الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّالِثُ: نُصْرَةُ قَصْدِهِ عَلَى مُنَازَعَاتِ الْعِلْمِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: نُصْرَةُ خَاطِرِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَالْجَمْعِيَّةِ فِيهَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ فِيهَا بِكُلِّيَّةِ الْقَلْبِ، عَلَى جَوَاذِبِ الْعِلْمِ وَالْفِكْرَةِ فِي دَقَائِقِهِ، وَتَفَارِيعِ مَسَائِلِهِ وَفَضَلَاتِهِ. أَوْ أَنَّ الْعِلْمَ يَطْلَبُ مِنَ الْعَبْدِ الْعَمَلَ لِلرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالثَّوَابِ، وَخَوْفِ الْعِقَابُ.
فَتَهْذِيبُ الْقَصْدِ: تَصْفِيَتُهُ مِنْ مُلَاحَظَةِ ذَلِكَ، وَتَجْرِيدُهُ: أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ وَعُبُودِيَّتُهُ مَحَبَّةً لِلَّهِ بِلَا عِلَّةٍ، وَأَنْ لَا يُحِبَّ اللَّهَ لِمَا يُعْطِيهِ وَيَحْمِيهِ مِنْهُ. فَتَكُونُ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ مَحَبَّةَ الْوَسَائِلِ، وَمَحَبَّتُهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لِمَا يَنَالُهُ مِنَ الثَّوَابِ الْمَخْلُوقِ. فَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُ بِالذَّاتِ. بِحَيْثُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَحْبُوبُهُ تَسَلَّى بِهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّكَ لِأَمْرٍ وَالَاكَ عِنْدَ حُصُولِهِ. وَمَلَّكَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ. وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ يَخَافُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ. فَتَنْقَضِي مَحَبَّتُهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْغَرَضِ. وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: أَنَّ مَحَبَّتَهُ تَدُومُ لَا تَنْقَضِي أَبَدًا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ مَحْبُوبَهُ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ يَجْعَلَ مَا سِوَاهُ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى مَحْبُوبِهِ.
وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي حَامَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، وَدَارُوا حَوْلَهُ. وَتَكَلَّمُوا فِيهِ. وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَسَاءَ الْعِبَارَةَ. وَقَصْدُهُ وَصِدْقُهُ يُصْلِحُ فَسَادَ عِبَارَتِهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَلْجَأً غَيْرَ الْإِنْكَارِ. وَاللَّهُ يَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ قَصْدُهُ الْحَقُّ وَاتِّبَاعُ مَرْضَاتِهِ. فَإِنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ.
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الِاسْتِقَامَةِ]
[حَقِيقَةُ الِاسْتِقَامَةِ]
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الِاسْتِقَامَةِ
وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الِاسْتِقَامَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13] .
وَقَالَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] .
فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ ضِدُّ الطُّغْيَانِ. وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحُدُودِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16] .
سُئِلَ صِدِّيقُ الْأَمَةِ وَأَعْظَمُهَا اسْتِقَامَةً - أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه عَنِ الِاسْتِقَامَةِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا. يُرِيدُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى مَحْضِ التَّوْحِيدِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: الِاسْتِقَامَةُ: أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَلَا تَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه: اسْتَقَامُوا: أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: اسْتَقَامُوا: أَدَّوُا الْفَرَائِضَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى لَحِقُوا بِاللَّهِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: اسْتَقَامُوا عَلَى مَحَبَّتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ
قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: قُلْ آمَنَتْ بِاللَّهِ. ثُمَّ اسْتَقِمْ» .
وَفِيهِ عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا. وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ. وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» .
وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْعَبْدِ الِاسْتِقَامَةُ. وَهِيَ السَّدَادُ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَالْمُقَارَبَةُ. فَإِنْ نَزَلَ عَنْهَا: فَالتَّفْرِيطُ وَالْإِضَاعَةُ. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» .
فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقَامَاتِ الدِّينِ كُلَّهَا. فَأَمَرَ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَهِيَ السَّدَادُ وَالْإِصَابَةُ فِي النِّيَّاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ.
وَأَخْبَرَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: أَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَهَا. فَنَقَلَهُمْ إِلَى الْمُقَارَبَةِ. وَهِيَ أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ