الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِنْدَ الشُّغْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا: فَهَذَا الِالْتِفَاتُ إِلَى تَرْفِيهِهَا لَا يُنَافِي الصِّدْقَ.
بَلْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتُهُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً. وَأَنْ يَكُونَ مُتَابَعَةً وَمُوَافَقَةً. وَمَعَ هَذَا فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً لَا يُنَافِي الصِّدْقَ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا. وَفِيهِ شُهُودُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَتَعْبُّدُهُ بِاسْمِهِ الْبَرِّ، اللَّطِيفِ، الْمُحْسِنِ، الرَّفِيقِ فَإِنَّهُ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ. وَفِي الصَّحِيحِ:«مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا. مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» لِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ التَّعَبُّدِ بِاسْمِ: الرَّفِيقِ، اللَّطِيفِ وَإِجْمَامِ الْقَلْبِ بِهِ لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى. فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَزَالُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِذَا أَخَذَ بِتَرْفِيهِ رُخْصَةِ مَحْبُوبِهِ: اسْتَعَدَّ بِهَا لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى. وَقَدْ تَقْطَعُهُ عَزِيمَتُهَا عَنْ عُبُودِيَّةٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، كَالصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَنْقَطِعُ عَنْ خِدْمَةِ أَصْحَابِهِ، وَالْمُفْطِرِ الَّذِي يَضْرِبُ الْأَخْبِيَةَ، وَيَسْقِي الرُّكَّابِ، وَيَضُمُّ الْمَتَاعَ. وَلِهَذَا قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» .
أَمَّا الرُّخَصُ التَّأْوِيلِيَّةُ، الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَالْآرَاءِ الَّتِي تُصِيبُ وَتُخْطِئُ: فَالْأَخْذُ بِهَا عِنْدَهُمْ عَيْنُ الْبَطَالَةِ مُنَافٍ لِلصِّدْقِ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ. فَإِنَّ الصِّدْقَ لَا يَسْتَقِيمُ - فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ - إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِ الْعَبْدِ وَقَصْدِهِ: بِكَوْنِ الْعَبْدِ رَاضِيًا مَرْضِيًّا. فَأَعْمَالُهُ إِذَنْ مَرَضِيَّةٌ. وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ. وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا. فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ. وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ: زُورٌ. وَأَصْفَى قُصُودِهِ: قُعُودٌ.
يَعْنِي أَنَّ الصِّدْقَ الْمُتَحَقِّقَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَدَقَ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَحْصُلُ حَالُ الصِّدْقِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ عِلْمِ الصِّدْقِ.
ثُمَّ عَرَّفَ حَقِيقَةَ الصِّدْقِ. فَقَالَ لَا يَسْتَقِيمُ الصِّدْقُ - فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ - إِلَّا
عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِهِ، وَقَصْدِهِ. وَهَذَا مُوجِبُ الصِّدْقِ وَفَائِدَتُهُ وَثَمَرَتُهُ.
فَالشَّيْخُ ذَكَرَ الْغَايَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُعَرَفُ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِانْتِفَائِهَا. وَثُبُوتُهَا بِثُبُوتِهَا.
فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَدَقَ اللَّهَ: رَضِيَ اللَّهُ بِعَمَلِهِ، وَحَالِهِ وَيَقِينِهِ، وَقَصْدِهِ. لَا أَنَّ رِضَا اللَّهِ نَفْسُ الصِّدْقِ. وَإِنَّمَا يُعْلَمُ الصِّدْقُ بِمُوَافَقَةِ رِضَاهُ سُبْحَانَهُ. وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ الْعَبْدُ رِضَاهُ؟ .
فَمِنْ هَاهُنَا كَانَ الصَّادِقُ مُضْطَرًّا - أَشَدَّ الضَّرُورَةِ - إِلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالتَّعَبُّدِ بِطَاعَتِهِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، مَعَ إِخْلَاصِ الْقَصْدِ لِلَّهِ عز وجل، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرْضِيهِ مِنْ عَبْدِهِ إِلَّا ذَلِكَ. وَمَا عَدَا هَذَا فَقُوتُ النَّفْسِ، وَمُجَرَّدُ حَظِّهَا، وَاتِّبَاعُ أَهْوَائِهَا. وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالْخَلَوَاتِ مَا كَانَ. فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْ عَبْدِهِ عَمَلًا، أَوْ يَرْضَى بِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، خَالِصًا لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ.
وَمِنْ هَاهُنَا يُفَارِقُ الصَّادِقُ أَكْثَرَ السَّالِكِينَ. بَلْ يَسْتَوْحِشُ فِي طَرِيقِهِ. وَذَلِكَ لِقِلَّةِ سَالِكِهَا. فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ سَائِرُونَ عَلَى طُرُقِ أَذْوَاقِهِمْ، وَتَجْرِيدِ أَنْفَاسِهِمْ لِنُفُوسِهِمْ، وَمُتَابَعَةِ رُسُومِ شُيُوخِهِمْ. وَالصَّادِقُ فِي وَادٍ. وَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ.
وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ الْعَبْدُ رَاضِيًا مَرْضِيًّا.
لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا. فَرَضِيَ اللَّهُ بِهِ عَبْدًا. وَأَعْمَالُهُ إِذًا مَرَضِيَّةٌ لِلَّهِ. وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ مَعَ اللَّهِ. وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى مُتَابَعَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ عز وجل.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا، فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ. وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ: زُورٌ. وَأَصْفَى قُصُودِهِ: قُعُودٌ.
هَذَا يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكْسَى حِلْيَةَ الصَّادِقِينَ. وَيُلْبَسَ ثِيَابَهُمْ عَلَى غَيْرِ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ. فَثَوْبُ الصِّدْقِ عَارِيَةٌ لَهُ، لَا مِلْكٌ لَهُ. فَهُوَ كَالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ. فَإِنَّهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ. فَهَذَا أَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. كَمَا يُعَاقَبُ الْمَقْتُولُ فِي الْجِهَادِ، وَالْقَارِئُ الْقُرْآنَ الْمُتَنَسِّكُ، وَالْمُتَصَدِّقُ، وَيَكُونُونَ أَوَّلَ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لَمَّا لَبِسُوا ثِيَابَ الصَّادِقِينَ عَلَى قُلُوبِ الْمُرَائِينَ.
هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. مَا أَظُنُّ الشَّيْخَ قَصَدَهُ.
وَإِنَّمَا أَظُنُّهُ قَصَدَ مَعْنًى آخَرَ. وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى تَيَقَّنَ الْعَبْدُ: أَنَّ وُجُودَهُ ثَوْبٌ مُعَارٌ، لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا لَهُ. وَإِنَّمَا إِيجَادُهُ وَصِفَاتُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَقُدْرَتُهُ، وَأَعْمَالُهُ: عَارِيَةٌ مِنَ الْفِعَالِ وَحْدَهُ. وَالْعَبْدُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ. فَوُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ: ثَوْبٌ أُعِيرَهُ. فَمَتَى نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى كِسْوَتِهِ: رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ ذُنُوبًا فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَصْدَقَ أَحْوَالِهِ زُورًا، وَأَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا. فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنْهُ عَمَلًا، وَلَا حَالًا وَلَا قَصْدًا. فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ. فَكُلُّ مَا مِنَ النَّفْسِ: فَهُوَ ذَنْبٌ وَزُورٌ وَقُعُودٌ. وَمَا كَانَ مَرْضِيًّا فَهُوَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَلِلَّهِ. لَا بِالنَّفْسِ، وَلَا مِنْهَا، وَلَا لَهَا. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الطَّاعَةَ: كَانَتْ رُؤْيَتُهُ لِذَلِكَ ذَنْبًا. فَإِنَّهُ قَدْ نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَتَخَلَّصُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ قَطُّ. فَإِنَّهُ إِذَا خَلَّصَ فِعْلَهُ مِنَ الرِّيَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُفْسِدُهُ: اقْتَرَنَ بِهِ آخَرُ. لَا يُمَكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ. وَهُوَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَنْبٍ، وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ وَلَا مَأْمُورٌ بِهِ. وَالْكَمَالُ فِي حَقِّهِ: أَنْ يَشْهَدَ الْأَمْرَ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً، كَمَا أَضَافَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْفِعْلَ فِي كِتَابِهِ كُلِّهِ. وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فَاعِلًا. فَإِذَا شَهِدَ نَفْسَهُ فَاعِلًا حَقِيقَةً. وَشَهِدَ فَاعِلِيَّتَهُ بِاللَّهِ، وَمِنَ اللَّهِ. لَا مِنْ نَفْسِهِ: فَلَا ذَنْبَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَلَا زُورَ بِحَمْدِ اللَّهِ. وَهُوَ نَظَرَ بِمَجْمُوعِ عَيْنَيْهِ إِلَى السَّبَبِ، وَالْمُسَبَّبِ، وَالشَّرْعِ، وَالْقَدَرِ، وَالْخَلْقِ، وَالْأَمْرِ، وَأَنَّهُ مَتَى شَهِدَ نَفْسَهُ عَاصِيًا، مُخَالِفًا، مُذْنِبًا: كَانَ عَاصِيًا بِهَذَا الشُّهُودِ. لِأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ أَشَدَّ مُنَافَاةٍ. وَهُوَ مِنْ سَيْرِ الْقَوْمِ إِلَى شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَاعْتِقَادِهِمْ: أَنَّهُ غَايَةُ السَّالِكِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: الشَّيْخُ هَاهُنَا مَا نَطَقَ بِلِسَانِ الْأَبْرَارِ. وَإِنَّمَا نَطَقَ بِلِسَانِ الْمُقَرَّبِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ وَلَسْنَا نُرِيدُ أَنَّ شُهُودَ فِعْلِهِ ذَنْبٌ فِي الشَّرْعِ، بَلْ يَكُونُ حَسَنَةً كَمَا ذَكَرْتُمْ. لَكِنْ هُوَ حَسَنَةٌ لِلْبَرِّ، ذَنْبٌ لِلْمُقَرَّبِ. فَإِنَّ نَصِيبَ الْبَرِّ مِنَ السَّيِّئَةِ: مَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ. وَنَصِيبُ الْمُقَرَّبِ: مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ.
قِيلَ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ قَطْعًا. فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ: مُطَابِقَةٌ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا. وَمُخَالِفُ ذَلِكَ فَمَعْرِفَةٌ فَاسِدَةٌ.
وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى الْفَاعِلِينَ قِيَامًا وَمُبَاشَرَةً، وَصُدُورًا مِنْهُمْ.
وَذَلِكَ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَالْقَدْحُ فِي ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِبْطَالِ الشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا أَمَرَ بِأَفْعَالِنَا وَنَهَى عَنْهَا. وَالْجَزَاءَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا. فَشُهُودُ أَفْعَالِنَا كَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ. وَنِسْبَتُهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، قَضَاءً وَقَدَرًا، وَخَلْقًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي مِنْهَا إِرَادَتُنَا وَقُدْرَتُنَا. فَلَمْ يُجْبِرْنَا عَلَيْهَا وَلَمْ يُكْرِهْنَا. بَلْ خَلَقَهَا بِمَا أَعْطَانَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَسْبَابِ الْفِعْلِ.
فَهَذَا الْمَشْهَدُ يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَالْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ: يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَهُمَا يُحَقِّقَانِ مَشْهَدَيْ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30] وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] .
وَمَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ لَا يُنَاقِضُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ. بَلِ الْمَعْرِفَةُ رُوحُ الْعِلْمِ وَلُبُّهُ وَكَمَالُهُ. وَحَقِيقَتُهَا: الْعِلْمُ الَّذِي أَثْمَرَ لِصَاحِبِهِ مَقْصُودَهُ. وَلِسَانُ الْأَبْرَارِ لَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْمُقَرَّبِينَ. إِنَّمَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْفُجَّارِ.
نَعَمْ لِسَانُ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَرْفَعُ، عَلَى مُقْتَضَى أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. فَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ: كَنِسْبَةِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ إِلَى الرِّضَا، وَالرِّضَا إِلَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُكُمْ هَذَا بِلِسَانِ الْعِلْمِ. وَلَوْ تَكَلَّمْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ لَعَلِمْتُمْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ صَاحِبُ شُهُودٍ. وَصَاحِبَ الْعِلْمِ صَاحِبُ غَيْبَةٍ. وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْكُمْ إِشَارَةً حَالِيَّةً عِلْمِيَّةً. تَنَزُّلًا مِنَ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ.
فَنَقُولُ: الْحَالُ تَأَثُّرٌ عَنْ نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ وَالْفَرْدَانِيَّةِ. يَسْتُرُ الْعَبْدَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُبْدِي ظُهُورَ مَشْهُودِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ يُعْتَقَدُ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ. حَتَّى قَالَ أَبُو يَزِيدَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ: سُبْحَانِي سُبْحَانِي، وَمَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ زُورٌ. وَأَنَّ سَبَبَهُ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ، وَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ. مَا دَامَ مَسْتُورًا عَنْ نَفْسِهِ بِوَارِدِهِ. فَإِذَا رُدَّ إِلَى رَسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَحِسِّهِ: حَالَ ذَلِكَ الْحَالُ وَزَالَ، وَعَلِمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ كَانَ زُورًا. حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ.
فَإِنْ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ فَلَا كَلَامَ مَعَكُمْ. وَإِنِ اعْتَرَفْتُمْ بِهِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ.
فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ أَصْدَقِ أَحْوَالِ الصَّادِقِ: زُورًا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فِي الْحَالِ: عُرِفَ مِثْلُهُ فِي كَوْنِ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِ: ذَنْبًا. فَإِنَّهُ - لِصِدْقِهِ فِي الطَّلَبِ، وَبَذْلِهِ الْجَهْدَ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتِفْرَاغِهِ الْوُسْعَ فِيهِ - يَغِيبُ بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ آلَةٌ وَمَجْرَى لِلْمَشِيئَةِ، وَأَنَّ نَفْسَهُ أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا، أَوْ بِهَا، أَوْ مِنْهَا فِعْلٌ، أَوْ إِرَادَةٌ، أَوْ حَرَكَةٌ. فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَشَهِدَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُحَرِّكُ لَهُ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ سَعْيَهُ، رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ: ذَنْبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ أَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا فَلِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى الْحَقِيقَةِ مَتَى شَهِدَ مَقْصُودَهُ: قَعَدَ عَنْ قَصْدِهِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُرَادَ: أَقْرَبُ إِلَى اللِّسَانِ مِنْ نُطْقِهِ، وَإِلَى الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِهِ. فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ: هُوَ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنِ الْقَصْدِ. لِأَنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعِيدٍ عَنِ الْقَاصِدِ. أَمَّا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْقَاصِدِ مِنْ ذَاتِهِ: فَمَتَى شَاهَدَ الْقَاصِدُ الْحَقِيقَةَ: عَلِمَ أَنَّ قَصْدَهُ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنْ قَصْدِهِ. وَالْعِبَارَةُ تَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى جَفْوَةً. وَالْحَوَالَةُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ وَالذَّوْقِ.
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ أَحَالَكَ عَلَى الْحَالِ فَمَا أَنْصَفَكَ. فَإِنَّهُ أَحَالَكَ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا وَطَلَبَهُ طَلَبًا صَادِقًا، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ: كَانَ لَهُ لَا مَحَالَةَ فِيهِ حَالٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. بِحَسَبِ صِدْقِهِ فِي طَلَبِهِ، وَجَمْعِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَكُونُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، بَلْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ. فَيَكُونُ الرَّجُلُ لَهُ شُهُودٌ بِمَشْهُودِهِ، وَحَالٌ فِي طَلَبِهِ، لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا. فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ عَقِيدَةً، وَارْتَاضَ وَصُقِلَ قَلْبُهُ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَةِ. وَجَزَمَ بِمَا اعْتَقَدَهُ: تَجَلَّتْ لَهُ صُورَةُ مُعْتَقَدِهِ فِي عَالَمِ نَفْسِهِ. فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَشْفًا صَحِيحًا. وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ وَحُبِّهِ لِمَا اعْتَقَدَهُ: كَانَ لَهُ فِيهِ حَالٌ وَتَأْثِيرٌ بِحَسَبِهِ. فَالْحَوَالَةُ عَلَى الْحَالِ حَوَالَةُ مُفْلِسٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ بِهِ.
وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الدَّاخِلُ عَلَى أَكْثَرِ السَّالِكِينَ. وَانْعَكَسَ سَيْرُهُمْ، حَيْثُ أَحَالُوا الْعِلْمَ عَلَى الْحَالِ. وَحَكَّمُوهُ عَلَيْهِ.
وَسَيْرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ بِخِلَافِ هَذَا. وَهُوَ إِحَالَةُ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيمُهُ، وَوَزْنُهُ بِهِ وَقَبُولُ حُكْمِهِ. فَإِنْ وَافَقَهُ الْعِلْمُ، وَإِلَّا كَانَ حَالًا فَاسِدًا، مُنْحَرِفًا عَنْ أَحْوَالِ الصَّادِقِينَ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنِ الْعِلْمِ. فَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْحَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ رَاعٍ وَالْحَالُ مِنْ رَعِيَّتِهِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَصْلَ بِنَاءِ سُلُوكِهِ فَسُلُوكُهُ فَاسِدٌ. وَغَايَتُهُ: الِانْسِلَاخُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِمَنْ جَرَى لَهُ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مَا ذَكَرْتُمْ - مِنْ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ
ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ - لَكِنْ نُنْكِرُ كَوْنَ هَذَا أَكْمَلَ حَالًا مِنْ صَاحِبِ الْبَقَاءِ وَالتَّمْيِيزِ، وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ حَالُهُ زُورًا. لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ السُّكْرِ وَالِاصْطِلَامِ مِنَ الزُّورِ. فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا.
وَأَمَّا الْغَائِبُ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ بِشُهُودِ فِعْلِهِ: فَإِنَّهُ مَتَى صَحِبَهُ اسْتِصْحَابُ عَقْدِ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ مَصْدَرَ كُلِّ شَيْءٍ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ مُتَحَرِّكٌ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ: فَلَا تَضُرُّهُ الْغَيْبَةُ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ، بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْقَصْدِ وَالطَّلَبِ وَالْفِعْلِ. إِذْ حُكْمُهُ جَارٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَلَيْسَ ضِيقُ قَلْبِهِ عَنِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ وَقْتَ اسْتِجْمَاعِ إِرَادَتِهِ وَفِعْلِهِ وَطَلَبِهِ - ذَنْبًا. لَا لِلْخَاصَّةِ وَلَا لِلْعَامَّةِ. وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ أَيْضًا. فَإِنَّ الذَّنْبَ تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَلَا هُوَ مُطَالَبٌ بِالْغَيْبَةِ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ، وَالْفَنَاءِ فِيهَا عَنْ شُهُودِ الْفِعْلِ وَقِيَامِهِ بِهِ، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْقُرْبِ تَجْعَلُ الْقَصْدَ قُعُودًا: فَكَلَامٌ لَهُ خَبِئٌ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ الْمَخْدُوعِينَ بِقَوْلِهِ:
مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا؟
…
وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلًا؟
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ
…
إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا
وَكَأَنَّ صَاحِبَهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ وُجُودُ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَوُجُودُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ إِرَادَتِهِ وَلُطْفِهِ. هَذَا خَبِئُ هَذَا الْكَلَامِ. وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ وَإِفْكِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقُرْبِ: فَإِنْ أَرَدْتُمْ عُمُومَ قُرْبِهِ إِلَى كُلِّ لِسَانِ مَنْ نَطَقَهُ وَإِلَى كُلِّ قَلْبِ مَنْ قَصَدَهُ: فَهَذَا - لَوْ صَحَّ - لَكَانَ قُرْبَ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ، لَا قُرْبًا بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُمَازِجُ خَلْقَهُ، وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَتَّحِدُ بِهِمْ. مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ تَسْمِيَتُهُ قُرْبًا، وَلَمْ يَجِئِ الْقُرْبُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ إِلَّا خَاصًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقُرْبَ الْخَاصَّ إِلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ: فَهَذَا قُرْبُ الْمَحَبَّةِ، وَقُرْبُ الرِّضَا وَالْأُنْسِ، كَقُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْبِ. لَا مِثَالَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ. فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ يَقْرُبَانِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَالرُّوحُ وَالْقَلْبُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ، بَلْ هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْقَصْدِ. فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ أَتَمَّ: كَانَ هَذَا الْقُرْبُ أَقْوَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ؟
قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلنَّاسِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ. وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِعِلْمِهِ بِوَسْوَسَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَحَبْلُ الْوَرِيدِ حَبْلُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ الَّذِي مَتَى قُطِعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَأَجْزَاءُ الْقَلْبِ وَهَذَا الْحَبْلُ يَحْجُبُ بَعْضَهَا بَعْضًا. وَعِلْمُ اللَّهِ بِأَسْرَارِ الْعَبْدِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قُرْبُهُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَلْبِهِ. فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ. اخْتَارَهُ شَيْخُنَا.
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام هُوَ الَّذِي قَصَّهُ عَلَيْهِ بِأَمْرِ اللَّهِ. فَنَسَبَ تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ. إِذْ هُوَ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي قَرَأَهُ عَلَيْهِ. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا فَأَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ حَتَّى يَقْضِيَهَا.
قُلْتُ: أَوَّلُ الْآيَةِ يَأْبَى ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَالَ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] قَالَ: وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَسْبَابِ وَتَخْلِيقِ الْمَلَائِكَةِ.
قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رضي الله عنه فِي تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ «فَيَقُولُ الْمَلَكُ الَّذِي يَخْلُقُهُ: يَارَبِّ، ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ» . فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمَلَائِكَةِ