الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَغَّرَ اللَّهُ.
وَقِيلَ: الرَّجَاءُ يُحَرِّكُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْخَوْفُ يُبْعِدُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالْمُرَاقَبَةُ تُؤَدِّيكَ إِلَى طَرِيقِ الْحَقَائِقِ.
وَقِيلَ: الْمُرَاقَبَةُ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ لِمُلَاحَظَةِ الْحَقِّ مَعَ كُلِّ خَطْرَةٍ وَخُطْوَةٍ.
وَقَالَ الْجَرِيرِيُّ: أَمْرُنَا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَنْ تُلْزِمَ نَفْسَكَ الْمُرَاقَبَةَ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ عَلَى ظَاهِرِكَ قَائِمًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ: الْمُرَاقَبَةُ خُلُوصُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لِلَّهِ عز وجل.
وَقِيلَ: أَفْضَلُ مَا يُلْزِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: الْمُحَاسَبَةُ وَالْمُرَاقَبَةُ، وَسِيَاسَةُ عَمَلِهِ بِالْعِلْمِ.
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ لِ أَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ: إِذَا جَلَسْتَ لِلنَّاسِ فَكُنْ وَاعِظًا لِقَلْبِكَ وَنَفْسِكَ. وَلَا يَغُرَّنَّكَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْكَ. فَإِنَّهُمْ يُرَاقِبُونَ ظَاهِرَكَ. وَاللَّهُ يُرَاقِبُ بَاطِنَكَ.
وَأَرْبَابُ الطَّرِيقِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخَوَاطِرِ: سَبَبٌ لِحِفْظِهَا فِي حَرَكَاتِ الظَّوَاهِرِ. فَمَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي سِرِّهِ، حَفِظَهُ اللَّهُ فِي حَرَكَاتِهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ.
وَالْمُرَاقَبَةُ هِيَ التَّعَبُّدُ بِاسْمِهِ الرَّقِيبِ، الْحَفِيظِ، الْعَلِيمِ، السَّمِيعِ، الْبَصِيرِ، فَمَنْ عَقَلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ، وَتَعَبَّدَ بِمُقْتَضَاهَا: حَصَلَتْ لَهُ الْمُرَاقَبَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْمُرَاقَبَةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ تَعَالَى فِي السَّيْرِ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ]
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الْمُرَاقَبَةُ: دَوَامُ مُلَاحَظَةِ الْمَقْصُودِ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْمُرَاقَبَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ تَعَالَى فِي السَّيْرِ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، بَيْنَ تَعْظِيمٍ مُذْهِلٍ، وَمُدَانَاةٍ حَامِلَةٍ. وَسُرُورٍ بَاعِثٍ.
فَقَوْلُهُ: دَوَامُ مُلَاحَظَةِ الْمَقْصُودِ أَيْ دَوَامُ حُضُورِ الْقَلْبِ مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ تَعْظِيمٍ مُذْهِلٍ فَهُوَ امْتِلَاءُ الْقَلْبِ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ عز وجل.
بِحَيْثُ يُذْهِلُهُ ذَلِكَ عَنْ تَعْظِيمِ غَيْرِهِ، وَعَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. فَلَا يَنْسَى هَذَا التَّعْظِيمَ عِنْدَ حُضُورِ قَلْبِهِ مَعَ اللَّهِ. بَلْ يَسْتَصْحِبُهُ دَائِمًا. فَإِنَّ الْحُضُورَ مَعَ اللَّهِ يُوجِبُ أُنْسًا وَمَحَبَّةً، إِنْ لَمْ يُقَارِنْهُمَا تَعْظِيمٌ، أَوْرَثَاهُ خُرُوجًا عَنْ حُدُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَرُعُونَةً. فَكُلُّ حُبٍّ لَا يُقَارِنُهُ تَعْظِيمُ الْمَحْبُوبِ فَهُوَ سَبَبٌ لِلْبُعْدِ عَنْهُ، وَالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنَيْهِ.
فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ خَمْسَةَ أُمُورٍ: سَيْرٌ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِدَامَةُ هَذَا السَّيْرِ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ مَعَهُ، وَتَعْظِيمُهُ، وَالذُّهُولُ بِعَظَمَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمُدَانَاةٍ حَامِلَةٍ، فَيُرِيدُ دُنُوًّا وَقُرْبًا حَامِلًا عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ. وَهَذَا الدُّنُوُّ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ الَّذِي يُذْهِلُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ قُرْبًا مِنَ الْحَقِّ ازْدَادَ لَهُ تَعْظِيمًا، وَذُهُولًا عَنْ سِوَاهُ، وَبُعْدًا عَنِ الْخَلْقِ.
وَأَمَّا السُّرُورُ الْبَاعِثُ فَهُوَ الْفَرْحَةُ وَالتَّعْظِيمُ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي يَجِدُهَا فِي تِلْكَ الْمُدَانَاةِ، فَإِنَّ سُرُورَ الْقَلْبِ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِهِ. لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ. وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ. وَهُوَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا السُّرُورَ يَبْعَثُهُ عَلَى دَوَامِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي طَلَبِهِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَذَا السُّرُورَ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ وَأَعْمَالَهُ. فَإِنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةً، مَنْ لَمْ يَذُقْهَا فَلْيَرْجِعْ، وَلْيَقْتَبِسْ نُورًا يَجِدُ بِهِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَوَجَدَ حَلَاوَتَهُ. فَذَكَرَ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ، وَعَلَّقَهُ بِالْإِيمَانِ. فَقَالَ:«ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» . وَقَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجْدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» .