الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَاعِثِ عَلَى تَرْكِ مَعْصِيَةِ الْمَحْبُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ تَعْظِيمِهِ. وَإِلَّا فَلَوْ خَلَا الْقَلْبُ مِنْ تَعْظِيمِهِ لَمْ تَسْتَلْزِمْ مَحَبَّتُهُ تَرْكَ مُخَالَفَتِهِ؛ كَمَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ وَعَبْدَهُ وَأَمَتَهُ. فَإِذَا قَارَنَهُ التَّعْظِيمُ أَوْجَبَ تَرْكَ الْمُخَالَفَةِ.
قَالَ: وَهُوَ آخِرُ مَقَامِ الزُّهْدِ لِلْعَامَّةِ، وَأَوَّلُ مَقَامِ الزُّهْدِ لِلْمُرِيدِ.
يَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّوَقِّيَ وَالتَّحَرُّجَ - بِوَصْفِ الْحَذَرِ وَالتَّعْظِيمِ - هُوَ نِهَايَةٌ لِزُهْدِ الْعَامَّةِ، وَبِدَايَةٌ لِزُهْدِ الْمُرِيدِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَرَعَ - كَمَا تَقَدَّمَ - هُوَ أَوَّلُ الزُّهْدِ وَرُكْنُهُ، وَزُهْدُ الْمُرِيدُ فَوْقَ زُهْدِ الْعَامَّةِ. وَنِهَايَةُ الْعَامَّةِ هِيَ بِدَايَةُ الْمُرِيدِ. فَنِهَايَةُ مَقَامِ هَذَا هِيَ بِدَايَةُ مَقَامِ هَذَا. فَإِذَا انْتَهَى وَرَعُ الْعَامَّةِ صَارَ زُهْدًا. وَهُوَ أَوَّلُ وَرَعِ الْمُرِيدِ.
[دَرَجَاتُ الْوَرَعِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَجَنُّبُ الْقَبَائِحِ لِصَوْنِ النَّفْسِ]
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجَنُّبُ الْقَبَائِحِ لِصَوْنِ النَّفْسِ. وَتَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ. وَصِيَانَةُ الْإِيمَانِ.
هَذِهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ مِنْ فَوَائِدِ تَجَنُّبِ الْقَبَائِحِ.
إِحْدَاهَا: صَوْنُ النَّفْسِ. وَهُوَ حِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا عَمَّا يَشِينُهَا، وَيَعِيبُهَا وَيُزْرِي بِهَا عِنْدَ اللَّهِ عز وجل وَمَلَائِكَتِهِ، وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَائِرِ خَلْقِهِ. فَإِنَّ مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَكَبُرَتْ عِنْدَهُ صَانَهَا وَحَمَاهَا، وَزَكَّاهَا وَعَلَّاهَا، وَوَضَعَهَا فِي أَعْلَى الْمَحَالِّ. وَزَاحَمَ بِهَا أَهْلَ الْعَزَائِمِ وَالْكِمَالَاتِ. وَمَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَصَغُرَتْ عِنْدَهُ أَلْقَاهَا فِي الرَّذَائِلِ. وَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، وَحَلَّ زِمَامَهَا وَأَرْخَاهُ. وَدَسَّاهَا وَلَمْ يَصُنْهَا عَنْ قَبِيحٍ. فَأَقَلُّ مَا فِي تَجَنُّبِ الْقَبَائِحِ: صَوْنُ النَّفْسِ.
وَأَمَّا تَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَوْفِيرُ زَمَانِهِ عَلَى اكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ. فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْقَبَائِحِ نَقَصَتْ عَلَيْهِ الْحَسَنَاتُ الَّتِي كَانَ مُسْتَعِدًّا لِتَحْصِيلِهَا.
وَالثَّانِي: تَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ الْمُفَعْوِلَةِ عَنْ نُقْصَانِهَا بِمُوَازَنَةِ السَّيِّئَاتِ وَحُبُوطِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ قَدْ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ تَسْتَغْرِقُهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ تُنْقِصُهَا. فَلَا بُدَّ أَنْ تُضْعِفَهَا قَطْعًا، فَتَجَنُّبُهَا يُوَفِّرُ دِيوَانَ الْحَسَنَاتِ. وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ مَالٌ حَاصِلٌ. فَإِذَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَسْتَغْرِقَهُ الدَّيْنُ أَوْ يُكْثِرَهُ أَوْ يُنْقِصَهُ، فَهَكَذَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ سَوَاءً.
وَأَمَّا صِيَانَةُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَإِضْعَافُ الْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ وَالْوُجُودِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ - كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ - «إِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ. وَإِنْ عَادَ فَأَذْنَبَ نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ. وَذَلِكَ الرَّانُّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] » . فَالْقَبَائِحُ تُسَوِّدُ الْقَلْبَ، وَتُطْفِئُ نُورَهُ. وَالْإِيمَانُ هُوَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ. وَالْقَبَائِحُ تَذْهَبُ بِهِ أَوْ تُقَلِّلُهُ قَطْعًا. فَالْحَسَنَاتُ تَزِيدُ نُورَ الْقَلْبِ. وَالسَّيِّئَاتُ تُطْفِئُ نُورَ الْقَلْبِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل أَنَّ كَسْبَ الْقُلُوبِ سَبَبٌ لِلرَّانِّ الَّذِي يَعْلُوهَا. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْكَسَ الْمُنَافِقِينَ بِمَا كَسَبُوا. فَقَالَ:{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] . وَأَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ سَبَبٌ لِتَقْسِيَةِ الْقَلْبِ. فَقَالَ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] . فَجَعَلَ ذَنْبَ النَّقْضِ مُوجِبًا لِهَذِهِ الْآثَارِ مِنْ تَقْسِيَةِ الْقَلْبِ، وَاللَّعْنَةِ، وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ، وَنِسْيَانِ الْعِلْمِ.
فَالْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ كَالْمَرَضِ وَالْحُمَّى لِلْقُوَّةِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ.
فَإِيمَانُ صَاحِبِ الْقَبَائِحِ كَقُوَّةِ الْمَرِيضِ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِهِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ - وَهِيَ صَوْنُ النَّفْسِ، وَتَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ، وَصِيَانَةُ الْإِيمَانِ - هِيَ أَرْفَعُ مِنْ بَاعِثِ الْعَامَّةِ عَلَى الْوَرَعِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا أَرْفَعُ هِمَّةً، لِأَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَصَوْنِهَا، وَتَأْهِيلِهَا لِلْوُصُولِ إِلَى رَبِّهَا. فَهُوَ يَصُونُهَا عَمَّا يَشِينُهَا عِنْدَهُ. وَيَحْجُبُهَا عَنْهُ. وَيَصُونُ حَسَنَاتِهِ عَمَّا يُسْقِطُهَا وَيَضَعُهَا؛ لِأَنَّهُ يَسِيرُ بِهَا إِلَى رَبِّهِ. وَيَطْلُبُ بِهَا رِضَاهُ. وَيَصُونُ إِيمَانَهُ بِرَبِّهِ مِنْ حُبِّهِ لَهُ، وَتَوْحِيدِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ إِيَّاهُ عَمَّا يُطْفِئُ نُورَهُ. وَيُذْهِبُ بَهْجَتَهُ، وَيُوهِنُ قُوَّتَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ:
" وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الصِّفَاتِ: هِيَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى مِنْ وَرَعِ الْمُرِيدِينَ.