الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْفِرَاسَةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى فِرَاسَةٌ طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: فِرَاسَةٌ طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ. تَسْقُطُ عَلَى لِسَانٍ وَحْشِيٍّ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. لِحَاجَةِ سَمْعِ مُرِيدٍ صَادِقٍ إِلَيْهَا. لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى مُخْرِجِهَا. وَلَا يُؤْبَهُ لِصَاحِبِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَخْلُصُ مِنَ الْكَهَانَةِ وَمَا ضَاهَأَهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تُشِرْ عَنْ عَيْنٍ، وَلَمْ تَصْدُرْ عَنْ عِلْمٍ. وَلَمْ تُسْبَقْ بِوُجُودٍ.
يُرِيدُ بِهَذَا النَّوْعِ: فِرَاسَةً تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْغَافِلِينَ، الَّذِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ يَقَظَةُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ تَسْقُطُ عَلَى لِسَانٍ وَحْشِيٍّ. الَّذِي لَمْ يَأْنَسْ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَلَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبُ صَاحِبِهِ. فَيَسْقُطُ عَلَى لِسَانِهِ مُكَاشَفَةٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. وَذَلِكَ نَادِرٌ. وَرَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ.
وَقَوْلُهُ: لِحَاجَةِ مُرِيدٍ صَادِقٍ.
يُشِيرُ إِلَى حِكْمَةِ إِجْرَائِهَا عَلَى لِسَانِهِ. وَهِيَ حَاجَةُ الْمُرِيدِ الصَّادِقِ إِلَيْهَا. فَإِذَا سَمِعَهَا عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ كَانَ أَشَدَّ تَنْبِيهًا لَهُ. وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَوْقِعًا.
وَقَوْلُهُ: لَا يُوقَفُ عَلَى مُخْرِجِهَا.
يَعْنِي لَا يُعْلَمُ الشَّخْصُ الَّذِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ. وَاتَّصَلَتْ بِهِ. مَا سَبَبُ مُخْرِجِ ذَلِكَ الْكَلَامِ؟ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مُقْتَطَعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا هَيَّجَهُ.
وَلَا يُؤْبَهُ لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْفَأْلِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيُعْجِبُهُ. وَالطِّيَرَةُ مِنْ هَذَا. وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَطَيَّرُ. فَإِنَّ التَّطَيُّرَ شِرْكٌ. وَلَا يَصُدُّهُ مَا سَمِعَ عَنْ مَقْصِدِهِ وَحَاجَتِهِ. بَلْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَيَثِقُ بِهِ. وَيَدْفَعُ شَرَّ التَّطَيُّرِ عَنْهُ بِالتَّوَكُّلِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» .
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ - وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا مَنَّا إِلَّا - يَعْنِي مَنْ يَعْتَرِيهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهَا بِالتَّوَكُّلِ - مُدْرَجَةٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَجَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا.
وَمِنْ لَهُ يَقَظَةٌ يَرَى وَيَسْمَعُ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ. وَهِيَ مِنْ إِلْقَاءِ الْمَلَكِ تَارَةً عَلَى لِسَانِ النَّاطِقِ. وَتَارَةً مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ.
فَالْإِلْقَاءُ الْمَلَكِيُّ: تَبْشِيرٌ وَتَحْذِيرٌ وَإِنْذَارٌ. وَالْإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِيُّ: تَحْزِينٌ وَتَخْوِيفٌ وَشِرْكٌ. وَصَدٌّ عَنِ الْمَطَالِبِ.
وَصَاحِبُ الْهِمَّةِ وَالْعَزِيمَةِ: لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ. وَلَا يَصْرِفُ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ. وَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُرُّهُ اسْتَبْشَرَ. وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ وَحَسُنَ ظَنُّهُ. وَحَمِدَ اللَّهَ. وَسَأَلَهُ إِتْمَامَهُ. وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حُصُولِهِ. وَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُوءُهُ: اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَوَثِقَ بِهِ. وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ. وَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَالْتَجَأَ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ. وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ. وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ. وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ.
وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نُصْبَ قَلْبِهِ، وَعَلَّقَ بِهِ هِمَّتَهُ: كَانَ ضَرَرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ.
قَوْلُهُ: وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَخْلُصُ مِنَ الْكَهَانَةِ
يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ. وَأَحْوَالُ الْكُهَّانِ مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي إِخْبَارِهِمْ عَنْ نَوْعٍ مِنَ الْمَغِيبَاتِ بِوَاسِطَةِ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّمْعَ، وَلَمْ يَزَلْ هَؤُلَاءِ فِي الْوُجُودِ. وَيَكْثُرُونَ فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي يَخْفَى فِيهَا نُورُ النُّبُوَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُلُّ زَمَانِ جَاهِلِيَّةٍ وَبَلَدِ جَاهِلِيَّةٍ وَطَائِفَةِ جَاهِلِيَّةٍ، فَلَهُمْ