الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ تَشْبِيهُ الِاسْتِقَامَةِ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الِاسْتِقَامَةُ: رُوحٌ تَحْيَا بِهِ الْأَحْوَالُ، كَمَا تَرْبُو لِلْعَامَّةِ عَلَيْهَا الْأَعْمَالُ. وَهِيَ بَرْزَخٌ بَيْنَ وِهَادِ التَّفَرُّقِ، وَرَوَابِي الْجَمْعِ.
شَبَّهَ الِاسْتِقَامَةَ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ. فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إِذَا خَلَا عَنِ الرُّوحِ فَهُوَ مَيِّتٌ، فَكَذَلِكَ الْحَالُ إِذَا خَلَا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْأَحْوَالِ بِهَا، فَزِيَادَةُ أَعْمَالِ الزَّاهِدِينَ أَيْضًا وَرَبْوُهَا وَزَكَاؤُهَا بِهَا. فَلَا زَكَاءَ لِلْعَمَلِ وَلَا صِحَّةَ لِلْحَالِ بِدُونِهَا.
وَأَمَّا كَوْنُهَا بَرْزَخًا بَيْنَ وِهَادِ التَّفَرُّقِ، وَرَوَابِي الْجَمْعِ، فَالْبَرْزَخُ هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ. وَالْوِهَادُ: الْأَمْكِنَةُ الْمُنْخَفِضَةُ مِنَ الْأَرْضِ. وَاسْتَعَارَهَا لِلتَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّهَا تَحْجُبُ مَنْ يَكُونُ فِيهَا عَنْ مُطَالَعَةِ مَا يَرَاهُ مَنْ هُوَ عَلَى الرَّوَابِي، كَمَا أَنَّ صَاحِبَ التَّفَرُّقِ مَحْجُوبٌ عَنْ مُطَالَعَةِ مَا يَرَاهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَيُشَاهِدُهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ حَالَهُ أَنْزَلُ مِنْ حَالِهِ. فَهُوَ كَصَاحِبِ الْوِهَادِ. وَحَالُ صَاحِبِ الْجَمْعِ أَعْلَى. فَهُوَ كَصَاحِبِ الرَّوَابِي. وَشَبَّهَ حَالَ صَاحِبِ الْجَمْعِ بِحَالِ مَنْ عَلَى الرَّوَابِي لِعُلُوِّهِ. وَلِأَنَّ الرَّوَابِيَ تَكْشِفُ لِمَنْ عَلَيْهَا الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَصَاحِبُ الْجَمْعِ تُكْشَفُ لَهُ الْحَقَائِقُ الْمَحْجُوبَةُ عَنْ صَاحِبِ التَّفْرِقَةِ.
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَعْنَى كَوْنِهَا بَرْزَخًا: أَنَّ السَّالِكَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ سُلُوكِهِ فِي أَوْدِيَةِ التَّفْرِقَةِ، سَائِرًا إِلَى رَوَابِي الْجَمْعِ. فَيَسْتَقِيمُ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ غَايَةَ الِاسْتِقَامَةِ. لِيَصِلَ بِاسْتِقَامَتِهِ إِلَى رَوَابِي الْجَمْعِ. فَاسْتِقَامَتُهُ بَرْزَخٌ بَيْنَ تِلْكَ التَّفْرِقَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا. وَبَيْنَ الْجَمْعِ الَّذِي يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ تَفْرِقَةِ الْمُقِيمِ فِي الْبَلَدِ فِي أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ. فَإِذَا عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ، وَخَرَجَ وَفَارِقَ الْبَلَدَ. وَاسْتَمَرَّ عَلَى السَّيْرِ: كَانَ طَرِيقُ سَفَرِهِ بَرْزَخًا بَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَالْبَلَدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَيَؤُمُّهُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الِاسْتِقَامَةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِصَادِ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِصَادِ. لَا عَادِيًا رَسْمَ الْعِلْمِ، وَلَا مُتَجَاوِزًا حَدَّ الْإِخْلَاصِ، وَلَا مُخَالِفًا نَهْجَ السُّنَّةِ.
هَذِهِ دَرَجَةٌ تَتَضَمَّنُ سِتَّةَ أُمُورٍ: عَمَلًا وَاجْتِهَادًا فِيهِ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَاقْتِصَادًا،
وَهُوَ السُّلُوكُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ، وَهُوَ الْجَوْرُ عَلَى النُّفُوسِ، وَالتَّفْرِيطُ بِالْإِضَاعَةِ، وَوُقُوفًا مَعَ مَا يَرْسُمُهُ الْعِلْمُ، لَا وُقُوفًا مَعَ دَاعِي الْحَالِ. وَإِفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْإِرَادَةِ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ، وَوُقُوعُ الْأَعْمَالِ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ مُتَابَعَةُ السُّنَّةِ.
فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ السِّتَّةِ تَتِمُّ لِأَهْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ اسْتِقَامَتُهُمْ. وَبِالْخُرُوجِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَخْرُجُونَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ: إِمَّا خُرُوجًا كُلِّيًّا، وَإِمَّا خُرُوجًا جُزْئِيًّا.
وَالسَّلَفُ يَذْكُرُونَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَثِيرًا - وَهُمَا الِاقْتِصَادُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ - فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَشُمُّ قَلْبَ الْعَبْدِ وَيَخْتَبِرُهُ. فَإِنْ رَأَى فِيهِ دَاعِيَةً لِلْبِدْعَةِ، وَإِعْرَاضًا عَنْ كَمَالِ الِانْقِيَادِ لِلسُّنَّةِ: أَخْرَجَهُ عَنِ الِاعْتِصَامِ بِهَا. وَإِنْ رَأَى فِيهِ حِرْصًا عَلَى السُّنَّةِ، وَشِدَّةَ طَلَبِ لَهَا: لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مِنْ بَابِ اقْتِطَاعِهِ عَنْهَا، فَأَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْجَوْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَمُجَاوَزَةِ حَدِّ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، قَائِلًا لَهُ: إِنَّ هَذَا خَيْرٌ وَطَاعَةٌ. وَالزِّيَادَةُ وَالِاجْتِهَادُ فِيهَا أَكْمَلُ. فَلَا تَفْتُرْ مَعَ أَهْلِ الْفُتُورِ. وَلَا تَنَمْ مَعَ أَهْلِ النَّوْمِ، فَلَا يَزَالُ يَحُثُّهُ وَيُحَرِّضُهُ، حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، فَيَخْرُجَ عَنْ حَدِّهَا. كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ خَارِجُ هَذَا الْحَدِّ. فَكَذَا هَذَا الْآخَرُ خَارِجٌ عَنِ الْحَدِّ الْآخَرِ.
وَهَذَا حَالُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَحْقِرُ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ صَلَاتَهُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ. وَقِرَاءَتَهُمْ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خُرُوجٌ عَنِ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ. لَكِنَّ هَذَا إِلَى بِدْعَةِ التَّفْرِيطِ، وَالْإِضَاعَةِ، وَالْآخَرَ إِلَى بِدْعَةِ الْمُجَاوَزَةِ وَالْإِسْرَافِ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزَعَتَانِ، إِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ، وَإِمَّا إِلَى مُجَاوَزَةٍ، وَهِيَ الْإِفْرَاطُ، وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفَرَ: زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً. فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ خَابَ وَخَسِرَ» . قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ.
فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي اجْتِهَادٍ بِاقْتِصَادٍ، وَإِخْلَاصٍ مَقْرُونٍ بِالِاتِّبَاعِ. كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: اقْتِصَادٌ فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَسُنَّتِهِمْ.
وَكَذَلِكَ الرِّيَاءُ فِي الْأَعْمَالِ يُخْرِجُهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ. وَالْفُتُورُ وَالتَّوَانِي يُخْرِجُهُ عَنْهَا أَيْضًا.