الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عُمْرَةٍ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ أُولُو التَّوَكُّلِ حَقًّا.
وَأَكْمَلُ الْمُتَوَكِّلِينَ بَعْدَهُمْ هُوَ مَنِ اشْتَمَّ رَائِحَةَ تَوَكُّلِهِمْ مِنْ مَسِيرَةٍ بَعِيدَةٍ، أَوْ لَحِقَ أَثَرًا مِنْ غُبَارِهِمْ. فَحَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَالُ أَصْحَابِهِ مَحَكُّ الْأَحْوَالِ وَمِيزَانُهَا. بِهَا يُعْلَمُ صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا. فَإِنَّ هِمَمَهُمْ كَانَتْ فِي التَّوَكُّلِ أَعْلَى مِنْ هِمَمِ مَنْ بَعْدَهُمْ. فَإِنَّ تَوَكُّلَهُمْ كَانَ فِي فَتْحِ بَصَائِرِ الْقُلُوبِ. وَأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَأَنْ يُوَحِّدَهُ جَمِيعُ الْعِبَادِ، وَأَنْ تُشْرِقَ شُمُوسُ الدِّينِ الْحَقِّ عَلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَمَلَئُوا بِذَلِكَ التَّوَكُّلِ الْقُلُوبَ هُدًى وَإِيمَانًا. وَفَتَحُوا بِلَادَ الْكُفْرِ وَجَعَلُوهَا دَارَ إِيمَانٍ. وَهَبَّتْ رِيَاحُ رَوْحِ نَسَمَاتِ التَّوَكُّلِ عَلَى قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمْ فَمَلَأَتْهَا يَقِينًا وَإِيمَانًا. فَكَانَتْ هِمَمُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ أَحَدُهُمْ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى اللَّهِ فِي شَيْءٍ يَحْصُلُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ وَسَعْيٍ، فَيَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ قُوَى تَوَكُّلِهِ.
قَوْلُهُ: وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ. يُرِيدُ أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ قَدْ يَكُونُ مُتَسَبِّبًا بِالْوِلَايَاتِ الشَّرِيفَةِ فِي الْعِبَادَةِ، أَوِ التِّجَارَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالْأَسْبَابِ الَّتِي لَهُ بِهَا جَاهٌ وَشَرَفٌ فِي النَّاسِ. فَإِذَا تَرَكَهَا يَكُونُ تَرْكُهَا قَمْعًا لِشَرَفِ نَفْسِهِ، وَإِيثَارًا لِلتَّوَاضُعِ.
وَقَوْلُهُ: وَتَفَرُّغًا لِحِفْظِ الْوَاجِبَاتِ؛ أَيْ يَتَفَرَّغُ بِتَرْكِهَا لِحِفْظِ وَاجِبَاتِهَا الَّتِي تُزَاحِمُهَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ، النَّازِعَةِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ. وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ تَعَالَى لِلْأَشْيَاءِ هِيَ مِلْكَةُ عَزَّةٍ. لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ. فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ.
يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَتَى قَطَعَ الْأَسْبَابَ وَالطَّلَبَ، وَتَعَدَّى تَيْنِكَ الدَّرَجَتَيْنِ، فَتَوَكُّلُهُ فَوْقَ تَوَكُّلِ مَنْ قَبْلَهُ. وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ دُونَ مَقَامِهِ، فَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِهِ وَبِحَقِيقَتِهِ نَازِعَةً - أَيْ بَاعِثَةً وَدَاعِيَةً - إِلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، أَيْ لَا يَعْرِفُ عِلَّةَ التَّوَكُّلِ حَتَّى يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ. فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْ عِلَّتِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي يَعْلَمُ بِهَا عِلَّةَ التَّوَكُّلِ. فَقَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ لِلْأَشْيَاءِ
مَلِكَةُ عَزَّةٍ؛ أَيْ مِلْكَةُ امْتِنَاعٍ وَقُوَّةٍ وَقَهْرٍ، تَمْنَعُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي مُلْكِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مُشَارِكٌ. فَهُوَ الْعَزِيزُ فِي مُلْكِهِ، الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْهُ. كَمَا هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِعِزَّتِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ.
فَالْمُتَوَكِّلُ يَرَى أَنَّ لَهُ شَيْئًا قَدْ وَكَّلَ الْحَقَّ فِيهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَارَ وَكَيْلَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْرِ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ. فَلِهَذَا قَالَ: لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ. فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ. فَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ لِمَنْ جَعَلَ الرَّبَّ تَعَالَى وَكِيلَهُ: فِي مَاذَا وَكَّلْتُ رَبَّكَ؟ أَفِيمَا هُوَ لَهُ وَحْدَهُ؟ أَوْ لَكَ وَحْدَكَ؟ أَوْ بَيْنَكُمَا؟ فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مُمْتَنِعٌ بِتَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَحْدَهُ. وَالتَّوْكِيلُ فِي الْأَوَّلِ مُمْتَنِعٌ، فَكَيْفَ تُوَكِّلُهُ فِيمَا لَيْسَ لَكَ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ؟ .
فَيُقَالُ: هَاهُنَا أَمْرَانِ: تَوَكُّلٌ، وَتَوْكِيلٌ. فَالتَّوَكُّلُ: مَحْضُ الِاعْتِمَادِ وَالثِّقَةِ وَالسُّكُونِ إِلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ. وَعِلْمُ الْعَبْدُ بِتَفَرُّدِ الْحَقِّ تَعَالَى وَحْدَهُ بِمِلْكِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُشَارِكٌ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْكَوْنِ: مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ تَوَكُّلِهِ، وَأَعْظَمِ دَوَاعِيهِ.
فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً. وَبَاشَرَ قَلْبَهُ حَالًا: لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اعْتِمَادِ قَلْبِهِ عَلَى الْحَقِّ وَحْدَهُ، وَثِقَتِهِ بِهِ، وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَطُمَأْنِينَتِهِ بِهِ وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِ أَنَّ حَاجَاتِهِ وَفَاقَاتِهِ وَضَرُورَاتِهِ، وَجَمِيعَ مَصَالِحِهِ كُلِّهَا: بِيَدِهِ وَحْدَهُ. لَا بِيَدِ غَيْرِهِ. فَأَيْنَ يَجِدُ قَلْبَهُ مَنَاصًا مِنَ التَّوَكُّلِ بَعْدَ هَذَا؟
فَعِلَّةُ التَّوَكُّلِ حِينَئِدٍ: الْتِفَاتُ قَلْبِهِ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ شِرْكَةً فِي مُلْكِ الْحَقِّ. وَلَا يَمْلِكُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. هَذِهِ عِلَّةُ تَوَكُّلِهِ. فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى تَخْلِيصِ تَوَكُّلِهِ مِنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ.
نَعَمْ، وَمِنْ عِلَّةٍ أُخْرَى. وَهِيَ رُؤْيَةُ تَوَكُّلِهِ. فَإِنَّهُ الْتِفَاتٌ إِلَى عَوَالِمِ نَفْسِهِ.
وَعِلَّةٌ ثَالِثَةٌ: وَهِيَ صَرْفُهُ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ أَحَبِّ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ.
فَهَذِهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ: هِيَ عِلَلُ التَّوْكِيلِ.
وَأَمَّا التَّوَكُّلُ: فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدَ التَّفْوِيضِ. وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ. كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ» ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ:{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]