الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رحمه الله يَقُولُ: وَكَذَلِكَ لَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا. وَلَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ رَبُّهُ. وَفِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ عَاتَبَ رَبَّهُ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. إِذْ رَفَعَهُ فَوْقَهُ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ. وَلَمْ يَعْتِبْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: لِأَنَّ مُوسَى عليه السلام قَامَ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا الدِّلَالَ. فَإِنَّهُ قَاوَمَ فِرْعَوْنَ أَكْبَرَ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَصَدَّى لَهُ وَلِقَوْمِهِ. وَعَالَجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ. وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ أَشَدَّ الْجِهَادِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ لِرَبِّهِ، فَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ لِغَيْرِهِ.
وَذُو النُّونِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْمَقَامِ: سَجَنَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ مِنْ غَضَبِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ اجْتِبَاءُ الْحَقِّ عَبْدَهُ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: اجْتِبَاءُ الْحَقِّ عَبْدَهُ. وَاسْتِخْلَاصُهُ إِيَّاهُ بِخَالِصَتِهِ. كَمَا ابْتَدَأَ مُوسَى، وَقَدْ خَرَجَ يَقْتَبِسُ نَارًا، فَاصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ. وَأَبْقَى مِنْهُ رَسْمًا مُعَارًا.
قُلْتُ: الِاجْتِبَاءُ الِاصْطِفَاءُ، وَالْإِيثَارُ. وَالتَّخْصِيصُ. وَهُوَ افْتِعَالُ مِنْ جَبَيْتُ الشَّيْءَ: إِذَا حُزْتَهُ وَأَحْرَزْتَهُ إِلَيْكَ. كَجِبَايَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ.
وَالِاصْطِنَاعُ أَيْضًا الِاصْطِفَاءُ، وَالِاخْتِيَارُ، يَعْنِي أَنَّهُ اصْطَفَى مُوسَى وَاسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ. وَجَعَلَهُ خَالِصًا لَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ كَانَ مِنْ مُوسَى، وَلَا وَسِيلَةٍ. فَإِنَّهُ خَرَجَ لِيَقْتَبِسَ النَّارَ. فَرَجَعَ وَهُوَ كَلِيمُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، ابْتِدَاءً مِنْهُ سُبْحَانَهُ، مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَا تَقَدُّمِ وَسِيلَةٍ. وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ:
أَيُّهَا الْعَبْدُ، كُنْ لِمَا لَسْتَ تَرْجُو
…
مِنْ صَلَاحٍ أَرْجَى لِمَا أَنْتَ رَاجِي
إِنَّ مُوسَى أَتَى لِيَقْبِسَ نَارًا
…
مِنْ ضِياءٍ رَآهُ وَالْلَيْلُ دَاجِي
فَانْثَنَى رَاجِعًا، وَقَدْ كَلَّمَهُ الْلَّ
…
هُ، وَنَاجَاهُ وَهْوَ خَيْرُ مُنَاجِي
وَقَوْلُهُ: وَأَبْقَى مِنْهُ رَسْمًا مُعَارًا.
يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالرَّسْمِ: الْبَقِيَّةَ الَّتِي تَقَدَّمَ بِهَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَرُفِعَ فَوْقَهُ بِدَرَجَاتٍ لِأَجْلِ بَقَائِهَا مِنْهُ.
وَيُحْتَمَلُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَاصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ. وَاخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ. وَخَصَّهُ بِكَلَامِهِ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا رَسْمًا مُجَرَّدًا يَصْحَبُ بِهِ الْخَلْقَ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَشَرِيَّةِ. إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ، وَإِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ. فَهُوَ عَارِيَةٌ مَعَهُ. فَإِذَا قَضَى مَا عَلَيْهِ: اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الرَّسْمَ. وَجَعَلَهُ مِنْ مَالِهِ. فَتَكَمَّلَتْ إِذْ ذَاكَ مَرْتَبَةُ الِاجْتِبَاءِ. ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَقِيقَةً وَرَسْمًا، وَرَجَعَتِ الْعَارِيَةُ إِلَى مَالِكِهَا الْحَقِّ، الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ. فَكَمَا ابْتَدَأَتْ مِنْهُ عَادَتْ إِلَيْهِ.
وَمُوسَى عليه السلام: كَانَ فِي مَظْهَرِ الْجَلَالِ، وَلِهَذَا كَانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ جَلَالٍ وَقَهْرٍ. أُمِرُوا بِقَتْلِ نُفُوسِهِمْ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، وَذَوَاتُ الظُّفُرِ وَغَيْرُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنَائِمُ. وَعُجِّلَ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا عُجِّلَ وَحُمِّلُوا مِنَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ، مَا لَمْ يَحْمِلْهُ غَيْرُهُمْ.
وَكَانَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم مَنْ أَعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ هَيْبَةً وَوَقَارًا. وَأَشَدِّهِمْ بَأْسًا وَغَضَبًا لِلَّهِ، وَبَطْشًا بِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَانَ لَا يُسْتَطَاعُ النَّظَرُ إِلَيْهِ.
وَعِيسَى صلى الله عليه وسلم: كَانَ فِي مَظْهَرِ الْجَمَالِ. وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ. وَكَانَ لَا يُقَاتِلُ، وَلَا يُحَارِبُ. وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِ قِتَالٌ أَلْبَتَّةَ. وَالنَّصَارَى يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ دِينُهُمُ الْقِتَالَ. وَهُمْ بِهِ عُصَاةٌ لِشَرْعِهِ. فَإِنَّ الْإِنْجِيلَ يَأْمُرُهُمْ فِيهِ: أَنَّ مِنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ، فَأَدِرْ لَهُ خَدَّكَ الْأَيْسَرَ. وَمَنْ نَازَعَكَ ثَوْبَكَ. فَأَعْطِهِ رِدَاءَكَ. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا. فَامْشِ مَعَهُ مِيلَيْنِ. وَنَحْوَ هَذَا. وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مَشَقَّةٌ، وَلَا آصَارٌ، وَلَا أَغْلَالٌ، وَإِنَّمَا النَّصَارَى ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم: فَكَانَ فِي مَظْهَرِ الْكَمَالِ، الْجَامِعِ لِتِلْكَ الْقُوَّةِ وَالْعَدْلِ، وَالشِّدَّةِ فِي اللَّهِ. وَهَذَا اللِّينِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَشَرِيعَتُهُ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ. فَهُوَ نَبِيُّ الْكَمَالِ، وَشَرِيعَتُهُ شَرِيعَةُ الْكَمَالِ. وَأُمَّتُهُ أَكْمَلُ الْأُمَمِ. وَأَحْوَالُهُمْ وَمَقَامَاتُهُمْ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ. وَلِذَلِكَ تَأْتِي شَرِيعَتُهُ بِالْعَدْلِ إِيجَابًا لَهُ وَفَرْضًا. وَبِالْفَضْلِ نَدْبًا إِلَيْهِ وَاسْتِحْبَابًا. وَبِالشِّدَّةِ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وَبِاللِّينِ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ. وَوُضِعَ السَّيْفُ مَوْضِعَهُ. وَوُضِعَ النَّدَى مَوْضِعَهُ. فَيَذْكُرَ الظُّلْمَ. وَيُحَرِّمَهُ. وَالْعَدْلَ وَيُوجِبُهُ. وَالْفَضْلَ وَيَنْدُبُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ آيَاتٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَهَذَا عَدْلٌ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فَهَذَا فَضْلٌ