الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاللُّحُوظُ إِلَى الْعَالَمِ، خَوْفًا أَوْ رَجَاءً، أَوْ مُبَالَاةً بِحَالٍ.
قُلْتُ: التَّبَتُّلُ يَجْمَعُ أَمْرَيْنِ اتِّصَالًا وَانْفِصَالًا. لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِمَا.
فَالِانْفِصَالُ: انْقِطَاعُ قَلْبِهِ عَنْ حُظُوظِ النَّفْسِ الْمُزَاحِمَةِ لِمُرَادِ الرَّبِّ مِنْهُ. وَعَنِ الْتِفَاتِ قَلْبِهِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ، خَوْفًا مِنْهُ، أَوْ رَغْبَةً فِيهِ، أَوْ مُبَالَاةً بِهِ، أَوْ فِكْرًا فِيهِ، بِحَيْثُ يُشْغَلُ قَلْبُهُ عَنِ اللَّهِ.
وَالِاتِّصَالُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ هَذَا الِانْفِصَالِ. وَهُوَ اتِّصَالُ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ، وَإِقَامَةُ وَجْهِهِ لَهُ، حُبًّا وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَإِنَابَةً وَتَوَكُّلًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ مَا يُعِينُ عَلَى هَذَا التَّجْرِيدِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَحْصُلُ. فَقَالَ:
بِحَسْمِ الرَّجَاءِ بِالرِّضَا، وَقَطْعِ الْخَوْفِ بِالتَّسْلِيمِ، وَرَفْضِ الْمُبَالَاةِ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ.
يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ رَجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ قَلْبِكَ هُوَ الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ عز وجل وَقَسْمِهِ لَكَ. فَمَنْ رَضِيَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَقَسْمِهِ، لَمْ يَبْقَ لِرَجَاءِ الْخَلْقِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ.
وَالَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ الْخَوْفِ هُوَ التَّسْلِيمُ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ وَاسْتَسْلَمَ لَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ - لَمْ يَبْقَ لِخَوْفِ الْمَخْلُوقِينَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ أَيْضًا. فَإِنَّ نَفْسَهُ الَّتِي يَخَافُ عَلَيْهَا قَدْ سَلَّمَهَا إِلَى وَلِيِّهَا وَمَوْلَاهَا. وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهَا. وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَهَا لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهَا. فَلَا مَعْنَى لِلْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ بِوَجْهٍ.
وَفِي التَّسْلِيمِ أَيْضًا فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَهَا اللَّهُ فَقَدْ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ. وَأَحْرَزَهَا فِي حِرْزِهِ. وَجَعَلَهَا تَحْتَ كَنَفِهِ. حَيْثُ لَا تَنَالُهَا يَدُ عَدُوٍّ عَادٍ وَلَا بَغْيُ بَاغٍ عَاتٍ.
وَالَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ الْمُبَالَاةِ بِالنَّاسِ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ. وَهُوَ رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَمَا وَجْهُ الْمُبَالَاةِ بِالْخَلْقِ بَعْدَ هَذَا الشُّهُودِ؟
[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّعْرِيجِ عَلَى النَّفْسِ بِمُجَانَبَةِ الْهَوَى]
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّعْرِيجِ عَلَى النَّفْسِ بِمُجَانَبَةِ الْهَوَى.
وَتَنَسُّمِ رَوْحِ الْأُنْسِ، وَشَيْمِ بَرْقِ الْكَشْفِ.
الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْأُولَى انْقِطَاعٌ عَنِ الْخَلْقِ، وَهَذِهِ انْقِطَاعٌ عَنِ النَّفْسِ. وَجَعَلَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا: مُجَانَبَةُ الْهَوَى وَمُخَالَفَتُهُ وَنَهْيُ نَفْسِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ يَصُدُّ عَنِ التَّبَتُّلِ.
وَثَانِيهَا: - وَهُوَ بَعْدَ مُخَالَفَةِ الْهَوَى - تَنَسُّمُ رَوْحِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَالرَّوْحُ لِلرُّوحِ كَالرُّوحِ لِلْبَدَنِ. فَهُوَ رُوحُهَا وَرَاحَتُهَا. وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ هَذَا الرَّوْحُ لَمَّا أَعْرَضَ عَنْ هَوَاهُ. فَحِينَئِذٍ تَنَسَّمَ رَوْحَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَوَجَدَ رَائِحَتَهُ. إِذِ النَّفْسُ لَا بُدَّ لَهَا مِنَ التَّعَلُّقِ. فَلَمَّا انْقَطَعَ تَعَلُّقُهَا مِنْ هَوَاهَا وَجَدَتْ رَوْحَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَهَبَّتْ عَلَيْهَا نَسَمَاتُهُ. فَرَيَّحَتْهَا وَأَحْيَتْهَا.
وَثَالِثُهَا: شَيْمُ بَرْقِ الْكَشْفِ. وَهُوَ مُطَالَعَتُهُ وَاسْتِشْرَافُهُ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ. لِيَعْلَمَ بِهِ مَوَاقِعَ الْغَيْثِ وَمَسَاقِطَ الرَّحْمَةِ.
وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِالْكَشْفِ هَاهُنَا الْكَشْفُ الْجُزْئِيُّ السُّفْلِيُّ، الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَالْكَشْفِ عَنْ مُخَبَّآتِ النَّاسِ وَمَسْتُورِهِمْ. وَإِنَّمَا هُوَ الْكَشْفُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، هُنَّ مُنْتَهَى كَشْفِ الصَّادِقِينَ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ.
أَحَدُهَا: الْكَشْفُ عَنْ مَنَازِلِ السَّيْرِ.
وَالثَّانِي: الْكَشْفُ عَنْ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَآفَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُفَسَّدَاتِهَا.
وَالثَّالِثُ: الْكَشْفُ عَنْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَحَقَائِقِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَهَذِهِ الْأَبْوَابُ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ عُلُومِ الْقَوْمِ. وَعَلَيْهَا يَحُومُونَ. وَحَوْلَهَا يُدَنْدِنُونَ. وَإِلَيْهَا يُشَمِّرُونَ. فَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ وَمُعْظَمُهُ فِي السَّيْرِ وَصِفَةِ الْمَنَازِلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ فِي الْآفَاتِ وَالْقَوَاطِعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَالصَّادِقُ الذَّكِيُّ يَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ. فَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَطْلَبِهِ. وَلَا يَرُدُّ مَا يَجِدُهُ عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْحَقِّ الْآخَرِ. وَيَهْدِرُهُ بِهِ. فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا مِنَ الْعِبَادِ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ.