الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّ الْبَقَاءَ فِي الذِّكْرِ أَكْمَلُ مِنَ الْفَنَاءِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ بِهِ; لِمَا فِي الْبَقَاءِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْمَعَارِفِ وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَشُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْبُودِ. وَلَيْسَ فِي الْفَنَاءِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْفَنَاءُ - كَاسْمِهِ - الْفَنَاءُ، وَالْبَقَاءُ بَقَاءٌ كَاسْمِهِ، وَالْفَنَاءُ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ وَالْبَقَاءُ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ وَالْفِنَاءُ وَصْفُ الْعَبْدِ وَالْبَقَاءُ وَصْفُ الرَّبِّ. وَالْفَنَاءُ عَدَمٌ وَالْبَقَاءُ وُجُودٌ وَالْفَنَاءُ نَفْيٌ وَالْبَقَاءُ إِثْبَاتٌ وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ مُخْطِرٌ، وَكَمْ بِهِ مِنْ مَفَازَةٍ وَمَهْلَكَةٍ، وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْبَقَاءِ آمِنٌ; فَإِنَّهُ دَرِبَ عَلَيْهِ الْأَعْلَامُ وَالْهُدَاةُ وَالْخُفَرَاءُ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الْفَنَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ طَوِيلٌ وَلَا يَشُكُّونَ فِي سَلَامَتِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ دَرْبَ الْفَنَاءِ أَقْرَبُ وَرَاكِبَهُ طَائِرٌ وَرَاكِبَ دَرْبِ الْبَقَاءِ سَائِرٌ، وَالْكُمَّلُ مِنَ السَّائِرِينَ يَرَوْنَ الْفَنَاءَ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَلَيْسَ نُزُولُهَا عَامًّا لِكُلِّ سَائِرٍ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهَا وَلَا يَمُرُّ بِهَا، وَإِنَّمَا الدَّرْبُ الْأَعْظَمُ وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ هُوَ دَرْبُ الْبَقَاءِ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَإِلَّا فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى خَطَرٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ]
[حَقِيقَةُ الْفَقْرِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ
هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَشْرَفُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَأَعْلَاهَا وَأَرْفَعُهَا. بَلْ هِيَ رُوحُ كُلِّ مَنْزِلَةٍ وَسِرُّهَا وَلُبُّهَا وَغَايَتُهَا.
وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْفَقْرِ. وَالَّذِي تُرِيدُ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَخَصَّ مِنْ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ. فَإِنَّ لَفْظَ الْفَقْرِ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ.
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]- الْآيَةَ أَيِ الصَّدَقَاتُ لِهَؤُلَاءِ. كَانَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ. لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ فِي الْمَدِينَةِ وَلَا عَشَائِرُ. وَكَانُوا قَدْ حَبَسُوا
أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَكَانُوا وَقْفًا عَلَى كُلِّ سَرِيَّةٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ. هَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي إِحْصَارِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: حَبْسُهُمُ الْفَقْرُ وَالْعُدْمُ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: لَمَّا عَادَوْا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَجَاهَدُوهُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَحُصِرُوا عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ. فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ - لِفَقْرِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَضَعْفِهِمْ - لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَلِكَمَالِ عِفَّتِهِمْ وَصِيَانَتِهِمْ يَحْسَبُهُمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ أَغْنِيَاءَ.
وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]- الْآيَةَ.
وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] .
فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ: خَوَاصُّ الْفُقَرَاءِ. وَالثَّانِي: فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ خَاصِّهِمْ وَعَامِّهِمْ. وَالثَّالِثُ: الْفَقْرُ الْعَامُّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ: غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ.
فَالْفُقَرَاءُ الْمَوْصُوفُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: يُقَابِلُهُمْ أَصْحَابُ الْجِدَةِ، وَمَنْ لَيْسَ مُحْصَرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يَكْتُمُ فَقْرَهُ تَعَفُّفًا. فَمُقَابِلُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مُقَابِلِ الصِّنْفِ الثَّانِي.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: يُقَابِلُهُمُ الْأَغْنِيَاءُ أَهْلُ الْجِدَةِ. وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُتَعَفِّفُ وَغَيْرُهُ. وَالْمُحْصَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ.
وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: لَا مُقَابِلَ لَهُمْ. بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ.
وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالْفَقْرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَهُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالَةٍ.
وَهَذَا الْمَعْنَى أَجَلُّ مَنْ أَنْ يُسَمَّى فَقْرًا. بَلْ هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبُّهَا. وَعَزْلُ النَّفْسِ عَنْ مُزَاحَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ. فَقَالَ: حَقِيقَتُهُ أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَرَسْمُهُ: عَدَمُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا.
يَقُولُ: عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا. وَهُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: شَيْءٌ لَا يَضَعُهُ اللَّهُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُحِبُّهُ. وَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْ يُرِيدُهُ.
وَسُئِلَ رُوَيْمٌ عَنِ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِرْسَالُ النَّفْسِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ.
وَهَذَا إِنَّمَا يُحْمَدُ فِي إِرْسَالِهَا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الَّتِي لَا يُؤْمَرُ بِمُدَافَعَتِهَا وَالتَّحَرُّزِ مِنْهَا.
وَسُئِلَ أَبُو حَفْصٍ: بِمَ يَقْدَمُ الْفَقِيرُ عَلَى رَبِّهِ؟ فَقَالَ: مَا لِلْفَقِيرِ شَيْءٌ يَقْدَمُ بِهِ عَلَى رَبِّهِ سِوَى فَقْرِهِ.
وَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ وَكَمَالُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ: مَتَى يَسْتَحِقُّ الْفَقِيرُ اسْمَ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَبْقِ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْهُ. فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَهُوَ لَهُ.
وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْعِبَارَاتِ عَنْ مَعْنَى الْفَقْرِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَهُوَ أَنَّ كُلَّهُ يَصِيرُ لِلَّهِ عز وجل. لَا يَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ وَحَظِّهِ وَهَوَاهُ. فَمَتَى بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ نَفْسِهِ فَفَقْرُهُ مَدْخُولٌ.
ثُمَّ فُسِّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذَا كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِنَفَسِهِ فَهُوَ لِلَّهِ.
فَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَنْ لَا تَكُونَ لِنَفْسِكَ. وَلَا يَكُونَ لَهَا مِنْكَ شَيْءٌ، بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّكَ لِلَّهِ. وَإِذَا كُنْتَ لِنَفْسِكَ فَثَمَّ مِلْكٌ وَاسْتِغْنَاءٌ مُنَافٍ لِلْفَقْرِ.
وَهَذَا الْفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ: لَا تُنَافِيهِ الْجِدَةُ وَلَا الْأَمْلَاكُ. فَقَدْ كَانَ رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ فِي ذُرْوَتِهِ مَعَ جِدَتِهِمْ، وَمُلْكِهِمْ، كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَبَا الضِّيفَانِ. وَكَانَتْ لَهُ الْأَمْوَالُ وَالْمَوَاشِي، وَكَذَلِكَ كَانَ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ عليهما السلام. وَكَذَلِكَ كَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم، كَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فَكَانُوا أَغْنِيَاءَ فِي فَقْرِهِمْ. فُقَرَاءَ فِي غِنَاهُمْ.
فَالْفَقْرُ الْحَقِيقِيُّ: دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدَ - فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ - فَاقَةً تَامَّةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
فَالْفَقْرُ ذَاتِيٌّ لِلْعَبْدِ. وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ لِشُهُودِهِ وَوُجُودِهِ حَالًا، وَإِلَّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ. كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ:
وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا
…
كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِيُّ
وَلَهُ آثَارٌ وَعَلَامَاتٌ وَمُوجِبَاتٌ وَأَسْبَابٌ أَكْثَرُ إِشَارَاتِ الْقَوْمِ إِلَيْهَا. كَقَوْلِ بَعْضِهِمُ: الْفَقِيرُ لَا تَسْبِقُ هِمَّتَهُ خَطْوَتُهُ.
يُرِيدُ: أَنَّهُ ابْنُ حَالِهِ وَوَقْتِهِ. فَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى وَقْتِهِ لَا تَتَعَدَّاهُ.
وَقِيلَ: أَرْكَانُ الْفَقْرِ أَرْبَعَةٌ: عِلْمٌ يَسُوسُهُ، وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ، وَيَقِينٌ يَحْمِلُهُ، وَذِكْرٌ يُؤْنِسُهُ.
وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: حَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ.
وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَتَى يَسْتَرِيحُ الْفَقِيرُ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: أَحْسُنُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ: دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَمُلَازَمَةُ السُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَطَلَبُ الْقُوتِ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ.
وَقِيلَ: مِنْ حُكْمِ الْفَقْرِ: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ رَغْبَةٌ. فَإِذَا كَانَ وَلَا بُدَّ فَلَا تُجَاوِزُ رَغْبَتُهُ كِفَايَتَهُ.
وَقِيلَ: الْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ وَلَا يُمْلَكُ. وَأَتَمُّ مِنْ هَذَا: مَنْ يَمْلِكُ وَلَا يَمْلِكُهُ مَالِكٌ.
وَقِيلَ: مَنْ أَرَادَ الْفَقْرَ لِشَرَفِ الْفَقْرِ مَاتَ فَقِيرًا. وَمَنْ أَرَادَهُ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مَاتَ غَنِيًّا.
وَالْفَقْرُ لَهُ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ. وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَبِدَايَتُهُ: الذُّلُّ. وَنِهَايَتُهُ: الْعِزُّ. وَظَاهِرُهُ: الْعَدَمُ. وَبَاطِنُهُ: الْغِنَى. كَمَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: فَقْرٌ وَذُلٌّ؟ فَقَالَ: لَا. بَلْ فَقَرٌّ وَعِزٌّ. فَقَالَ: فَقْرٌ وَثَرَاءٌ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ فَقَرٌّ وَعَرْشٌ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ.
وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ دَوَامَ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ - مَعَ التَّخْلِيطِ - خَيْرٌ مِنْ دَوَامِ الصَّفَاءِ مَعَ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَالْعُجْبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا صَفَاءَ مَعَهُمَا.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْفَقْرِ عَلِمْتَ أَنَّهُ عَيْنُ الْغِنَى بِاللَّهِ. فَلَا مَعْنَى لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ: أَيُّ الْحَالَيْنِ أَكْمَلُ؟ الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ، أَمْ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ؟ .
فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. فَإِنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ.
وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَرَغَانِيُّ فَقَالَ: إِذَا صَحَّ الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى فَقَدْ صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ بِاللَّهِ، وَإِذَا صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ بِاللَّهِ كَمَلَ الْغِنَى بِهِ. فَلَا يُقَالُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: الِافْتِقَارُ أَمْ الِاسْتِغْنَاءُ؟ لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ لَا تَتِمُّ إِحْدَاهُمَا إِلَّا بِالْأُخْرَى.
وَأَمَّا كَلَامُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ.
فَعِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنَّ التَّفْضِيلَ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحَقَائِقِ. فَالْمَسْأَلَةُ أَيْضًا فَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا. فَإِنَّ التَّفْضِيلَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى، وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. لَا بِفَقْرٍ وَلَا غِنًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَلَمْ يَقُلْ أَفْقَرُكُمْ وَلَا أَغْنَاكُمْ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ - وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] كَلَّا أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ وَسَّعْتُ عَلَيْهِ وَأَعْطَيْتُهُ: أَكُونُ قَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ وَقَتَّرْتُ: أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ، فَالْإِكْرَامُ: أَنْ يُكْرِمَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِطَاعَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَالْإِهَانَةُ: أَنْ يَسْلُبَهُ ذَلِكَ.
قَالَ - يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ - وَلَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ. بَلْ بِالتَّقْوَى، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَتَذَاكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ. فَقَالَ: لَا يُوزَنُ غَدًا الْفَقْرُ وَلَا الْغِنَى، وَإِنَّمَا يُوزَنُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحَالٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لَا بُّدَ لَهُ مِنْ صَبْرٍ وَشُكْرٍ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ. وَنِصْفٌ شُكْرٌ. بَلْ قَدْ يَكُونُ نَصِيبُ الْغَنِيِّ وَقِسْطُهُ مِنَ الصَّبْرِ أَوْفَرَ. لِأَنَّهُ يَصْبِرُ عَنْ قُدْرَةٍ، فَصَبْرُهُ أَتَمُّ مَنْ صَبْرِ مَنْ يَصْبِرُ عَنْ عَجْزٍ. وَيَكُونُ شُكْرُ الْفَقِيرِ أَتَمَّ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفَقِيرُ أَعْظَمُ فَرَاغًا لِلشُّكْرِ مِنَ الْغَنِيِّ. فَكِلَاهُمَا لَا تَقُومُ قَائِمَةُ إِيمَانِهِ إِلَّا عَلَى سَاقِي الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.
نَعَمِ، الَّذِي يَحْكِي النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَرْعًا مِنَ الشُّكْرِ، وَفَرْعًا مِنَ الصَّبْرِ.