الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَرَى أَنَّهُ يَنْفَعُكَ. فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ. وَقِيلَ: مَا أَمْلَقَ تَاجِرٌ صَدُوقٌ.
[فَصْلٌ تَعْرِيفُ الصِّدْقِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الصِّدْقُ: اسْمٌ لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ حُصُولًا وَوُجُودًا.
الصِّدْقُ: هُوَ حُصُولُ الشَّيْءِ وَتَمَامُهُ، وَكَمَالُ قُوَّتِهِ، وَاجْتِمَاعُ أَجْزَائِهِ، كَمَا يُقَالُ: عَزِيمَةٌ صَادِقَةٌ. إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً، وَكَذَلِكَ: مَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ، وَإِرَادَةٌ صَادِقَةٌ. وَكَذَا قَوْلُهُمْ: حَلَاوَةٌ صَادِقَةٌ: إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً ثَابِتَةَ الْحَقِيقَةِ. لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَمِنْ هَذَا أَيْضًا: صِدْقُ الْخَبَرِ. لِأَنَّهُ وُجُودُ الْمُخْبَرِ بِتَمَامِ حَقِيقَتِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
فَالتَّمَامُ وَالْوُجُودُ نَوْعَانِ: خَارِجِيٌّ، وَذِهْنِيٌّ. فَإِذَا أَخْبَرْتَ الْمُخَاطَبَ بِخَبَرٍ صَادِقٍ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِكَمَالِهِ وَتَمَامِهِ فِي ذِهْنِهِ.
وَمِنْ هَذَا: وَصْفُهُمُ الرُّمْحَ بِأَنَّهُ صَادِقُ الْكُعُوبِ إِذَا كَانَتْ كُعُوبُهُ صُلْبَةً قَوِيَّةً مُمْتَلِئَةً.
[دَرَجَاتُ الصِّدْقِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى صِدْقُ الْقَصْدِ]
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: صِدْقُ الْقَصْدِ. وَبِهِ يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَيُتَلَافَى بِهِ كُلُّ تَفْرِيطٍ. وَيُتَدَارَكُ بِهِ كُلُّ فَائِتٍ. وَيَعْمُرُ كُلُّ خَرَابٍ. وَعَلَامَةُ هَذَا الصَّادِقِ: أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ دَاعِيَةً تَدْعُو إِلَى نَقْضِ عَهْدٍ. وَلَا يَصْبِرَ عَلَى صُحْبَةِ ضِدٍّ. وَلَا يَقْعُدَ عَنِ الْجِدِّ بِحَالٍ.
يَعْنِي بِصِدْقِ الْقَصْدِ: كَمَالَ الْعَزْمِ، وَقُوَّةَ الْإِرَادَةِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ صَادِقَةٌ إِلَى السُّلُوكِ، وَمَيْلٌ شَدِيدٌ يَقْهَرُ السِّرَّ عَلَى صِحَّةِ التَّوَجُّهِ. فَهُوَ طَلَبٌ لَا يُمَازِجُهُ رِيَاءٌ وَلَا فُتُورٌ. وَلَا يَكُونُ فِيهِ قِسْمَةٌ بِحَالٍ. وَلَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي شَأْنِ السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ إِلَّا بِهِ.
وَيُتَلَافَى بِهِ كُلُّ تَفْرِيطٍ. فَإِنَّهُ حَامِلٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ يَنَالُ بِهِ الْوُصُولَ، وَقَطْعِ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَلَا يَتْرُكُ فُرْصَةً تَفُوتُهُ. وَمَا فَاتَهُ مِنَ الْفُرَصِ السَّابِقَةِ تَدَارَكَهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَيُصْلِحُ مِنْ قَلْبِهِ مَا مَزَّقَتْهُ يَدُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ. وَيُعَمِّرُ مِنْهُ مَا خَرَّبَتْهُ
يَدُ الْبَطَالَةِ. وَيُوقِدُ فِيهِ مَا أَطْفَأَتْهُ أَهْوِيَةُ النَّفْسِ. وَيَلُمُّ مِنْهُ مَا شَعَّثَتْهُ يَدُ التَّفْرِيطِ وَالْإِضَاعَةِ. وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ مَا نَهَبَتْهُ أَكُفُّ اللُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ. وَيَزْرَعُ مِنْهُ مَا وَجَدَهُ بُورًا مِنْ أَرَاضِيهِ. وَيَقْلَعُ مَا وَجَدَهُ شَوْكًا وَشِبْرِقًا فِي نَوَاحِيهِ. وَيَسْتَفْرِغُ مِنْهُ مَا مَلَأَتْهُ مَوَادُّ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُتَرَامِيَةِ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ. وَيُدَاوِي مِنْهُ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُ مِنْ عَبَرَاتِ الرِّيَاءِ. وَيَغْسِلُ مِنْهُ الْأَوْسَاخَ وَالْحَوْبَاتِ الَّتِي تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ عَلَى تَقَادُمِ الْأَوْقَاتِ، حَتَّى لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَأَحْزَنَهُ سَوَادُهُ وَوَسَخُهُ الَّذِي صَارَ دِبَاغًا لَهُ، فَيُطَهِّرُهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ مِنْ يَنَابِيعِ الصِّدْقِ الْخَالِصَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكَدُورَاتِ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ طَهُورُهُ بِالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ. فَإِنَّهُ لَا يُجَاوِرُ الرَّحْمَنَ قَلْبٌ دَنِسٌ بِأَوْسَاخِ الشَّهَوَاتِ وَالرِّيَاءِ أَبَدًا. وَلَا بُدَّ مِنْ طَهُورٍ. فَاللَّبِيبُ يُؤْثِرُ أَسْهَلَ الطَّهُورَيْنِ وَأَنْفَعَهُمَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَوْلُهُ: وَعَلَامَةُ هَذَا الصَّادِقِ: أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ دَاعِيَةً تَدْعُو إِلَى نَقْضِ عَهْدٍ.
يَعْنِي أَنَّ الصَّادِقَ حَقِيقَةً: هُوَ الَّذِي قَدِ انْجَذَبَتْ قُوَى رُوحِهِ كُلُّهَا إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَطَلَبِهِ، وَالسَّيْرِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ. وَمَنْ تَكُونُ هَذِهِ حَالَهُ: لَا يَحْتَمِلُ سَبَبًا يَدْعُوهُ إِلَى نَقْضِ عَهْدِهِ مَعَ اللَّهِ بِوَجْهٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا يَصْبِرُ عَلَى صُحْبَةِ ضِدٍّ.
الضِّدُّ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ، وَقُطَّاعُ طَرِيقِ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ. وَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الصَّادِقِ: صُحْبَتُهُمْ، بَلْ لَا تَصْبِرُ نَفْسُهُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا، إِلَّا مَعَ ضَرُورَةٍ. وَتَكُونُ صُحْبَتُهُمْ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِقَالَبِهِ وَشَبَحِهِ، دُونَ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ. فَإِنَّ هَذَا لَمَّا اسْتَحْكَمَتِ الْغَفْلَةُ عَلَيْهِ كَمَا اسْتَحْكَمَ الصِّدْقُ فِي الصَّادِقِ: أَحَسَّتْ رُوحُهُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْمُضَادَّةِ. فَاشْتَدَّتِ النُّفْرَةُ. وَقَوِيَ الْهَرَبُ. وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِحْسَاسِ الصَّادِقِ بِهَا: تَكُونُ نُفْرَتُهُ وَهَرَبُهُ عَنِ الْأَضْدَادِ. فَإِنَّ هَذَا الضِّدَّ إِنْ نَطَقَ أَحَسَّ قَلْبُ الصَّادِقِ: أَنَّهُ نَطَقَ بِلِسَانِ الْغَفْلَةِ، وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ، وَطَلَبِ الْجَاهِ. وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا أَوْ قَارِئًا، أَوْ مُصَلِّيًا أَوْ حَاجًّا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَنَفَرَ قَلْبُهُ مِنْهُ. وَإِنْ صَمَتَ أَحَسَّ قَلْبُهُ: أَنَّهُ صَمَتَ عَلَى غَيْرِ حُضُورٍ وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ، وَإِقْبَالٍ بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَعُكُوفِ السِّرِّ عَلَيْهِ. فَيَنْفِرُ مِنْهُ أَيْضًا. فَإِنَّ قَلْبَ الصَّادِقِ قَوِيُّ الْإِحْسَاسِ. فَيَجِدُ الْغَيْرِيَّةَ وَالْأَجْنَبِيَّةَ مِنَ الضِّدِّ. وَيَشَمُّ الْقَلْبُ الْقَلْبَ كَمَا يَشَمُّ الرَّائِحَةَ الْخَبِيثَةَ. فَيَزْوِي وَجْهَهُ لِذَلِكَ. وَيَعْتَرِيهِ عُبُوسٌ. فَلَا يَأْنَسُ بِهِ إِلَّا تَكَلُّفًا. وَلَا يُصَاحِبُهُ إِلَّا ضَرُورَةً. فَيَأْخُذُ مِنْ صُحْبَتِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ، كَصُحْبَةِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَصَالِحِهِ، كَالزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ وَنَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: وَلَا يَقْعُدُ عَنِ الْجِدِّ بِحَالٍ.
يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ مُسْتَجْمِعَ الْقُوَّةِ: لَمْ يَقْعُدْ بِهِ عَزْمُهُ عَنِ الْجِدِّ فِي جَمِيعِ