الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَقِيقَةُ الْعِلْمِ أَدَّاهُ إِلَى الرِّضَا.
وَلَيْسَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ. فَإِنَّ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. لَا يُفَارِقَانِ الْمُتَلَبِّسَ بِهِمَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْبَرْزَخِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. بِخِلَافِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَإِنَّهُمَا يُفَارِقَانِ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِحُصُولِ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ، وَأَمْنِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ. وَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُمْ لِمَا يَنَالُونَ مِنْ كَرَامَتِهِ دَائِمًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ رَجَاءً مَشُوبًا بِشَكٍّ. بَلْ هُوَ رَجَاءٌ وَاثِقٌ بِوَعْدٍ صَادِقٍ، مِنْ حَبِيبٍ قَادِرٍ. فَهَذَا لَوْنٌ وَرَجَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْنٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُ الْأَفْضَلَ. فَيَرْضَى بِهِ.
قُلْتُ: وَهَذَا رِضًا بِمَا مِنْهُ. وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ: فَأَعْلَى مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَحْبُوبِهِ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ شَرْطُ الرِّضَا]
فَصْلٌ
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَلَّا يُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَلَّا يُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ. بَلْ أَلَّا يَعْتَرِضَ عَلَى الْحُكْمِ وَلَا يَتَسَخَّطَهُ. وَلِهَذَا أُشْكِلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الرِّضَا بِالْمَكْرُوهِ، وَطَعَنُوا فِيهِ. وَقَالُوا: هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى الطَّبِيعَةِ. وَإِنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الرِّضَا وَالْكَرَاهَةُ؟ وَهُمَا ضِدَّانِ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ وُجُودَ التَّأَلُّمِ وَكَرَاهَةَ النَّفْسِ لَهُ لَا يُنَافِي الرِّضَا، كَرِضَا الْمَرِيضِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، وَرِضَا الصَّائِمِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ، وَرِضَا الْمُجَاهِدِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ، وَغَيْرِهَا.
وَطَرِيقُ الرِّضَا طَرِيقٌ مُخْتَصَرَةٌ، قَرِيبَةٌ جِدًّا، مُوصِلَةٌ إِلَى أَجَلِّ غَايَةٍ. وَلَكِنَّ فِيهَا مَشَقَّةً. وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ مَشَقَّتُهَا بِأَصْعَبَ مِنْ مَشَقَّةِ طَرِيقِ الْمُجَاهِدَةِ. وَلَا فِيهَا مِنَ الْعَقَبَاتِ وَالْمَفَاوِزِ مَا فِيهَا. وَإِنَّمَا عَقَبَتُهَا هِمَّةٌ عَالِيَةٌ. وَنَفْسٌ زَكِيَّةٌ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ.
وَيُسَهِّلُ ذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ: عِلْمُهُ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَرَحْمَتُهُ بِهِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِرُّهُ بِهِ، فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَهَذَا، وَلَمْ يَطْرَحْ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَرْضَى بِهِ وَعَنْهُ، وَتَنْجَذِبْ دَوَاعِي حُبِّهِ وَرِضَاهُ كُلُّهَا إِلَيْهِ: فَنَفْسُهُ نَفْسٌ مَطْرُودَةٌ عَنِ اللَّهِ، بَعِيدَةٌ عَنْهُ. لَيْسَتْ مُؤَهَّلَةً لِقُرْبِهِ وَمُوَالَاتِهِ، أَوْ نَفْسٌ مُمْتَحَنَةٌ مُبْتَلَاةٌ بِأَصْنَافِ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ.
فَطَرِيقُ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ: تُسَيِّرُ الْعَبْدَ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ. فَيُصْبِحُ أَمَامَ الرَّكْبِ بِمَرَاحِلَ.
وَثَمَرَةُ الرِّضَا: الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالرَّبِّ تبارك وتعالى.
وَرَأَيْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي الْمَنَامِ. وَكَأَنِّي ذَكَرْتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ. وَأَخَذْتُ فِي تَعْظِيمِهِ وَمَنْفَعَتِهِ - لَا أَذْكُرُهُ الْآنَ - فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَطَرِيقَتِيَ: الْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَالسُّرُورُ بِهِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَةِ.
وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُهُ فِي الْحَيَاةِ. يَبْدُو ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَيُنَادِي بِهِ عَلَيْهِ حَالُهُ. لَكِنْ قَدْ قَالَ الْوَاسِطِيٌّ: اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ. وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكِ، فَتَكُونَ مَحْجُوبًا بِلَذَّتِهِ وَرُؤْيَتِهِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تُطَالِعُ.
وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْوَاسِطِيُّ هُوَ عَقَبَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَمَقْطَعٌ لَهُمْ. فَإِنَّ مُسَاكَنَةَ الْأَحْوَالِ، وَالسُّكُونَ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفَ عِنْدَهَا اسْتِلْذَاذًا وَمَحَبَّةً: حِجَابٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِحُظُوظِهِمْ عَنْ مُطَالَعَةِ حُقُوقِ مَحْبُوبِهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ. وَهِيَ عَقْبَةٌ لَا يَحُوزُهَا إِلَّا أُولُو الْعَزَائِمِ.
وَكَانَ الْوَاسِطِيُّ كَثِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ. شَدِيدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا.
وَمِنْ كَلَامِهِ: إِيَّاكُمْ وَاسْتِحْلَاءَ الطَّاعَاتِ. فَإِنَّهَا سُمُومٌ قَاتِلَةٌ.
فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ. وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكَ أَيْ لَا يَكُونُ عَمَلُكَ لِأَجْلِ حُصُولِ حَلَاوَةِ الرِّضَا، بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْبَاعِثَةَ لَكَ عَلَيْهِ. بَلِ اجْعَلْهُ آلَةً لَكَ وَسَبَبًا مُوصِلًا إِلَى قَصْدِكَ وَمَطْلُوبِكَ. فَتَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ، لَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَكَ.
وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالرِّضَا، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْقَلْبُ، حَتَّى إِنَّهُ أَيْضًا لَا يَكُونُ عَامِلًا عَلَى الْمَحَبَّةِ لِأَجْلِ الْمَحَبَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ بِهِ. بَلْ يَسْتَعْمِلُ الْمَحَبَّةَ فِي مَرْضَاةِ الْمَحْبُوبِ، لَا يَقِفُ عِنْدَهَا. فَهَذَا مِنْ عِلَلِ الْمَحَبَّةِ.