الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتَشَتُّتَهُمْ. فَيَرْغَبُ عَنْهُ عَامِلًا عَلَى الْجَمْعِ. يَتَوَجَّهُ مَعَهُ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ.
وَالْمُسْتَقِيمُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ السَّالِكِ مِنْ جَمْعٍ وَفَرْقٍ، وَقِيَامُ الْعُبُودِيَّةِ بِهِمَا. فَمَنْ لَا تَفْرِقَةَ لَهُ لَا عُبُودِيَّةَ لَهُ. وَمَنْ لَا جَمْعَ لَهُ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ وَلَا حَالَ.
فَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فَرْقٌ.: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] جَمْعٌ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ كُلًّا مِنْ مَشْهَدَيْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مُتَضَمِّنٌ لِلْفَرْقِ وَالْجَمْعِ، وَكَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ بِالْقِيَامِ بِهِمَا فِي كُلِّ مَشْهَدٍ.
فَفَرْقُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] تَنَوُّعُ مَا يُعْبَدُ بِهِ، وَكَثْرَةُ تَعَلُّقَاتِهِ وَضُرُوبِهِ.
وَجَمْعُهُ: تَوْحِيدُ الْمَعْبُودِ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ، وَالْفَنَاءُ عَنْ كُلِّ حَظٍّ وَمُرَادٍ يُزَاحِمُ حَقَّهُ وَمُرَادَهُ.
فَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَشْهَدُ فَرْقًا فِي جَمْعٍ، وَكَثْرَةً فِي وَحْدَةٍ. فَصَاحِبُهُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمَعْبُودٍ وَاحِدٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَأَمَّا فَرْقُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَشُهُودُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَرْتَبَتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ، وَمَحَلَّهِ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَبِدَايَتَهُ وَعَاقِبَتَهُ، وَاتِّصَالَهُ - بَلْ وَانْفِصَالَهُ - وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ.
وَيَشْهَدُ - مَعَ ذَلِكَ - فَقْرَ الْمُسْتَعِينِ وَحَاجَتَهُ وَنَقْصَهُ، وَضَرُورَتَهُ إِلَى كَمَالَاتِهِ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَآفَاتَهُ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ فِي دَفْعِهَا. وَيَشْهَدُ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ وَكِفَايَةَ الْمُسْتَعَانِ بِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فَرْقٌ يُثْمِرُ عُبُودِيَّةَ هَذَا الْمَشْهَدِ.
وَأَمَّا جَمْعُهُ: فَشُهُودُ تَفَرُّدِهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَصُدُورِ الْكَائِنَاتِ بِأَسْرِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَتَصْرِيفِهَا بِإِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.
فَغَيْبَتُهُ بِهَذَا الْمَشْهَدِ عَمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْفَرْقِ: نَقْصٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، كَمَا أَنَّ تَفَرُّقَهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ دُونَ مُلَاحَظَتِهِ: نَقْصٌ أَيْضًا. وَالْكَمَالُ إِعْطَاءُ الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ حَقَّهُمَا فِي هَذَا الْمَشْهَدِ وَالْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ.
فَتَبَيَّنَ تَضَمُّنُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لِلْجَمْعِ وَالْفَرْقِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ]
[حَقِيقَةُ الرَّجَاءِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ
وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فَابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ: طَلَبُ الْقُرْبِ مِنْهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ. فَذَكَرَ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاؤُهُ: الْحُبَّ، وَالْخَوْفَ، وَالرَّجَاءَ. قَالَ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5]، وَقَالَ:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وَقَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ -: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ» ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» .
" الرَّجَاءُ " حَادٍ يَحْدُو الْقُلُوبَ إِلَى بِلَادِ الْمَحْبُوبِ. وَهُوَ اللَّهُ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ. وَيَطِيبُ لَهَا السَّيْرُ.
وَقِيلَ: هُوَ الِاسْتِبْشَارُ بِجُودِ وَفَضْلِ الرَّبِّ تبارك وتعالى. وَالِارْتِيَاحُ لِمُطَالَعَةِ كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ.
وَقِيلَ: هُوَ الثِّقَةُ بِجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَنِّي أَنَّ التَّمَنِّيَ يَكُونُ مَعَ الْكَسَلِ. وَلَا يَسْلُكُ بِصَاحِبِهِ طَرِيقَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ. وَ " الرَّجَاءُ " يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الْجُهْدِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ.
فَالْأَوَّلُ كَحَالِ مَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْضٌ يَبْذُرُهَا وَيَأْخُذُ زَرْعَهَا.
وَالثَّانِي كَحَالِ مَنْ يَشُقُّ أَرْضَهُ وَيَفْلَحُهَا وَيَبْذُرُهَا. وَيَرْجُو طُلُوعَ الزَّرْعِ.
وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ الرَّجَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ.
قَالَ شَاهٌ الْكَرْمَانِيُّ: عَلَامَةُ صِحَّةِ الرَّجَاءِ حُسْنُ الطَّاعَةِ.
وَالرَّجَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعَانِ مَحْمُودَانِ، وَنَوْعٌ غَرُورٌ مَذْمُومٌ.
فَالْأَوَّلَانِ رَجَاءُ رَجُلٍ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ. فَهُوَ رَاجٍ لِثَوَابِهِ. وَرَجُلٌ أَذْنَبَ ذُنُوبًا ثُمَّ تَابَ مِنْهَا. فَهُوَ رَاجٍ لِمَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَفْوِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ.
وَالثَّالِثُ: رَجُلٌ مُتَمَادٍ فِي التَّفْرِيطِ وَالْخَطَايَا. يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ. فَهَذَا هُوَ الْغُرُورُ وَالتَّمَنِّي وَالرَّجَاءُ الْكَاذِبُ.
وَلِلسَّالِكِ نَظَرَانِ: نَظَرٌ إِلَى نَفْسِهِ وَعُيُوبِهِ وَآفَاتِ عَمَلِهِ، يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْخَوْفِ إِلَى سِعَةِ فَضْلِ رَبِّهِ وَكَرْمِهِ وَبَرِّهِ. وَنَظَرٌ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الرَّجَاءِ.
وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّ الرَّجَاءِ: هُوَ النَّظَرُ إِلَى سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَجَنَاحَيِ الطَّائِرِ إِذَا اسْتَوَيَا اسْتَوَى الطَّيْرُ وَتَمَّ طَيَرَانُهُ. وَإِذَا نَقَصَ أَحَدَهُمَا وَقَعَ فِيهِ النَّقْصُ. وَإِذَا ذَهَبَا صَارَ الطَّائِرُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ.