الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِذَا زَهَّدَتْنِي فِي الْهَوَى خَشْيَةُ الرَّدَى
…
جَلَتْ لِي عَنْ وَجْهٍ يُزَهِّدُ فِي الزُّهْدِ
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ]
[حَقِيقَةُ الْوَرَعِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ
وَمِنْ مَنَازِلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: نَفْسَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الذَّنْبِ. فَكَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ. وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، النَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا غَدْرٍ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ:
وَإِنِّي - بِحَمْدِ اللَّهِ - لَا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي وَصْفِ الرَّجُلِ بِالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ: طَاهِرُ الثِّيَابِ. وَتَقُولُ لِلْغَادِرِ وَالْفَاجِرِ: دَنِسُ الثِّيَابِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى الْغَدْرِ، وَالظُّلْمِ وَالْإِثْمِ. وَلَكِنِ الْبِسْهَا وَأَنْتَ بَرٌّ طَاهِرُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ. قَالَ السَّعْدِيُّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ صَالِحًا: إِنَّهُ لَطَاهِرُ الثِّيَابِ. وَإِذَا كَانَ فَاجِرًا: إِنَّهُ لَخَبِيثُ الثِّيَابِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَقَلْبَكَ وَبَيْتَكَ فَطَهِّرْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ: وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَتَطَهَّرُونَ، وَلَا يُطَهِّرُونَ ثِيَابَهُمْ.
وَقَالَ طَاوُسٌ: وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ؛ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طُهْرَةً لَهَا.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَطْهِيرَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ وَتَقْصِيرَهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّطْهِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، إِذْ بِهِ تَمَامُ إِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الظَّاهِرِ تُورِثُ نَجَاسَةَ الْبَاطِنِ. وَلِذَلِكَ أَمَرَ الْقَائِمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل بِإِزَالَتِهَا وَالْبُعْدِ عَنْهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْوَرِعَ يُطَهِّرُ دَنَسَ الْقَلْبِ وَنَجَاسَتَهُ. كَمَا يُطَهِّرُ الْمَاءُ دَنَسَ الثَّوْبِ وَنَجَاسَتَهُ. وَبَيْنَ الثِّيَابِ وَالْقُلُوبِ مُنَاسِبَةٌ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ. وَلِذَلِكَ تَدُلُّ ثِيَابُ الْمَرْءِ فِي الْمَنَامِ عَلَى قَلْبِهِ وَحَالِهِ. وَيُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ. وَلِهَذَا نَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَجُلُودِ السِّبَاعِ، لِمَا تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعُبُودِيَّةِ وَالْخُشُوعِ. وَتَأْثِيرُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ فِي الثِّيَابِ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْ نَظَافَتِهَا وَدَنَسِهَا وَرَائِحَتِهَا، وَبَهْجَتِهَا وَكَسْفَتِهَا، حَتَّى إِنَّ ثَوْبَ الْبَرِّ لَيُعْرَفُ مِنْ ثَوْبِ الْفَاجِرِ، وَلَيْسَا عَلَيْهِمَا.
وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ: " «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ،
وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الْوَرَعُ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ، وَتَرْكُ مَالَا يَعْنِيكَ هُوَ تَرْكُ الْفَضَلَاتِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» .
قَالَ الشِّبْلِيُّ: الْوَرَعُ أَنْ يُتَوَرَّعَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ: الْوَرَعُ فِي الْمَنْطِقِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِأَنَّهُمَا يُبْذَلَانِ فِي طَلَبِ الرِّيَاسَةِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: الْوَرَعُ أَوَّلُ الزُّهْدِ، كَمَا أَنَّ الْقَنَاعَةَ أَوَّلُ الرِّضَا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْوَرَعُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَالَ: الْوَرَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَرَعٌ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَعٌ فِي الْبَاطِنِ، فَوَرَعُ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَتَحَرَّكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَوَرَعُ الْبَاطِنِ هُوَ أَنْ لَا تُدْخِلَ قَلْبَكَ سِوَاهُ. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الدَّقِيقِ مِنَ الْوَرَعِ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ.
وَقِيلَ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَتَرَكُ السَّيِّئَاتِ.
وَقِيلَ: مَنْ دَقَّ فِي الدُّنْيَا وَرَعُهُ - أَوْ نَظَرُهُ - جَلَّ فِي الْقِيَامَةِ خَطَرُهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ شُبْهَةِ، وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ.