الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُسْتَسْلِمٌ لَهُ، غَيْرُ مُجِيبٍ لِدَاعِيهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ. بَلْ هُوَ مُجِيبٌ لِدَاعِي الْحَالِ وَالْجَمْعِيَّةِ، آخِذٌ مِنَ الْعِلْمِ مَا يُصَحِّحُ لَهُ حَالَهُ وَجَمْعِيَّتَهُ، غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ فِيهِ اسْتِغْرَاقَ مَنْ هُوَ مُطْرِحٌ هِمَّتَهُ وَغَايَةَ مَقْصِدِهِ، لَا مَطْلُوبَ لَهُ سِوَاهُ، وَلَا مُرَادَ لَهُ إِلَّا إِيَّاهُ. فَالْعِلْمُ عِنْدَهُ آلَةٌ وَوَسِيلَةٌ. وَطَرِيقٌ تُوصِلُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ. فَهُوَ كَالدَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيْهِ. يَدْعُوهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلُّهُ عَلَيْهَا، فَهُوَ يُجِيبُ دَاعِيَهُ لِلدَّلَالَةِ وَمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ. وَمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَقْصِدِهِ، وَمَطْلَبِهِ مِنْ سَيْرِهِ وَسَفَرِهِ وَبَاعِثِ هِمَّتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَوْطَانِهِ وَمُرَبَّاهُ، وَمِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ وَخُلَطَائِهِ. الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الِاغْتِرَابِ. وَالتَّفَرُّدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ: هُوَ الْمَسِيرُ لَهُ، وَالْمُحَرِّكُ وَالْبَاعِثُ. فَلَا يَجْنَحُ عَنْ دَاعِيهِ إِلَى اشْتِغَالِهِ بِجُزَيْئَاتِ أَحْوَالِ الدَّلِيلِ. وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى طَرِيقِهِ.
فَهَذَا مَقْصِدُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - لَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَخْضَعُ لِرَسْمٍ، أَيْ لَا يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ، بِحَيْثُ يَخْضَعُ لَهُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ: إِنَّمَا يَطْلُبُ الْحَيَّ الْقَيُّومَ. فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الْمَعَاهِدِ وَالرُّسُومِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى حَظٍّ؛ أَيْ إِذَا حَصَلَ لَهُ الْحَالُ التَّامُّ: لَمْ يَشْتَغِلْ بِفَرَحِهِ بِهِ، وَحَظِّهِ مِنْهُ وَاسْتِلْذَاذِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ حَظٌّ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَبَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَاهَا.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَهْذِيبُ الْقَصْدِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَهْذِيبُ الْقَصْدِ. وَهُوَ تَصْفِيَتُهُ مِنْ ذُلِّ الْإِكْرَاهِ، وَتَحَفُّظُهُ مِنْ مَرِضَ الْفُتُورِ، وَنُصْرَتُهُ عَلَى مُنَازَعَاتِ الْعِلْمِ.
هَذِهِ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تُهَذِّبُ قَصْدَهُ وَتُصَفِّيهِ.
أَحَدُهَا: تَصْفِيَتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ. أَيْ لَا يَسُوقُ نَفْسَهُ إِلَى اللَّهِ كَرْهًا. كَالْأَجِيرِ
الْمُسَخَّرِ الْمُكَلَّفِ، بَلْ تَكُونُ دَوَاعِي قَلْبِهِ وَجَوَاذِبُهُ مُنْسَاقَةً إِلَى اللَّهِ طَوْعًا وَمَحَبَّةً وَإِيثَارًا. كَجَرَيَانِ الْمَاءِ فِي مُنْحَدَرِهِ. وَهَذِهِ حَالُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّ عِبَادَتَهُمْ طَوْعًا وَمَحَبَّةً وَرِضًا. فَفِيهَا قُرَّةُ عُيُونِهِمْ، وَسُرُورُ قُلُوبِهِمْ، وَلَذَّةُ أَرْوَاحِهِمْ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، وَكَانَ يَقُولُ:«يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ» .
فَقُرَّةُ عَيْنِ الْمُحِبِّ وَلَذَّتُهُ وَنَعِيمُ رُوحِهِ: فِي طَاعَةِ مَحْبُوبِهِ. بِخِلَافِ الْمُطِيعِ كَرْهًا، الْمُتَحَمِّلِ لِلْخِدْمَةِ ثِقَلًا.
وَفِي قَوْلِهِ: ذُلُّ الْإِكْرَاهِ. لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُطِيعَ كَرْهًا يَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذُلُّ قَهْرِهِ، وَعُقُوبَةُ سَيِّدِهِ لَهُ لَمَا أَطَاعَهُ. فَهُوَ يَتَحَمَّلُ طَاعَتَهُ كَالْمُكْرَهِ الَّذِي قَدْ أَذَلَّهُ مُكْرِهُهُ وَقَاهِرُهُ. بِخِلَافِ الْمُحِبِّ الَّذِي يُعِدُّ طَاعَةَ مَحْبُوبِهِ قُوتًا وَنَعِيمًا، وَلَذَّةً وَسُرُورًا، فَهَذَا لَيْسَ الْحَامِلُ لَهُ ذُلَّ الْإِكْرَاهِ.
وَالثَّانِي: تَحَفُظُّهُ مِنْ مَرَضِ الْفُتُورِ. أَيْ تَوَقِّيهِ مِنْ مَرَضِ فُتُورِ قَصْدِهِ، وَخُمُودِ نَارِ طَلَبِهِ. فَإِنَّ الْعَزْمَ هُوَ رُوحُ الْقَصْدِ، وَنَشَاطَهُ كَالصِّحَّةِ لَهُ. وَفُتُورَهُ مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِهِ. فَتَهْذِيبُ قَصْدِهِ وَتَصْفِيَتُهُ بِحَمِيَّتِهِ مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الْمَرَضِ الَّذِي هُوَ فُتُورُهُ. وَإِنَّمَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ بِالْحَمِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِهِ. وَهُوَ أَنْ يَلْهُوَ عَنِ الْفُضُولِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَيَحْرِصَ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَعْنِيهِ. وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو فِيهِ زِيَادَةَ إِيمَانِهِ وَحَالِهِ مَعَ اللَّهِ وَلَا يَصْحَبَ إِلَّا مَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ بُلِيَ بِمَنْ لَا يُعِينُهُ فَلْيَدْرَأْهُ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَيَدْفَعْهُ دَفْعَ الصَّائِلِ.