وقيل عنه: "وإن كان مائعاً فاستصبحوا به". واضطرب على معمر فيه، وظن طائفة من العلماء: أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن يثبته: محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزُّهريّ، وكذلك احتجّ به أحمد لما أفتى بالفرق بين الجامد والمائع، وكان أحمد يحتجّ أحياناً بأحاديث، ثم يتبين له أنها معلولة، كاحتجاجه بقوله:"لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين"، ثم تبين له بعد ذلك أنه معلول، فاستدل بغيره.

وأما البُخاريّ والترمذي وغيرهما، فعلّلوا حديث معمر، وبيَّنوا غلطه، والصواب معهم. فذكر البُخاريّ هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعته من الزُّهريّ مراراً، لا يرويه إلَّا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلَّا قوله:"ألقوها وما حولها وكلوه". وكذلك رواه مالك وغيره، وذكر من حديث يونس: أن الزُّهريّ سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغيره؟ فأفتى بأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزُّهريّ في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث الفرق بينهما، وهو يحتجّ على استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى. =

ص: 176

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والزهري أحفظ أهل زمانه، حتَّى يقال: إنه لا يعرف له غلط في حديث ولا نسيان، مع أنه لم يكن في زمانه أكثر حديثاً منه، ويقال: إنه حفظ على الأمة تسعين سنة، لم يأت بها غيره، وقد كتب عنه سليمان بن عبد الملك كتاباً من حفظه، ثم استعاده منه بعد عام، فلم يخط منه حرفاً، فلو لم يكن في الحديث إلَّا نسيان الزُّهريّ أو معمر، لكان نسبة النسيان إلى معمر أولى باتفاق أهل العلم بالرجال، مع كثرة الدلائل على نسيان معمر، وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن معمراً كثير الغلط على الزُّهريّ. قال الإمام أحمد رضي الله عنه فيما حديثه به محمد بن جعفر غندر، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن أبيه: أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته ثماني نسوة. فقال أحمد: هكذا حدّث به معمر بالبصرة، وحدثهم بالبصرة من حفظه، وحدث به باليمن عن الزُّهريّ بالاستقامة. وقال أبو حاتم الرازي: ما حدّث به معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط، وهو صالح الحديث، وأكثر الرواة الذين رووا هذا الحديث عن معمر، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، هم البصريون، كعبد الواحد ابن زياد، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى الشَّاميُّ، والاضطراب في المتن ظاهر؛ فإن هذا يقول:"إن كان ذائباً أو مائعاً لم يؤكل"، وهذا يقول:"وإن كان مائعاً فلا تنتفعوا به، واستصبحوا به"، وهذا يقول:"فلا تقربوه"، وهذا يقول:"فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح"، فأطلق الجواب ولم يذكر التفصيل. وهذا يبين أنه لم يروه من كتاب بلفظ مضبوط، وإنما رواه بحسب ما ظنه من المعنى فغلط، وبتقدير صحة هذا اللفظ وهو قوله:"وإن كان مائعاً فلا تقربوه"، فإنما يدل على نجاسة القليل الذي وقعت فيه النجاسة، كالسمن المسؤول عنه، فإنّه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق قلتين يقع فيه فأرة، حتَّى يقال فيه: ترك الاستفصال في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، بل السمن الذي يكون عند أهل المدينة في أوعيتهم يكون في الغالب قليلاً، فلو صحّ الحديث لم يدل إلَّا على نجاسة القليل؛ فإن المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها لا نص صحيح ولا ضعيف ولا إجماع ولا قياس صحيح.

وعمدة من ينجسه، يظن أن النجاسة إذا وقعت في ماء أو مائع سرت فيه كله =

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فنجسته، وقد عرف فساد هذا، وأنه لم يقل أحد من المسلمين بطرده، فإن طرده يوجب نجاسة البحر، بل الذين قالوا هذا الأصل الفاسد، منهم من استثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر، ومنهم من استثنى في بعض النجاسات ما لا يمكن نزحه، ومنهم من استثنى ما فوق القلتين، وعلّل بعضهم المستثنى بمشقة التنجيس، وبعضهم بعدم وصول النجاسة إلى الكثير، وبعضهم بتعذر التطهير، وهذه العلل موجودة في الكثير من الأدهان؛ فإنّه قد يكون في الحب العظيم قناطير مقنطرة من الزيت، ولا يمكنهم صيانته عن الواقع، والدور والحوانيت مملوءة ممَّا لا يمكن صيانته كالسكر وغيره، فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جداً.

ولهذا لم يرد بتنجيس الكثير أثر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، واختلف كلام أحمد رحمه الله في تنجيس الكثير، وأما القليل فإنّه ظن صحّة حديث معمر فأخذ به، وقد اطلع غيره على العلّة القادحة فيه، ولو اطلع عليها لم يقل به، ولهذا نظائر كان يأخذ بحديث، ثم يتبيّن له ضعفه، فيترك الأخذ به، وقد يترك الأخذ به قبل أن تتبين صحّته، فإذا تبيّن له صحّته أخذ به، وهذه طريقة أهل العلم والدين رضي الله عنهم. ولظنه صحّته عدل إليه عما رآه من آثار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فروى صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه أحمد بن حنبل: حدّثنا أبي، حدّثنا إسماعيل، حدّثنا عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة: أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن؟ قال: تؤخذ الفأرة وما حولها. قلت: يا مولانا فإن أثرها كان في السمن كله! قال: عضضت بهَنَّ أبيك، إنما كان أثرها بالسمن وهي حيَّة، وإنما ماتت حيث وجدت. حدّثنا أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا النضر بن عربي، عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فسأله عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ؟ فقال ابن عباس: خذه وما حوله فألقه، وكله. قلت: أليس جال في الجر كله؟! قال: إنه جال وفيه الروح، فاستقر حيث مات. وروى الخلال عن صالح قال: حدّثنا أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن حمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال: سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: إنما حرّم من الميتة لحمها ودمها.

قلت: فهذه فتاوى ابن عباس، وابن مسعود، والزهري، مع أن ابن عباس هو راوي =

ص: 178

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حديث ميمونة، ثم إن قول معمر في الحديث الضعيف:"فلا تقربوه"، متروك عند عامة السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة، فإن جمهورهم يجوزون الاستصباح به، وكثير منهم يجوز بيعه أو تطهيره، وهذا مخالف لقوله:"فلا تقربوه".

ومن نصر هذا القول يقول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، احتراز عن الثوب والبدن والإناء، ونحو ذلك ممَّا يتنجس، والمفهوم لا عموم له، وذلك لا يقتضي أن كل ما ليس بماء يتنجس، فإن الهواء ونحوه لا يتنجس وليس بماء، كما أن قوله: إن الماء لا يجنب احتراز عن البدن فإنّه يجنب، ولا يقتضي ذلك أن كل ما ليس بماء يجنب، ولكن خصّ الماء بالذكر في الموضعين للحاجة إلى بيان حكمه، فإن بعض أزواجه اغتسلت فجاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ليتوضأ بسؤرها، فأخبرته أنها كانت جنباً، فقال:"إن الماء لا يجنب"، مع أن الثوب لا يجنب، والأرض لا تجنب، وتخصيص الماء بالذكر لمفارقة البدن، لا لمفارقة كل شيء، وكذلك قالوا له: أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال:"الماء طهور لا ينجسه شيء"، فنفى عنه النجاسة للحاجة إلى بيان ذلك، كما نفى عنه الجنابة للحاجة إلى بيان ذلك، والله سبحانه قد أباح لنا الطيبات، وحرّم علينا الخبائث، والنجاسات من الخبائث، فالماء إذا تغيَّر بالنجاسة حرم استعماله؛ لأنَّ ذلك استعمال للخبيث.

وهذا مبني على أصل، وهو: أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة، فهل مقتضى القياس تنجسه لاختلاط الحلال بالحرام إلى حيث يقوم الدليل على تطهيره، أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر فيه النجاسة الخبيثة التي يحرم استعمالها للفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، في هذا الأصل قولان: أحدهما: قول من يقول: الأصل النجاسة، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد، بناء على أن اختلاط الحلال بالحرام يوجب تحريمهما جميعًا.

ثم إن أصحاب أبي حنيفة طردوا ذلك فيما إذا كان الماء يتحرك أحد طرفيه =

ص: 179

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بتحرك الطرف الآخر، قالوا: لأنَّ النجاسة تبلغه، إذا بلغته الحركة، ولم يمكنهم طرده فيما زاد على ذلك، وإلا لزم تنجيس البحر، والبحر لا ينجسه شيء بالنص والإجماع، ولم يطردوا ذلك فيما إذا كان الماء عميقاً ومساحته قليلة، ثم إذا تنجس الماء: فالقياس عندهم يقتضي أن لا يطهر بنزح، فيجب طم الآبار المتنجسة، وطرد هذا القياس بشر المريسي.

وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: بالتطهير بالنزح استحساناً، إما بنزح البئر كلها إذا كبر الحيوان أو تفسخ، وإما بنزح بعضها إذا صغر بدلاء ذكروا عددها، فما أمكن طرد ذلك القياس.

وكذلك أصحاب الشافعي وأحمد قالوا: بطهارة ما فوق القلتين؛ لأنَّ ذلك يكون في الفلوات والغدران التي لا يمكن صيانتها عن النجاسة، فجعلوا طهارة ذلك رخصة لأجل الحاجة على خلاف القياس، وكذلك من قال من أصحاب أحمد: إن البول والعذرة الرطبة لا ينجس بهما إلَّا ما أمكن نزحه، ترك طرد القياس؛ لأنَّ ما يتعذر نزحه يتعذر تطهيره، فجعل تعذّر التطهير مانعًا من التنجس.

فهذه الأقوال وغيرها من مقالات القائلين بهذا الأصل: تبيّن أنه لم يطرده أحد من الفقهاء، وإن كلهم خالفوا فيه القياس رخصة، وأباحوا ما تخالطه النجاسات من المياه لأجل الحاجة الخاصة.

وأما القول الثاني: فهو قول من يقول: القياس أن لا ينجس الماء حتَّى يتغير، كما قاله من قاله من فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث وغيرهم كمالك وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد، وهذه طريقة القاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم، مع قوله: إن القليل ينجس بالملاقاة. وأما ابن عقيل وابن المنى وابن المظفر وابن الجوزي وأبو نصر وغيرهم من أصحاب أحمد فنصروا هذا أنه لا ينجس إلَّا بالتغير، كالرواية الموافقة لأهل المدينة، وهو قول أبي المحاسن الروياني، وغيره من أصحاب الشافعي.

وقال الغزالي: وددت أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك. وكلام أحمد وغيره موافق لهذا القول؛ فإنّه لما سئل عن الماء إذا وقعت فيه نجاسة =

ص: 180

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فغيرت طعمه أو لونه بأي شيء ينجس؟ والحديث المروي في ذلك وهو قوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلَّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه"، ضعيف. فأجاب: بأن الله حرم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، فإذا ظهر في الماء طعم الدم، أو الميتة، أو لحم الخنزير، كان المستعمل لذلك مستعملاً لهذه الخبائث، ولو كان القياس عنده التحريم مطلقًا لم يخص صورة التحريم باستعمال النجاسة.

وفي الجملة: فهذا القول هو الصواب؛ وذلك أن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير، ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره، واستهلكت لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير أصلًا، كما أن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شارباً للخمر، والخمرة إذا استحالت بنفسها وصارت خلاً كانت طاهرة باتفاق العلماء، وهذا على قول من يقول: إن النجاسة إذا استحالت طهرت أقوى كما هو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، فإن انقلاب النجاسة ملحاً ورماداً ونحو ذلك، هو كانقلابها ماء، فلا فرق بين أن تستحيل رماداً أو ملحاً أو تراباً أو ماءً أو هواءً ونحو ذلك، والله تعالى قد أباح لنا الطيبات.

وهذه الأدهان والألبان والأشربة الحلوة والحامضة، وغيرها من الطيبات والخبيثة، قد استهلكت واستحالت فيها، فكيف يحرم الطيب الذي أباحه الله تعالى، ومن الذي قال: إنه إذا خالطه الخبيث واستهلك فيه، واستحال قد حرم، وليس على ذلك دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث بئر بضاعة، لما ذكر له أنها يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال:"الماء طهور لا ينجسه شيء". وقال في حديث القلتين: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث". وفي اللفظ الآخر: "لم ينجسه شيء". رواه أبو داود وغيره.

فقوله: لم يحمل الخبث بيّن أن تنجيسه بأن يحمل الخبث، أي: بأن يكون الخبث فيه محمولاً، وذلك يبين أنه مع استحالة الخبث لا ينجس الماء.

فصل: وإذا عرف أصل هذه المسألة، فالحكم إذا ثبت بعلةٍ زال بزوالها، كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة المطربة، فإذا زالت =

ص: 181

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بفعل الله طهرت، بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح، كما قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه:"لا تأكلوا خل خمرٍ إلَّا خمرًا بدأ الله بفسادها"، ولا جناح على مسلم أن يشتري خل خمر من أهل الكتاب، ما لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها؛ وذلك لأنَّ اقتناء الخمر محرّم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرماً، والفعل المحرم لا يكون سببًا للحل والإباحة، وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرًا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلاً كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة.

وأما سائر النجاسات فيجوز التعمد لإفسادها؛ لأنَّ إفسادها ليس بمحرم، كما لا يحد شاربها؛ لأنَّ النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر، ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا أيضًا إحالة النجاسة بالنار وغيرها، والماء لنجاسته سببان:

أحدهما: متفق عليه، والآخر مختلف فيه. فالمتفق عليه التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير، كان طاهراً، كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهراً.

والثاني: القلة، فإذا كان الماء قليلاً ووقعت فيه نجاسةٌ، ففي نجاسته قولان للعلماء: فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه: أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثني البول والعذرة المائعة، فيجعل ما أمكن نزحه نجساً بوقوع ذلك فيه. ومذهب أبي حنيفة ينجس ما وصلت إليه الحركة. ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة: أنه لا ينجس، ولو لم يبلغ قلتين. واختار هذا القول بعض الشافعية كإحدى الروايات، وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي، كما نصر الأولى طائفةٌ كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين. وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول، فهؤلاء لا ينجسون شيئًا إلَّا بالتغير، ومن سوّى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد، قال في المائعات كذلك، كما قاله الزُّهريّ وغيره، فهؤلاء لا ينجسون =

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= شيئًا من المائعات إلَّا بالتغير، كما ذكره البُخاريّ في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد: اعتبار القلتين في الماء.

وكذلك في المائعات إذا سويت به، فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصبّ عليه مائع كثير، فيكون الجميع طاهراً، إذا لم يكن متغيرًا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين، فصار الجميع كثيرًا فوق القلتين، ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد: أحدهما - وهو مذهب الشافعي في الماء -: إن الجميع طاهر.

والوجه الثاني: أنه لا يكون طاهراً حتَّى يكون المضاف كثيرًا. والمكاثرة المعتبرة: أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماءٍ كثيرٍ طاهرٍ أيضًا، وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيراً، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة - وكان الجميع كثيرًا فوق القلتين - كان كالماء القليل إذا ضمِّ إلى القليل، وفي ذلك الوجهان المتقدمان.

وهذا القول الذي ذكرناه، من أن المائعات كالماء أولى بعدم التنجيس من الماء، هو الأظهر في الأدلة الشرعية، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة، ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل، كما جاء في الحديث، ولم يأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك لأنَّ الماء لا ثمن له في العادة، بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم؛ فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفى على النَّاس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير رفعًا للحرج، فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة؟ والحرج في هذا أشق، ولعل أكثر المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة.

فإن قيل: الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى، بخلاف المائعات. قيل: الجواب عن ذلك من وجوه:

أحدها: أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنَّه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه، فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا وقعت فيه، فإنما كان طاهراً لاستحالتها فيه لا لكونه أزالها عن نفسه، ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة: إن المائعات كالماء =

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه، ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل، وتلك نجسة قبل طهارة المحل، وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه: هل هي طاهرة، أو مطهرة، أو نجسة؟ وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى، فقال: الماء ينجس بوقوعها فيه، وإن كان يزيلها عن غيره لما ذكرنا، فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دلّ عليه قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"الماء طهور لا ينجسه شيء"، وقوله:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، فإنّه إذا كان طهوراً يطهر به غيره، علم أنه لا ينجس بالملاقاة، إذ لو نجس بها، لكان إذا صبَّ عليه النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت زالت. فدل ذلك على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس، وإن لم تكن قد زالت كما زالت عن المحل، فإن من قال أنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة، وهذا المعنى يوجد في سائر المائعات من الأشربة وغيرها.

الوجه الثاني: أن يقال: غاية هذا أن يقتضي أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد ومالك، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وأحمد جعله لازمًا لمن قال: إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة، وقال: يلزم على هذا أن تزال به النجاسة، وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالته بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول، وهذا هو القياس، فنقول به على هذا التقدير، وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال: أنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات، أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء: أنه لا ينجس إلَّا بالتغير، إما مطلقًا، وإما مع الكثرة، فكذلك الصواب في المائعات.

وفي الجملة: التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات الماء، وغير الماء. =

ص: 184

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية، تبيّن له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول، وموجب القياس.

ومن كان فقيهاً خبيراً بمآخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى، تبيّن له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فسادٌ فإنّه ينهى عن ذلك، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها، ونحو ذلك، لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بعض أسفاره مع أصحابه فنفدت أزوادهم، فاستأذنوه في نحر الظهر، فأذن لهم، ثم أتى عمر فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها، ويبقى الظهر، ففعل ذلك. فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب، لا لأن الإبل محرمة. فهكذا ينهى فيما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن، وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها، فالقول في المائعات كالقول في الجامدات.

الوجه الثالث: أن يقال: إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء، وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات، فإذا كان الماء لا ينجس بما وقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته، فالمائعات أولى وأحرى.

الوجه الرابع: أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا لون ولا ريح، فلا نسلم أن يقال بنجاسته أصلًا، كما في الخمر المنقلبة أو أبلغ، وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة؛ فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، ووجه في مذهب الشافعي.

الوجه الخامس: أن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره؛ فإن العلماء اختلفوا في النجاسة =

ص: 185

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة، هل تطهر الأرض على قولين:

أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل؛ فإنّه ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك. وفي السنن: أنه قال: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما في التراب، فإن التراب لهما طهور". وكان الصحابة كعلي بن أبي طالب وغيره يخوضون في الوحل، ثم يدخلون يصلون بالناس، ولا يغسلون أقدامهم.

وأَوْكَدُ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ذيول النساء إذا أصابت أرضًا طاهرة بعد أرض خبيثة: "تلك بتلك"، وقوله:"يطهره ما بعده". وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نصّ عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وهي من أجل المسائل؛ وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف، ومحل الاستنجاء، فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها لأجل الحاجة، كما في الاستنجاء بالأحجار، وجعل الجامد طهوراً، علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء.

وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة، فالمائعات أولى وأحرى؛ لأنَّ إحالتها أشدّ وأسرع، ولبسط هذه المسائل وما يتعلق بها مواضع غير هذا.

وأما من قال: أن الدهن ينجس بما يقع فيه، ففي جواز الاستصباح به قولان في مذهب مالك والشافعي وأحمد، أظهرهما: جواز الاستصباح به، كما نقل ذلك عن طائفة من الصحابة.

وفي طهارته بالغسل وجهان في مذهب مالك والشافعي وأحمد: أحدهما: يطهر بالغسل كما، اختاره ابن شريح، وأبو الخطاب، وابن شعبان، وغيرهم، وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره. والثاني: لا يطهر بالغسل، وعليه أكثرهم، وهذا النزاع يجري في الدهن المتغيّر بالنجاسة، فإنّه نجس بلا ريب، ففي جواز الاستصباح به هذا النزاع، وكذلك في غسله هذا النزاع. =

ص: 186

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأما بيعه؛ فالمشهور أنه لا يجوز بيعه، لا من مسلم ولا من كافر، وهو المشهور في مذهب الشافعي وغيره، وعن أحمد: أنه يجوز بيعه من كافر إذا أعلم بنجاسته، كما روي عن أبي موسى الأشعري. وقد خرج قول له بجواز بيعه منهم، من خرجه على جواز الاستصباح به، كما فعل أبو الخطاب وغيره، وهو ضعيف؛ لأنَّ أحمد وغيره من الأئمة فرّقوا بينهما.

ومنهم من خرج جواز بيعه على جواز تطهيره؛ لأنَّه إذا جاز تطهيره صار كالثوب النجس والإناء النجس، وذلك يجوز بيعه وفاقاً، وكذلك أصحاب الشافعي لهم في جواز بيعه، إذا قالوا: بجواز تطهيره وجهان، ومنهم من قال يجوز بيعه مطلقاً. والله أعلم.

فصل: وأما المائعات كالزيت والسمن وغيرهما من الأدهان، كالخل واللبن وغيرهما، إذا وقعت فيه نجاسة مثل الفأرة الميتة، ونحوها من النجاسات، ففي ذلك قولان للعلماء:

أحدهما: أن حكم ذلك حكم الماء. هذا قول الزُّهريّ وغيره من السلف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويذكر رواية عن مالك في بعض المواضع، وهذا هو أصل قول أبي حنيفة، حيث قاس الماء على المائعات.

والثاني: أن المائعات تنجس بوقوع النجاسة فيها، بخلاف الماء فإنّه يفرق بين قليله وكثيره. وهذا مذهب الشافعي، وهو الرواية الأخرى عن مالك وأحمد.

وفيها قول ثالث: هو رواية عن أحمد، وهو الفرق بين المائعات المائية وغيرها، فخل التمر يلحق بالماء، وخل العنب لا يلحق به.

وعلي القول الأول إذا كان الزيت كثيرًا مثل أن يكون قلتين، فإنّه لا ينجس إلَّا بالتغير، كما نص على ذلك أحمد في كلب ولغ في زيت كثير، فقال: لا ينجس. وإن كان المائع قليلاً انبنى على النزاع المتقدم في الماء القليل، فمن قال: إن القليل لا ينجس إلَّا بالتغير، قال ذلك في الزيت وغيره، وبذلك أفتى الزُّهريّ لما سئل عن الفأرة أو غيرها من الدواب تموت في سمن أو غيره من الأدهان؟ فقال: تلقى، وما قرب منها ويؤكل، سواء كان قليلاً أو كثيرًا، وسواء كان جامداً أو مائعاً، وقد ذكر ذلك البُخاريّ عنه في صحيحه لمعنى سنذكره إن شاء الله. =

ص: 187

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ومن قال: إن المائع القليل ينجس بوقوع النجاسة، قال: إنه كالماء فإنّه يطهر بالمكاثرة كما يطهر الماء بالمكاثرة، فإذا صبّ عليه زيت كثير طهر الجميع، والقول بأن المائعات لا تنجس كما لا ينجس الماء، هو القول الراجح، بل هي أولى بعدم التنجيس من الماء، وذلك لأنَّ الله أحل لنا الطيبات، وحرّم علينا الخبائث والأطعمة والأشربة من الأدهان والألبان والزيت والخلول، والأطعمة المائعة هي من الطيبات التي أحلها الله لنا، فإذا لم يظهر فيها صفة الخبث: لا طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، ولا شيء من أجزائه، كانت على حالها في الطيب، فلا يجوز أن تجعل من الخبيث المحرمة مع أن صفاتها صفات الطيب لا صفات الخبائث، فإن الفرق بين الطيبات والخبائث بالصفات المميزة بينهما.

ولأجل تلك الصفات حرّم هذا، وأحلّ هذا، وإذا كان هذا الحبّ وقع فيه قطرة دم، أو قطرة خمر، وقد استحالت، واللبن باق على صفته، والزيت باق على صفته، لم يكن لتحريم ذلك وجه، فإن تلك قد استهلكت واستحالت، ولم يبق لها حقيقة من الأحكام يترتب عليها شيء من أحكام الدم والخمر، وإنما كانت أولى بالطهارة من الماء؛ لأنَّ الشارع رخّص في إراقة الماء وإتلافه حيث لم يرخص في إتلاف المائعات، كالاستنجاء فإنّه يستنجي بالماء دون هذه، وكذلك إزالة سائر النجاسات بالماء.

وأما استعمال المائعات في ذلك فلا يصح، سواء قيل تزول النجاسة، أو لا تزول، ولهذا قال من قال من العلماء: أن الماء يراق إذا ولغ فيه الكلب، ولا تراق آنية الطعام والشراب.

وأيضًا فإن الماء أسرع تغيراً بالنجاسة من الملح، والنجاسة أشدّ استحالة في غير الماء منها في الماء، فالمائعات أبعد عن قبول التنجيس حساً وشرعاً من الماء، فحيث لا ينجس الماء، فالمائعات أولى أن لا تنجس.

وأيضًا فقد ثبت في صحيح البُخاريّ وغيره عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم". فأجابهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم جواباً عامًا مطلقًا، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم: هل كان مائعاً =

ص: 188

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أو جامداً، وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب على سمن الحجاز أن يكون ذائباً، وقد قيل: أنه لا يكون إلَّا ذائباً، والغالب على السمن أنه لا يبلغ القلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أو كثيراً.

فإن قيل: فقد روي في الحديث: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". رواه أبو داود وغيره؟! قيل: هذه الزيادة هي التي اعتمد عليها من فرّق بين المائع والجامد، واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم، وقد ضعّف محمد بن يحيى الذهلي: حديث الزُّهريّ، وصحّح هذه الزيادة؛ لكن قد تبيّن لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث، ليست من كلام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو الذي تبيّن لنا ولغيرنا، ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها، بعد أن كنّا نفتي بها أولاً، فإن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل. والبخاري والترمذي رحمة الله عليهما وغيرهما من أئمة الحديث قد بيّنوا لنا: أنها باطلة، وأن معمراً غلط في روايته لها عن الزُّهريّ، وكان معمر كثير الغلط، والأثبات من أصحاب الزُّهريّ كـ: مالك، ويونس، وابن عيينة، خالفوه في ذلك، وهو نفسه اضطربت روايته في هذا الحديث، إسناداً ومتناً، فجعله عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وإنما هو عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. وروي عنه في بعض طرقه، أنه قال:"إن كان مائعاً فاستصبحوا به"، وفي بعضها:"فلا تقربوه".

والبخاري بيّن غلطه في هذا، بأن ذكر في صحيحه عن يونس، عن الزُّهريّ نفسه، أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال:"إن كان جامداً أو مائعاً قليلاً أو كثيرًا تلقى وما قرب منها ويؤكل، لأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم". فالزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد، بأن تلقى الفأرة وما قرب منها، ويؤكل واستدل بهذا الحديث، كما رواه عنه جمهور أصحابه، فتبيّن أن من ذكر عنه الفرق بين النوعين فقد غلط. =

ص: 189

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأيضًا فالجمود والميعان أمرٌ لا ينضبط، بل يقع الاشتباه في كثيرٍ من الأطعمة: هل تلحق بالجامد أو المائع؟ والشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلَّا بفصلٍ مبيّنٍ لا اشتباه فيه، كما قال تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، والمحرمات ممَّا يتقون، فلا بدّ أن يبين لهم المحرمات بياناً فاصلاً بينها وبين الحلال، وقد قال تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119].

وأيضًا فإذا كانت الخمر التي هي أم الخبائث، إذا انقلبت بنفسها حلّت باتفاق المسلمين، فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب، وإذا قدر أن قطرة خمر وقعت في خلّ مسلم بغير اختياره، فاستحالت كانت أولى بالطهارة.

فإن قيل: الخمر لما نجست بالاستحالة طهرت بالاستحالة؛ بخلاف غيرها، والخمر إذا قصد تخليلها لم تطهر؟. قيل: في الجواب عن الأول: أن جميع النجاسات نجست بالاستحالة، فإن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب وهي طاهرة، ثم تستحيل دمًا وبولاً وغائطاً فتنجس. وكذلك الحيوان يكون طاهراً فإذا مات احتبست فيه الفضلات، وصار حاله بعد الموت خلاف حاله في الحياة فينجس، ولهذا يطهر الجلد بعد الدباغ عند الجمهور، سواء قيل: إن الدباغ كالحياة، أو قيل أنه: كالذكاة فإن؛ في ذلك قولين مشهورين للعلماء، والسنة تدل على أن الدباغ كالذكاة.

وأما ما قصد تخليله؛ فذلك لأنَّ حبس الخمر حرام، سواء حبست لقصد التخليل أو لا، والطهارة نعمة، فلا تثبت النعمة بالفعل المحرم.

وسئل شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (21/ 524 - 528) عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي، وقعت فيه فأرة في بئر واحدة، فهل ينجس بذلك أم لا؟ وهل يجوز بيعه أو استعماله أم لا؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب: الحمد لله، لا ينجس بذلك، بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد، وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين، فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلَّا بالتغير، لكن تلقى النجاسة وما حولها، وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة من العلماء كالزهري والبخاري صاحب الصحيح. =

ص: 190

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقد ذكر ذلك رواية عن مالك، وهو أيضًا مذهب أبي حنيفة، فإنّه سوّى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة، وفي إزالة النجاسة، وهو رواية عن أحمد في الإزالة، لكن أبو حنيفة رأى مجرّد الوصول منجساً، وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك، فلم يروا الوصول منجساً مع الكثرة وتنازعوا في القليل.

إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبث إذا وقع في الطيب أفسده، ومنهم من قال: إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره، فأما إذا استهلك فيه واستحال، فلا وجه لإفساده، كما لو انقلبت الخمرة خلاً بغير قصد آدمي، فإنها طاهرةٌ حلالٌ باتفاق الأئمة، لكن مذهبه في الماء معروف، وعلي هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع، ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله.

وعمدة الذين نجّسوه، احتجاجهم بحديث رواه أبو داود وغيره، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: وإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". وهذا الحديث إنما يدلّ لو دلّ على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة، فكيف والحديث ضعيف؟! بل باطلٌ، غلط فيه معمر على الزُّهريّ غلطًا معروفاً عند النقاد الجهابذة، كما ذكره التِّرمذيُّ عن البُخاريّ.

ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح، فلم يعلم العلّة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه، فإنَّ عِلْمَ العلل من خواصّ علم أئمة الحديث، ولهذا بيَّن البُخاريّ في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية، وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة، فقال (باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب): حدّثنا عبدان قال: حدّثنا عبد الله - يعني: ابن المبارك -، عن يونس، عن الزُّهريّ، أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد الفأرة أو غيرها؟ قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل. وفي حديث عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة قال: سئل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". فذكر البُخاريّ عن ابن شهاب الزُّهريّ، أعلم الأمة بالسنَّة في زمانه، أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة: أنها تطرح وما قرب منها. =

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال:"ألقوها وما حولها، وكلوه"، ولم يقل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن كان مائعاً فلا تقربوه"، بل هذا باطلٌ، فذكر البُخاريّ أبو هذا ليبيّن أن من ذكر عن الزُّهريّ أنه روى في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه، فإنّه أجاب بالعموم في الجامد والذائب، مستدلاً بهذا الحديث بعينه، لا سيما والسمن بالحجاز يكون ذائباً أكثر ممَّا يكون جامداً، بل قيل: إنه لا يكون بالحجاز جامداً بحال.

فإطلاق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الجواب من غير تفصيل يوجب العموم، إذ السؤال كالمعاد في الجواب، فكأنه قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. هذا إذا كان السمن بالحجاز يكون جامداً ويكون ذائباً، فأما إن كان وجود الجامد نادرًا أو معدوماً كان الحديث نصًا في أن السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة، فإنها تلقى وما حولها ويؤكل. وبذلك أجاب الزُّهريّ، فإن مذهبه: أن الماء لا ينجس قليله ولا كثيره إلَّا بالتغير. وقد ذكر البُخاريّ في أوائل الصحيح: التسوية بين الماء والمائعات.

وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة ودلائلها، وكلام العلماء فيها في غير هذا الموضع، كيف وفي تنجيس مثل ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة، وإتلاف الأموال العظيمة القدر، ما لا تأتي بمثله الشريعة الجامعة للمحاسن كلها، والله سبحانه إنّما حرّم علينا الخبائث تنزيهًا لنا عن المضار، وأباح لنا الطيبات كلها، لم يحرم علينا شيئًا من الطيبات، كما حرم على أهل الكتاب - بظلمهم - طيباتٍ أحلّت لهم، ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد، تبيّن له من ذلك ما يهديه الله إليه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ، والله سبحانه أعلم، والحمد لله وحده، وصلاته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وسئل شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (21/ 528 - 529) عن الزيت إذا كان في بئر، ووقعت فيه نجاسة، مثل الفأرة والحية ونحوهما، وماتا فيه، فما الحكم إذا كان دون القلتين؟ وإذا ولغ الكلب في الزيت أو اللبن فما الحكم فيه؟ =

ص: 192

وأمّا مذهب مالك:

فقال ابن الحاجب: "وفي قليل النَّجاسة في كثير الطَّعام المائع قولان"(1).

= فأجاب رحمه الله: إذا كان أكثر من القلتين فهو طاهر عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وإن كان دون القلتين، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره، ومذهب المدنيين وكثير من أهل الحديث: أنه طاهر كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو اختيار طائفة من أصحابه: كابن عقيل، وغيره، وكذلك المائع إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فيه نزاع معروف، وقد بسط في موضع آخر.

والأظهر: أنه إذا لم يكن للنجاسة فيه أثرٌ، بل استهلكت فيه ولم تغير له لوناً ولا طعماً ولا ريحاً، فإنّه لا ينجس. والله سبحانه أعلم.

وانظر أيضًا مجموع الفتاوى (20/ 24 - و 515 - 522).

(1)

جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3).

وقال في مواهب الجليل شرح مختصر خليل (1/ 364 - 365): قال ابن الإمام في شرح قول ابن الحاجب: "وفي قليل النّجاسة في كثير الطعام المائع قولان" ما نصُّه: المشهور نجسٌ وهو ظاهر المدوّنة فيما ماتت فيه دابهٌ من عسلٍ ذائبٍ لإطلاقه لا يؤكل ولا يباع دون تقييدٍ بكونه قليلاً، وهو قول ابن القاسم فيمن فرّغ عشر جرار سمنٍ في ستين زقًّا ثمّ وجد في جرّةٍ منها فأرةً يابسةً لا يدري في أي الزّقاق فرّغها، أنَّهُ يحرّم عليه أكل جميعها وبيعه.

وقول الجمهور أيضًا، قال ابن بطّالٍ: لا خلاف بين أئمّة الفتوى: أنَّهُ لا يؤكل سمنٌ مائعٌ وزيتٌ وخلٌّ ونحوه يقع فيه الميتة، وقد حكى ابن عبد البرّ إجماع العلماء على نجاسة السّمن الذائب وشبهه قليلاً كان، أو كثيرًا إذا ماتت فيه فأرةٌ، أو وقعت ميّتةً قال: وشذّ قومٌ ممن لا يعدّ عند أهل العلم خلافاً فجعلوا المائع كلّه كالماء وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مالكاً قال: إذا أخرجت الفأر من الزّيت حين ماتت، أو علم أنّه لم يخرج منها شيءٌ فيه لكنّي أخاف فلا أحبُّ أكله. قال سحنونٌ في زيتٍ وجدت فيه فأرةٌ يابسةٌ ذلك خفيفٌ؛ لأنَّ يبسها دلٌّ على أنّها لم تمت فيه وإنّما صبّ عليها وهي يابسةٌ إلَّا أن يحمل ما حكي على طول مقامها في الحالين ولا اعتراض يقول سحنونٍ =

ص: 193

قال الشيخ خليل في شرحه: أي: وفي تأثير قليل النجاسة فعدم التأثير كالماء. والتأثير لأنَّ الماء له مزية بتطهير العين الباقي.

والمشهور: التأثير.

قال ابن دقيق العيد: ولو فرَّق بين ما يعسر الاحتراز منه (1) كروثِ الفأرة فيعفى [عنه]، وبين ما لا يعسر كبول ابن آدم، فينجِّس لما بعد (2).

= على هذا لدلالة يبسها على موتها قبل صبّه لامتناع يبسها مع موتها فيه، وعلى أنّها أخرجت بقرب صبّه وإلَّا امتنع كونها يابسةً، أو لأنَّه أراد بالعلماء من ليس بمقلّدٍ فلا اعتراض بقوله وعلى هذا فلا اعتراض يقول ابن نافعٍ الَّذي يأتي انتهى.

وقوله: فيه نظرٌ يعني ما حكاه ابن عبد البرّ، وقوله: إلَّا أن يحمل يعني ما حكاه ابن عبد البرّ فتأمّله.

قال الباجيّ في كتاب الجامع من المنتقى: لمَّا تكلّم على مسألة الفأرة تقع في الدين وذكر عن ابن حبيبٍ أنها إذا ماتت فيه وكان ذائباً لا يحل أكله؛ لأنَّ موتها فيه ينجّسه وذكر عن الموّازيَة نحو ما ذكره ابن الإمام عن مالكٍ أنَّهُ قال: إذا أخرجت حين ماتت، أو علم أنَّهُ لم يخرج منها فيه شيءٌ، ولكني أخاف فلا أحبُّ أكله، وهذا الّذي قاله ابن حبيبٍ هو مذهب ابن الماجشون ويرى أن لموت الحيوان في الزّيت وسائر المائعات مزيّةً في تنجيسه.

وما رواه ابن الموّاز عن مالكٍ أنَّهُ حكم بنجاسته لما خاف أن يخرج منه في الزّيت والقولان فيهما نظرٌ، وذلك أنّ الموت عرضٌ لا يؤثر في طهارةٍ ولا نجاسةٍ ولا يوصف بهما، وكذلك أيضًا ما يخرج من الحيوان عند موته، أو بعد ذلك لا يكون أشدّ نجاسةً من الميتة، وقد تنجّس الزّيت بمجاورتها، وهذا هو المشهور من مذهب مالكٍ وأصحابه. انتهى.

(1)

في المخطوط: (عنه).

(2)

ذكره صاحب مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل (1/ 360) وقال في نسبته: قال في التوضيح قال شيخنا:. . . فذكره.

ص: 194

ويفهم من قوله: "قليل"، أنّ النَّجاسة لو كانت كثيرة أفسدت، وإن كان الطعام كثيرًا.

"وأمّا الجامد كالعسل والسّمن الجامدين فينجس ما مرت (1) به خاصّة قليلة أو كثيرة، فيلقى (2)، وما [23/ ب] حولها بطول (3) مكثها وقصره"(4).

قال ابن الحاجب: "وفي استعمال النجس لغير أكل كالوقود وعلف الدواب والنّحل (5) قولان"(6).

قال الشيخ خليل: والمشهور من القولين: الجواز. والوقود مقيّد بغير المساجد.

قال ابن الحاجب: "وفي طهارة الزيت النجس ونحوه قولان"(7).

قال الشيخ خليل: قال ابن بشير: المشهور في ذلك كله؛ لأنَّه لا يطهر.

وقال ابن الحاجب (8): وهما جاريان في كل نجاسة، تغيرت أعراضها

(1) في جامع الأمهات: (سرت).

(2)

في جامع الأمهات: (فتلقى).

(3)

في جامع الأمهات: (بحسب طول).

(4)

جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3).

(5)

في المخطوط: (والنخل).

(6)

جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3) وزاد: (بخلاف شحم الميتة والعذرة على الأشهر).

(7)

جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3).

(8)

جامع الأمهات لابن الحاجب (1/ 3) قريبٌ منه.

ص: 195

كرماد الميتة - يعني: القولين المتقدمين - في لبن الجلاّلة جريان فيما ذكر. ويرجّح غيره عدم الطهارة.

وأمّا مذهب أحمد بن حنبل:

فقال الزركشي في شرح الخرقي (1): إذا وقعت (2) النجاسة في مائعٍ، ففي أحد الروايات: أنه ينجسٌ قلَّ أو كثرَ. وهي اختيار عامّة الأصحاب.

الثَّانية: حكم الماءِ حكم المائعِ. اختارها أبو العباس.

الثالثة: ما أصله الماء كالحل ونحوه. حكمه حكم الماء، وما لا فلا.

وقال في الزيت النجس: ويجوز الاستصباح به في أشهر الروايتين. وهي اختيار الخرقي.

والثانية: لا يجوزُ.

ومنع أحمد من دهن الجلود به، ولا يحل أكله ولا بيعه. هو المشهور المجزوم به، عند عامّة الأصحاب.

وعنه رواية: أنه يجوز بيعه لكافرٍ يعلم بنجاسته.

وخرَّج أبو الخطاب وغيره قولًا بجواز بيعه مطلقًا من رواية: الاستصباح؛ لأنَّه إذاً مُنْتَفَعٌ (3) به.

(1) انظر مختصر الخرقي (1/ 143) والمغني لابن قدامة (11/ 87) وكشف القناع عن متن الأقناع (2/ 19).

(2)

تحرف في المخطوط إلى: (وقت).

(3)

تحرف في المخطوط إلى: (امتنع).

ص: 196

وخرَّجَ أبو البركات ذلك على القول بتطهيره بالغسل؛ لأنَّه إذًا كالثَّوب المتنجّس. وهذا أصحُّ إلَّا أنَّهُ بناءٌ على ضعيفٍ. انتهى.

قال الشيخ العلامة ابن مفلح الحنبلي في كتابه المسمّى بالفروع (1): ولا باستحالة ذي رأي لا يطهر شيءٌ باستحالة ونارٍ.

وعنه: بل بقي عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يطهر بالاستحالة والنار.

قال: وعليهما (2) يتخرج عمل زيتٍ نجسٍ صابوناً ونحوه. انتهى.

فقد علمت: أن عن الإمام مالك وأحمد كقولنا. وإنما الاختلاف في ترجيح أحد القولين.

وهنا أنا أذكر لك ما حضرني من الأدلة على محلّ النّزاع، والله [24/ أ] ولي الإعانة.

روى الطحاوي في المشكل (3)، والحاكم في. . . . . . . . . . . . . . .

(1) الفروع (1/ 241 عالم الكتب ط 4 سنة 1985 هـ) قريبٌ منه.

(2)

في المخطوط: (وعليها). والمثبت من الفروع.

(3)

رواه الطحاوي في مشكل الآثار (12/ 21) رقم (4664) قال: حدّثنا فهد بن سليمان قال: حدّثنا الحسن بن الرَّبيع قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن قال: إن كان جامداً فخذوها وما حولها فألقوه، وإن كان ذائباً، أو مائعاً، فاستصبحوا به، أو فاستنفعوا به". فكان في هذا الحديث إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستصباح، أو الاستنفاع بالسمن النجس، ولا نعلم أحداً ممن يحتج بروايته روى في هذا المعنى حديثاً بين فيه هذا المعنى، كما بينه معمر في حديثه هذا فقال قائل فإن محمد بن دينار الطاحي قد روى هذا الحديث عن معمر بغير هذه الألفاظ، =

ص: 197

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فذكر (4665) ما قد حدّثنا محمد بن خزيمة قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي قال: حدّثنا محمد بن دينار الطاحي قال: حدّثنا معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الفأرة تقع في السمن قال:"إن كان مائعاً أهريق، وإذا كان جامداً أخذت وما حولها، وأكل الآخر" فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله صلى الله عليه وسلم وعونه: أن كل واحد من عبد الواحد بن زياد، ومن محمد بن دينار لو تفرد بحديث لكان مقبولًا منه، ومن كان كذلك، فانفرد بزيادة في حديث، كانت تلك الزيادة مقبولة منه قال: فقد روى هذا الحديث عن الزُّهريّ غير معمر، وهو ابن عيينة، ومالك، فخالفا معمراً في إسناده وفي متنه.

ورواه في بيان مشكل الآثار (13/ 211) رقم (5354) قال: حدّثنا فهد بن سليمان قال: حدّثنا الحسن بن الرَّبيع قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ قال:"إن كان جامداً فخذوها وما حولها فألقوه، وإن كان ذائباً أو مائعاً فاستصبحوا به، أو فاستنفعوا به". وقال الطحاوي: فكان في هذا الحديث إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستصباح أو الاستنفاع بالسمن النجس ولا نعلم أحدًا ممن يحتج بروايته روى في هذا المعنى حديثاً بيَّن فيه هذا المعنى كما بيَّنه معمر في حديثه هذا، فقال قائل فإن محمد بن دينار الطاحي قد روى هذا الحديث عن معمر بغير هذه الألفاظ فذكر (5355) ما قد حدّثنا محمد بن خزيمة قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي قال: حدّثنا محمد بن دينار الطاحي قال: حدّثنا معمر عن الزُّهريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الفأرة تقع في السمن قال: إن كان مائعاً أهريق وإذا كان جامداً أخذت وما حولها وأكل الآخر. فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن كل واحد من عبد الواحد بن زياد ومن محمد بن دينار لو تفرد بحديث لكان مقبولاً منه ومن كان كذلك فانفرد بزيادة في حديث كانت تلك الزيادة مقبولة منه، قال فقد روى هذا الحديث عن الزُّهريّ غير معمر وهو ابن عيينة ومالك فخالفا معمراً في إسناده وفي متنه فذكر (5356) ما قد حدّثنا يونس قال: حدّثنا سفيان عن الزُّهريّ عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة زوج النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال ألقوها =

ص: 198

المستدرك (1)، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَقَعَتِ الفَأرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَألْقُوْهَا وَمَا حَولَهَا، وَإنْ كَانَ ذَائِباً فَاسْتَصْبِحُوا - أَوْ: فَانتفِعُوا - بِهِ".

قال الحاكم: صحيح على شرطهما.

وقال الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه (2): حدّثنا عبد الوهاب الثَّقفيُّ، عن برد، عن مكحولٍ: أَنَّ فَأرَةً وَقَعَتْ فِي زيتٍ، فَسَألوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ:"اسْتَصْبِحُوا بِهِ وَلَا تأكلُوه".

وكانَ مكحولٌ يقولُ: إِذَا وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ وَكَانَ (3) جَامِداً أُلقيَ وَمَا حَوْلَهُ، وَأكُلَ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَائِباً لَمْ (4) يُؤْكَلْ مِنْهُ شَيءٌ.

= وما حولها وكلوه حدّثنا جويرية بن أسماء عن مالك عن الزُّهريّ أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن ابن عباس أخبره أن ميمونة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله فأرة وقعت في سمن فماتت فقال خذوها وما حولها من السمن فاطرحوه. (5359) وما قد حدّثنا ابن أبي داود قال حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرنا مالك وابن عيينة عن الزُّهريّ عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مثله. فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أنه قد يحتمل أن يكون كان عند الزُّهريّ في هذا الباب عن سعيد بن المسيب ما رواه عنه معمر وعن عبيد الله ما رواه عنه ابن عيينة ومالك فلا نجعل إحدى الروايتين دافعة للأخرى ولكن نصححهما جميعاً ونعمل بما فيهما فقال هذا القائل فقد وجدناكم تروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنع ممَّا أطلقه هذا الحديث الذي رويتموه عن معمر من إباحته الاستصباح بما أباح الاستصباح به فيه.

(1)

لم أجده في المستدرك.

(2)

المصنف (24406).

(3)

في المصنف: فكان.

(4)

في المخطوط: (ما). والمثبت من المصنف.

ص: 199

وهذا حديثٌ مرسلٌ، والمرسلُ عندنا حجّة، وكذلك عند مالك، وروايةٌ عن أحمد.

وقد بيَّنتُ أرجحية القول بقبول الْمُرْسَلِ فِي مقدمة شرح القدوري، ونزهة الرائض فليطلبه ثمّة من أراد الوقوف عليه، ومن يرد المرسل يقبله إذا جاء موصولًا من طريقٍ أخرى. وهذا كذلك.

فإن طريق الطحاوي والحاكم غير هذه، فإنّها عن (1) عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قال ابن أبي شيبة:

حدّثنا هشام، عن أبي بشر، عن نافع: أنَّ جرذاً وقعَ في قدرٍ؛ لآلِ ابْنِ عُمَرَ، فَسُئِلَ؟ فقال: انتُفِعُوا بهِ، وادْهَنُوا بِهِ الأُدْم (2)(3).

حدّثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافعٍ، عن صفية بنت أبي عبيدٍ: أنَّ جرّاً لآل ابن عمر، فيه عشرون فرقاً من سمنٍ أو زيادة، وقعت فيه فأرةٌ فماتت، فأمرهم ابن عمر أن يستصبحوا به (4).

حدّثنا زياد بن الحباب، عن حميد بن عبيد الطَّائي، حدّثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن جدّه أنس: أنه سُئِلَ (5) عن الفأرة تقع في الزيت أو

(1) في المخطوط: (من).

(2)

تحرف في المخطوط إلى: (ادّهنوا به الأرم قال أبو شيبة: وحدثنا هيثم، عن أبي بشر، عن نافع: أنّ جرذاً وقع في قدرٍ؛ لأنَّ عمر. فقال: انتفعوا به).

(3)

المصنف (24396).

(4)

المصنف (24397). وانظر المصنف لعبد الرَّزاق (286).

(5)

في المخطوط: (سأل).

ص: 200

السمن (1)؟ قال: إِنْ كَانَ جَامِدًا أخذت وما حولها فألقي وأكل ما بقي، وإن كان ذائبًا استصبحوا به (2)(3).

حدثنا عبد الله بن نمير، عن عبد الملك [24/ ب] عن عطاء قال: إن كَانَ جامدًا فألقوها وما يليها، وكل ما بقي، وإن كان ذائبًا فاستصبح به ولا تأكله (4).

حدثنا هشام (5)، عن يونس، عن ابن سيرين: أنَّ الأشعري سُئِلَ عن سمنٍ مَاتَ فيها وزغٌ؟ فقال: بيعوه بيعًا، ولا تبيعوه من مُسْلِمٍ (6). انتهى.

وقول الصحابي والتابعي الذي زاحم الصحابة في الفتوى، حُجّةٌ عندنا. ولهذا شاهدٌ صحيح؛

أخرجه الشيخان في صحيحيهما (7)، عن النبي صلى الله عليه وسلم في العَجِيْنِ الذي عُجِنَ بماءٍ، مِنْ آبَارِ ثَمُودَ، أنَّهُ نهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضحَ (8).

وإذا جازَ الاستصباح، ودهن الجلود، جاز عندهما من وجوهٍ الانتفاعُ إلّا للأكل، لخروجه بالنص.

(1) في المصنف: (في السمن والزيت).

(2)

في المصنف: (استصبحوها).

(3)

المصنف (24400).

(4)

المصنف (24405). وليراجع مصنف عبد الرزاق (284 و 288 و 289).

(5)

تحرف في المخطوط إلى: (هيثم).

(6)

المصنف (24395).

(7)

رواه البخاري (3199) ومسلم (2981)(40) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(8)

أي: الإبل.

ص: 201

فإن قيل: قد روى أبو داود (1)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ في فَأرَةٍ وقعت في سمنٍ:"فإنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوه".

قلت: قد صرَّح الحفاظ بأن معمرًا غلط فيه عن الزهري.

قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية (2): وأمَّا الزيادة التي رواها أبو داود وغيره: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وان كان مائعًا فلا تقربوه"، فهيَ غلطٌ كما بيّن ذلك البخاري.

وذكره الترمذي (3) وقالوا: غلط معمرٌ في هذا.

ومما استدل به البخاري في صحيحه (4): أن الزهري نفسه أفتى في المائع إذا وقعت فيه الفأرة أو غيرها جامدًا أو مائعًا، قليلًا كانَ أو كثيرًا، أن يلقي النّجاسة ويؤكل.

واحتجّ الزّهري بهذا الحديث.

فتبيّن بهذا: أن سائر أصحابه حفظوه عنه، وغلط عليه معمر لا سيّما فيما حدّث به معمرٌ للبصريين عنه، فإنه غلط فيه في مواضع. انتهى.

قلت: في رواية الطحاوي والحاكم يكون من الاختلاف على معمرٍ. والله أعلم.

(1) رواه أحمد (2/ 32 و 265 و 490) وأبو داود (3842) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فأرةٍ وقعت في سمنٍ فماتت؟ قال: "إن كان جامدًا فخذوها وما حولها، ثم كلوا ما بقي، وإن كان مائعًا فلا تأكلوه".

(2)

مرّ قبل قليل كلام شيخ الإسلام كاملًا في هامش الكتاب.

(3)

(1798).

(4)

الصحيح (5219).

ص: 202

وعلى التنزّل: فإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما إذا أمكنَ، وقد أمكنَ بحمل القربان النهي عنه، عن الأكل.

وقد أطلق القربان في لسان الشرع، وأريدَ به غير مطلق الدنوّ مما يقتضيه المقام.

قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152، الإسراء: 34].

وإذا ثبت جواز الانتفاع صح [25/ أ] البيعُ إلَّا أن يقومَ مانعٌ.

وأمَّا دليلُ طهارة ما استحال إلى عين طهارةٍ فهوَ: أنَّ الشارعَ رتّب وصف النجاسة على تلك الحقيقة.

والحقيقة تنتفي بانتفاء بعض أجزاء مفهومها. فبالكل أولى.

وقد روى حربٌ الكرماني مسألةً بإسناده إلى أنس بن مالكٍ: أنهُ سئلَ عن تنّورٍ شويَ فيه خنزيرٌ. قال: يسجره مرةً أخرى.

وفي روايةٍ: حتّى يبيض (1).

وقد أطنب شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميّة في تقريره هذا وإيضاحه فقال في مسألة ملاقاة النجاسة: الظاهر الصحيح من قول العلماء، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد.

ووجه في مذهب الشافعي (2): أنّ النّجاسة إذا صارت رمادًا أو

(1) قال ابن قدامة في المغني (1/ 89): نهى إمامنا رحمه الله عن الخبز في تنور شوي فيه خنزير.

(2)

قال النووي في المجموع شرح المهذب (2/ 579): مذهبنا: أنه لا يطهر السرجين،=

ص: 203

قصر ملا (1) كانَ ذلكَ طاهرًا، وكذلك إذا صار ملحًا أو نشادرًا أو دخانًا أو فطرويًا أو غير ذلك من الأعيان الطّاهرة.

وتراب القبور المنبوشة وإن كان مستحيلًا عن صديدِ الموتى.

وقد ثبت في الصحيح (2): أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقبرةً للمشركين، وكان فيه نخلٌ وخروبٌ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت، وبالنّخل فقطعت، وبالخروب فسويت، ولم يأمر بنقل التراب القديم الذي كان في المقبرة، وهي مقبرة المشركين.

فما الظن بمقابر المسلمين.

ومن ظنّ من الفقهاء: أنه إنما نهى عن الصلاة في المقبرة لأجل النجاسة، فظنّهُ مخطئٌ، بل العلّة التي بينّها صلى الله عليه وسلم إنما هي مشابهة المشركين. وساق الأدلة. ووجهها إلى أن قال:

= والعذرة، وعظام الميتة، وسائر الأعيان النجسة بالإحراق بالنار، وكذا لو وقعت هذه الأشياء في مملحة، أو وقع كلب ونحوه، وانقلبت ملحًا، ولا يطهر شيءٌ من ذلك عندنا، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وداود، وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة طهارة هذا كله، وحكاه صاحب العدة والبيان وجها لأصحابنا. وقال إمام الحرمين: قال أبو زيد والخضري من أصحابنا: كل عين نجسة رمادها طاهرٌ تفريعًا على القديم، إذ الشمس والريح والنار تطهر الأرض النجسة، وهذا ليس بشيء، وقد فرّق المصنف بينها، وبين الخمر إذا تخللت. والله أعلم.

(1)

(قصر ملا) كذا في المخطوط.

(2)

رواه البخاري (418 و 1769 و 2000 و 2619 و 2622 و 2627 و 3717) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 204

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وَجُعِلَتْ تُرْبتُهَا طَهُورًا"(1).

يتناول الذي عند القبور وغيره.

ومن قال: إن ذلك أو غيره نجسٌ لا مستحيل عن نجاسةٍ. فيقال له: هذا المعنى لا يوجب تحريمه لا بنص ولا قياس، فإنّ هذا لم يدخل في ألفاظ النصوص، فإنه تراب، وإنما حرّم الله الخبائث لما فيها من الخبث.

وهذا المعنى منتفٍ فيه، وقد اتفق [25/ ب] العلماء على أن الخمر إذا بدأ الله بفسادها، طهرت مع أنه إنما تغير بعض صفاتها، لكن لما زال ما فيها من المعنى المسكر حلّتْ.

ومعلومٌ: أن استحالة بقية الخبائث ملحًا وترابًا وبخارًا أبلغ من استحالة الخمر، فهي أولى بالتطهير، وقد فرق من فرق بين الخمر وغيره من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم: بأن الخمرة حلت بالاستحالة، وطهرت بالاستحالة، بخلاف غيرها.

فيقالُ لهم: هذا الفرقُ فاسدٌ بوجهين:

أحدهما: أن هذا تسليمٌ ما. والاستحالة تؤثر في انقلاب حكم العين، فإذا كانت تجعل الطيب خبيثًا، والخبيث طيبًا. عُلِمَ: أن هذا حكمها في الطرفين جميعًا.

الثاني: أن جميع الخبائث كذلك، إنما صارت نجسةً بالاستحالة، فإنّ الإنسانَ يشربُ الماء الطّاهر فيستحيل بولًا، ودمًا.

(1) رواه مسلم (522) عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء"، وذكر خصلة أخرى.

ص: 205

ويأكل الطعام فيستحيل عذرةً.

والخنزيرُ مخلوقٌ من الماء والتراب، وهما طاهران (1). انتهى.

(1) قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (21/ 319 - 333)(رسالة في الحمام): فصل: الماء الجاري في أرض الحمام، خارجًا منها، أو نازلًا في بلاليعها، لا يحكم بنجاسته، بل بطهارته، إلا أن تعلم نجاسة شيءٍ منه، ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد: أن الحمام لم ينه عن الصلاة فيها لكونها مظنة النجاسة، كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء، وهو وجه في مذهب أحمد، ومن قال هذا قال: إذا غسلنا موضعًا منها، أو تيقنا طهارته، جازت الصلاة فيه.

وأما على من قال بالنهي مطلقًا كما في حديث أبي سعيد الذي في سنن أبي داود وغيره - وقد صحّحه من صحّحه من الحفاظ، وبينوا أن رواية من أرسله لا تنافي الرواية المسندة الثابتة - أن النبي قال:"الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، فاستثنى الحمام مطلقًا، فيتناول الاسم ما دخل في المسمى، فلهم طريقان: أحدهما: أن النهي تعبد، لا يعقل معناه، كما ذهب إليه طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم كأبي بكر والقاضي أبي يعلى وأتباعه. والثاني: أن ذلك لأنها مأوى الشياطين، كما في الحديث الذي رواه الطبراني، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا، قال: بيتك الحمام. قال: اجعل لي قرآنا. قال: قرآنك الشعر. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: مؤذنك المزمار".

وهذا التعليل كتعليل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل بنحو ذلك، كما في الحديث:"إن على ذروة كل بعير شيطان، وإنها جن خلقت من جن"، إذ لا يصح التعليل هناك بالنجاسة؛ لأنه فرق بين أعطان الإبل ومبارك الغنم، وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء، كما لا يصح تعليل الأمر بالوضوء من لحومها؛ بأنه لأجل مسّ النار، مع تفريقه بين لحوم الإبل ولحوم الغنم، وكلاهما في مس النار وعدمه سواء.

وكذلك تعليل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التراب هو ضعيف، فإن النهي عن المقبرة مطلقًا، وعن اتخاذ القبور مساجد، ونحو ذلك، مما يبين أن النهي لما فيه من مظنة الشرك، ومشابهة المشركين. =

ص: 206

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأيضًا فنجاسة تراب المقبرة فيه نظر، فإنه مبني على مسألة الاستحالة، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان مقبرة للمشركين، وفيه نخل وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطعت، وجعلت قبلة المسجد، وأمر بالخرب فسويت، وأمر بالقبور فنبشت فهذه، مقبرة منبوشة، كان فيها المشركون، ثم لما نبش الموتى جعلت مسجدًا مع بقاء ما بقي فيها من التراب، ولو كان ذلك التراب نجسًا لوجب أن ينقل من المسجد التراب النجس، لا سيما إذا اختلط الطاهر بالنجس، فإنه ينبغي أن ينقل ما يتيقن به زوال النجاسة، ولم يفعل ذلك، ولم يؤمر باجتناب ذلك التراب، ولا بإزالة ما يصيب الأبدان والثياب منه.

فتبين أن الحكم معلّقٌ بظهور القبور، لا بظن نجاسة التراب؛ وأيضًا من علل ذلك بالنجاسة، فإن غايته أن يكره الصلاة عند الاحتمال، كما قاله من كره الصلاة في المقبرة والحمام والأعطان، ولم يحرمها كما ذهب إليه طائفة من العلماء، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن السنة فرّقت بين معاطن الإبل ومبارك الغنم، ولأنه استثنى كونها مسجدًا، فلم تبق محلًا للسجود، ولأنه نهى عن ذلك نهيًا مؤكدا بقوله قبل أن يموت بخمس:"إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".

ولأنه لعن على ذلك بقوله: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما فعلوا، ولأنه جعل مثل هؤلاء شرار الخليقة، بقوله:"إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".

وأيضًا فإنه قد ثبت بسنته أن احتمال نجاسة الأرض لا يوجب كراهة الصلاة فيها، بل ثبت بسنته أن الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح والاستحالة، كما هو قول طؤائف من العلماء، كأبي حنيفة والشافعي في قول، ومالك في قول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد؛ فإنه ثبت أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك. وثبت في الصحيح عنه: أنه كان يصلي في نعليه. وفي السنن عنه، أنه قال:"إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم". وقال: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى=

ص: 207

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور"، فإذا كان قد جعل التراب يطهر أسفل الخف؛ فلأن يطهر نفسه أولى وأحرى.

وأيضًا فمن المعلوم: أن غالب طرقات الناس تحتمل من النجاسة نحو ما تحتمله المقبرة والحمام، أو نحو ذلك أو أكثر من ذلك، فلو كان ذلك سبب النهي لنهى عن الصلاة في النعال مطلقًا؛ لأن هذا الاحتمال فيها أظهر، فهذه السنن تبطل ذلك التعليل من وجهين:

من جهة أن هذا الاحتمال لم يلتفت إليه، ومن جهة أن التراب مطهر لما يلاقيه في العادة.

والمقصود هنا: الكلام في الماء الجاري في الحمام، فنقول: إن كراهة هذا الماء وتوقيه، وكسل ما يصيب البدن والثوب منه، إما أن يكون على جهة الاستقذار، وإما أن يكون على جهة النجاسة.

أما الأول فكما يغسل الإنسان بدنه وثيابه من الوسخ والدنس، ومن الوحل الذي يصيبه، ومن المخاط والبصاق، ومن المني على القول بطهارته، وأشباه ذلك. ومثل هذا قد يكون في المياه المتغيزة بمقرّها وممازجها، ونحو ذلك. وهذا نوع غير النوع الذي نتكلم فيه الآن.

وأما اجتناب ذلك على جهة تنجيسه، فحجّته أن يقال: إن هذا الماء في مظنة أن تخالطه النجاسة، وهو ما يكون في الحمام من القيء والبول؛ فإن هذه النجاسة التي قد تكون في الحمام، فأما العذرة أو الدم أو غير ذلك، فلا تكاد تكون في الحمام، وإن كان فيها نادرًا تميز وظهر.

وأيضًا فقد يزال به نجاسة تكون على البدن أو الثياب، فإن كثيرًا ممن يدخل الحمام يكون على بدنه نجاسة، إما من تخلي، وإما من مرض، وإما غير ذلك، فيغسلها في الحمام، وكذلك بعض الآنية قد يكون نجسًا، وقد يكون بعض ما يغسل فيها من الثياب نجسًا.

وأيضًا فهذا الماء كثيرًا ما يكون فيه الماء المستعمل في رفع الحدث، وهو نجس عند من يقول بنجاسته، فهذه الحجة المعتمدة. =

ص: 208

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والجواب عنها مبني على أصول ثلاثة:

أحدها: الجواب فيه من وجوه: أحدها: أن يقال: الماء الفائض من حياض الحمام والمصبوب على أبدان المغتسلين أو على أرض الحمام، طاهر بيقين، وما ذكر مشكوك في إصابته لهذا الماء المعين، فإنه وإن تيقن أن الحمام يكون فيه مثل هذا، فلم يتيقن أن هذا الماء المعين أصابه هذا، واليقين لا يزول بالشك.

الوجه الثاني: أن يقال: هذا بعينه وارد في طين الشوارع لكثرة ما يصيبه من أبوال الدواب، وقد قال أصحاب أحمد وغيرهم: بطهارته، بل النجاسة في طين الشوارع أكثر وأثبت؛ فإن الحمام وإن خالط بعض مياهها نجاسة فإنه يندفع ولا يثبت بخلاف طين الشوارع.

الوجه الثالث: أن يقال: كما أن الأصل عدم النجاسة، فالظاهر موافق للأصل، وذلك أنا إذا اعتبرنا ما تلاقيه النجاسة في العادة، وما لا تلاقيه كان ما لا تلاقيه أكثر بكثير، فإن غالب المياه الجارية في أرض الحمام لا يلاقيها في العادة نجاسة، وإذا اتفق الأصل والظاهر، لم تبق المسألة من موارد النزاع، بل من مواقع الإجماع، ولهذا قلت: أنه لا يستحب غسل ذلك تنجسًا، فإنه وسواس. ولنا فيما إذا شك في نجاسة الماء: هل يستحب البحث عن نجاسته؟ وجهان: أظهرهما: لا يستحب البحث، لحديث عمر. وذلك لأن حكم الغائب إنما يثبت بعد العلم في الصحيح، الذي هو ظاهر مذهب أحمد ومذهب مالك وغيرهما، ولا إعادة على من لم يعلم أن عليه نجاسة، وهذا وإن كان في اجتنابها في الصلاة، فمسألة إصابتها لنا فيها أيضًا وجهان.

الوجه الرابع: أنا إذا قدرنا أن الغالب التنجس، فقد يعارض الأصل والظاهر، وفي مثل هذا كثيرًا ما يجيء قولان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، كثياب الكفار ونحو ذلك، لكن مع مشقة الاحتراز كطين الشوارع، يرجحون الطهارة، وإذا قيل بالتنجيس في مثل هذا عفي عن يسيره.

الأصل الثاني: أن نقول: هب أن هذا الماء خالطته نجاسة، لكنه ماء جار، فإنه ساحٌّ على وجه الأرض، والماء الجاري إذا خالطته نجاسة، ففيه للعلماء قولان: أحدهما: أنه لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة، وهذا أصح القولين، وهو مذهب مالك وأحمد=

ص: 209

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= في أحد القولين اللذين يدل عليهما نصه، وهو مذهب أبي حنيفة - مع شدة قوله في الماء الدائم -، وهو القول القديم للشافعي، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم والاغتسال فيه دليلٌ على أن الجاري بخلاف ذلك، وهو دليلٌ على أنه لا يضره البول فيه والاغتسال فيه.

وأيضًا فإنه طاهر لم يتغير بالنجاسة، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تنجيسه، فإن الذين يقولون: إن الماء الجاري كالدائم تعتبر فيه القلتان، فإذا كانت الجرية أقل من قلتين، نجسته. كما هو الجديد من قولي الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد؛ فانه لا حجّة لهم في هذا، ولا أثر عن أحد من السلف، إلا التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وقياس الجاري على الدائم، وكلاهما لا حجة فيه.

أما الحديث فمنطوقه لا حجة فيه، وإنما الحجة في مفهومه، ودلالة مفهوم المخالفة لا تقتضي عموم مخالفة المنطوق في جميع صور المسكوت، بل تقتضي أن المسكوت ليس كالمنطوق، فإذا كان بينهما نوع فرق ثبت أن تخصيص أحد النوعين بالذكر مع قيام المقتضي للتعميم كان لاختصاصه بالحكم، فإذا قال:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، دلّ أنه إذا لم يبلغ قلتين لم يكن حكمه كذلك، فإذا كان ما لم يبلغ فرق فيه بين الماء الجاري والدائم حصل المقصود، لا سيما والحديث ورد جوابًا عن سؤالهم عن الماء الدائم الذي يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من السباع والدواب، فيبقى قوله:"الماء طهور لا ينجسه شيء" الوارد في بئر بضاعة متناولًا للجاري. والفرق: أن الجاري له قوة دفع النجاسة عن غيره، فإنه إذا صبّ على الأرض النجسة طهّرها ولم يتنجس، فكيف لا يدفعها عن نفسه؟! ولأن الماء الجاري يحيل النجاسة بجريانه.

وأيضًا فإن القياس: هل هو تنجيس الماء بمخالطة النجاسة، أو عدم تنجيسه حتى تظهر النجاسة؟ فيه قولان للأصحاب وغيرهم.

فمن قال بالأول، قال: العفو عما فوق القلتين، كان للمشقة؛ لأنه يشق حفظه من وقوع النجاسة فيه، لأنه غالبًا يكون في الحياض والغدران والآبار، بخلاف القليل=

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فإنه يكون في الأواني، وهذا المعنى موجود في الجاري، فإن حفظه من النجاسة أصعب من حفظ الدائم الكثير.

ومن قال بالثاني، وأن الأصل الطهارة حتى تظهر النجاسة، كان التطهير على قوله أوكد، فإن القليل الدائم نجسٌ؛ لأنه قد يحمل الخبث، كما نبّه عليه الحديث. وأما الجاري فإنه بقوة جريانه يحيل الخبث فلا يحمله، كما لا يحمله الكثير.

وإذا كان كذلك؛ فهذه المياه الجارية في حمام إذا خالطها بول أو قيء أو غيرهما، كانت نجاسة قد خالطت ماءً جاريًا فلا ينجس إلا بالتغير، والكلام فيما لم تظهر فيه النجاسة.

وإن قيل: إن ماء الحمام يخالطه السدر والخطمي والتراب، وغير ذلك مما يغسل به الرأس، والأشنان والصابون والحناء، وغير ذلك من الطاهرات التي تختلط به، حتى لا تظهر فيه النجاسة.

قيل: إذا جاز أن تكون النجاسة ظاهرة فيه، وجاز أن لا تكون ظاهرة، فالأصل عدم ظهورها، وإذا كان قد علم أنه تخالطه الطاهرات، ورأيناه متغيرًا، أحلنا التغير على مخالطة الطاهرات، إذ الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، لا إلى المقدر المظنون. بل قد ثبت النص بذلك فيما أصله الحظر، كالصيد إذا جرح وغاب؛ فإنه ثبت بالنص إباحته، وإن جاز أن يكون قد زهق بسبب آخر أصابه، فزهوقه إلى السبب المعلوم، وهو جرح الصائد أو كلبه، وإن كان في المسألة أقوال متعددة، فهذا هو الصواب الذي ثبت بالنصّ الصحيح الصريح.

الأصل الثالث: أن نقول: هب أن الماء تنجس، فإنه صار نجاسة على الأرض، والنجاسة إذا كانت على الأرض بولًا كانت أو غير بول، فإنه يطهر بصبّ الماء عليها، إذا لم تبق عينها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث قال:"لا تزرموه"، أي: لا تقطعوا عليه بوله. "فصبوا على بوله ذنوبًا من ماء".

وقال: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".

ولهذا قال أصحاب أحمد وغيره: إن نجاسة الأرض والبرك والحياض المبنية ونحو ذلك، مما لا ينقل ويحول، يخالف النجاسة على المنقول من الأبدان=

ص: 211

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والثياب والآنية، من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه لا يشترط فيها العدد، لا من ولوغ الكلب ولا غيره.

الثاني: أنه لا يشترط فيها الانفصال عن موضع النجاسة.

الثالث: أن الغسالة طاهرة قبل انفصالها عن موضع النجاسة.

وإذا كان كذلك، فنقول: ما كان على أرض الحمام من بول وغيره، فإنه قد جرى عليه الماء بعد ذلك، فطهرت الأرض مع طهارة الغسالة، وإذا كانت غسالة الأرض طاهرة زالت الشبهة بالكلية، فإنه إن قال قائل: قد يكون من الماء ما تزال به نجاسة عن البدن أو آنية أو ثوب.

قيل له: فهذه إذا كانت نجسة وأصابت الأرض لم تكن أعظم من البول المصيب الأرض، وإذا كانت تلك النجاسة تزول مع طهارة الغسالة قبل الانفصال، فهذه أولى، وليس له أن يقول النجاسة منتفية، ومرور الماء المطهر مشكوك فيه، لا سيما وقد يكون ذلك الماء المار مما لا يزيل النجاسة، لكونه مستعملًا، أو لتغيره بالطاهرات؛ لأنه يقال له: ليس الكلام في نجاسة معينة منتفية مشكوك في زوالها، وإنما الكلام فيما يعتاد.

ومن المعلوم بالعادات: أن الماء المطهر، والجاري على أرض الحمام، أكثر من النجاسات بكثير كثير. فيكون ذلك الماء قد طهر ما مرّ عليه من نجس، فإنّ اغتسال الناس من غير حدثٍ ولا نجسٍ في الحمامات أكثر من اغتسالهم من إحدى هاتين الطهارتين، وهم يصبّون على أبدانهم من الماء القراح الذي ينفصل غير متغير أكثر من غيره، وإن كان فيه تغير يسير بيسير السدر والأشنان، فهذا لا يخرجه عن كونه مطهرًا، بل الراجح من القولين - وهو إحدى الروايتين عن أحمد - التي نصها في أكثر أجوبته: أن الماء المتغيّر بالطاهر كالحمص والباقلاء، لا يخرج عن كونه طهورًا، ما دام اسم الماء يتناوله، كالماء المتغير بأصل الخلقة، كماء البحر وغيره، وما تغير بما يشق صونه عنه من الطحلب وورق الشجر وغيرهما، فإن شمول اسم الماء في اللغة لهذه الأصناف الثلاثة واحد.

فإن كان لفظ الماء في قوله: (فلم تجدوا ماء) يتناول أحد هذه الأصناف،=

ص: 212

وربما يؤدي النظر في دليل الطهارة بالاستحالة إلى أنّ المائع إذا كان كثيرًا، وكانت النجاسة الواقعة بحيث تستهلك فيه أو بعضها لا ينجس ولا يحرم

= فقد تناول الآخرين، وقد ثبت أنه متناول للمتغير ابتداءً وطردًا لما يشق الاحتراز عنه، فيتناول الثالث، إذ الفرق إنما يعود إلى أمر معهود، وهو أن هذا يمكن الاحتراز عنه، وهذا لا يمكن، وهذا الفرق غير مؤثر في اللغة، ويتناول اللفظ لمعناه، وشمول الاسم مسماه، فيحتاج المفرق إلى دليل منفصل، وقد ثبت بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته ناقته:"اغسلوه بماء وسدر". وكذلك قال للَاّتي غسلن ابنته: "اغسلنها بماء وسدر". وللذي أسلم: "اغتسل بماء وسدر"، وهذا فيه كلام ليس هذا موضعه.

وإذا تبيّن ما ذكرناه ظهر عظيم البدعة، وتغيير السنة والشرعة، فيما يفعله طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين من فرط الوسوسة في هذا الباب، حتى صاروا إنما يفعلونه مضاهين لليهود، بل للسامرية الذين يقولون: لا مساس.

وياب التحليل والتحريم - الذي منه باب التطهير والتنجيس - دين الإسلام فيه وسط بين اليهود والنصارى، كما هو وسط في سائر الشراح، فلم يشدد علينا في أمر التحريم والنجاسة كما شدّد على اليهود، الذين حرمت عليهم طيبات أحلت لهم بظلمهم وبغيهم، بل وضعت عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، مثل قرض الثوب ومجانبة الحائض في المؤاكلة والمضاجعة وغير ذلك، ولم تحلل لنا الخبائث كما استحلها النصارى، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فلا يجتنبون نجاسة، ولا يحرمون خبيثًا، بل غاية أحدهم أن يقول: طهّر قلبك وصل. واليهودي إنما يعتني بطهارة ظاهره لا قلبه، كما قال تعالى عنهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} .

وأما المؤمنون، فإن الله طهّر قلوبهم وأبدانهم من الخبائث، وأما الطيبات فأباحها لهم، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبّ ربنا ويرضى. وانظر مجموع الفتاوى (22/ 179 - 185).

ص: 213

تناوله بعين ما تقدم من دليلهم؛ ولأنّ التحريم في كتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعلق بأسماءٍ ولها معانٍ. والتحليل كذلك، فإنّ الله تعالى أحلَّ اللبنَ والعسلَ والدّهنَ ونحوها. وحرّم الميتة والدّم والخمر والخبائث من غيرها.

والنجس المستهلك في الزيت لا يتناوله لفظ التحريم، ولا معناه. والمستهلك فيه لم يثبت له اسم الخبث، بل هذا المائع الذي استهلك فيه الخبث، إنّما يُسمَّى لبنًا وعسلًا وزيتًا مثلًا، ولا يُسَمَّى باسم الخبث، يكون قد تناوله نصوص التحليل دون التحريم، فيكون طاهرًا حلالًا لا حرامًا نجسًا. وفي هذا تكريرُ الاستدلال للتوضيح.

وكذا لو شرب زيتًا استهلكت فيه الخمر لا يجلد ولو شرب الصبي في زمن الرضاع لبنًا مغلوبًا بغيره، لا يثبت حرمة الرضاع [26/ أ] وحينئذٍ إن لم يكن محل إطلاقِ المشايخ التنجيس والحرمة والأمر بالإراقة أو الاستصباح والبيع بالمعنى المذكور. والتطهير بالطريق المذكور: أنَّ ما يكون في الأواني بل هو أعمّ من ذلك، فالترجيح عندي لما قال شداد: المائع كالماء وإن كان مرادهم ما يكون في الأواني كما تقتضيه عبارة الكرخي.

فالقولان متوافقان، ويحمل رواية أبي داود على تقدير الثبوت على أنها خرجت مخرج العادة.

ومثلها: مرسلُ مكحولٍ، وأقوالُ الصحابة والتابعين المذكورين، وهو ظاهر.

وفي خصوص ما نحن فيه:

ص: 214

ما رواه ابن أبي شيبة (1): حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: سُئِلَ ابنُ مسعودٍ في فأرة وقعت في سمنٍ فماتت. فقال: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ من الْمَيْتَةِ لَحْمَهَا وَدَمَهَا.

وفتوى الزهري المتقدّمة، والكلُّ في الماءِ جارٍ على قول أبي يوسف الذي أخبرناه، كما قدمنا نقله. والله أعلم.

* * *

(1) المصنف (24398).

ص: 215