الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّفْسِ مِنْهَا طَوْعًا وَاخْتِيارًا وَالْتِذَاذًا - فَأَيُّ وَحْشَةٍ فِي هَذَا؟ وَأَيُّ نَكَارَةٍ فِيهِ؟
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ طَوْعًا وَمَحَبَّةً، وَرِضًا وَإِيثَارًا: لَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الصَّبْرَ. فَيَكُونُ صَبْرُهُ فِي هَذَا الْحَالِ مَلْزُومَ الْوَحْشَةِ وَالنَّكَارَةِ. لِمُنَافَاتِهَا لِحَالِ الْمُحِبِّ.
قِيلَ: لَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ. فَإِنَّ صَبْرَهُ حِينَئِذٍ قَدِ انْدَرَجَ فِي رِضَاهُ. وَانْطَوَى فِيهِ. وَصَارَ الْحُكْمُ لِلرِّضَا. لَا أَنَّ الصَّبْرَ عَدَمٌ، بَلْ لِقُوَّةِ وَارِدِ الرِّضَا وَالْحُبِّ. وَإِيثَارِ مُرَادِ الْمَحْبُوبِ، صَارَ الْمَشْهَدُ وَالْمَنْزَلُ لِلرِّضَا بِحُكْمِ الْحَالِ. وَالصَّبْرُ جُزْءٌ مِنْهُ وَمُنْطَوٍ فِيهِ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا الْقَدْرَ. فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ، فَحَبَّذَا الْوِفَاقُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْقِيلَ وَالْقَالَ. وَمُنَازَعَاتِ الْجِدَالِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ: فَقَدْ عَرَفَ مَا فِيهِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الصَّبْرِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى الصَّبْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الصَّبْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، بِمُطَالَعَةِ الْوَعِيدِ: إِبْقَاءً عَلَى الْإِيمَانِ، وَحَذَرًا مِنَ الْحَرَامِ، وَأَحْسَنُ مِنْهَا: الصَّبْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ حَيَاءً.
ذَكَرَ لِلصَّبْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبَيْنِ وَفَائِدَتَيْنِ.
أَمَّا السَّبَبَانِ: فَالْخَوْفُ مِنْ لُحُوقِ الْوَعِيدِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي الْحَيَاءُ مِنَ الرَّبِّ تبارك وتعالى أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى مَعَاصِيهِ بِنِعَمِهِ، وَأَنْ يُبَارَزَ بِالْعَظَائِمِ.
وَأَمَّا الْفَائِدَتَانِ: فَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْحَذَرُ مِنَ الْحَرَامِ.
فَأَمَّا مُطَالَعَةُ الْوَعِيدِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ: فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِالْخَبَرِ، وَالتَّصْدِيقُ بِمَضْمُونِهِ.
وَأَمَّا الْحَيَاءُ: فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْمَعْرِفَةِ، وَمُشَاهَدَةُ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ وَازِعُ الْحُبِّ. فَيَتْرُكُ مَعْصِيَتَهُ مَحَبَّةً لَهُ، كَحَالِ الصُّهَيْبِيِّينَ.
وَأَمَّا الْفَائِدَتَانِ: فَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ: يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. لِأَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تُنْقِصَهُ، أَوْ تَذْهَبَ بِهِ، أَوْ تُذْهِبَ رَوْنَقَهُ، وَبَهْجَتَهُ، أَوْ تُطْفِئَ نُورَهُ، أَوْ تُضْعِفَ قُوَّتَهُ، أَوْ تُنْقِصَ ثَمَرَتَهُ. هَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ يُعْلَمُ بِالْوُجُودِ وَالْخَبَرِ وَالْعَقْلِ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ - يَرْفَعُ إِلَيْهِ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا - وَهُوَ مُؤْمِنٌ. فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ. وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» .
وَأَمَّا الْحَذَرُ عَنِ الْحَرَامِ: فَهُوَ الصَّبْرُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحِ، حَذَرًا مِنْ أَنْ يَسُوقَهُ إِلَى الْحَرَامِ.
وَلَمَّا كَانَ الْحَيَاءُ مِنْ شِيَمِ الْأَشْرَافِ، وَأَهْلِ الْكَرَمِ وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ كَانَ صَاحِبُهُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ أَهْلِ الْخَوْفِ.
وَلِأَنَّ فِي الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ مَعَهُ.
وَلِأَنَّ فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ مَا لَيْسَ فِي وَازِعِ الْخَوْفِ.
فَمَنْ وَازِعُهُ الْخَوْفُ: قَلْبُهُ حَاضِرٌ مَعَ الْعُقُوبَةِ. وَمَنْ وَازِعُهُ الْحَيَاءُ: قَلْبُهُ حَاضِرٌ مَعَ اللَّهِ. وَالْخَائِفُ مُرَاعٍ جَانِبَ نَفْسِهِ وَحِمَايَتَهَا. وَالْمُسْتَحِي مُرَاعٍ جَانِبَ رَبِّهِ وَمُلَاحِظٌ عَظَمَتَهُ.