الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ يَعْنِي أَنَّ سُلُوكَ أَهْلِ الْخُصُوصِ: هُوَ بِالْخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْإِرَادَةِ: هُوَ مَبْدَأُ الْخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ. فَإِذَا الرِّضَا - بِهَذَا الِاعْتِبَارِ - مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ الْخَاصَّةِ.
وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةً مَطْلُوبَةً فَوْقَ الرِّضَا.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ الرِّضَا أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى. وَهُوَ غَايَةٌ لَا بِدَايَةٌ.
نَعَمْ فَوْقَهُ مَقَامُ الشُّكْرِ فَهُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْزِلَةِ الصَّبْرِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَشَقِّهَا عَلَى الْعَامَّةِ وَذَلِكَ لِمَشَقَّةِ الْخُرُوجِ عَنِ الْحُظُوظِ عَلَى الْعَامَّةِ، وَالرِّضَا أَوَّلُ مَا فِيهِ: الْخُرُوجُ عَنِ الْحُظُوظِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الرِّضَا]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى رِضَا الْعَامَّةِ]
فَصْلٌ دَرَجَاتُ الرِّضَا
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رِضَا الْعَامَّةِ. وَهُوَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَتَسَخُّطُ عِبَادَةِ مَا دُونِهِ، وَهَذَا قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ. وَهُوَ يُطَهِّرُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ.
الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا: أَنْ لَا يَتَّخِذَ رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى يَسْكُنُ إِلَى تَدْبِيرِهِ. وَيُنْزِلُ بِهِ حَوَائِجَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: سَيِّدًا وَإِلَهًا. يَعْنِي فَكَيْفَ أَطْلُبُ رَبًّا غَيْرَهُ، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؟ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] يَعْنِي مَعْبُودًا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا وَمَلْجَأً. وَهُوَ مِنَ الْمُوَالَاةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْحُبَّ وَالطَّاعَةَ. وَقَالَ فِي وَسَطِهَا {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114] أَيْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي مَنْ يَحْكُمُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَنَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ؟ وَهَذَا كِتَابُهُ سَيِّدُ الْحُكَّامِ، فَكَيْفَ نَتَحَاكَمُ إِلَى غَيْرِ كِتَابِهِ؟ وَقَدْ أَنْزَلَهُ مُفَصَّلًا، مُبَيَّنًا كَافِيًا شَافِيًا.
وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، رَأَيْتَهَا هِيَ نَفْسَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا، وَرَأَيْتَ الْحَدِيثَ يُتَرْجِمُ عَنْهَا، وَمُشْتَقًّا مِنْهَا. فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَرْضَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَلَا يَبْغِي رَبًّا سِوَاهُ، لَكِنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ وَحْدَهُ وَلِيًّا
وَنَاصِرًا. بَلْ يُوَالِي مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ كَمُوَالَاةِ خَوَاصِّ الْمَلِكِ. وَهَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ. بَلِ التَّوْحِيدُ: أَنْ لَا يَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ وَصْفِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ.
وَهَذَا غَيْرُ مُوَالَاةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ. فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَمِنْ تَمَامِ مُوَالَاتِهِ. فَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ لَوْنٌ وَاتِّخَاذُ الْوَلِيِّ مِنْ دُونِهِ لَوْنٌ. وَمَنْ لَمْ يَفْهَمِ الْفُرْقَانَ بَيْنَهُمَا فَلْيَطْلُبِ التَّوْحِيدَ مِنْ أَسَاسِهِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلُ التَّوْحِيدِ وَأَسَاسُهُ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَبْتَغِي غَيْرَهُ حَكَمًا، يَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ، وَيُخَاصِمُ إِلَيْهِ، وَيَرْضَى بِحُكْمِهِ. وَهَذِهِ الْمَقَامَاتُ الثَّلَاثُ هِيَ أَرْكَانُ التَّوْحِيدِ: أَنْ لَا يَتَّخِذَ سِوَاهُ رَبًّا، وَلَا إِلَهًا، وَلَا غَيْرَهُ حَكَمًا.
وَتَفْسِيرُ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا: أَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ مَا دُونَهُ. هَذَا هُوَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا. وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا. فَمَنْ أُعْطِيَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا حَقُّهُ سُخْطُ عِبَادَةِ مَا دُونَهُ قَطْعًا. لِأَنَّ الرِّضَا بِتَجْرِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ تَجْرِيدَ عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَنَّ مَدَارَ رَحَى الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْحُبُّ مَعَ الذُّلِّ. فَكُلُّ مَنْ ذَلَلْتَ لَهُ وَأَطَعْتَهُ وَأَحْبَبْتَهُ دُونَ اللَّهِ، فَأَنْتَ عَابِدٌ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُطَهِّرُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ. يَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ نَوْعَانِ: أَكْبَرُ، وَأَصْغَرُ، فَهَذَا الرِّضَا يُطَهِّرُ صَاحِبَهُ مِنَ الْأَكْبَرِ. وَأَمَّا الْأَصْغَرُ: فَيُطَهِّرُ مِنْهُ نُزُولُهُ مَنْزِلَةَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
فَصْلٌ قَالَ وَهُوَ يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عز وجل أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ. وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ.
يَعْنِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرِّضَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَيْضًا.