الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيُقَالُ: إِذَا كَانَتِ الْأَسْبَابُ مَأْمُورًا بِهَا فَفِيهَا فَائِدَةٌ أَجَلُّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ. وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ. وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْأَمْرُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ، وَأُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ الْكُتُبُ. وَبِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَلَهُ وُجِدَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ.
فَالْقِيَامُ بِالْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. وَحَقُّ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الَّذِي تَوَجَّهَتْ بِهِ نَحْوَهُ الْمَطَالِبُ. وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ التَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ، وَغَضُّ الْعَيْنِ عَنِ السَّبَبِ؛ اجْتِهَادًا لِتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ، وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ، وَتَفَرُّغًا إِلَى حِفْظِ الْوَاجِبَاتِ.
قَوْلُهُ: مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ. أَيْ مِنَ الْخَلْقِ لَا مِنَ الْحَقِّ. فَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَنْفَعِهِ لِلْمُرِيدِ. فَإِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورٌ، وَغَايَتُهُ: أَنْ يُبَاحَ لِلضَّرُورَةِ، كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَكَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الطَّلَبُ وَالسُّؤَالُ.
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي السُّؤَالِ: هُوَ ظُلْمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ النَّفْسِ.
أَمَّا فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِرَاقَةِ مَاءِ الْوَجْهِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ، وَالتَّعَوُّضِ عَنْ سُؤَالِهِ بِسُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ إِذَا سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّاسِ فَبِمُنَازَعَتِهِمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالسُّؤَالِ، وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ. وَأَبْغَضُ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ لَا يَسْأَلُهُمْ. فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحْبُوبَاتُهُمْ، وَمَنْ سَأَلَكَ مَحْبُوبَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمَقْتِكَ وَبُغْضِكَ.
وَأَمَّا ظُلْمُ السَّائِلِ نَفْسَهُ فَحَيْثُ امْتَهَنَهَا، وَأَقَامَهَا فِي مَقَامِ ذُلِّ السُّؤَالِ. وَرَضِيَ لَهَا بِذُلِّ الطَّلَبِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ لَعَلَّ السَّائِلَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَى قَدْرًا. وَتَرَكَ سُؤَالَ مِنْ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . فَقَدْ أَقَامَ السَّائِلُ نَفْسَهُ مَقَامَ الذُّلِّ، وَأَهَانَهَا بِذَلِكَ. وَرَضِيَ أَنْ يَكُونَ شَحَّاذًا مِنْ شَحَّاذٍ مِثْلِهِ. فَإِنَّ مَنْ تَشْحَذُهُ فَهُوَ أَيْضًا شَحَّاذٌ مِثْلُكُ. وَاللَّهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
فَسُؤَالُ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ سُؤَالُ الْفَقِيرِ لِلْفَقِيرِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى كُلَّمَا سَأَلْتَهُ كَرُمْتَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَأَحَبَّكَ. وَالْمَخْلُوقُ كُلَّمَا سَأَلْتَهُ هُنْتَ عَلَيْهِ وَأَبْغَضَكَ وَمَقَتَكَ وَقَلَاكَ، كَمَا قِيلَ:
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ
…
وَبَنِيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
وَقَبِيحٌ بِالْعَبْدِ الْمُرِيدِ: أَنْ يَتَعَرَّضَ لِسُؤَالِ الْعَبِيدِ. وَهُوَ يَجِدُ عِنْدَ مَوْلَاهُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه. قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةً - أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً - فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ وَكُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ. فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً - وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا. فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» .
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ. وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ» .
وَفِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَقُلْتُ: أَنَا. فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَبِيصَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ. وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فَلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ - فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ فَسُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» .
فَالتَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ هَذَا الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ.
قَوْلُهُ: " وَغَضِّ الْعَيْنِ عَنِ التَّسَبُّبِ، اجْتِهَادًا فِي تَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ ".
مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ، لِتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ بِامْتِحَانِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَاطِيَ لِلسَّبَبِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ حَصَّلَ التَّوَكُّلَ. وَلَمْ يُحَصِّلْهُ لِثِقَتِهِ بِمَعْلُومِهِ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنِ السَّبَبِ صَحَّ لَهُ التَّوَكُّلُ.
وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنَ الْعُبَّادِ وَالسَّالِكِينَ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِلَا زَادٍ. وَيَرَى حَمْلَ الزَّادِ قَدْحًا فِي التَّوَكُّلِ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَؤُلَاءِ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِمْ، وَإِلَّا فَدَرَجَتُهُمْ نَاقِصَةٌ عَنِ الْعَارِفِينَ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا الْبَتَّةَ تَرَكُ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً.
فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ كَانَ مُجَرَّدًا فِي التَّوَكُّلِ يُدَقِّقُ فِيهِ. وَيَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِغَيْرِ زَادٍ. وَكَانَ لَا تُفَارِقُهُ الْإِبْرَةُ وَالْخَيْطُ وَالرَّكْوَةُ وَالْمِقْرَاضُ. فَقِيلَ لَهُ: لِمْ تَحْمِلُ هَذَا وَأَنْتَ تَمْنَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: مِثْلُ هَذَا لَا يُنْقِصُ مِنَ التَّوَكُّلِ لِأَنَّ لِلَّهِ عَلَيْنَا فَرَائِضَ. وَالْفَقِيرُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَرُبَّمَا تَخَرَّقَ ثَوْبُهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِبْرَةٌ وَخُيُوطٌ تَبْدُو عَوْرَتُهُ، فَتَفْسُدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَكْوَةٌ فَسَدَتْ عَلَيْهِ طَهَارَتُهُ. وَإِذَا رَأَيْتَ الْفَقِيرَ بِلَا رَكْوَةٍ وَلَا إِبْرَةٍ وَلَا خُيُوطٍ فَاتَّهِمْهُ فِي صَلَاتِهِ.
أَفَلَا تَرَاهُ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ دِينُهُ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ؟ أَوَلَيِسَتْ حَرَكَةُ أَقْدَامِهِ وَنَقْلُهَا فِي الطَّرِيقِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَعْلَامِهَا - إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ - مِنَ الْأَسْبَابِ؟
فَالتَّجَرُّدُ مِنَ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَحِسًّا.
نَعَمْ، قَدْ تَعْرِضُ لِلصَّادِقِ أَحْيَانًا قُوَّةُ ثِقَةٍ بِاللَّهِ. وَحَالٌ مَعَ اللَّهِ تَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ كُلِّ سَبَبٍ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِ. كَمَا تَحْمِلُهُ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ الْهِلْكَةِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِاللَّهِ لَا بِهِ. فَيَأْتِيهِ مَدَدٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مُقْتَضَى حَالِهِ. وَلَكِنْ لَا تَدُومُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ. وَلَيْسَتْ فِي مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ. فَإِنَّهَا كَانَتْ هَجْمَةٌ هَجَمَتْ عَلَيْهِ بِلَا اسْتِدْعَاءٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا. فَإِذَا اسْتَدْعَى مِثْلَهَا وَتَكَلَّفَهَا لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي تِلْكَ الْحَالِ إِذَا تَرَكَ السَّبَبَ يَكُونُ مَعْذُورًا لِقُوَّةِ الْوَارِدِ، وَعَجْزِهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ. فَيَكُونُ فِي وَارِدِهِ عَوْنٌ لَهُ. وَيَكُونُ حَامِلًا لَهُ. فَإِذَا تَعَاطَى تِلْكَ الْحَالَ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَارِدِ وَقَعَ فِي الْحَالِ.
وَكُلُّ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُحْكَى عَنِ الْقَوْمِ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ حَصَلَتْ لَهُمْ أَحْيَانًا، لَيْسَتْ طَرِيقًا مَأْمُورًا بِسُلُوكِهَا، وَلَا مَقْدُورَةً، وَصَارَتْ فِتْنَةً لِطَائِفَتَيْنِ.
طَائِفَةٌ ظَنَّتْهَا طَرِيقًا وَمَقَامًا، فَعَمِلُوا عَلَيْهَا. فَمِنْهُمْ مَنِ انْقَطَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا، بَلِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَطَائِفَةٌ قَدَحُوا فِي أَرْبَابِهَا، وَجَعَلُوهُمْ مُخَالِفِينَ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. مُدَّعِينَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا أَكْمَلَ مِنْ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ قَطُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَلَا أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ «ظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ» . وَلَمْ يَحْضُرِ الصَّفَّ قَطُّ عُرْيَانًا. كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَلَا مَعْرِفَةَ. وَاسْتَأْجَرَ دَلِيلًا مُشْرِكًا عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ هَدَى اللَّهُ بِهِ الْعَالَمِينَ، وَعَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، «وَكَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ» وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَكَانَ إِذَا سَافَرَ فِي جِهَادٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ