الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَرْضَى بِمَا رَضِيَ الْحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْضَى بِمَا رَضِيَ الْحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ عَبْدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخًا. وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا. وَأَنْ تَقْبَلَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ.
يَقُولُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. أَفَلَا تَرْضَى أَنْتَ بِهِ أَخًا؟ فَعَدَمُ رِضَاكَ بِهِ أَخًا - وَقَدْ رَضِيَهُ سَيِّدُكَ الَّذِي أَنْتَ عَبْدُهُ عَبْدًا لِنَفْسِهِ - عَيْنُ الْكِبْرِ. وَأَيُّ قَبِيحٍ أَقْبَحُ مِنْ تَكَبُّرِ الْعَبْدِ عَلَى عَبْدٍ مِثْلِهِ، لَا يَرْضَى بِأُخُوَّتِهِ. وَسَيِّدُهُ رَاضٍ بِعُبُودِيَّتِهِ؟ .
فَيَجِيءُ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ غَيْرُ رَاضٍ بِعُبُودِيَّةِ سَيِّدِهِ. إِذْ عُبُودِيَّتُهُ تُوجِبُ رِضَاهُ بِأُخُوَّةِ عَبْدِهِ. وَهَذَا شَأْنُ عَبِيدِ الْمُلُوكِ. فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ بَعْضَهُمْ خُشْدَاشِيَّةَ بَعْضٍ. وَمَنْ تَرَفَّعَ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ عَبِيدِ أُسْتَاذِهِمْ.
قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا.
أَيْ لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ وَمِمَّنْ تُبْغِضُ فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ. وَإِذَا لَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَكَيْفَ تَمْنَعُهُ حَقًّا لَهُ قِبَلَكَ؟ بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَاضُعِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَكَ قَبِلْتَهُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْكَ حَقٌّ أَدَّيْتَهُ إِلَيْهِ. فَلَا تَمْنَعُكَ عَدَاوَتُهُ مِنْ قَبُولِ حَقِّهِ، وَلَا مِنْ إِيتَائِهِ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا قَبُولُكَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ.
فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. ثُمَّ جَاءَ يَعْتَذِرُ مِنْ إِسَاءَتِهِ، فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، حَقًّا كَانَتْ أَوْ بَاطِلًا. وَتَكِلُ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْغَزْوِ. فَلَمَّا قَدِمَ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ. فَقَبِلَ أَعْذَارَهُمْ. وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَلَامَةُ الْكَرَمِ وَالتَّوَاضُعِ: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْخَلَلَ فِي عُذْرِهِ لَا تُوقِفُهُ عَلَيْهِ وَلَا تُحَاجُّهُ. وَقُلْ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ. وَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ، وَالْمَقْدُورُ لَا مَدْفَعَ لَهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ. فَتَنْزِلَ عَنْ رَأْيِكَ وَعَوَائِدِكَ فِي الْخِدْمَةِ
وَرُؤْيَةِ حَقِّكَ فِي الصُّحْبَةِ. وَعَنْ رَسْمِكَ فِي الْمُشَاهَدَةِ.
بِقَوْلِ التَّوَاضُعِ بِأَنْ تَخْدِمَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ. وَتَعْبُدَهُ بِمَا أَمَرَكَ بِهِ، عَلَى مُقْتَضَى أَمْرِهِ. لَا عَلَى مَا تَرَاهُ مِنْ رَأْيِكَ. وَلَا يَكُونَ الْبَاعِثُ لَكَ دَاعِيَ الْعَادَةِ. كَمَا هُوَ بَاعِثُ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتَادَ أَمْرًا فَجَرَى عَلَيْهِ. وَلَوِ اعْتَادَ ضِدَّهُ لَكَانَ كَذَلِكَ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَاعِثُهُ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ مُجَرَّدَ رَأْيٍ، وَمُوَافَقَةَ هَوًى وَمَحَبَّةٍ وَعَادَةٍ. بَلِ الْبَاعِثُ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ. وَالرَّأْيُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْهَوَى وَالْعَوَائِدُ: مُنَفِّذَةٌ تَابِعَةٌ. لَا أَنَّهَا مُطَاعَةٌ بَاعِثَةٌ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَا يَتَنَبَّهُ لَهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ.
وَأَمَّا نُزُولُهُ عَنْ رُؤْيَةِ حَقِّهِ فِي الصُّحْبَةِ.
فَمَعْنَاهُ: أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ. فَإِنَّ صُحْبَتَهُ مَعَ اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ الْمَحْضِ، وَالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ. فَمَتَى رَأَى لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقًّا فَسَدَتِ الصُّحْبَةُ. وَصَارَتْ مَعْلُولَةً وَخِيفَ مِنْهَا الْمَقْتُ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا أَحَقَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ إِثَابَةِ عَابِدِيهِ وَإِكْرَامِهِمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ. لَا بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبِيدِ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهُ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِمْ.
فَعَلَيْكَ بِالْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مُفْتَرَقُ الطُّرُقِ. وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ.
فِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَقَلُّ وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَى رَبِّهِ حَقًّا. فَقَالَتْ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. وَأَنْكَرَتْ وُجُوبَ مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَفِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُمُورًا لِعَبْدِهِ. فَظَنَّتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ سَبَبًا لِهَذَا الْإِيجَابِ. وَالْفِرْقَتَانِ غَالِطَتَانِ.
وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: أَهْلُ الْهُدَى وَالصَّوَابِ، قَالَتْ: لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ بِسَعْيِهِ نَجَاةً وَلَا فَلَاحًا. وَلَا يُدْخِلُ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَلَا يُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهُ تَعَالَى - بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَمَحْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ - أَكَّدَ إِحْسَانَهُ وَجُودَهُ وَبِرَّهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ. فَإِنَّ وَعْدَ الْكَرِيمِ إِيجَابٌ، وَلَوْ بِعَسَى، وَلَعَلَّ.
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ.
وَوَعْدُ اللَّئِيمِ خُلْفٌ. وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الْعَهْدُ وَالْحَلِفُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ عَدَمَ رُؤْيَةِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَجَعَلَهُ حَقًّا لِعَبْدِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه: «يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا