الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّمَاحَةُ. وَتَرْكُ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَالْبُعْدُ مِنْهُ. فَالْحَامِلُ عَلَيْهِ: الصَّبْرُ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى فِي كِتَابِهِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ، وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ، وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ. فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: الصَّبْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ وَلَا مَعَهُ. وَالصَّفْحُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ. وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا أَذَى مَعَهُ.
وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ: أَنْزَلْتُ بِعَبْدِي بَلَائِي، فَدَعَانِي. فَمَاطَلْتُهُ بِالْإِجَابَةِ، فَشَكَانِي. فَقُلْتُ: عَبْدِي، كَيْفَ أَرْحَمُكَ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُكَ؟ .
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24] قَالَ: أَخَذُوا بِرَأْسِ الْأَمْرِ فَجَعَلَهُمْ رُؤَسَاءَ.
وَقِيلَ: صَبْرُ الْعَابِدِينَ أَحْسَنُهُ: أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا، وَصَبْرُ الْمُحِبِّينَ أَحْسَنُهُ: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوضًا. كَمَا قِيلَ:
تَبَيَّنَ يَوْمَ الْبَيْنِ أَنَّ اعْتِزَامَهُ
…
عَلَى الصَّبْرِ مِنْ إِحْدَى الظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ
وَالشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ عز وجل لَا تُنَافِي الصَّبْرَ. فَإِنَّ يَعْقُوبَ عليه السلام وَعَدَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ. وَالنَّبِيُّ إِذَا وَعَدَ لَا يُخْلِفُ. ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وَكَذَلِكَ أَيُّوبُ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَجَدَهُ صَابِرًا مَعَ قَوْلِهِ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] .
وَإِنَّمَا يُنَافِي الصَّبْرَ شَكْوَى اللَّهِ، لَا الشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ. كَمَا رَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلًا يَشْكُو إِلَى آخَرَ فَاقَةً وَضَرُورَةً. فَقَالَ: يَا هَذَا، تَشْكُو مَنْ يَرْحَمُكَ إِلَى مَنْ لَا يَرْحَمُكَ؟ ثُمَّ أَنْشَدَ:
وَإِذَا عَرَتْكَ بَلِيَّةٌ فَاصْبِرْ لَهَا
…
صَبْرَ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بِكَ أَعْلَمُ
وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا
…
تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ.
[فَصْلٌ الصَّبْرُ أَصْعَبُ الْمَنَازِلِ عَلَى الْعَامَّةِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ. وَعَقْلُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى. وَهُوَ مِنْ
أَصْعَبُ الْمَنَازِلِ عَلَى الْعَامَّةِ. وَأَوْحَشُهَا فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ. وَأَنْكَرُهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ
وَإِنَّمَا كَانَ صَعْبًا عَلَى الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ مُبْتَدِئٌ فِي الطَّرِيقِ. وَمَا لَهُ دُرْبَةٌ فِي السُّلُوكِ. وَلَا تَهْذِيبِ الْمُرْتَاضِ بِقَطْعِ الْمَنَازِلِ. فَإِذَا أَصَابَتْهُ الْمِحَنُ أَدْرَكَهُ الْجَزَعُ. وَصَعُبَ عَلَيْهِ احْتِمَالُ الْبَلَاءِ. وَعَزَّ عَلَيْهِ وُجْدَانُ الصَّبْرِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ. فَيَكُونَ مُسْتَوْطِنًا لِلصَّبْرِ. وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ، فَيَلْتَذَّ بِالْبَلَاءِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ وَحْشَةً فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ: فَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْتِذَاذَ الْمُحِبِّ بِامْتِحَانِ مَحْبُوبِهِ لَهُ، وَالصَّبْرُ يَقْتَضِي كَرَاهِيَتَهُ لِذَلِكَ، وَحَبْسَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ كَرْهًا. فَهُوَ وَحْشَةٌ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ.
وَفِي الْوَحْشَةِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الِالْتِذَاذَ بِالْمِحْنَةِ فِي الْمَحَبَّةِ هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ أُنْسِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. فَإِذَا أَحَسَّ بِالْأَلَمِ - بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ - انْتَقَلَ مِنَ الْأُنْسِ إِلَى الْوَحْشَةِ. وَلَوْلَا الْوَحْشَةُ لَمَا أَحَسَّ بِالْأَلَمِ الْمُسْتَدْعِي لِلصَّبْرِ.
وَإِنَّمَا كَانَ أَنْكَرَهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ فِيهِ قُوَّةَ الدَّعْوَى. لِأَنَّ الصَّابِرَ يَدَّعِي بِحَالِهِ قُوَّةَ الثَّبَاتِ. وَذَلِكَ ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ قُوَّةً عَظِيمَةً. وَهَذَا مُصَادَمَةٌ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ. إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ قُوَّةٌ أَلْبَتَّةَ. بَلْ لِلَّهِ الْقُوَّةُ جَمِيعًا. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
فَهَذَا سَبَبُ كَوْنِ الصَّبْرِ مُنْكَرًا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ. بَلْ مِنْ أَنْكَرِ الْمُنْكَرِ - كَمَا قَالَ - لِأَنَّ التَّوْحِيدَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَالصَّبْرَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى النَّفْسِ. وَإِثْبَاتُ النَّفْسِ فِي التَّوْحِيدِ مُنْكَرٌ.
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ مُحَرَّرًا مُقَرَّرًا. وَهُوَ مِنْ مُنْكَرِ كَلَامِهِ.
بَلِ الصَّبْرُ مِنْ آكَدِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ، وَأَلْزَمِهَا لِلْمُحِبِّينَ. وَهُمْ أَحْوَجُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ مِنْ كُلِّ مَنْزِلَةٍ. وَهُوَ مِنْ أَعْرَفِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ وَأَبْيَنِهَا.
وَحَاجَةُ الْمُحِبِّ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ حَاجَةُ الْمُحِبِّ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةً، مَعَ مُنَافَاتِهِ لِكَمَالِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ مُنَازَعَاتِ النَّفْسِ لِمُرَادِ الْمَحْبُوبِ؟
قِيلَ: هَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَ مِنْ آكَدِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ وَأَعْلَقِهَا بِهَا. وَبِهِ يُعْلَمُ صَحِيحُ الْمَحَبَّةِ مِنْ مَعْلُولِهَا، وَصَادِقُهَا مِنْ كَاذِبِهَا. فَإِنَّ بِقُوَّةِ الصَّبْرِ عَلَى
الْمَكَارِهِ فِي مُرَادِ الْمَحْبُوبِ يُعْلَمُ صِحَّةُ مَحَبَّتِهِ.
وَمِنْ هَاهُنَا كَانَتْ مَحَبَّةُ أَكْثَرِ النَّاسِ كَاذِبَةً. لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمُ ادَّعَوْا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى. فَحِينَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَكَارِهِ انْخَلَعُوا عَنْ حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ. وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَلَوْلَا تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، وَتَجَشُّمُ الْمَكَّارِهِ بِالصَّبْرِ لَمَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ مَحَبَّتِهِمْ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ أَعْظَمَهُمْ مَحَبَّةً أَشَدُّهُمْ صَبْرًا.
وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ خَاصَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ. فَقَالَ عَنْ حَبِيبِهِ أَيُّوبَ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] .
وَأَمَرَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ بِالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ صَبْرَهُ بِهِ. وَأَثْنَى عَلَى الصَّابِرِينَ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ. وَضَمِنَ لَهُمْ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ. وَجَعَلَ أَجْرَ غَيْرِهِمْ مَحْسُوبًا، وَأَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَقَرَنَ الصَّبْرَ بِمَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَجَعَلَهُ قَرِينَ الْيَقِينِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالتَّقْوَى.
وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَاتِهِ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا أُولُو الصَّبْرِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ لِأَهْلِهِ. وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ بِصَبْرِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ فِي اسْتِكْرَاهِ النُّفُوسِ لِأَلَمِ مَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَإِحْسَاسِهَا بِهِ، مَا يَقْدَحُ فِي مَحَبَّتِهَا وَلَا تَوْحِيدِهَا. فَإِنَّ إِحْسَاسَهَا بِالْأَلَمِ، وَنَفْرَتَهَا مِنْهُ: أَمْرٌ طَبْعِيٌّ لَهَا. كَاقْتِضَائِهَا لِلْغِذَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَتَأَلُّمِهَا بِفَقْدِهِ. فَلَوَازِمُ النَّفْسِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعْدَامِهَا أَوْ تَعْطِيلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ نَفْسًا إِنْسَانِيَّةً. وَلَارْتَفَعَتِ الْمِحْنَةُ. وَكَانَتْ عَالَمًا آخَرَ.
وَالصَّبْرُ وَالْمَحَبَّةُ لَا يَتَنَاقَضَانِ. بَلْ يَتَوَاخَيَانِ وَيَتَصَاحَبَانِ. وَالْمُحِبُّ صَبُورٌ بَلْ عِلَّةُ الصَّبْرِ فِي الْحَقِيقَةِ، الْمُنَاقِضَةُ لِلْمَحَبَّةِ، الْمُزَاحِمَةُ لِلتَّوْحِيدِ - أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ غَيْرَ إِرَادَةِ رِضَا الْمَحْبُوبِ. بَلْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَوْ مُزَاحَمَتِهِ بِإِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَوِ الْمُرَادِ مِنْهُ. لَا مُرَادِهِ. هَذِهِ هِيَ وَحْشَةُ الصَّبْرِ وَنَكَارَتُهُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى صَبْرَهُ بِاللَّهِ، وَصَبْرَهُ لِلَّهِ، وَصَبَرَ مَعَ اللَّهِ، مُشَاهِدًا أَنَّ صَبْرَهُ بِهِ تَعَالَى لَا بِنَفْسِهِ. فَهَذَا لَا تَلْحَقُ مَحَبَّتَهُ وَحْشَةٌ. وَلَا تَوْحِيدَهُ نَكَارَةٌ.
ثُمَّ لَوِ اسْتَقَامَ لَهُ هَذَا لَكَانَ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ. وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ.
فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ - وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهَا - وَعَنِ الْمُخَالَفَاتِ - وَهُوَ مَنْعُ