الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَأْدُبَةُ. وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ.
وَعِلْمُ الْأَدَبِ: هُوَ عِلْمُ إِصْلَاحِ اللِّسَانِ وَالْخِطَابِ، وَإِصَابَةِ مَوَاقِعِهِ، وَتَحْسِينِ أَلْفَاظِهِ، وَصِيَانَتِهِ عَنِ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ. وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْأَدَبِ الْعَامِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْأَدَبِ]
فَصْلٌ
وَالْأَدَبُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَدَبٌ مَعَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَشَرْعِهِ. وَأَدَبٌ مَعَ خُلُقِهِ.
فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: صِيَانَةُ مُعَامَلَتِهِ أَنْ يَشُوبَهَا بِنَقِيصَةٍ.
الثَّانِي: صِيَانَةُ قَلْبِهِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: صِيَانَةُ إِرَادَتِهِ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَا يَمْقُتُكَ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْعَبْدُ يَصِلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَصِلُ بِأَدَبِهِ فِي طَاعَتِهِ إِلَى اللَّهِ.
وَقَالَ: رَأَيْتُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْفِهِ فَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الْأَدَبُ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُعَامِلَهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَدَبِ سِرًّا وَعَلَنًا. ثُمَّ أَنْشَدَ:
إِذَا نَطَقَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلَاحَةٍ
…
وَإِنْ سَكَتَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحٍ
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ صَاحَبَ الْمُلُوكَ بِغَيْرِ أَدَبٍ أَسْلَمَهُ الْجَهْلُ إِلَى الْقَتْلِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: إِذَا تَرَكَ الْعَارِفُ أَدَبَهُ مَعَ مَعْرُوفِهِ، فَقَدْ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: تَرْكُ الْأَدَبِ يُوجِبُ الطَّرْدَ. فَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبِسَاطِ رُدَّ إِلَى الْبَابِ. وَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبَابِ رُدَّ إِلَى سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ صَارَ مَنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: نَحْنُ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ.
وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله عَنْ أَنْفَعَ الْأَدَبِ؟ فَقَالَ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ. وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَا لِلَّهِ عَلَيْكَ.
وَقَالَ سَهْلٌ: الْقَوْمُ اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ. وَصَبَرُوا لِلَّهِ عَلَى آدَابِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْأَدَبَ حِينَ فَاتَنَا الْمُؤَدَّبُونَ.
وَقَالَ: الْأَدَبُ لِلْعَارِفِ كَالتَّوْبَةِ لِلْمُسْتَأْنِفِ.
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ - لَمَّا قَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ: لَقَدْ أَدَّبْتَ أَصْحَابَكَ أَدَبَ السَّلَاطِينِ - فَقَالَ: حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْبَاطِنِ. فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَهُ، وَبِإِيقَاعِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْحَيَاءِ. كَحَالِ مَجَالِسِ الْمُلُوكِ وَمُصَاحِبِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ السَّرَّاجُ: النَّاسُ فِي الْأَدَبِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ.
أَمَّا أَهْلُ الدُّنْيَا: فَأَكْبَرُ آدَابِهِمْ: فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ. وَحِفْظِ الْعُلُومِ، وَأَسْمَارِ الْمُلُوكِ، وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الدِّينِ: فَأَكْبَرُ آدَابِهِمْ: فِي طَهَارَةِ الْقُلُوبِ، وَمُرَاعَاةِ الْأَسْرَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَحِفْظِ الْوَقْتِ، وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخَوَاطِرِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، فِي مَوَاقِفِ الطَّلَبِ، وَأَوْقَاتِ الْحُضُورِ، وَمَقَامَاتِ الْقُرْبِ.
وَقَالَ سَهْلٌ: مَنْ قَهَرَ نَفْسَهُ بِالْأَدَبِ فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ فِي الْأَدَبِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَرُعُونَاتِهَا، وَتَجَنُّبُ تِلْكَ الرُّعُونَاتِ.
وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: الِانْبِسَاطُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْحَقِّ تَرْكُ الْأَدَبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنْ أَلْزَمْتُهُ الْقِيَامَ مَعَ أَسْمَائِي وَصِفَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْأَدَبَ وَمَنْ كَشَفْتُ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ ذَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْعَطَبَ فَاخْتَرِ الْأَدَبَ أَوِ الْعَطَبَ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَشَفَ لِلْجَبَلِ عَنْ ذَاتِهِ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى عَظَمَةِ الذَّاتِ.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِذَا صَحَّتِ الْمَحَبَّةُ تَأَكَّدَتْ عَلَى الْمُحِبِّ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ.
وَقَالَ النُّورِيُّ رحمه الله: مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ لِلْوَقْتِ فَوَقْتُهُ مَقْتٌ.
وَقَالَ ذُو النُّونِ: إِذَا خَرَجَ الْمُرِيدُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْأَدَبِ: فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ.
وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ اللَّهِ، وَخِطَابَهُمْ وَسُؤَالَهُمْ. كَيْفَ تَجِدُهَا كُلَّهَا مَشْحُونَةً بِالْأَدَبِ قَائِمَةً بِهِ؟
قَالَ الْمَسِيحُ عليه السلام {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ أَقُلْهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الْأَدَبِ. ثُمَّ أَحَالَ الْأَمْرَ عَلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَالِ وَسِرِّهِ. فَقَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] ثُمَّ بَرَّأَ نَفْسَهُ عَنْ عِلْمِهِ بِغَيْبِ رَبِّهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ثُمَّ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ. وَوَصَفَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ كُلِّهَا. فَقَالَ {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] ثُمَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ - وَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ - فَقَالَ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهِمْ. وَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عز وجل وَحْدَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] . ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ شَهَادَةٍ وَأَعَمُّ. فَقَالَ: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] ثُمَّ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. أَيْ شَأْنُ السَّيِّدِ رَحْمَةُ عَبِيدِهِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ عَبِيدُكَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِغَيْرِكَ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ - مَعَ كَوْنِهِمْ عَبِيدَكَ - فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَبِيدُ سُوءٍ مِنْ أَبْخَسِ الْعَبِيدِ، وَأَعْتَاهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَأَعْصَاهُمْ لَهُ - لَمْ تُعَذِّبْهُمْ. لِأَنَّ قُرْبَةَ الْعُبُودِيَّةَ تَسْتَدْعِي إِحْسَانَ السَّيِّدِ إِلَى عَبْدِهِ وَرَحْمَتَهُ. فَلِمَاذَا يُعَذِّبُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَعْظَمُ الْمُحْسِنِينَ إِحْسَانًا عَبِيدَهُ؟ لَوْلَا فَرْطُ عُتُوِّهِمْ، وَإِبَاؤُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَكَمَالُ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] أَيْ هُمْ عِبَادُكَ. وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ: عَذَّبْتَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْكَ بِمَا تُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ. فَهُمْ عِبَادُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا جَنَوْهُ وَاكْتَسَبُوهُ. فَلَيْسَ فِي هَذَا اسْتِعْطَافٌ لَهُمْ، كَمَا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ. وَلَا تَفْوِيضٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْمُلْكِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْحِكْمَةِ، كَمَا تَظُنُّهُ الْقَدَرِيَّةُ. وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] وَلَمْ يَقُلِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ قَالَهُ فِي وَقْتِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ، وَالْأَمْرِ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. فَلَيْسَ هُوَ مَقَامَ اسْتِعْطَافٍ وَلَا شَفَاعَةٍ. بَلْ مَقَامُ بَرَاءَةٍ مِنْهُمْ. فَلَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأَشْعَرَ بِاسْتِعْطَافِهِ رَبَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ الَّذِينَ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ. فَالْمَقَامُ مَقَامُ مُوَافَقَةٍ لِلرَّبِّ فِي غَضَبِهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ. فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُسْأَلُ بِهِمَا عَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ إِلَى ذِكْرِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، الْمُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ فَمُغْفِرَتُكَ تَكُونُ عَنْ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. لَيْسَتْ عَنْ عَجْزٍ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا عَنْ خَفَاءٍ عَلَيْكَ بِمِقْدَارِ جَرَائِمِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَغْفِرُ لِغَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُ. وَلِجَهْلِهِ بِمِقْدَارِ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهِ. وَالْكَمَالُ: هُوَ مَغْفِرَةُ الْقَادِرِ الْعَالِمِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَكَانَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَيْنَ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ حَمَلَةُ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ. وَاثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ. وَلِهَذَا يَقْتَرِنُ كُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى. كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78] وَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي. حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَضِرِ عليه السلام فِي السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] . وَلَمْ يَقُلْ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ أَعِيبَهَا. وَقَالَ فِي الْغُلَامَيْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 10] وَلَمْ يَقُولُوا: أَرَادَهُ بِهِمْ. ثُمَّ قَالُوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] .
وَأَلْطَفُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مُوسَى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] وَلَمْ يَقُلْ: أَطْعِمْنِي.
وَقَوْلُ آدَمَ عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وَلَمْ يَقُلْ: رَبِّ قَدَرْتَ عَلَيَّ وَقَضَيْتَ عَلَيَّ.
وَقَوْلُ أَيُّوبَ عليه السلام. {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] . وَلَمْ يَقُلْ: فَعَافِنِي وَاشْفِنِي.
وَقَوْلُ يُوسُفَ لِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] وَلَمْ يَقُلْ: أَخْرَجَنِي مِنَ الْجُبِّ، حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ إِخْوَتِهِ. وَتَفَتِّيًا عَلَيْهِمْ: أَنْ لَا يُخْجِلَهُمْ بِمَا جَرَى فِي الْجُبِّ. وَقَالَ {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] وَلَمْ يَقُلْ: رَفَعَ عَنْكُمْ جُهْدَ الْجُوعِ وَالْحَاجَةَ. أَدَبًا مَعَهُمْ. وَأَضَافَ مَا جَرَى إِلَى السَّبَبِ. وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى الْمُبَاشِرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَقَالَ: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] فَأَعْطَى الْفُتُوَّةَ وَالْكَرْمَ وَالْأَدَبَ حَقَّهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذَا الْخُلُقِ إِلَّا لِلرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، عَلَى حَسَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةِ وَقَارِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْزَمِ الْأَدَبَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا عُوقِبَ ظَاهِرًا. وَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ بَاطِنًا إِلَّا عُوقِبَ بَاطِنًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رحمه الله: مَنْ تَهَاوَنَ بِالْأَدَبِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ السُّنَنِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالسُّنَنِ. عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْفَرَائِضِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْفَرَائِضِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْمَعْرِفَةِ.
وَقِيلَ: الْأَدَبُ فِي الْعَمَلِ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ.