الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرَّغْبَةُ هِيَ مِنَ الرَّجَاءِ بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقٍ وَالرَّغْبَةُ سُلُوكٌ عَلَى التَّحْقِيقِ.
أَيِ الرَّغْبَةُ تَتَوَلَّدُ مِنَ الرَّجَاءِ. لَكِنَّهُ طَمَعٌ. وَهِيَ سُلُوكٌ وَطَلَبٌ.
وَقَوْلُهُ: الرَّجَاءُ طَمَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقِ أَيْ طَمَعٌ فِي مَغِيبٍ عَنْهُ مَشْكُوكٍ فِي حُصُولِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَحَقِّقًا فِي نَفْسِهِ، كَرَجَاءِ الْعَبْدِ دُخُولَ الْجَنَّةِ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُتَحَقِّقَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا. وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي دُخُولِهِ إِلَيْهَا. وَهَلْ يُوَافِي رَبَّهُ بِعَمَلٍ يَمْنَعُهُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ مَا يَرْغَبُ فِيهِ. فَالْإِيمَانُ فِي الرَّغْبَةِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الرَّجَاءِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: وَالرَّغْبَةُ سُلُوكٌ عَلَى التَّحْقِيقِ.
هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
فَإِنَّ الرَّغْبَةَ أَيْضًا طَلَبُ مَغِيبٍ، هُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ حُصُولِهِ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرْغَبُ فِي الْجَنَّةِ وَلَيْسَ بِجَازِمٍ بِدُخُولِهَا. فَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ وَالرَّغْبَةُ طَلَبٌ. فَإِذَا قَوِيَ الطَّمَعُ صَارَ طَلَبًا.
[دَرَجَاتُ الرَّغْبَةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى رَغْبَةُ أَهْلِ الْخَبَرِ]
قَالَ: وَالرَّغْبَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رَغْبَةُ أَهْلِ الْخَبَرِ. تَتَوَلَّدُ مِنَ الْعِلْمِ. فَتَبْعَثُ عَلَى الِاجْتِهَادِ الْمَنُوطِ بِالشُّهُودِ. وَتَصُونُ السَّالِكَ عَنْ وَهَنِ الْفَتْرَةِ وَتَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ.
أَرَادَ بِالْخَبَرِ هَاهُنَا الْإِيمَانَ الصَّادِرَ عَنِ الْأَخْبَارِ. وَلِهَذَا جَعَلَ تَوَلُّدَهَا مِنَ الْعِلْمِ. وَلَكِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ مُتَّصِلٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْسَانِ مِنْهُ، يُشْرِفُ عَلَيْهِ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ: الْمَنُوطُ بِالْمَشْهُودِ. أَيِ الْمُقْتَرِنُ بِالشُّهُودِ. وَذَلِكَ الشُّهُودُ: هُوَ مَشْهَدُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَلَا مَشْهَدَ لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا أَعْلَى مِنْ هَذَا.
وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ فَوْقَهُ مَشْهَدًا أَعْلَى مِنْهُ. وَهُوَ شُهُودُ الْحَقِّ مَعَ غَيْبَتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهُوَ مَقَامُ الْفَنَاءِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ.
وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَقَامِ الْإِحْسَانِ مَقَامٌ آخَرُ لَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ. وَلَسَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ. فَإِنَّهُ جَمَعَ مَقَامَاتِ الدِّينِ كُلَّهَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ.
نَعَمْ الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ هُوَ تَحْقِيقُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالتَّبَتُّلِ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ فَوْقَ ذَلِكَ مَقَامٌ يُطْلَبُ إِلَّا مَا هُوَ مِنْ عَوَارِضَ الطَّرِيقِ.
قَوْلُهُ: وَتَصُونُ السَّالِكَ عَنْ وَهَنِ الْفَتْرَةِ؛ أَيْ تَحَفَظُهُ عَنْ وَهَنِ فُتُورِهِ وَكَسَلِهِ، الَّذِي سَبَّبَهُ عَدَمُ الرَّغْبَةِ أَوْ قِلَّتُهَا.
وَقَوْلُهُ: وَتَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. أَهْلُ الْعَزَائِمِ بِنَاءُ أَمْرِهِمْ عَلَى الْجِدِّ وَالصِّدْقِ. فَالسُّكُونُ مِنْهُمْ إِلَى الرُّخَصِ رُجُوعٌ وَبَطَالَةٌ.
وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ. لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ. وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» . فَجَعَلَ الْأَخْذَ بِالرُّخَصِ قُبَالَةَ إِتْيَانِ الْمَعَاصِي. وَجَعَلَ حَظَّ هَذَا: الْمَحَبَّةَ. وَحَظَّ هَذَا: الْكَرَاهِيَةَ. وَمَا عُرِضَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَانِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا وَالرُّخْصَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْعَزِيمَةِ. وَهَكَذَا كَانَ حَالُهُ فِي فِطْرِهِ وَسَفَرِهِ، وَجَمْعِهِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَالِاقْتِصَارِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَنَقُولُ:
الرُّخْصَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الرُّخْصَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ الْمَعْلُومَةُ مِنَ الشَّرْعِ نَصًّا، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ قِيلَ لَهَا عَزِيمَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ وَالْوُجُوبِ. فَهِيَ
رُخْصَةٌ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ وَالتَّوْسِعَةِ. وَكَفِطْرِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَصَلَاةِ الْمَرِيضِ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ قَاعِدًا، وَفِطْرِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَوْفًا عَلَى وَلَدَيْهِمَا، وَنِكَاحِ الْأَمَةِ خَوْفًا مِنَ الْعَنَتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَلَيْسَ فِي تَعَاطِي هَذِهِ الرُّخَصِ مَا يُوهِنُ رَغْبَتَهُ. وَلَا يَرُدُّ إِلَى غَثَاثَةٍ. وَلَا يُنْقِصُ طَلَبَهُ وَإِرَادَتَهُ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ رَاجِحُ الْمَصْلَحَةِ، كَفِطْرِ الصَّائِمِ الْمَرِيضِ، وَقَصْرِ الْمُسَافِرِ وَفِطْرِهِ. وَمِنْهَا مَا مَصْلَحَتُهُ لِلْمُتَرَخِّصِ وَغَيْرِهِ. فَفِيهِ مَصْلَحَتَانِ قَاصِرَةٌ وَمُتَعَدِّيَةٌ. كَفِطْرِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ.
فَفِعْلُ هَذِهِ الرُّخَصِ أَرْجَحُ وَأَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: رُخَصُ التَّأْوِيلَاتِ، وَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ. فَهَذِهِ تَتَبُّعُهَا حَرَامٌ يُنْقِصُ الرَّغْبَةَ، وَيُوهِنُ الطَّلَبَ، وَيَرْجِعُ بِالْمُتَرَخِّصِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ.
فَإِنَّ مَنْ تَرَخَّصَ بِقَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الصَّرْفِ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَأَصْحَابِ الْحِيَلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ، وَإِبَاحَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ نِكَاحَ الْبَغَايَا الْمَعْرُوفَاتِ بِالْبِغَاءِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ زَوْجَ قَحْبَةٍ، وَقَوْلِ مَنْ أَبَاحَ آلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ مِنَ الْيَرَاعِ وَالطُّنْبُورِ، وَالْعُودِ وَالطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ، وَقَوْلِ مَنْ أَبَاحَ الْغِنَاءَ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ اسْتِعَارَةَ الْجَوَارِي الْحِسَانِ لِلْوَطْءِ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ لِلصَّائِمِ أَكَلَ الْبَرَدِ. وَقَالَ: لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الْأَكْلَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ لِلصَّائِمِ، وَقَوْلِ مَنْ صَحَّحَ الصَّلَاةَ بِمُدْهَامَّتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ.